نا واحد من ملايين ألناس ألذين يعشقون شهر رمضان ألمبارك وينتظرون مجيئه بفارغ ألصبر. وهذا ليس بالأمر ألغريب لما يحمله هذا ألشهر ألكريم في طيّاته من فضائل كثيرة ومظاهر عديدة كالصيام، ومراجعة ومحاسبة ألنفس لما إقترفته من أخطاء وآثام وذنوب، وألتسامح مع الآخرين، ومساعدة ألفقراء، ومد يد ألعون إلى ألمحتاجين وذوي الإحتياجات ألخاصة، وصلة ألقربى والأرحام، وألتوبة والتعبّد إلى ألله عزّ وجل ("ألاّ تعبدوا إلاّ ألله إنني لكم منه نذير وبشير، وأن إستغفِروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متعاً حسناً إلى أجل مسمّى ويؤتِ كل ذي فضل فضله وإن تولّوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير، إلى ألله مرجعكم وهو على كل شيء قدير" صدق ألله ألعظيم).

من مدة قصيرة كنت أنا وزوجتي وإبنتي في زيارة عائلية إلى بيت أختي ألصغرى. وبدأنا نستذكر معاً أيام زمان حين كنا أطفالاً صغاراً. فقالت لي أختي: "يا أللـــــــــــــــه على أيام زمان .. بتتذكر يا إميل لمّا كان ييجي رمضان وإحنا صغار، وكنا نقعد على باب ألدار نستنى صوت ألمدفع"؟! وعندما سمعت كلمة "مدفع" شعرت وكأنني كنت في غيبوبة طويلة وفجأة صحوت منها. فقلت لها بدهشة ألعائد إلى ألواقع بعد غياب قسريّ عميق: "مزبوط .. أنا فعلاً صارلي زمان ما سمعت صوت مدفع رمضان". ثم تسائلت بإستغراب: "مش كانوا بالزّمانات يضربوا ألمدفع من جبل ألقلعة؟! .. شو إللي صار طيّب؟! .. ليش بطلوا يضربوه"؟!

فأجابت أختي بحيرة: " وألله ما أنا عارفة ليش .. يمكن ألسبب إنه مع هالتكنولوجيا ألجديدة (تقصد ألفضائيات والإنترنت والموبايلات) صارت ألناس تسمع صوت الآذان على ألتلفزيون وتعرف إنه حان موعد الإفطار"! فقلت لها بصوت بدت نبرته غريبة بعض ألشيء وكأنني ألقي محاضرة جامعية على طلاب سنة أولى: "إطلاق ألمدفع إيذاناً بحلول موعد الإفطار مش ألمفروض إنه إحنا ننظرله على إنه مجرد عادة أو تقليد يمكن لنا إستبداله بتكنولوجيا حديثة أو بغيرها، لأنه حسب علمي إنه ضرب ألمدفع هوّ جزئية أساسية من منظومة ألتراث ألرمضاني إللي عرفته أجيال كثيرة على مدى قرون طويلة، شأنه شأن أمور ومظاهر أخرى من هذا ألتراث ألشامل مثل ألفوانيس ألرمضانية وأكل ألقطايف وتناول ألتمر قبل بديء الإفطار وألجلوس مع جميع أفراد ألعائلة على مائدة واحدة". وأضفت: "أحنا يا أختي (وألكلام للجميع) بنتكلم عن تراث له أصالته وجذوره ألضاربة في أعماق ألتاريخ، ولسنا بصدد ألحديث عن عادات أو تقاليد قابلة للتغيير أو ألتعديل وفقاً لمعطيات أو لوجستيات واقع ما".

ثم إسترسلت قائلاً: "إذا كان ألموضوع متعلق بتغيّرات إجتماعية أو تطوّر حضاري أو تقدّم تكنولوجي، فهل هذا يعني إنه إحنا بنقدر نستبدل أكل التمر بالشوكولاته مثلاً؟! وهل وجود ألكيك وألحلويات الأخرى (كالبقلاوة وألكنافة وألبرمة مثلاً) يغنينا عن أكل ألقطايف ألتي هي من أكثر ألحلويات شهرة وإرتباطاً وثيقاً بشهر رمضان ألفضيل؟ وهل وجود ألكهرباء يعني إنه إحنا لازم نبطل نشتري فوانيس رمضان إللي بنزيّن فيها مداخل ألبيوت؟! وهل وجود ألعمارات ألضخمة والأبراج ألفارعة يعني أننا لم نعد بحاجة إلى إنشاء ألخيم وألمجالس ألرمضانية ألجميلة"؟

ألمسألة في رأيي ألمتواضع أننا نتحدّث هنا عن "تراث رمضاني" ذي قيم جليلة نابعة من ثقافة دينية عظيمة تأصّل عبر الأزمان وألحقب ألتاريخية ألمختلفة في أعماق نفوسنا وفي جذور حياتنا الإجتماعية. ومن هنا فإن هذا ألتراث ألعريق سوف يظلّ أكبر بكثير من أيّة متغيّرات شكلية لهذا ألعصر أو لذاك. فالأصل دائماً يغلب على ألتقليد، كما أن ألمضمون يظلّ أقوى وأعمق من ألشكل وألمظهر.

مدفع رمضان هو جزء لا يتجزأ من هذا ألتراث ألرمضاني ألعظيم ألذي له علينا كل ألحق في ألحفاظ على جميع مظاهره ألجميلة وثوابته الأصيلة بما فيها إطلاق (ضرب) ألمدفع للإيذان بحلول موعد الإفطار. وكل عام وسيد ألبلاد ألمفدى حضرة صاحب ألجلالة ألملك عبدالله الثاني إبن ألحسين ألمعظم وألعائلة ألهاشمية ألماجدة وألشعب الأردني الأبيّ ألكريم بألف ألف خير. أعاده ألمولى تعالى علينا جميعاً باليُمن والبركات وألرحمة وألغفران .. ودمتم في رعاية ألله جلّ علاه سالمين هانئين .. وألسلام عليكم ورحمة ألله وبركاته.