البيعة على بعضها

عقب الصلاة و قبل الخروج من المسجد أوقفني أحد المصلين يسأل عن كيفية التعامل مع ولده المراهق كثير الأسئلة ، و تشعَّب الحديث و طال حتى كنا آخر الخارجين ، و عند الباب توقَّف عند بائع خضراوات متجول كان قد بقي على سطح عربته مجموعة من الطماطم الجيدة ، و قليل من الكوسا التالفة ، وكمية مشابهة من الباذنجان الجيدة ، وكمية من الفاصوليا نصفها تالف و نصفها جيد ، سأله صاحبي عن سعر كل صنف ، ثم قال : و لو اشتريتها كلها بكم تبيعها ؟ فأعطاه سعراً آخر أقل ، فأجاب معقباً ، و لكنني لا أريد الفاصوليا التالفة ، و لا الكوسا أيضاً ، فقال الرجل و هو يحرك عربته و يهمُّ بالذهاب ، هذا هو سعري للبيعة على بعضها ، إن أردت أن تشتري فخذها كلها ، و إلا فاتركها كلها ، فقال : بل سآخذها كلها ، و بعد أن ملأ البائع الخضراوات في كيس واحد ، قلت : لم فضلت شراءها كلها مع ما بها من تالف ؟ قال : لقد آثرت أخذها كلها لأني وجدت أن الطماطم وحدها تستحق السعر الذي دفعته ، فكأنه وجد أن ما بها من حسنات يفوق ما بها من سيئات، وأن السعر المدفوع في الجيد منها يكفي لتغطية التالف .

قلت : ليتك تعالج موضوع ولدك بالطريقة نفسها ، فهو مع كثرة أسئلته التي تثير غضبك كما تقول ، يعتذر حين يخطئ ، و مجتهد في مدرسته ، و يلبي لك ما تكلفه به من مسؤوليات ، و حنون على إخوته ، و بالتالي ألا يمكن لك أن تتعامل معه كما تعاملت مع كمية الخضراوات التي اشتريتها قبل قليل ؟

ألست معي بأنك ستستفيد من الطماطم الجيدة ، و بعض الباذنجان ، و نصف الفاصوليا ، و سترمي كل التالف ؟ قال : بلى ، قلت : أنت تملك فصل الخضراوات الجيدة عن التالفة و لكنك لا تملك فصل صفات جيدة في إنسان عن صفاته السلبية ، حاول يا صاحبي أن تتعامل مع الناس بمبدأ خذ البيعة على بعضها ، و تعال ننظر إلى هدي المصطفى صلى الله عليه و سلم حين وجه الزوج في التعامل مع زوجته إذا ما وصلت الأمور بينهما إلى حد كرهه لها :
« لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر ».




بكل بساطة نحن بحاجة إلى رؤية الجوانب الطيبة في كل شخص لقبوله ، بدل التركيز على صفاته السيئة و من ثم رفضه ، إضافة إلى أنَّ ما نراه سيِّئاً في شخص قد لا يكون سيِّئاً في حدِّ ذاته ، و إنما هو سيئ بعيوننا ؛ لأننا لا نعرف كيف نوظِّف ما لديه من صفات نجد أنفسنا قد أصدرنا الحكم على تلك الصفات باعتبارها سيئة .

افترقنا و أنا أفكر في هذا الأب و مشكلته مع ولده كثير الأسئلة ، و لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع هذه الأسئلة الكثيرة ، حكم عليه باعتباره ( ملقوف ) - كما يقولون - مع أنَّ ابناً كهذا لو كان عند أبوين يملكان من المعرفة ما يمكنهما من الإجابة على أسئلته لأصبح عالماً مبدعاً ، باعتباره طفلاً يعاني من نهم و جوع للمعرفة ، هي أهم صفات المبدعين و العلماء ، و هو جوع يحتاج لإشباع من خلال إجابته على أسئلته أو توجيهه لمصادر المعرفة ، أو مشاركته في البحث عن الإجابة ، و مع ذلك فكثيرون هم الآباء والأمهات الذين يضجرون من مثل هؤلاء الأطفال مع أنَّ الخالق أمرنا أن لا ننهر أمثالهم : حين قال : « و أما السائل فلا تنهر» ، و المؤسف أننا أقنعنا أنفسنا أنَّ السائل هو فقط من يطلب الطعام و نسينا أن جوع العقل أعظم من جوع الجسد ، و أنَّ العقل تماماً كالجسد ، إذا لم نشبعه بالمفيد فسيُملأ حتماً بغير المفيد .