التوحيد ألطفُ شيء، وأنزهُهُ، وأنظفه، وأصفاه، فأدنى شيء يخدِشُه ويدنِّسه
ويؤثِّرُ فيه، فهو كأبيض ثوبٍ يكون؛ يؤثِّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى
شيء يؤثر فيها، ولهذا تُشوِّشُه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر
صاحبه وقَلعَ ذلك الأثر بضده،

وإلا:



استحكم وصارَ طبعاً يتعسر عليه قلعه. وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه:


منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال،
ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال،
ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال،
ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال،







ولكن من الناس من يكون توحيده كبيراً عظيماً، ينغمرُ فيه كثيرٌ من تلك الآثار،
ويستحيل فيه بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ، فيتغير به
صاحب التوحيد الذي هو دونه، فيخلطُ توحيده الضعيف بما خلط به صاحبُ التوحيدِ
العظيمِ الكثير توحيده، فيظهر تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير.




وأيضا فإن المحلَّ الصافي جداً يظهر لصاحبه ممّا يدنِّسهُ مالا يظهر في المحل
الذي لم يبلغْ في الصفاءِ مبلغه، فيتدارَكُه بالإزالة دونَ هذا؛ فإنه لا يشعر به.




وأيضا فإن قوة الإيمان والتوحيد؛ إذا كانت قويةً جداً أحالت المواد الرديئة
وقهرتها، بخلاف القوة الضعيفة.




وأيضا فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات لَيُسامح بما لا يُسامح
به من أتى مثل تلك السيئات، وليست له مثل تلك المحاسن(1) كما قيل:



وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع وأيضا فإن صدق الطلب،
وقوة الإرادة، وكمال الانقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه
وموجبه، كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الانقياد يحيلُ الأقوال والأفعال
الممدوحة إلى مقتضاه وموجَبِهِ، كما يشاهد ذلك في الأخلاط الغالبة وإحالتها
لصالح الأغذية إلى طبعها.








من كتاب الفوائد لابن القيم الجوزية