بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أنا - يا ابنتي - رجل خبرت الحياة وخبرتني، وعاركت الأيام وعاركتني، وصارعت الليالي وصارعتني، وسحت في الديار شرقها وغربها، وتعاملت مع النفوس شريفها ووضيعها، فخذي مني نصيحة أب مشفق، يحب لك الخير ويتمنى لك الرفعة، نصيحة من يرى كرامتك وشرفك ورفعتك أعز وأغلى عليه من نفسه التي بين جانحتيه.

إي والله - يا ابنتي - هذا هو شعور أي أب نحو ابنته، فخذيها واقبليها وضعيها نصب عينيك، لأني أرى سهاماً نحوك مرصودة قد أصابت حرابها، وأرى شباكاً حولك منصوبة قد امتلأت فخاخها، وأرى الترائي بالرذيلة قد جرت ثيابها، وأرى البراءة من الفضيلة قد اتسع خرقها، وأرى حولك قلوباً من الرحمة قد أقفرت، وأرى أمامك عيوناً عن البكاء قد جمدت، وأرى بوناً شاسعاً بين دخائل القلوب وملامح الوجوه، وأرى كذب الأسماء عن حقائقها، فالإجرام والفجور فتوة، والتبذل والتفسخ حرية، والرذيلة فناً، والربا فائدة، وأم الخبائث- الخمر- مشروباً روحياً، والانحلال حضارة، ألا ساء ما يزرون.

كل هذا- يا ابنتي- لكي يستمتع بجسدك الطاهر ودمائك النقية ذئاب، بك متربصة، قد سخَّروا أقلاماً غلب جهلها على علمها، لبست لك ثياب النصح والإرشاد، فأقبلوا يخلطون بالبيان شبهاً، وبالدواء سماً نقاعاً، وبالسبيل الواضح جرداً مضلاً، فالجلود جلود الضأن، والقلوب قلوب الذئاب، فترى وتسمع منهم حشفاً وسوء كيله، قد بيتوا أمراً تكالبوا عليه مجمعين على غير هدى ولا مثال سابق حتى وقع الحافر على الحافر، ألا ساء ما يزرون.




إنهم يخطون نحوك خطواتهم الأولى ثم يدعونك تكملين الطريق، فلولا لينك ما اشتد عودهم، ولولا رضاك ما أقدموا، أنت فتحت لهم الباب حين طرقوا فلما نهشوا نهشتهم صرخت "أغيثوني"، ولو أنك أوصدت دونهم أبوابك، ورأوا منك الحزم والإعراض لما جرؤ بعدها فاجر أن يقتحم السوار المنيع، لكنهم صوروا لك الحياة حباً في حب، وغراماً في غرام، وعشقاً في عشق، فلا تسير ولا تصح الحياة بدون هذا الحب الجنسي الذي يزعمون، وبه يتشدقون. قالوا: لابد من الحب الشريف العذري بين الشاب والفتاة، والله يقول {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 32-33]. فأي حب هذا الذي يزعمون، وأي شرف هذا الذي يتشدقون، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.

لا- يا ابنتي- لا تصدقيهم، ولا تصدقي الذئب، لا تصدقيه بأنه يطلب منك الحديث فقط، أترينه يكتفي به، لا، سيطلب المقابلة، فهل يكتفي بهذا؟ لا، سيطلب النظر، ثم العناق، وثم وثم....

فما حديث الحب العذري الشريف إلا شهوة لم تقض، ورغبة لم تتحقق، وما دون ذلك وهم وضلال وتدليس على النفس، إن حديث الحب العذري بين شاب وفتاة خرافة لا تروج شوقه إلا على المجانين والمراهقين وأهل الدياثة والخنا.

فلا تستمعي بما زخرفه الشعراء من أمثال، عنترة وعبلة، وقيس وليلى، وجميل وبثينة، والفرزدق والنوار، وكثير وعزة، وغيرهم.

ولا بما زوره الأدباء في مجدولين، وبول وفرجيني، وكرازبيلا، والأجنحة المتكسرة، فما هذا إلا صورة من صور الرغبة في الاتصال الجنسي لم تجد طريقها إلى التنفيذ، إنها غريزة النوع فلا يرويها إلا ما يتم به، هذه حقيقة ومن أنكرها وجد الرد عليه داخل نفسه، ففي كل نفس يكمن الدليل على أنها حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، وفى الحديث « ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما » أخرجه البخاري برقم (5233).

فالحب العذري الذي يزعمون ما هو إلا جوع جنسي، فهل يصدق الجائع إذا حلف بأغلظ الأيمان أنه لا يريد من المائدة الشهية إلا أن ينظر إليها، ويشم ريحها من على البعد فقط، كي ينظم في وصفها الأشعار ويصوغ القوافي.





فالضحية أخيراً أنت - يا ابنتي - يأتي الشاب فيغوي الفتاة، فإذا اشتركا في الإثم ذهب هو خفيفاً نظيفاً، وحملت هي ثمرة الإثم في حشاها، ثم يتوب هو فينسى المجتمع حوبته، ويقبل توبته، وتتوب هي فلا يقبل لها المجتمع توبة أبداً، وإذا هم هو بالزواج أعرض عن فتاته التي أفسدها مترفعاً عنها، ومدعياً أنه لا يتزوج البنات الفاسدات، ولسان حاله يقول: أميطوا الأذى عن الطريق؟ فإنه من شعب الإيمان،
أين ما أخذه على نفسه من وعود؟ أين ما قطعه من عهود؟

كتبت إحداهن وكانت سليلة مجد ومن بيت عز تستعطف الذئب بعد أن سلبها عذريتها، فقالت: لو كان بي أن أكتب إليك لأجدد عهداً دارساً أو وداً قديماً ما كتبت سطراً، ولا خططت حرفاً، لأني لا أعتقد أن عهداً مثل عهدك الغادر، ووداً مثل ودك الكاذب، يستحق أن أحفل به فأذكره، أو آسف عليه فأطلب تجديده، إنك عرفت حين تركتني أن بين جنبي ناراً تضطرم، وجنيناً يضطرب، تلك للأسف على الماضي، وذاك للخوف من المستقبل، فلم تبل بذلك، وفررت مني حتى لا تحمل نفسك مؤونة النظر إلى شقاء أنت صاحبه، ولا تكلف يدك مسح دموع أنت مرسلها، فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصور أنك رجل شريف؟ لا، بل لا أستطيع أن أتصور أنك إنسان، لأنك ما تركت خلة من الخلال المتفرقة في نفوس العجماوات والوحوش الضارية إلا جمعتها في نفسك، وظهرت بها جميعها في مظهر واحد، كذبت عليَّ في دعواك أنك تحبني وما كنت تحب إلا نفسك، وكل ما في الأمر أنك رأيتني السبيل إلى إرضائها، فممرت بي في طريقك إليها، ولولا ذلك ما طرقت لي باباً، ولا رأبت لي وجهاً، خنتني إذ عاهدتني على الزواج، فأخلفت وعدك ذهاباً بنفسك أن تتزوج امرأة مجرمة ساقطة، وما هذه الجريمة ولا تلك السقطة إلا صورة نفسك، وصنعة يدك، ولولاك ما كنت مجرمة ولا ساقطة، فقد دفعتك - جهدي- حتى عييت بأمرك، فسقطت بين يديك سقوط الطفل الصغير، بين يدي الجبار الكبير، سرقت عفتي، فأصبحت ذليلة النفس حزينة القلب، أستثقل الحياة وأستبطئ الأجل، وأي لذة في العيش لامرأة لا تستطيع أن تكون زوجة لرجل ولا أماً لولد! بل لا تستطيع أن تعيش في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية إلا وهي خافضة رأسها، ترتعد أوصالها، وتذوب أحشاؤها، خوفاً من تهكم المتهكمين، سلبتني راحتي لأني أصبحت مضطرة بعد تلك الحادثة إلى الفرار من ذلك القصر... وتلك النعمة الواسعة وذلك العيش الراغد إلى منزل لا يعرفني فيه أحد... قتلت أبي وأمي، فقد علمت أنهما ماتا، وما أحسب موتهما إلا حزناً لفقدي، ويأساً من لقائي، قتلتني لأن ذلك العيش المر الذي شربته من كأسك، وذلك الهم الذي عالجته بسببك، قد بلغا مبلغهما من جسمي ونفسي فأصبحت في فراش الموت كالزبالة المحترقة... فأنت كاذب خادع ولص قاتل، ولا أحسب أن الله تاركك بدون أن يأخذ لي بحقي منك... [النظرات للمنفلوطي].



ذئب آخر: كان من شباب الخلاعة واللهو، علم أن المنزل الذي يجاور منزله يشتمل على فتاة حسناء من ذوات الثراء والنعمة والرفاهية والرغد، فرما إليها النظرة الأولى فتعلقها، فكررها أخرى، فبلغت منه، فتراسلا، تم تزاورا، ثم افترقا، وقد ختمت روايتهما بما تختم به كل رواية غرامية يمثلها أبناء آدم وحواء على مسرح هذا الوجود، عادت الفتاة تحمل بين جانحتيها بما يضطرم في فؤادها، وجنيناً يضطرب في أحشائها، ولقد يكون لها إلى كتمان الأول سبيل، أما الثاني فسرٌّ مذاع، وحديث مُشاع، إن اتسعت له الصدور، فلا تتسع له البطون، وإن ضن به اليوم فلا يضن به الغد... فلما أسهر الهم ليلها، وأقض مضجعها، لم تر لها بداً من الفرار بنفسها، والنجاة بحياتها، فعمدت إلى ليلة من الليالي الداجية فلبستها وتلفعت بردائها، ثم رمت بنفسها في بحرها الأسود، فمازالت أمواجها تتلقفها وتترامى بها حتى قذفت بها إلى شاطئ الفجر، فإذا هي في غرفة مهجورة في إحدى المنازل البالية، في بعض الأحياء الخاملة وإذا هي وحيدة في غرفتها لا مؤنس لها إلا ذلك الهم المضطرم.

وتدور عجلة الزمان دورتها، تلك العجلة التي لا حيلة لنا في إيقافها فماذا كان؟ يغفر المجتمع للجاني الذئب، ويقبل توبته، وينسى زلته، ويُعَيَّن قاضياً، وتضع المسكينة طفلتها في تلكم الغرفة المتهالكة، باعت جميع ما تملك يدها وما يحمل بدنها وما تشتمل عليه غرفتها من حلي وثياب وأثاث، حتى إذا طار غراب الليل عن مجثمة أسدلت برقعها على وجهها وائتزرت بمئزرها، وأنشأت تطوف شوارع المدينة وتقطع طرقها، لا تبغي مقصداً ولا ترى غاية سوى الفرار بنفسها من همها، وهمها لا يزال يسايرها ويترسم مواقع أقدامها، وفي إحدى الليالي سيق إليها رجل، كان ينقم عليها شأناً من شؤون لشهواته ولذاته، فزعم أنها سرقت كيس دراهمه... ورفع أمرها إلى القضاء... وجاء يوم الفصل.. فسيقت إلى المحكمة، وفي يدها فتاتها، وقد بلغت السابعة من عمرها فأخذ القاضي ينظر في القضايا ويحكم فيها... حتى أتى دور الفتاة، فما وقع بصره عليها حتى شدهت عن نفسها وألم بها من الاضطراب والحيرة ما كاد يذهب برشدها، ذلك أنها عرفته وعرفت أنه ذلك الفتى الذي كان سبب شقائها، وعلة بلائها، فنظرت إليه نظرة شزراء، ثم صرخت صرخة دوى بها المكان دويا وقالت: "رويدك أيها القاضي، ليس لك أن تكون حكماً في قضيتي، فكلانا سارق، وكلانا خائن، والخائن لا يقضي على الخائن، واللص لا يصلح أن يكون قاضياً بين اللصوص " فعجب القاضي والحاضرون لهذا المنظر الغريب... وهم أن يدعو الشرطي لإخراجها، فحسرت قناعها عن وجهها، فنظر إليها نظرة ألمّ فيها بكل شيء، وعادت الفتاة إلى إتمام حديثها فقالت: "أنا سارقة المال، وأنت سارق العرض، والعرض أثمن من المال، فأنت أكبر مني جناية، وأعظم جرماً، وإن الرجل الذي سُرق ماله ليستطيع أن يعزي نفسه باسترداده أو الاعتياض عنه، أما الفتاة التي سَرق عرضها فلا عزاء لها؟ لأن العرض الذاهب لا يعود، لولاك لما سُرقت، ولما وصلت إلى ما وصلت إليه، فاترك كرسيك لغيرك، وقف بجانبي ليحاكمنا القضاء العادل على جريمة واحدة، أنت مدبرها وأنا المسخرة فيها... رأيتك حين دخلت هذا المكان، وسمعت الحاجب يصرخ لمقدمك، ويستنهض الصفوف للقيام لك! ورأيت نفسي حين دخلت والعيون تتخطاني والقلوب تقتحمني، فقلت يا للعجب، كم تكذب العناوين، وكم تخدع الألقاب، أتيت بي إلى هنا، لتحكم علي بالسجن كأن لم يكفك ما أوزعت إلي من شقاء حتى أردت أن تجيء بلاحق لذلك السابق، ألم تك إنسانا، فترثى لشقائي وبلائي؟ إن لم تكن عندي وسيلة أمت بها إليك، فوسيلتي إليك ابنتك هذه فهي الصلة الباقية بيني وبينك.

وهنا رفع "الذئب"- عفواً- رفع القاضي رأسه، ونظر إلى ابنته الصغيرة وأعلن أن المرأة قد طاف بها طائف من الجنون، وأن لابد من إحالتها على الطبيب فصدق الناس قوله، تم قام من مجلسه... (المصدر السابق). يا الله؟

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ
عوى وصوت إنســـــــان فكدت أطير




أرأيت- يا ابنتي- كيف تنكر الذئب من فعلته بكل يسر وسهولة، إن كل فتاة من هاتين الفتاتين كانت لها أم تحنو عليها، وتتفقد شأنها، وتجزع لجزعها، وتبكي لبكائها، ففارقتها، وكان لها أب لا هم له في حياته إلا أن يراها سعيدة في آمالها، مغتبطة بعيشها، فهجرت منزله، وكان لها خدم يقمن عليها ويسهرن بجانبها فأصبحت لا تسامر إلا الوحدة، ولا تساهر إلا الوحشة، وكان لها شرف يؤنسها ويملأ قلبها غبطة وسروراً ورأسها عظة وافتخاراً ففقدته، وكان لها أمل في زواج سعيد مع زوج محبوب، فرزأتها الأيام في أملها، كل هذا لأنها صدقت ما وعدها، وانساقت وراء نزوة عابرة ولم تمتثل قول الله - عز جل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59].

فلا تغرنك- يا ابنتي- الصورة البشرية التي يتصور فيها الذئب وتلك الملابس التي يتسربل داخلها، فلو كشف لك عن أنيابه لرأيت الدم الأحمر يترقرق فيها، أو عن أظفاره لرأيتها مخالب حادة، أو عن قلبه لرأيت حجراً صلداً من أحجار الغرانيت لا ينبض بقطرة من الرحمة، ولا تخلص إليه نسمة من العظة، فهم سباع مفترسة، وذئاب ضارية، فكم حمَّلوا من فتاة شقاءً وآلاماً لا قدرة لها ولا لمخلوق باحتماله، وكم قرحوا من كبد أب لو عرضها في سوق الهموم والأحزان ما وجد من يبتاعها منه بدرهم، وكم سرقوا فرحة زوج في ليلة عرسه فطلق زوجته قبل أن يبني بها غير آسف ولا حزين.
جاء رسول البريد بكتاب إلى زوج في ليلة بنائه على زوجته فإذا فيه الرسالة التالية: "علمت أنك خطبت (فلانة) إلى أبيها وأنك عما قليل ستكون زوجها، ولعمري لقد كذبك نظرك وخدعك، من قال لك: إنك ستكون سعيداً بها، فإنها لن تكون لك بعد أن صارت لغيرك، ولا يخلص حبك إلى قلبها بعد أن امتلأ بحب عاشقها، فاعدل عن رأيك فيها، وانفض يدك منها، وإن أردت أن تعرف من هو ذلك العاشق وتتحقق صدق خبري وإخلاصي لك في نصيحتي، فانظر إلى الصورة المرسلة مع هذا الكتاب" التوقيع.

وقصص الذئاب أكثر من أن يحصيها العد، ولكن اللبيب بالإشارة يفهم، وقلما تتزوج فتاة ذات صلات فاسدة مع رجل إلا وردت عليها ليلة البناء بها أو صبيحتها كتب الوشاية والسعاية ممن أحبتهم وأخلصت إليهم سابقا، فينتهي أمرها أيضا إلى الشقاء والعار، وليس هناك فتاة بدأت حياتها بحب وغرام كان باستطاعتها أن تتمتع بالحب في زواج سعيد شريف، جزاء وفاقاً ولا يظلم ربك أحداً.

والآن آن لك- يا ابنتي- أن تفرقي بقوة بين من يريدك مستترة فتُعزي، وممتنعة فتطلبي، وبين من يريدك معروضة فتُهاني، وكل معروض مهان، قد آن لك أن تتشبثي بحجابك وسترك وعفافك وطهرك امتثالاً لقول ربك - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِّزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59]. لا تستمعي للناعقين، الذين يغمزون ويلمزون، فمازالوا بأختك في أماكن أخر حتى نزعوا عنها حجابها، فهل اكتفوا بهذا؟ لا، بل نزلوا إلى ثوبها، حتى قصرت من هنا أصبعاً ومن هناك أصبعاً، إلى أن ألقوا بها على شاطئ البحر عارية تماماً من كل شيء، إلا الشيء الذي يقبح مرآه، ويجمل ستره، ثم تركوها تمشي في الشارع، كاسية عارية، مائلة مميلة، لا يكلف أحدهم نيل إحداهن (من هذا الكائن المشوه) إلا أن يشير بيده، فتترامى عليه، لا يحجزها دين، ولا يمنعها عرف، ولا يمسكها حياء، قد هانت حتى صار عرضها يبذل في ملء بطنها وستر جسدها، ويل لها من النار، أين هي من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: « صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» رواه مسلم برقم (3971).





ولكن القوم خدعوها قالوا لها: هذه هي الحضارة والمدنية، فصدقتهم، وكذبوا والله، أيكون الطهر عيباً، والعفاف عاراً، والخير شراً، والنور ظلاماً؟ وما لنا وللغرب، ليذهب الغرب بنسائه إلى الجحيم، أما كفانا تفكيراً برؤوس غيرنا؟ أما كفانا نظراً بعيون عدونا؟ أما كفانا تقليداً كتقليد القردة؟ ليصنع بنات الغرب ما شئن وشاء لهن رجالهن، فما لنا ولهم، وتكوني أنت - يا ابنتي- كما نريد نحن ويريد لك الله.

فليس في الدنيا أكرم منك وأطهر، ما تمسكت بدينك، وحافظت على حجابك، وتخلقت بأخلاقك الحسنة، فمن نساء الغرب من تبارز الرجال صنعتهم الثقيلة، إنها ممتهنة في عقر دارها، تربح المال من لديها جمال، فإن ذهب جمالها رموها كما ترمى ليمونة امتص ماؤها.
لكننا قلدناهم، تركنا الحسن، وأخذنا القبيح، من تمثيل، وغناء؟، وفن، ورقص، كأننا ما خلقنا إلا للغناء والطرب والفن والرقص.

ولابد من شكوى إلى ذي
مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع

وأخيراً: أهمس إليك- يا ابنتي - بكلمة لابد منها بعد أن خبرت الذئب وأفعاله، أقول لك: أنت الآن صبية جميلة، وإلى الخامسة والعشرين تَطلبين وبعد ذلك تُطلبين فإن طرق داركم من ترضين دينه وخلقه، فلا تترددي في قبوله ولا تتمنعي ولا تسوفي، فإن الجمال والصبا لا يدومان، فإما المرض، وإما القبر، نعم القبر الذي لابد لكل حي منه، القبر، يا ابنتي الذي يفد إليه كل يوم وفود البشر محمولين على أيدي آبائهم وأمهاتهم وأحبابهم، ليقدموهم بأنفسهم هدايا ثمينة إلى الدود، ثم يخلون بينهم وبينه يأكل لحومهم ويمتص دماءهم ويتخذ من أحداق عيونهم، ومباسم ثغورهم مراتع يرتع فيها كما يشاء بلا رقبى ولا حذر من حيث لا يملك مالك، عن نفسه دفعاً، ولا يعرف إلى النجاة سبيلاً، نعم يا ابنتي.


هو المــــــــوت ما منه مــلاذ ومهـرب
إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب

نـؤمل آمـــــــــــالاً ونـــرجـو نتـاجــهـا
لعـل الردي فيـما نرجيـه أقـرب

ونبني القصور المشمخرات في الفضـا
وفي علـمنا أنا نمـوت وتخرب

الموت- يا ابنتي- يقتحمك بلا موعد ويدخل بلا استئذان: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] فرب فتاة كانت فتنة القلب وبهجة النظر، تفيض بالجمال وتنثر السحر والفتون، جاءت عليها لحظة، فإذا هي قد آلت إلى النتن والبلي، ورتع الدود في هذا الجسد البض، وأكل ذلك الثغر الجميل، فهل تظنينه عنك ببعيد؟








يحكي الهاشمي في جواهر الأدب أن عائشة التيمورية الشاعرة الأديبة كانت لها بنت رُبيت في بيت عز ودلال، قد جمع الله لها جمال الخفق وسمو الخلق، فياضة الأنوثة، ساحرة الطرف، بليغة النطق، مهذبة الحواشي، ما رآها أحد إلا أحبها، وفجأة أصابها مرض فما لبثت أن ماتت وهي بنت ثماني عشرة سنة، وروعت الصدمة كل من شاهدها وعرفها، وذهلت أمها ورثتها بقصائد تبكي الصخر وتحرك الجماد، لعلك تريدين أن تقفي على شيء منها، هاكه فتجلدي:


لبسـت ثياب السقم في صغر وقد
ذاقت شـراب الموت وهو مرير

جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا
إن الطبـيب بـطبـه معــــــــرور

وصــف التجرع وهو يــزعم أنه
بالبـــرء من كـل الســقام بشير

فتنفســـــت للحـزن قائـــــــلة له
عجل ببرئـــي حيث أنـت خبيـر

وارحم شبابي إن والدتي غــدت
ثكلى يشيـر لهـا الجوى وتشير

لما رأت يــأس الطبيب وعـجزه
قالت ودمــــــع المقـلتين غزير

أمـــــــاه قـد كـل الطبيب وفاتني
ممـا أؤمـل في الحيــــاة نصير

أمـــــاه قد عز اللقـاء وفي غـــد
ستريـن نعشي كالعروس يسير

وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي
هـو منزلي وله الجموع تصير

قولي لرب اللحـــــد رفقــاً با بنتي
جاءت عــروساً ساقها التقدير

وتجلدي بـإزاء لحـدي بــــــــرهة
فتـراك روح راعــــها المقدور

أمـــــــــــاه قـد سلفـت لنـا أمنيـة
يا حســـنها لو سـاقها التيسير

كانت كأحـــــــلام مضت وتخلفت
مذ بـان يوم البين وهـو عسير

جرت مصـــائب فرقتي لك بعد ذا
لبس الســواد ونـفـذ المسطور

أمـاه لا تنســـــــــي بحـق بنـوتي
قبـــــري لئـلا يحـزن المقبـــور

وهاكِ جواب الأم:

بنتاه يا كبدي ولــــــوعة مهـجتـــي
قد زال صفـو شــــــأنه التكدير

لا توصــــــي ثكلي قد أذاب فؤادهــا
حزن عليــــك وحسـرة وزفيـر

وبقبـلتي ثـــــــغـراً تقـضي نحـبــــه
فحرمت طيب شذاه وهو عطير

والله لا أســـــــــــلو التـلاوة والـدعا
ما غــردت فوق الغصون طيور

كلا ولا أنســـــــــــــى زفـير تـوجعي
والقــــد منك لدي الثرى مدثور

إني ألفت الحــــــــــــــزن حـتى أنني
لـو غـــاب عني ساءني التأخير

قد كنت لا أرضى التبــــــــاعد برهة
كيف التصــــــبر والبعاد دهـور

أبكيـك حتى نلتـقي في جنــــــــــــــة
برياض خـلد زينـتها الحــــــور

فبادري يا ابنتي بالتوبة وامتثلي لأوامر الله - عز وجل - وغضي البصر عن النظر المحرم طاعة لقول ربك - عز وجل -: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 31] فللسان زنا، وللبصر زنا، واستمعي إلى قول نبيك - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: {إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} أخرجه البخاري.




وقد رأى - عليه الصلاة والسلام - عذاب أهل الزنا والعياذ بالله فقال - صلى الله عليه وسلم -: « فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، يتوقد تحته نار، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا، فيها رجال ونساء عراة، فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق، فلما أخبراه قالا:... والذي رأيته في الثقب هم الزناة » أخرجه البخاري برقم (1122).

فالمبادرة المبادرة يا ابنتي وباب التوبة مازال مفتوح و « إن الله - تعالى - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.. » أخرجه مسلم برقم (2760)، ويقول - سبحانه -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 153].

لبيك يا رب، فعجلي- يا ابنتي - ولا تسوفي فلا تساوي هذه اللذة بتلك الآلام ولا تشتري هذه البداية بتلك النهاية.

فسمو هذا الدين وشرفه أنه يبني النفس الإنسانية ويربيها على قاعدة: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10]. وأن مبدأ الثواب والعقاب فيه مرتكز على قاعدة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].

هذه نصيحتي لك- يا بنيتي-، نصيحة من يحب لك الخير، ويتمنى لك الرفعة، ففكري فيها، وضعيها نصب عينيك، واحملي عقلك دائماً في رأسك، لا تنسيه أبداً، لا تنسيه في قصة غرام، أو ديوان غزل، أو بين صفحات مجلة، أو عبر حرارة الهاتف، أو أمام شاشة التلفاز، أو عند نظرات ذئب جائع أو بين معسول حديثه، ضعي عفتك وكرامتك وشرف أهلك بين عينيك، تعرفين جيداً كيف تردين أي شيطان، فإن أفسق الرجال وأجرأهم على الشر، يخنس ويبلس ويتوارى إن رأى أمامه فتاة متسترة، مرفوعة الهامة، ثابتة النظر، تمشي بجد وقوة وحزم، لا تلتفت تلفت الخائف ولا تضطرب اضطراب الخجل، حينئذ يطرح الذئب عن جلده فروة السباع، وينزل من على الجدار، تائباً مستغفراً ليطرق الباب في الحلال، رجلاً وسط أهله وعشيرته، بل ويستشفع بأهل الخير والصلاح ليشفعوا له عند أبيك، كي يمدحوه بالدين والخلق، فكفى بالدين والخلق مدحاً أنه ينسب إليهما كل أحد، وكفى بالرذيلة والخديعة مذمة أن يتبرأ منهما كل أحد.

هنالك تزفين وسط قبلات الأهل، ودموع الأم، وحنان الأب، مرفوعة هامتك، عزيز جانبك، إلى بيت الشرف والكرامة... يا صانعة الرجال.