سلسة سبل السلام شرح بلوغ المرام - كتب التاريخ والتراث
أهلا وسهلا بك إلى معهد توب ماكس تكنولوجي.
  1. ما شاء الله تبارك الله ( يا ربي لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك )
  2. معهد توب ماكس تكنولوجي | أعلى قمة للتكنولوجيا الحديثة في الشرق الأوسط - صرح علمي متميز
  3. طريقة تسجيل عضوية في معهد توب ماكس تكنولوجي بشكل سريع
    مع ملاحظة أن التسجيل مجاني ومفتوح طيلة أيام الأسبوع عند تسجيل العضوية تأكد من البريد الالكتروني أن يكون صحيحا لتفعيل عضويتك وأيضا أن تكتبه بحروف صغيره small و ليست كبيرة تستطيع أيضا استخدام الروابط التالي : استرجاع كلمة المرور | طلب كود تفعيل العضوية | تفعيل العضوية
  4. اشترك ألان في خدمة رسائل المعهد اليومية لتعرف كل جديد اضغط هنا للاشتراك
التفاصيل : الردود : 4 المرفقات : 0 المشاهدات: 6378 مشاهدة
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
أرسل هذا الموضوع إلى صديق…

المواضيع المتشابهه

  1. نسبية الآراء الخاطئة - فهد عامر الأحمدي
    بواسطة كاتب الأخبار في المنتدى مقالات وأخبار الحوادث
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-25-2012, 03:10 AM
  2. الشيكولاته الداكنة والكولسترول واختلاف الآراء
    بواسطة صحفي متميز في المنتدى مقالات وأخبار الحوادث
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-02-2010, 03:10 AM
  3. بلوغ المرام .. في التعاون مع الإعلام - عبد العزيز المحمد الذكير
    بواسطة كاتب الأخبار في المنتدى مقالات وأخبار الحوادث
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-24-2009, 03:00 AM
  4. لاندمارك: سلوكيات الملاك في دبي وأبوظبي تمنع الأسعار من بلوغ القاع
    بواسطة صحفي متميز في المنتدى الأخبار الاقتصادية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-09-2009, 02:50 PM
  5. كي لا تكون هذه الآراء للاستهلاك الإعلامي
    بواسطة كاتب الأخبار في المنتدى مقالات وأخبار الحوادث
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-05-2009, 03:00 AM

النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1
    مشرف القسم العام
    قسم هندسة الكهرباء
    قسم هندسة الشبكات wan lan
    الصورة الرمزية سائر في ربى الزمن
    تاريخ التسجيل
    Nov 2008
    الدولة
    اليمن السعيد
    المشاركات
    5,301
    معدل تقييم المستوى
    22

    افتراضي سلسة سبل السلام شرح بلوغ المرام

    سبل السلام
    شرح بلوغ المرام
    للصنعاني




    أبواب السلم والقرض والرهن

    عَنِ ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قَدِمَ النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المدينةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ في الثّمَارِ السّنَةَ والسّنَتَيْنٍ فَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ في ثَمَرٍ فَلْيُسْلِفْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ ووَزْنِ مَعْلُومٍ إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ، وَللْبُخَاريِّ "مَنْ أَسْلَفَ في شيءٍ".
    (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المدينة وهم يُسْلِفون في الثمار السنةَ والسنتين) منصوبان بنزع الخافض أي إلى السنة والسنتين (فقال: "مَنْ أَسْلَفَ في ثَمَرٍ") روي بالمثناة والمثلثة فهو بها أعم (فلْيُسْلِفْ في كيلٍمَعْلومٍ) إذا كان مما يكال (ووزَنٍ معلومٍ) إذا كان مما يوزن (إلى أَجَلٍ مَعْلومٍ" متفق عليه وللبخاري "مَنْ أَسْلَفَ في شيْء").
    السلف بفتحتين هو السلم وزناً ومعنى قيل: وهو لغة أهل العراق والسلم لغة أهل الحجاز.
    وحقيقته شرعاً: بيع موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلاً.
    وهو مشروع إلا عند ابن المسيب.
    واتفقوا على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس إلا أنه أجاز مالك تأجيل الثمن يوماً أو يومين ولا بد من أن يقدر بأحد المقدارين كما في الحديث.
    فإن كان مما لا يكال ولا يوزن فقال المصنف في فتح الباري: فلا بد فيه من عدد معلوم رواه ابن بطال وادعى عليه الإجماع.
    وقال المصنف: أو ذرع معلوم فإن العدد والذرع يلحقان بالوزن والكيل للجامع بينهما وهو ارتفاع الجهالة بالمقدار.
    واتفقوا على اشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه بالكيل كصاع الحجاز وقفيز العراق وأردب مصر فإذا أطلق انقلب إلى الأغلب في الجهة التي وقع فيها عقد السلم.
    واتفقوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسلم في صفة تميزه عن غيره ولم يتعرّض له في الحديث لأنهم كانوا يعلمون به.
    وظاهر الحديث أن التأجيل شرط في السلم فإن كان حالاً لم يصح أو كان الأجل مجهولاً وإلى هذا ذهب[اث] ابن عباس[/اث] وجماعة من السلف.
    وذهب آخرون إلى عدم شرطية ذلك وأنه يجوز السلم في الحالِ، والظاهرُ أنه لم يقع في عصر النبوّة إلا في المؤجل وإلحاق الحال بالمؤجل قياس على ما خالف القياس لأن السلم خالف القياس إذا هو بيع معدوم وعقد غرر.
    واختلفوا أيضاً في شرطية المكان الذي يسلم فيه فأثبته جماعة قياساً على الكيل والوزن والتأجيل وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه وفصلت الحنفية فقالت: إن كان لحمله مؤونة فيشترط وإلا فلا.
    وقالت الشافعية إن عقد حيث لا يصلح للتسليم كالطريق فيشترط وإلا فقولان. وكل هذه التفاصيل مستندها العرف.
    وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ أَبْزى وَعَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبي أَوْفَى رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قالا: كُنّا نُصيبُ الْمَغانِمَ مَعَ رسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وَكانَ يأتِينا أَنْباطٌ مِنْ أَنْباطِ الشَّامِ فَنُسْلِفُهُمْ في الحِنْطَةِ وَالشّعِير والزَّبيب" وَفي روَايةٍ ــــ والزَّيْتِ ــــ إلى أَجَلٍ مُسَمّى، قِيلَ: أَكَانَ، لَهُمْ زَرْعٌ؟ قالا: ما كُنّا نَسْأَلُهمْ عَنْ ذلكَ" رَوَاهُ الْبُخَاريُّ.
    (وعن عبد الرحمن بن أَبْزَى وعبد الله بن أبي أَوْفى) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الزاي الخزاعي. سكن الكوفة واستعمله علي بن أبي طالب عليه السلام على خراسان وأدرك النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وآله وصلى خلفه.
    (قال: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام).
    هم من العرب دخلوا في العجم والروم فاختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم سمواً بذلك لكثرة معرفتهم بإنباط الماء أي استخراجه.
    (فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب ــــ وفي رواية والزيت ــــ إلى أجل مسمى.
    قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. رواه البخاري).
    الحديث دليل على صحة السلف في المعدوم حال العقد إذ لو كان العقد من شرط وجود المسلم فيه لاستفصلوهم وقد قالا: ما كنا نسألهم. وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال وقد ذهب إلى هذا الهادوية والشافعية و مالك واشترطوا إمكان وجوده عند حلول الأجل ولا يضر انقطاعه قبل حضور الأجل لما عرفت من ترك الاستفصال كذا في الشرح.
    قلت: وهو استدلال بفعل الصحابي أو تركه ولا دليل على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم علم ذلك وأقره.
    وأحسن منه في الاستدلال أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أقرّ أهل المدينة على السلم سنة وسنتين والرطب ينقطع في ذلك.
    ويعارض ذلك حديث ابن عمر عند أبي داود: "ولا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه" فإن صح ذلك كان مقيداً لتقريره لأهل المدينة على سلم السنة والسنتين وأنه أمرهم بأن لا يسلفوا حتى يبدو صلاح النخل ويقوى ما ذهب إليه الناصر وأبو حنيفة من أنه يشترط في المسلم فيه أن يكونموجوداً من العقد إلى الحلول.
    وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضيَ الله تَعَالَى عَنْهُ عنِ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النّاسِ يُريدُ أَداءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُريدُ إتلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ" رَوَاهُ الْبُخَاريُّ.
    (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" رواه البخاري).
    التعبير بأخذ أموال الناس يشمل أخذها بالاستدانة وأخذها لحفظها.
    والمراد من إرادته التأدية قضاؤها في الدنيا.
    وتأدية الله عنه يشمل تيسيره تعالى لقضائها في الدنيا بأن يسوق إلى المستدين ما يقضي به دينه وأداؤها عنه في الآخرة بإرضائه غريمه بما شاء تعالى.
    وقد أخرج ابن ماجه وابن حبان والحاكم مرفوعاً: "ما من مسلم يَدَّانُ ديناً يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أدَّاه الله عنه في الدنيا والآخرة".
    وقوله: "يريد إتلافها" الظاهر أنه من يأخذ بالاستدانة مثلاً لا لحاجة ولا لتجارة بل لا يريد إلا إتلاف ما أخذ على صاحبه ولا ينوي قضاءها.
    وقوله: "أتلفه الله" الظاهر إتلاف الشخص نفسه في الدنيا بإهلاكه وهو يشمل ذلك ويشمل إتلاف طيب عيشه وتضييق أموره وتعسر مطالبه ومحق بركته ويحتمل إتلافه في الآخرة بتعذيبه.
    قال ابن بطال: فيه الحث على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء يكون من جنس العمل.
    وأخذ منه الداودي أن من عليه دين فليس له أن يتصدق ولا يعتق وفيه بعد.
    وفي الحديث الحث على حسن النية والترهيب عن خلافه وبيان أن مدار الأعمال عليها وأن من استدان ناوياً الإيفاء أعانه الله عليه.
    وقد كان عبد الله بن جعفر يرغب في الدين فيسأل عن ذلك فقال سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "إن الله مع الدائن حتى يُقضى دينه" رواه ابن ماجه والحاكم وإسناده حسن إلا أنه اختلف فيه على محمد بن عليّ، ورواه الحاكم من حديث عائشة بلفظ: "ما من عبد كانت له نية في وفاء دينه إلا كان له من الله عون" قالت ــــ يعني[اث] عائشة[/اث] ــــ: فأنا ألتمس ذلك العون.
    فإن قلت: قد ثبت حديث: (إنه يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) ، وحديث: "الآن بردت جلدته" قاله لمن أدى ديناً عن ميت مات عليه دين. قلت: يحتمل أن معنى لا يغفر للشهيد الدين أنه باق عليه حتى يوفيه الله عنه يوم القيامة ولا يلزم من بقائه عليه أن يعاقب في قبره ومعنى قوله: "بردت جلدته" خلصته من بقاء الدين عليه ويحتمل أن ذلك فيمن استدان ولم ينو الوفاء.
    وعَنْ عَائِشَةَ رضيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: قُلْتُ: يا رسُولَ اللَّهِ إن فُلاناً قَدمَ لَهُ بَزٌّ مِنَ الشّامِ فَلَوْ بَعَثْتَ إلَيْهِ فَأَخَذْتَ مِنْهُ ثَوْبَيْنِ نَسِيئَةً إلى مَيْسَرَةٍ، فَبَعَثَ إلَيْهِ فَامْتَنَعَ. أَخْرَجَهُ الحاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَرجالُهُ ثِقَاتٌ.
    (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن فلاناً قدم له بز من الشام فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين نسيئة إلى ميسرة، فبعث إليه فامتنع. أخرجه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات).
    فيه دليل على بيع النسيئة وصحة التأجيل إلى ميسرة وفيه ما كان عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من حسن معاملة العباد وعدم إكراههم على الشيء وعدم الإلحاح عليهم.
    وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُوناً، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُوناً، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
    وهذا من باب الرهن وهو لغة الاحتباس من قولهم رهن الشيء إذا دام وثبت ومنه {كل نفس بما كسبت رهينة} وفي الشرع جعل مال وثيقة على دين ويطلق على العين المرهونة.
    (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: "الظّهْرُ يُرْكَبُ) بالبناء للمفعول ومثله يشرب (بِنَفَقتهِ إذا كانَ مرهوناً ولَبنُ الدَّرِّ) بفتح الدال المهملة وتشديد الراء وهو اللبن تسمية بالمصدر قيل هو من إضافة الشيء إلىنفسه وقيل من إضافة الموصوف إلى صفته (يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كانَ مَرْهُوناً، وعَلى الّذِي يَرْكَبُ ويَشْرَب النّفَقَةُ" رواه البخاري).
    فاعل يركب ويشرب هو المرتهن بقرينة العوض وهو الركوب وإن كان يحتمل أنه الراهن إلا أنه احتمال بعيد لأن النفقة لازمة له فإن المرهون ملكه وقد جعلت في الحديث على الراكب والشارب وهو غير المالك إذ النفقة لازمة للمالك على كل حال.
    والحديث دليل على أنه يستحق المرتهن الانتفاع بالرهن في مقابلة نفقته وفي المسألة ثلاثة أقوال:
    الأول: ذهب أحمد وإسحاق إلى العمل بظاهر الحديث وخصوا ذلك بالركوب والدرّ فقالوا ينتفع بهما بقدر قيمة النفقة ولا يقاس غيرهما عليهما.
    والثاني: للجمهور قالوا: لا ينتفع المرتهن بشيء قالوا: والحديث خالف القياس من وجهين أولهما تجويز الركوب والشرب لغير المالك بغير إذنه وثانيهما تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة.
    قال ابن عبد البر: هذا الحديث عند جمهور الفقهاء ترده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها ويدل على نسخه حديث ابن عمر: "لا تحلب ماشية امرىء بغير إذنه" أخرجه البخاري في أبواب المظالم.
    قلت: أما النسخ فلا بد له من معرفة التاريخ على أنه لا يحمل عليه إلا إذا تعذر الجمع ولا تعذر هنا إذ يخص عموم النهي بالمرهونة.
    وأما مخالفة القياس فليست الأحكام الشرعية مطردة على نسق واحد بل الأدلة تُفَرِّقُ بينهما في الأحكام والشارع حكم هنا بركوب المرهون وشرب لبنه وجعله قيمة النفقة.
    وقد حكم الشارع ببيع الحاكم عن المتمرّد بغير إذنه وجعل صاع التمر عوضاً عن اللبن وغير ذلك.
    وقال الشافعي: المراد أنه لا يمنع الراهن من ظهرها ودرّها فجعل الفاعل الراهن وتعقب بأنه ورد بلفظ المرتهن فتعين الفاعل.
    والقول الثالث: للأوزاعي والليث أن المراد من الحديث أنه إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون فيباح حينئذ الإنفاق على الحيوان حفظاً لحياته وجعل له في مقابل النفقة الانتفاع بالركوب أو شرب اللبن بشرط أن لا يزيد قدر ذلك أو قيمته على قدر علفه وقوى هذا القول في الشرح.
    ولا يخفى أنه تقييد للحديث بما لم يقيده به الشرع وإنما قيده بالضابط المتصيد من الأدلة وهو أن كل عين في يده لغيره بإذن الشارع فإنه ينفق عليها بنية الرجوع على المالك وله أن يؤجرها أو يتصرف في لبنها في قيمة العلف إلا أنه إذا كان في البلد حاكم ولم يستأذنه فلا رجوع بما أنفق ويلزمه غرامة المنفعة واللبن فإن لم يكن في البلد حاكم أو كان يتضرر الحيوان بمدة الرجوع فله أن ينفق ويرجع بما أنفق إلا أنه قد يقال إنها قاعدة عامة فتخص بحديث الكتاب.
    وعنه قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الذي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيهِ غُرْمُهُ" رَوَاهُ الدّارَقُطْنيُّ والحاكِمُ وَرجَالُهُ ثِقَاتٌ إلا أنَّ المَحْفوظَ عِنْدَ أَبي داودَ وَغَيْرهِ إرْسالُهُ.

    (وعنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "لا يغلق) بفتح حرف المضارعة وغين معجمة ساكنة ولام مفتوحة وقاف يقال غلق الرهن إذا خرج عن ملك الراهن واستولى عليه المرتهن بسبب عجزه عن أداء ما رهنه فيه وكان هذا عادة العرب فنهاهم النبي صَلّىالله عَلَيْهِ وَسَلّم (الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الّذي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ) زيادته (وعليْهِ غُرْمُهُ) هلاكه ونفقته (رواه الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله).
    قال الحافظ ابن عبد البر: اختلف في قوله: له غنمه وعليه غرمه فقيل هي مدرجة من قول سعيد بن المسيب قال ورفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن أبي ذئب ووقفها غيرهم.
    وقد روى ابن وهب هذا الحديث فجوده وبيّن أن هذه اللفظة من قول ابن المسيب وكذا أبو داود في المراسيل قوى أنه من قوله.
    ومعنى يغلق لا يستحقه المرتهن إذا عجز صاحبه عن فكه والحديث ورد لإبطال ما كان عليه في الجاهلية عن غلق الرهن عند المرتهن وبيان أن زيادته للراهن ونفقته عليه كما سلف فيما قبله.
    وَعَنْ أَبي رافعٍ رَضي الله عَنْهُ: أَنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْراً فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إبلٌ مِنْ إبلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَر أَبا رَافعٍ أَنْ يَقْضيَ الرَّجلَ بَكْرَهُ فَقَالَ: لا أجِدُ إلا خِيَاراً رَبَاعِياً، فَقَالَ: "أَعْطِهِ إيّاهُ فَإنَّ خِيّارَ النّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
    وهو من أحاديث باب القرض والأحاديث في فضله والحث عليه كثيرة.
    (وعن أبي رافع أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اسْتسلَفَ من رجل بَكْراً) بفتح الموحدة وسكون الكاف من الإبل (فَقَدِمَتْ عليه إبِلٌ من إبِلِ الصَّدقَةِ فَأَمَرَ أبا رافعٍ أن يَقْضيَ الرجلَ بَكْرَهُ قال: لا أجدُ إلا خِياراً رَباعياً) هو بفتح الراء الذي يدخل في السنة السابعة وتبقى رباعيته (فقال: "أَعْطِهِ إيّاهُ فإنَّ خِيارَ النّاس أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً" رواهُ مسلمٌ).
    تقدم الكلام على الخلاف في قرض الحيوان.
    والحديث دليل على جوازه وأنه يستحب لمن عليه دين من قرض أو غيره أن يرد أجود من الذي عليه وأن ذلك من مكارم الأخلاق المحمودة عرفاً وشرعاً ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعاً لأنه لم يكن مشروطاً من المقرض وإنما ذلك تبرع من المستقرض.
    وظاهره العموم للزيادة عدداً أو صفة وقال مالك الزيادة في العدد لا تحل.
    وَعَنْ عَليَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رباً" رَوَاهُ الحارثُ بنُ أَبي أُسَامَةَ وإسْنَادُهُ سَاقطٌ.
    وَلَهُ شَاهدٌ ضَعيفٌ عَنْ[تض] فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ[/تض] عنْدَ الْبَيْهَقِي.
    وَآخَرُ مَوْقُوفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلامٍ عِنْدَ البُخَاريِّ.
    (وعن علي قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كل قرض جر منفعة فهو ربا". رواه الحارث بن أبي أسامة وإسناده ساقط) لأن في إسناده سوار بن مصعب الهمداني المؤذن الأعمى وهو متروك.
    (وله شاهد ضعيف عن فضالة بن عبيد عند البيهقي) أخرجه البيهقي في المعرفة بلفظ: "كل قرض جرّ منفعة فهو وجه من وجوه الربا".
    (وآخر موقوف عن عبد الله بن سلام عند البخاري) لم أجده في البخاري في باب الاستقراض ولا نسبه المصنف في التلخيص إلى البخاري بل قال إنه رواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبيّ بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفاً عليهم انتهى فلو كان في البخاري لماأهمل نسبته إليه في التلخيص.
    والحديث بعد صحته لا بدّ من التوفيق بينه وبن ما تقدّم وذلك بأن هذا محمول على أن المنفعة مشروطة من المقرض أو في حكم المشروطة وأما لو كانت تبرعاً من المقترض فقد تقدم أنه يستحب له أن يعطي خيراً مما أخذه.
    باب التفليس والحجر
    هو لغة مصدر فلسته نسبته إلى الإفلاس الذي هو مصدر أفلس أي صار إلى حالة لا يملك فيها فلساً.
    "والحجر" لغة مصدر حجر أي منع وضيق وشرعاً قول الحاكم للمديون حجرت عليك التصرف في مالك.
    عَنْ أَبي بَكْرِ بنِ عَبْد الرَّحْمنِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَقُولُ: "مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بهِ مِنْ غَيْرِهِ" مُتّفقٌ عَلَيْه، وَرَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَمَالكٌ مِنْ روَايةِ أَبي بَكْر بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ مُرْسَلاً بِلَفْظٍ "أَيُّمَا رَجُلٍ باعَ مَتَاعاً فَأَفْلَس الذي ابْتَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضِ الذي بَاعَهُ مِنْ ثمنهِ شَيْئاً فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بهِ، فإنْ ماتَ المشْتَري فَصَاحِبُ المتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ" وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِي وَضَعّفَهُ تَبَعاً لأبي دَاوُدَ، وَرَواهُ أَبُو دَاوُدَ وابنُ مَاجَهْ مِنْ روَايَةِ عُمَرَ بْنِ خَلدَةَ قال: "أَتَيْنا أَبا هُريرةَ في صَاحب لَنا قَدْ أَفلس فَقَالَ: لأَقْضِيَنَّ فِيكُمْ بِقَضَاءِ رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: مَنْ أَفْلَس أَوْ مَاتَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بهِ" وَصَحّحَهُ الْحاكمُ وَضَعّفَهُ أَبو دَاوُدَ وَضَعّفَ أيضاً هذهِ الزِّيَادَةَ في ذِكْر المَوْتِ.
    (عن أبي بكر بن عبد الرحمن رضي الله عنه) أي ابن الحارث بن هشام المخزومي قاضي المدينة تابعي سمع عائشة وأبا هريرة روى عنه الشعبي والزهري (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ").
    لم يتغير بصفة من الصفات لا بزيادة ولا نقصان.
    (عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرهِ" متفق عليه، ورواه أبو داود ومالك من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلاً).
    وقد وصله أبو داود من طريق أخرى فيها إسماعيل بن عياش لأنها من روايته عن الشاميين وروايته عنهم صحيحة:
    (بلفظ: "أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعاً فأَفْلَسَ الذي ابْتَاعَهُ ولَمْ يَقْبِضِ الذي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئاً فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بَعَيْنِهِ فهُوَ أَحَقُّ بِهِ وإنْ مَاتَ الْمُشْتري فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ" ووصله البيهقي وضعفه تبعاً لأبي داود).
    راجعنا سنن أبي داود فلم نجد فيها تضعيفاً للرواية هذه بل قال في هذه الرواية بعد إخراجه لها من طريق مالك: وحديث مالك أصح، يريد أنه أصح من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن التي ساقها أبو داود وفيها قال أبو بكر: "قضى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن من توفيوعنده سلعة رجل بعينها لم يقض من ثمنها شيئاً فصاحب السلعة أسوة الغرماء فيها" ولم يتكلم الشارح رحمه الله على هذا بشيء (ورواه أبو داود وابن ماجة من رواية عمر بن خلدة) بفتح الخاء المعجمة واللام ودال مهملة (قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال: لأقضينفيكم بقضاء رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فوَجَدَ رَجُلٌ متَاعَهُ بَعَيْنِهِ فهُوَ أَحَقُّ بِهِ" وصححه الحاكم وضعفه أبو داود وضعف أيضاً هذه الزيادة في ذكر الموت").
    سكت عليه الشارح وقد راجعت سنن أبي داود فلم أجد فيها تضعيفاً لرواية عمر بن خلدة بل قال البيهقي بعد رواية حديث أبي بكر بن عبد الرحمن المرسلة التي ساق لفظها المصنف هنا بلفظ أيما رجل إلى آخره أنه قال الشافعي رواية عمر بن خلدة أولى من رواية أبي بكر هذه قال لأنها موصولة جمع فيها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بين الموت والإفلاس.
    قال: وحديث ابن شهاب يريد به رواية أبي بكر بن عبد الرحمن المذكورة منقطع وساق في ذلك كلاماً كثيراً يرجح به رواية عمر بن خلدة فلينظر.
    هذا الحديث اشتمل على مسائل:
    الأولى: أنه إذا وجد البائع متاعه عند من شراه منه وقد أفلس فإنه أحق بمتاعه من سائر الغرماء فيأخذه إذا كان له غرماء وعموم قوله من أدرك ماله يعم من كان له مال عند الآخر بقرض أو بيع وإن كان قد وردت أحاديث مصرحة بلفظ البيع فقد أخرج ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما الحديث بلفظ: "إذا ابتاع الرجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو أحق بها من الغرماء".
    فقد عرف في الأصول أن الخاص الموافق للعامّ لا يخصص العامّ إلا عند أبي ثور وقد زيفوا ما ذهب إليه من ذلك ولذلك ذهب الشافعي وآخرون إلى أن المقرض أولى بماله في القرض كما أنه أولى به في البيع.
    وذهب غيره إلى أنه يختص ذلك بالبيع للتصريح به في أحاديث الباب لكن قد عرفت أن ذلك لا يخص عموم حديث الباب.
    المسألة الثانية: أفاد قوله بعينه أنه إذا وجده وقد تغير بصفة من الصفات بزيادة أو نقصان فإنه ليس صاحبه أولى به بل يكون أسوة الغرماء.
    وقد اختلف العلماء في ذلك فذهبت الهادوية و الشافعي إلى أنه إذا تغيرت صفته بعيب فللبائع أخذه ولا أرش له وإن تغير بزيادة كان للمشتري غرامة تلك الزيادة وهي ما انفق عليه حتى حصلت.
    وكذلك الفوائد للمشتري ولو كانت متصلة لأنها إنما حدثت في ملكه ويلزم له قيمة ما لا حدّ لبقائه كالشجرة إذا غرسها وإبقاء ماله حدّ بلا أجرة كالزرع.
    وكذلك إذا نقصت العين فله أخذ الباقي بحصته من الثمن والحديث يتناوله لأن الباقي مبيع باق بعينه.
    المسألة الثالثة: دلَّ لفظ أبي بكر بن عبد الرحمن المرسل أن البائع إذا كان قد قبض بعض الثمن فليس له حق في استرجاع المبيع بل يكون أسوة الغرماء وبهذا أخذ جمهور العلماء وعند الهادوية وهو راجح قولي الشافعي أنه لا يصير المبيع بقبض بعض ثمنه أسوة الغرماء بل البائع أولى به وكأن الشافعي ذهب إلى هذا لأنه لم يصح الحديث عنده بل قال إنه منقطع فمن قال بصحة الحديث وأنه موصول قال بما قاله الجمهور ومن لا فلا.
    وفي وصله وعدمه خلاف: منهم من رجح إرساله وهم أكثر الحفاظ.
    المسألة الرابعة: قوله: "فإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء" فيه حذف تقديره فمتاع صاحب المتاع أسوة الغرماء وهذا دال على التفرقة بين الموت والإفلاس وإلى التفرقة بينهما ذهب مالك وأحمد عملاً بهذه الرواية قالوا: لأن الميت برئت ذمته وليس للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك بخلاف المفلس، وسواء خلف الميت وفاء أو لا.
    وذهب الهادوية إلى أنه إذا خلف وفاء فليس البائع أولى بمتاعه بل يسلم الورثة الثمن من التركة وحجتهم أنه قد ورد في حديث أبي بكر بن عبد الرحمن زيادة لفظ: "إلا إن ترك صاحبها وفاء".
    لكن قال الشافعي يحتمل أن الزيادة من رأي أبي بكر بن عبد الرحمن وقرينة الاحتمال أن الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت وكذلك الذين رووه عن أبي هريرة.
    وذهب الشافعي إلى أنه لا فرق بين الموت والإفلاس وأن صاحب المتاع أولى بمتاعه عملاً بعموم من أدرك ماله عند رجل ــــ الحديث متفق عليه. قال: ولا فرق بين الموت والإفلاس والتفرقة بينهما برواية أبي بكر بن عبد الرحمن وقوله فيها فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء غيرصحيحة لأن الحديث مرسل لم يصح وصله فلا يعمل به بل في رواية عمر بن خلدة التسوية بين الموت والإفلاس وهو حديث حسن يحتج بمثله.
    وَعَنْ عَمْرو بنِ الشّريدِ عَنْ أَبيهِ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَيُّ الْوَاجدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنّسَائيُّ وَعَلَّقَهُ البُخَاريُّ وَصَحّحَهُ ابنُ حِبّانَ.
    (وعن عمرو بن الشريد) بفتح الشين المعجمة وكسر الراء تابعي سمع ابن عباس وغيره (عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليُّ") بفتح اللام ثم مثناة تحتية مشدّدة مصدر لوى يلوي أي مطل أضيف إلى فاعله وهو "الْوَاجِدِ" بالجيم يعني من الوجدبالضم أي القدرة (يُحِلُّ) بضم حرف المضارعة ("عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" رواه أبو داود والنسائي وعلقه البخاري وصححه ابن حبان).
    وأخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي وفسر البخاري حل العرض بما علقه عن سفيان قال: يقول مطلني وعقوبته حبسه وهو دليل لزيد بن علي أنه يحبس حتى يقضي دينه.
    وأجاز الجمهور الحجز وبيع الحاكم عنه ماله وهذا أيضاً داخل تحت لفظ عقوبته لا سيما وتفسيرها بالحبس ليس بمرفوع.
    ودلّ الحديث على تحريم مطل الواجد ولذا أبيحت عقوبته وإنما اختلف العلماء هل يبلغ إلى حدّ الكبيرة فيفسق وترد شهادته بمطله مرة واحدة أم لا؟.
    فذهبت الهادوية إلى أنه يفسق بذلك واختلفوا في قدر ما يفسق به فقال الجمهور منهم إنه يفسق بمطل عشرة دراهم فما فوق قياساً على نصاب السرقة وفي كلام الهادي عليه السلام ما يقضي بأنه يفسق بدون ذلك.
    وكذلك ذهبت إلى هذا المالكية والشافعية إلا أنهم تردّدوا في اشتراط التكرار ومقتضى مذهب الشافعي اشتراطه.
    ثم يدل بمفهومه على أن مطل غير الواجد وهو المعسر لا يحل عرضه ولا عقوبته والحكم كذلك عند الجماهير وهو الذي دل على قوله تعالى: {فنظرة إلى ميسرة}.
    وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْريِّ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ في عَهْدِ رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تَصدَّقُوا عَلَيهِ" فَتَصَدَّق النّاسُعَلَيْهِ ولم يَبْلُغْ ذلك وَفاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لِغُرَمائِهِ: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَليسَ لَكُمْ إلاَّ ذلكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لغرمائه: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" رواه مسلم).
    تقدم الكلام في الجمع بين هذا الحديث وحديث جابر قوله: "فلا يحلّ لك أن تأخذ" بأن هذا على جهة الاستحباب والحث على جبر من حدث عليه حادث. ويدل أيضاً قوله: "وليس لكم إلا ذلك" على أن الثمرة غير مضمونة إذ لو كانت مضمونة لقال وما بقي فنظرة إلى ميسرة أو نحوه إذ الدَّيْن لا يسقط بإعسار المدين وإنما تتأخر عنه المطالبة في الحال ومتى أيسر وجب عليه القضاء.
    وَعَنْ ابنِ كَعْبِ بنِ مَالكٍ عَنْ أبيه رَضيَ اللَّهُ عَنْهُما: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حَجَرَ عَلى مُعاذٍ مَالَهُ، وَباعهُ في دَيْنٍ كانَ عَلَيْهِ" روَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ وصَحّحَهُ الحاكِمُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو داودَ مُرْسلاً وَرَجَّح إرْسَالَهُ.
    (وعن ابن كعب بن مالك) اسمه عبد الرحمن، سماه عبد الرزاق (عن أبيه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حجر على معاذ ماله، وباعه في دنيا كان عليه. رواه الدارقطني وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود مرسلاً ورجح إرساله).
    قال عبد الحق: المرسل أصح من المتصل وقال ابن الصلاح في الأحكام: هو حديث ثابت.
    كان ذلك في سنة تسع وجعل لغرمائه خمسة أسباع حقوقهم فقالوا: يا رسول الله بعه لنا فقال: "ليس لكم إليه سبيل".
    وأخرجه البيهقي من طريق الواقدي وزاد أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعثه بعد ذلك إلى اليمن ليجبره.
    والحديث دليل على أنه يحجر الحاكم، على المدين التصرف في ماله ويبيعه عنه لقضاء غرمائه.
    والقول بأنه حكاية فعل غير صحيح فإن هذا فعل لا يتم إلا بأقوال تصدر عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يحجر بها تصرفه وألفاظ يبيع بها ماله وألفاظ يقضي بها غرماءه وما كان بهذه المثابة لا يقال إنه حكاية فعل إنما حكاية الفعل مثل حديث خلع نعله فخلعوا نعالهم كما لا يخفى.
    ظاهر الحديث أن ماله كان مستغرقاً بالدين فهل يلحق به من لم يستغرق ماله في الحجر والبيع عنه كالواجد إذا مطل اختلف العلماء في ذلك.
    فقال جمهور الهادوية و الشافعي: إنه يلحق به فيحجر عليه ويباع ماله لأنه قد حصل المقتضي لذلك وهو عدم المسارعة بقضاء الدين.
    وقال زيد بن علي والحنفية إنه لا يلحق به فلا يحجر عليه ولا يباع عنه بل يجب حبسه حتى يقضي دينه لحديث: "إنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه" ولقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض} ومقتضى الحجر والبيع إخراج المال من غير طيبة من نفسه ولا رضاه.
    (والجواب) عنه بأن الحديث والآية عامان خصصا بحديث معاذ لا يتم، لأن حديث معاذ ليس إلا في المستغرق ماله بدينه والكلام في غيره وهو الواجد الماطل.
    فالأولى أن يقال أنهما خصصا بقياس الماطل الواجد، على من استغرق دينه ماله إلا أنه لا يخفى عدم نهوض القياس.
    نعم في حديث: "ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" دليل على أنه يحجر عليه ويباع عنه ماله فإنه داخل تحت مفهوم العقوبة وتفسيرها بالحبس فقط مجرد رَأيٍ مِن قائِلِهِ.
    هذا وقد حكم عمر في أسيفع جهينة كحكمه صلى الله عليه وآله وسلم في معاذ فأخرج مالك في الموطأ بسند منقطع ورواه الدارقطني في غرائب مالك بإسناد متصل:
    "أن رجلاً من جهينة كان يشتري الرواحل فيغالي فيها فيسرع المسير فيسبق الحاج فأفلس فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقال: "أما بعد أيها الناس فإن الأسيفعَ أسيفعَ جهينة قد رضي من دينه وأمانته أن يقال سبق الحاج وفيه: إلا أنه ادَّان معرضاً فأصبح وقد دين به ــــ أي أحاط به الدين ــــ فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة فنقسم ماله بين غرمائه وإياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب" انتهى.
    وأما قصة جابر مع غرماء أبيه وهي أنه لما قتل أبوه في أُحُد وعليه دين فاشتد الغرماء في حقوقهم قال:
    "أتيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حائطي وقال سنغدوا عليك فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل ودعا في ثمره بالبركة فجذذتها فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها" فإن فيها دليلاً على أن انتظار الغلة والتمكن منها لا يعد مطلاً.
    قيل ويؤخذ منها أن من كان له دخل ينظر إلى دخله وإن طالت مدته إذ لا فرق بين المدة الطويلة والقصيرة في حق الآدمي ومن لا دخل له لا ينظر ويبيع الحاكم ماله لأهل الدين.
    نعم وأما الحجر على البالغ لسفه وسوء تصرف فقال به الشافعي ولم يقل به زيد بن علي ولا أبو حنيفة وبوب له البيهقي في السنن الكبرى "باب الحجر على البالغين بالسفه" وذكر فيه بسنده:
    "أن عبد الله بن جعفر اشترى أرضاً بستمائة ألف درهم فهمَّ علي وعثمان أن يحجرا عليه، قال: فلقيت الزبير فقال: ما اشترى أحد بيعاً أرخص مما اشتريت، قال فذكر له عبد الله الحجر قال: لو أن عندي مالاً لشاركتك قال: فأنا أقرضك نصف المال قال: فأنا شريكك فأتاهما علي وعثمان وهما يتراوضان قالا: ما تراوضان؟ فذكر له الحجر على عبد الله بن جعفر قال: أتحجران على رجل أنا شريكه قالا: لا لعمري قال: فأنا شريكه" وفي رواية قال عثمان: "كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير".
    قال الشافعي: فعلي لا يطلب الحجر إلا وهو يراه والزبير لو كان الحجر باطلاً لقال لا يحجر على بالغ وكذلك عثمان بل كلهم يعرف الحجر ثم ساق حديث عائشة وإرادة عبد الله بن الزبير الحجر عليها وغير ذلك من الأدلة من أفعال السلف.
    ويستدل له بالحديث الصحيح وهو النهي عن إضاعة المال فإن السفيه يضيعه بسوء تصرفه فيجب الإنكار عليه بحجره عنه.
    قال النووي: والصغير لا ينقطع عنه حكم اليُتْمِ بمجرد علوّ السن ولا بمجرد البلوغ بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله.
    وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة يجب تسليم ماله إليه وإن كان غير ضابط.
    وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ: عُرِضْتُ عَلى النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنا ابْنُ أَرْبَعَ عشرةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْني وَعُرضْتُ عَلَيْه يَوْمَ الْخَنْدق وأَنا ابنُ خَمْسَ عَشرَةَ سَنَةً فأَجَازَني. مُتّفَقٌ عَلَيْهِ، وفي روايةٍ للبيْهَقِي "فَلَم يجِزْني وَلَمْ يرَني بَلَغْتُ" وَصَحّحَهُا ابنُ خُزَيمةَ.
    (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ: عُرِضْتُ عَلى النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنا ابْنُ أَرْبَعَ عشرةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْني وَعُرضْتُ عَلَيْه يَوْمَ الْخَنْدق وأَنا ابنُ خَمْسَ عَشرَةَ سَنَةً فأَجَازَني. مُتّفَقٌ عَلَيْهِ، وفي روايةٍ للبيْهَقِي "فَلَم يجِزْني وَلَمْ يرَني بَلَغْتُ" وَصَحّحَهُا ابنُ خُزَيمةَ).
    وجه ذكر الحديث هنا أن من لم يبلغ خمس عشرة سنة لا تنفذ تصرفاته من بيع وغيره.
    ومعنى قوله لم يجزني لم يجعل لي حكم الرجال المتقاتلين في إيجاب الجهاد عَليَّ وخروجي معه.
    وقوله فأجازني أي رآني فيمن يجب عليه الجهاد ويؤذن له في الخروج إليه وفيه دليل على أن من استكمل خمس عشرة سنة صار مكلفاً بالغاً له أحكام الرجال ومن كان دونها فلا ويدل له قوله: (ولم يرني بلغت).
    وناقش في الاستدلال به على البلوغ بعض المتأخرين قائلاً إن الإذن في الخروج للحرب يدور على الجلادة والأهلية فليس له في رده دليل على أنه لأجل عدم البلوغ، وفهم ابن عمر ليس بحجة.
    قلت: وهو احتمال بعيد والصحابي أعرف بما رواه.
    وفيه دليل على أن الخندق كانت سنة أربع والقول بأنها سنة خمس يرده هذا الحديث ولأنهم أجمعوا أن أحداً كانت سنة ثلاث.
    وَعَنْ عَطِيّةَ الْقُرَظِيِّ رضيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قالَ: "عُرضْنَا عَلَى النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَوْمَ قُرَيْظَةَ فكانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبيلُهُ، فَكُنْتُ ممّنْ لَمْ يُنْبتْ فَخُلِّيَ سَبيلي" رَوَاهُ الخَمْسَةُ وصَحّحَهُ ابنُ حِبّانَ والحاكمُ وقَالَ: عَلى شَرْطِ الشّيْخَيْن.
    (وعن عطية القرظي رضي الله عنه) بضم القاف فراء نسبة إلى بني قريظة (قال: عرضنا على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم قريظة فكان من أنبت قُتِلَ ومن لم يُنْبِتْ خُلِّيَ سبيلُهُ فكُنْتُ ممن لم ينبت فَخُلِّيَ سبيلي. رواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم وقال: على شرط الشيخين).
    وهو كما قال إلا أنهما لم يخرجا لعطية.
    والحديث دليل على أنه يحصل بالإنبات البلوغ فتجري على من أنبت أحكام المكلفين ولعله إجماع.
    وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه رَضيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "لا يجُوزُ لامرَأَةٍ عَطِيّةٌ إلا بإذْنِ زَوْجِها".
    وَفي لَفْظٍ "لا يجُوزُ للمرْأَةِ أمر في مَالَها إذا مَلكَ زَوْجُها عِصْمَتَهَا" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحابُ السُّننِ إلا التِّرْمذيَّ وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.
    (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه رَضيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "لا يجُوزُ لامرَأَةٍ عَطِيّةٌ إلا بإذْنِ زَوْجِها".
    وَفي لَفْظٍ "لا يجُوزُ للمرْأَةِ أمر في مَالَها إذا مَلكَ زَوْجُها عِصْمَتَهَا" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحابُ السُّننِ إلا التِّرْمذيَّ وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ).
    قال الخطابي: حمله الأكثر على حسن العشرة واستطابة النفس أو يحمل على غير الرشيدة وقد ثبت عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال للنساء "تصدقن" فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يتلقاه بردائه وهذه عطية بغير إذن الزوج انتهى. وهذا مذهب الجمهور مستدلينبمفهومات الكتاب والسنة ولم يذهب إلى معنى الحديث إلا طاوس فقال إن المرأة محجورة عن مالها إذا كانت مزوجة إلا فيما أذن لها فيه الزوج.
    وذهب مالك إلى أن تصرفها من الثلث.
    وَعَنْ قَبِيصةَ بنِ مُخَارقٍ الهلاليِّ رضيَ الله عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ المسْأَلَةَ لا تحلُّ إلا لأحَدِ ثَلاثةٍ: رَجُلٍ تَحَمّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ المسْأَلةُ حتى يُصِيبَهَا ثمَّ يُمْسِكَ، وَرَجلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلةُ حَتى يُصيبَ قِوَاماً مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصابَتْهُ فَاقَةٌ حتى يَقُولُ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاناً فاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ المسْأَلَةُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
    (وعن قبيصة) بفتح القاف فموحدة فمثناة تحتية فصاد مهملة (ابن مخارق رضي الله عنه) بضم الميم فخاء معجمة فراء مكسورة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تحِلُّ إلا لأَحَدِ ثَلاثةٍ: رَجُلٍ تَحَمّلَ حَمَالَةً" بفتح الحاء المهملة وتخفيف الميم "فَحَلّت لَهُ الْمْسْأَلَةُ حَتى يُصِيبَها ثُمَّ يُمْسِكَ، ورَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلّتْ لَهُ المسْأَلَةُ حَتى يُصِيبَ قِوَاماً مِنْ عَيْشٍ، ورَجُلٍ أَصَابَتْهُ فاقَةٌ حَتى يَقُولَ ثَلاثةٌ مِنْ ذَوي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقدْ أَصَابَتْ فُلاناً فاقَةٌ فَحَلّتْ لهُ المَسْأَلَةُ" رواه مسلم).
    فقد تقدم بلفظه في باب قسمة الصدقات ولعل إعادته هنا أن الرجل الذي تحمل حمالة قد لزمه دين فلا يكون له حكم المفلس في الحجر عليه بل يترك حتى يسأل الناس فيقضي دينه وهذا يستقيم على القواعد إذا لم يكن قد ضمن ذلك المال.
    باب الصلح
    قد قسم العلماء الصلح أقساماً: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتقاضيين، والصلح في الجراح كالعفو على مال، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت في الأملاك والحقوق وهذا القسم هو المراد هنا وهو الذي يذكره الفقهاء في باب الصلح.
    عَنْ عُمْرِو بْنِ عَوْفٍ المُزَنيِّ رَضيَ الله تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "الصُّلْحُ جَائزٌ بَيْنَ المُسْلمينَ إلا صُلْحاً حَرَّمَ حَلالاً أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً، وَالمسلمونَ عَلى شُرُوطِهِمْ إلا شَرْطاً حَرَّمَ حَلالاً أَوْ أَحَلَّ حرَاماً" رَوَاهُ التِّرْمذيُّ وَصَحّحهُ، وأنْكَروا عَلَيْهِ لأنه من رواية [تض]كَثيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بْنِ عَوْفٍ[/تض] وهو ضَعيفٌ وكأنهُ اعتَبرَهُ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ.
    وقَدْ صَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ مِن حَديثِ أَبي هرَيرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
    (عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمينَ إلا صُلْحاً حَرَّمَ حَلالاً أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً والْمُسْلمونَ) وفي لفظ أبي داود والمؤمنون (عَلى شُرُوطِهِمْ إلا شَرْطاً حَرَّمَ حَلالاً أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً" رواه الترمذي وصحّحهُ وأنكروا عليه لأنه من رواية [تض]كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف[/تض] وهو ضعيف) كذبه الشافعي وتركه أحمد وفي الميزان عن ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة وقال الشافعي وأبو داود: هو ركن من أركان الكذب واعتذر المصنف عن الترمذي بقوله: (وكأنه اعتبره بكثرة طرقه. وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة).
    فيه مسألتان:
    الأولى: في أحكام الصلح وهو أن وضعه مشروط فيه المراضاة لقوله: جائز أي أنه ليس بحكم لازم يُقْضى به وإن لم يرض به الخصم، وهو جائز أيضاً بين غير المسلمين من الكفار فتعتبر أحكام الصلح بينهم وإنما خص المسلمون بالذكر لأنهم المعتبرون في الخطاب المنقادون لأحكام السنة والكتاب.
    وظاهره عموم صحة الصلح سواء كان قبل اتضاح الحق للخصم أو بعده.
    ويدل للأول قصة الزبير والأنصاري فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يكن قد أبان للزبير ما استحقه وأمره أن يأخذ بعض ما يستحقه على جهة الإصلاح فلما لم يقبل الأنصاري الصلح وطلب الحق أبان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للزبير قدر ما يستحقه كذا قال الشارح.
    والثابت أن هذا ليس من الصلح مع الإنكار بل من الصلح مع سكوت المدعى عليه وهي مسألة مستقلة وذلك لأن الزبير لم يكن عالماً بالحق الذي له حتى يدعه بالصلح بل هذا أول التشريع في قدر السقيا.
    والتحقيق أنه لا يكون الصلح إلا هكذا وأما بعد إبانة الحق للخصم فإنما يطلب من صاحب الحق أن يترك لخصمه بعض ما يستحق.
    وإلى جواز الصلح على الإنكار ذهب مالك وأحمد وأبو حنيفة وخالف في ذلك الهادوية والشافعي وقالوا: لا يصح الصلح مع الإنكار ومعنى عدم صحته أنه لا يطيب مال الخصم مع إنكار المصالح وذلك حيث يدعي عليه آخرُ عيناً أو ديناً فيصالح ببعض العين أو الدين مع إنكار خصمه فإن الباقي لا يطيب له بل يجب عليه تسليمه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يحل مال امرىءٍ مسلم إلا بطيبة من نفسه" وقوله تعالى: {عن تراضٍ}.
    وأجيب بأنها قد وقعت طيبة النفس بالرضا بالصلح وعقد الصلح قد صار في حكم عقد المعاوضة فيحل له ما بقي.
    قلت: الأولى أن يقال إن كان المدعي يعلم أن له حقاً عند خصمه جاز له قبض ما صولح عليه وإن كان خصمه منكراً.
    وإن كان يدعي باطلاً فإنه يحرم عليه الدعوى وأخذ ما صولح به.
    والمدعى عليه إن كان عنده حق يعلمه وإنما ينكر لغرض وجب عليه تسليم ما صولح به عليه.
    وإن كان يعلم أنه ليس عنده حق جاز له إعطاء جزء من ماله في دفع شجار غريم وأذيته وحرُم على المدعي أخذه وبهذا تجتمع الأدلة فلا يقال الصلح على الإنكار لا يصح ولا أنه يصح على الإطلاق بل يفصل فيه.
    (المسألة الثانية) ما أفادها قوله والمسلمون على شروطهم ــــ أي ثابتون عليه واقفون عندها وفي تعديته بعلى ووصفهم بالإسلام أو الإيمان دلالة على علوّ مرتبتهم وأنهم لا يخلّون بشروطهم وفيه دلالة على لزوم الشرط إذا شرطه المسلم إلا ما استثناه في الحديث.
    وللمفرعين تفاصيل في الشروط وتقاسيم: منها ما يصح ويلزم حكمه، ومنها ما لا يصح ولا يلزم، ومنها ما يصح ويلزم منه فساد العقد، وهي هنالك مبسوطة بعلل ومناسبات.
    وللبخاري في كتاب الشروط تفاصيل كثيرة معروفة.
    وقوله: "إلا شرطاً حرم حلالاً" ذلك كاشتراط البائع أن لا يطأ الأمة "أو أحل حراماً" مثل أن يشترط وطء الأمَة التي حرم الله عليها وطأها.
    وَعَنْ أَبي هُرَيْرةَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "لا يمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرزَ خَشَبَةً في جِدارهِ" ثمَّ يقُولُ أَبو هُريْرةَ: مَا لِي أَرَاكمْ عَنْهَا مُعْرضينَ؟ والله لأرْمِيَنَّ بهِا بَينَ أَكتافِكُمْ، مُتفقٌ عَلَيْهِ.
    (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: لا يمنَعْ) يروى بالرفع على الخبر والجزم على النهي (جارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرزَ خَشَبَةً) بالإفراد وفي لفظ خشبه بالجمع (في جدارهِ" ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها مُعْرضِين؟ والله لأرمِيَنَّ بها بين أكتافكم) بالتاء جمع كتف (متفق عليه) وفي لفظ لأبي داود فنكسوا رؤوسهم.
    ولأحمد حين حدثهم بذلك فطأطأوا رؤوسهم والمراد المخاطبون وهذا قاله أبو هريرة أيام إمارته على المدينة في زمن مروان فإنه كان يستخلفه فيها فالمخاطبون ممن يجوز أنهم جاهلون بذلك وليسوا بصحابة وقد روى أحمد وعبد الرزاق من حديث ابن عباس: "لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يضع خشبة في حائط جاره".
    والحديث فيه دليل على أنه ليس للجار أن يمنع جاره من وضع خشبة على جداره، وأنه إذا امتنع عن ذلك أجبر لأنه حق ثابت لجاره، وإلى هذا ذهب أحمد وإسحاق وغيرهما عملاً بالحديث.
    وذهب إليه الشافعي في القديم وقضى به عمر في أيام وفور الصحابة.
    وقال الشافعي: إن عمر لم يخالفه أحد من الصحابة. وهو فيما رواه مالك بسند صحيح: أن الضحاك بن خليفة سأله محمد بن مسلمة أن يسوق خليجاً له فيجريه في أرض محمد بن مسلمة فامتنع فكلمه عمر في ذلك فأبى فقال: والله ليمرَّنَّ به ولو على بطنك.
    وهذا نظير قصة حديث أبي هريرة وَعَمَّمهُ عمر في كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من جاره وأرضه.
    وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز أن يضع خشبة إلا بإذن جاره فإن لم يأذن لم يجز.
    قالوا لأن أدلة أنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه تمنع هذا الحكم فهو للتنزيه وأجيب عنه بما قاله البيهقي: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا ينكر أن يخصها وقد حمله الراوي على ظاهره من التحريم وهو أعلم بالمراد بدليل قوله: "ما لي أراكم عنها معرضين" فإنه استنكار لإعراضهم دال على أن ذلك للتحريم.
    قال الخطابي معنى قوله: "بين أكتافكم" إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلنها أي الخشبة على رقابكم كارهين: قال وأراد بذلك المبالغة.
    قلت: والذي يتبادر أنّ المراد لأرمين بها أي هذه السنة المأمور بها بينكم بلاغاً لما تحملته منها وخروجاً عن كتمها وإقامة الحجة عليكم بها.
    وَعَنْ أَبي حُميدٍ السَّاعِدِيِّ رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قالَ: قالَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يحِلُّ لامْرىءٍ أَنْ يَأخُذَ عَصَا أَخيه بغيرِ طِيبةِ نَفْسٍ مِنْهُ" رَواهُ ابْنُ حِبّانَ والحاكمُ في صَحِيحَيْهِمَا.
    (وَعَنْ أَبي حُميدٍ السَّاعِدِيِّ رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قالَ: قالَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يحِلُّ لامْرىءٍ أَنْ يَأخُذَ عَصَا أَخيه بغيرِ طِيبةِ نَفْسٍ مِنْهُ" رَواهُ ابْنُ حِبّانَ والحاكمُ في صَحِيحَيْهِمَا).
    وفي الباب أحاديث كثيرة في معناه، أخرج الشيخان من حديث عمر: "لا يحْلبنَّ أحد ماشية أحد بغير إذنه" وأخرج أبو داود والترمذي والبيهقي من حديث عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده بلفظ: "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً".
    والأحاديث دالة على تحريم مال المسلم إلا بطيبة من نفسه وإن قل.
    والإجماع واقع على ذلك وإيراد المصنف لحديث أبي حميد عقيب حديث أبي هريرة إشارة إلى تأويل حديث أبي هريرة وأنه محمول على التنزيه كما هو قول الشافعي في الجديد ويرد عليه أنه إنما يحتاج إلى التأويل إذا تعذر الجمع وهو هنا ممكن بالتخصيص فإن حديث أبي هريرة خاص وتلك الأدلة عامة كما عرفت.
    وقد أخرج من عمومها أشياء كثيرة كأخذ الزكاة كرهاً وكالشفعة وإطعام المضطر ونفقة القريب المعسر والزوجة وكثير من الحقوق المالية التي لا يخرجها المالك برضاه فإنها تأخذ منه كرهاً وغرز الخشبة منها على أنه مجرد انتفاع والعين باقية.
    باب الحوالة والضمان
    الحوالة بفتح الحاء ــــ وقد تكسر ــــ حقيقتها عند الفقهاء:
    نقل دين من ذمة إلى ذمة.
    واختلفوا هل هي بيع دين بدين رُخِّص فيه وأخرج من النهي عن بيع الدين بالدين أو هي استيفاء.
    وقيل هي عقد إرفاق مستقل.
    ويشترط فيها لفظها ورضا المحيل بلا خلاف والمحال عند الأكثر والمحال عليه عند البعض وتماثل الصفات وأن تكون في الشيء المعلوم.
    ومنهم من خصها بما دون الطعام لأنه بيع طعام قبل أن يستوْفى.
    عَنْ أَبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رَسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَطْلُ الْغَنيِّ ظُلْمٌ، وإذا أُتْبِعَ أَحَدُكُم عَلى مليءٍ فَلْيُتْبَعْ" مُتّفقٌ عَلَيهِ، وفي روَايةِ لأَحمد: "وَمَنْ أُحِيلَ فَلْيَحْتَلْ".
    (عن أبي هريرة رضيَ الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَطْلُ الْغَنيّ") إضافة للمصدر إلى الفاعل أي مطل الغني غريمه وقيل إلى المفعول أي مطل الغريم للغنيّ (ظُلْمٌ) وبالأولى مطله الفقير (وإذا أُتْبعَ) بضم الهمزة وسكون المثناة الفوقية وكسر والموحدة (أَحَدُكُمْ علَى مَليءٍ) مأخوذ من الملاء بالهمزة يقال ملؤ الرجل أي صار مليئاً (فلْيَتْبَعْ) بإسكان المثناة الفوقية أيضاً مبني للمجهول كالأول أي إذا أحيل فليحتل (متفق عليه).
    دل الحديث على تحريم المطل من الغنيّ.
    والمطل هو المدافعة والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر من قادر على الأداء.
    والمعنى على تقدير أنه من إضافة المصدر إلى الفاعل أنه يحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه بخلاف العاجز.
    ومعناه على التقدير الثاني: أنه يجبَ وفاءُ الدين ولو كان مستحقه غنياً فلا يكون غناه سبباً لتأخير حقه وإذا كان ذلك في حق الغني ففي حق الفقير أولى.
    ودل الأمر على وجوب قبول الإحالة وحمله الجمهور على الاستحباب ولا أدري ما الحامل على صرفه عن ظاهره.
    وعلى الوجوب حمله أهل الظاهر وتقدم البحث في أن المطل كبيرة يفسق صاحبه فلا نكرره.
    وإنما اختلفوا هل يفسق قبل الطلب أو لا بد منه والذي يشعر به الحديث أنه لا بد من الطلب لأن المطل لا يكون إلا معه.
    ويشمل المطل كل من لزمه حق كالزوج لزوجته والسيد في نفقة عبده ودل الحديث بمفهوم المخالفة أن مطل العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم ومن لا يقول بالمفهوم يقول لا يسمى العاجز ماطلاً.
    والغني الغائب عنه ماله كالمعدوم.
    ويؤخذ من هذا أن المعسر لا يطالب حتى يوسر.
    قال الشافعي: لو جازت مؤاخذته لكان ظالماً والفرض أنه ليس بظالم لعجزه.
    ويؤخذ منه أنه إذا تعذر على المحال عليه التسليم لفقر لم يكن للمحتال الرجوع إلى المحيل لأنه لو كان له الرجوع لم يكن لاشتراط الغنى فائدة فلما شرطه الشارع علم أنه انتقل انتقالاً لا رجوع له كما لو عوض في دينه بعوض ثم تلف العوض في يد صاحب الدين.
    وقالت الحنفية يرجع عند التعذر وشبهوا الحوالة بالضمان وأما إذا جهل الإفلاس حال الحوال فله الرجوع.
    وَعَنْ جابر رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنّا فَغَسّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفّنَاهُ ثمَّ أَتَيْنا به رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقُلْنَا: تُصَلِّي عليْهِ؟ فَخَطى خُطاً ثمَّ قالَ: "أَعَلَيْه دَيْنٌ؟" قُلْنا: دينارَانِ فانْصَرفَ، فَتَحَمّلهُمَا أَبُو قَتَادة فَأَتَيْناه فقالَ أَبو قَتَادَةَ: الدِّيَنَارَانِ عَليَّ، فَقَالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "حَقَّ الغَريم وَبَرِىءَ مِنْهُما الميّتُ؟" قالَ: نَعَمْ، فَصَلّى عَلَيْهِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ والنسَائيُّ وَصَحّحَهُ ابْنُ حبانَ وَالْحَاكِمُ.
    (وعن جابر رضي الله عنه قال: توفي رجل منا فغسلناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خُطا ثم قال: "عَلَيْهِ دَيْنٌ؟" قلنا: ديناران فانصرف) أي عن الصلاة عليه (فتحملهما أبو قتادة فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليّ فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "حَقَّ الْغريم" منصوب على المصدر مؤكد لمضمون قوله الديناران علي أي حق عليك الحق وثبت عليك وكنت غريماً. (وبَرىء منهما الْميِّتُ" قال: نعم فصلَّى عليه. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم).
    وأخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع إلا أن في حديثه ثلاثة دنانير.
    وكذلك أخرجه أبو داود والطبراني وجمع بينه وبين قوله ديناران أن في حديث الكتاب أنهما كانا ديناران وشطراً فمن قال ثلاثة جبر الكسر ومن قال ديناران ألغاه.
    أو كان الأصل ثلاثة فقضى قبل موته ديناراً فمن قال ثلاثة اعتبر أصل الدين ومن قال ديناران اعتبر الباقي.
    ويحتمل أنهما قصتان وإن كان بعيداً.
    وفي رواية الحاكم أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جعل إذا لقي أبا قتادة يقول: ما صنعت الديناران حتى كان آخر ذلك أن قال: قضيتهما يا رسول الله قال: "الآن بَرَّدْتَ جلدته".
    وروى الدارقطني من حديث علي عليه السلام: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا أتي بجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل ويسأل عن دَيْنِهِ فإن قيل عليه دين كف وإن قيل ليس عليه دين صلى، فأتى بجنازة فلما قام ليكبر سأل: هل عليه دين؟ فقالوا: ديناران فعدل عنه فقال عليٌ: هما عليَّ يا رسول الله وهو بريء منهما، فصلى عليه ثم قال: جزاك الله خيراً وفك الله رهانك ــــ الحديث".
    قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى صحة هذه الكفالة عن الميت ولا رجوع له في مال الميت.
    وفي الحديث دليل على أنه يصح أن يحتمل الواجب غير من وجب عليه وأنه ينفعه ذلك.
    ويدل على شدة أمر الدين فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترك الصلاة عليه لأنها شفاعة وشفاعته مقبولة لا ترد والدين لا يسقط إلا بالتأدية.
    وفي الحديث دليل على أنه لا يكتفى بالظاهر من اللفظ بل لا بد للحاكم في الإلزام بالحق من تحقق ألفاظ العقود والإقرارات وأنه إذا ادَّعى من عليه الحكومة أنه قصد باللفظ معنى يحتمله وإن بَعُدَ الاحتمال لا يحكم عليه بظاهر اللفظ وعطف "وبرىء منهما" الميت على ذلك مما يؤيد ذلك المعنى المستنبط.
    وَعَنْ أَبي هُريرة رَضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ رَسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يُؤتَى بالرَّجُلِ المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ: "هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟" فَإنْ حُدِّثَ أَنّهُ تَرَكَ وَفاءً صَلّى عَلَيْهِ وإلاَّ قَالَ: "صَلُوا عَلى صاحبكُمْ" فَلَمّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن تُوُفِّيَ وعليه دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
    وَفي روايةٍ للبُخَاريِّ: "فَمنْ ماتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً".
    (وَعَنْ أَبي هُريرة رَضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ رَسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يُؤتَى بالرَّجُلِ المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ: "هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟" فَإنْ حُدِّثَ أَنّهُ تَرَكَ وَفاءً صَلّى عَلَيْهِ وإلاَّ قَالَ: "صَلُوا عَلى صاحبكُمْ" فَلَمّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن تُوُفِّيَ وعليه دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
    وَفي روايةٍ للبُخَاريِّ: "فَمنْ ماتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً).
    إيراد المصنف له عُقَيْبَ الذي قبله إشارة إلى أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نسخ ذلك الحكم لما فتح عليه صلى الله عليه وآله وسلم واتسع الحال بتحمله الديون عن الأموات فظاهر قوله: "فَعَلَيَّ قضاؤه" أنه يجب عليه القضاء وهل هو من خالص ماله أو من مال المصالح؟ محتمل.
    قال ابن بطال: وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله فيمن مات وعليه دين فإن لم يفعل فالإثم عليه.
    وقد ذكر الرافعي في آخر الحديث: قيل: يا رسول الله وعلى كل إمام بعدك؟ قال: وعلى كل إمام بعدي.
    وقد وقع معناه في الطبراني الكبير من حديث زاذان عن سليمان قال: "أمرنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نفدي سبايا المسلمين ونعطي سائلهم ثم قال: من ترك مالاً فلورثته ومن ترك ديناً فَعَليَّ وعلى الولاة من بعدي في بيت مال المسلمين" وفيه راو متروك ومتهم.
    وَعَنْ عَمْرو بنِ شعَيْبٍ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا كَفالَةَ في حَدٍ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ.
    (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا كَفَالَةَ في حَدٍ" رواه البيهقي بإسناد ضعيف) وقال إنه منكر: وهو دليل على أنه لا تصح الكفالة في الحدّ.
    قال ابن حزم: "لا تجوز الضمانة بالوجه أصلاً لا في مال ولا حدّ ولا في شيء من الأشياء لأنه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. ومن طريق النظر أن نسأل من قال بصحته عمن تكفل بالوجه فقط فغاب المكفول عنه ماذا تصنعون بالضامن بوجه أتلزمونه غرامة ما على المضمون؟ فهذا جوروأكل مال بالباطل لأنه لم يلتزمه قط. أم تتركونه؟ فقد أبطلتم الضمان بالوجه. أم تكلفونه طلبه؟ فهذا تكليف الحرج وما لا طاقة له به وما لم يكلفه الله إياه قط".
    وأجاز الكفالة بالوجه جماعة من العلماء واستدلوا بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كفل في تهمة. قال: وهو خبر باطل لأنه من رواية[تض] إبراهيم بن خيثم بن عراك[/تض] وهو وأبوه في غاية الضعف لا تجوز الرواية عنهما ثم ذكر آثاراً عن عمر بن عبد العزيز وردّها كلها بأنه لا حجة فيها إذ الحجة في كلام الله ورسوله لا غيره وهذه الآثار قد سردها في الشرح.
    باب الشركة والوكالة
    الشركة بفتح أوّله وكسر الراء وبكسره مع سكونها وهي بضم الشين اسم للشيء المشترك والشركة الحالة التي تحدث بالاختيار بين اثنين فصاعداً.
    وإن أريد الشركة بين الورثة في المال الموروث حذفت (بالاختيار).
    "والوكالة" بفتح الواو وقد تكسر مصدر وَكّلَ مُشَّدداً بمعنى التفويض والحفظ وتخفف فتكون بمعنى التفويض وهي شرعاً إقامة الشخص غيره مقام نفسه مطلقاً ومقيداً.
    عَنْ أَبي هُرَيْرة رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "قالَ اللَّهُ تعالى: أَنا ثالثُ الشريكَيْنِ مَا لَمْ يخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحبَهُ، فإذا خَانَ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا" رَوَاهُ أبو داوُدَ وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.
    وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان وقد رواه عنه ولده أبو حيان بن سعيد. لكن ذكره ابن حبان في الثقات وذكر أنه روى عنه الحارث بن شريد إلا أنه أعله الدارقطني بالإرسال فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال إنه الصواب.
    ومعناه أن الله معهما أي في الحفظ والرعاية والإمداد بمعونتهما في مالهما وإنزال البركة في تجارتهما فإذا حصلت الخيانة نزعت البركة من مالهما وفيه حث على التشارك مع عدم الخيانة وتحذير منه معها.
    وَعن السّائِبِ بن يزيدَ المخْزُومِيِّ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ شريكَ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَبْلَ الْبِعْثَةِ فَجَاءَ يَوْمَ الْفَتْح فَقَالَ: "مَرْحبَاً بأَخِي وَشريكي" رَواهُ أَحْمَدُ وأَبُو دَاوُدَ وابنُ مَاجَهْ.
    (وَعن السّائِبِ بن يزيدَ المخْزُومِيِّ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ شريكَ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَبْلَ الْبِعْثَةِ فَجَاءَ يَوْمَ الْفَتْح فَقَالَ: "مَرْحبَاً بأَخِي وَشريكي" رَواهُ أَحْمَدُ وأَبُو دَاوُدَ وابنُ مَاجَهْ).
    قال ابن عبد البر: السائب بن أبي السائب من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه وكان من المعمرين عاش إلى زمن معاوية وكان شريك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أوّل الإسلام في التجارة فلما كان يوم الفتح قال: "مرحباً بأخي وشريكي كان لا يماري ولا يداري. وصححه الحاكم".
    ولابن ماجه: كنت شريكي في الجاهلية.
    والحديث دليل على أن الشركة كانت ثابتة قبل الإسلام ثم قررها الشارع على ما كانت.
    وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعودٍ رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قالَ: "اشتركْتُ أَنا وَعمّارٌ وَسَعْدٌ فيما نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ" الحديثَ، رواهُ النّسائيُّ.
    (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعودٍ رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قالَ: "اشتركْتُ أَنا وَعمّارٌ وَسَعْدٌ فيما نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ" الحديثَ) تمامه: فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء (رواه النسائي).
    فيه دليل على صحة الشركة في المكاسب وتسمى شركة الأبدان وحقيقتها أن يوكل كل صاحبه أن يتقبل ويعمل عنه في قدر معلوم ويعينان الصنعة وقد ذهب إلى صحتها الهادوية و أبو حنيفة.
    وذهب الشافعي إلى عدم صحتها لبنائها على الغرر إذ لا يقطعان بحصول الربح لتجويز تعذر العمل وبقوله قال أبو ثور وابن حزم.
    وقال ابن حزم: لا تجوز الشركة بالأبدان في شيء من الأشياء أصلاً فإن وقعت فهي باطلة لا تلزم ولكل واحد منهما ما كسب فإن اقتسماه وجب أن يقضي له ما أخذه وإلا بدله لأنها شرط ليس في كتاب الله فهو باطل.
    وأما حديث ابن مسعود فهو من رواية ولده أبي عبيدة بن عبد الله وهو خبر منقطع لأن أبا عبيدة لم يذكر عن أبيه شيئاً فقد رويناه من طريق وكيع عن شعبة عن عمرو بن مرة قال: قلت لأبي عبيدة: أتذكر عن عبد الله شيئاً قال: لا. ولو صح لكان حجة على من قال بصحة هذه الشركة لأنه أول قائل معنا ومع سائر المسلمين إن هذه الشركة لا تجوز وإنه لا ينفرد أحد من أهل العسكر بما يصيب دون جميع أهل العسكر إلا السلب للقاتل على الخلاف فإن فعل فهو غلول من كبائر الذنوب ولأن هذه الشركة لو صح حديثها فقد أبطلها الله عز وجل وأنزل: {قل الأنفال لله وللرسول} الآية فأبطلها الله تعالى وقسمها هو بين المجاهدين.
    ثم إن الحنفية لا يجيزون الشركة في الاصطياد ولايجيزها المالكية في العمل في مكانين فهذه الشركة في الحديث لا تجوز عندهم اهـ.
    هذا وقد قسم الفقهاء الشركة إلى أربعة أقسام أطالوا فيها وفي فروعها في كتب الفروع فلا نطيل بها.
    قال ابن بطال: أجمعوا على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد مثل ما أخرج صاحبه ثم يخلط ذلك حتى لا يتميز ثم يتصرفا جميعاً إلا أن يقيم كل منهما الآخر مقام نفسه وهذه تسمى شركة العنان.
    وتصح إن أخرج أحدهما أقل من الآخر من المال ويكون الربح والخسران على قدر مال كل واحد منهما.
    وكذلك إذا اشتريا سلعة بينهما على السواء أو ابتاع أحدهما أكثر من الآخر منهما فالحكم في ذلك أن يأخذ كل من الربح والخسران بمقدار ما أعطى من الثمن.
    وبرهان ذلك أنهما إذا خلطا المالين فقد صارت تلك الجملة مشاعة بينهما فما ابتاعا بها فمشاع بينهما وإذا كان كذلك فثمنه وربحه وخسرانه مشاع بينهما ومثله السلعة التي اشترياها فإنها بدل من الثمن.
    وَعَنْ جابرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قالَ: أَرَدْتُ الخرُوجَ إلى خْيَبَر فأَتَيْتُ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَالَ: "إذا أَتَيْتَ وَكِيلي بخَيْبَرَ فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَر وَسْقاً" رواهُ أَبو داوُدَ وَصحّحَهُ.
    (وَعَنْ جابرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قالَ: أَرَدْتُ الخرُوجَ إلى خْيَبَر فأَتَيْتُ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَالَ: "إذا أَتَيْتَ وَكِيلي بخَيْبَرَ فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَر وَسْقاً" رواهُ أَبو داوُدَ وَصحّحَهُ).

    تمام الحديث: فإن ابتغى منك آية فضع يدك على تَرْقُوَتِهِ".
    وفي الحديث دلالة على شرعية الوكالة. والإجماع على ذلك. وتعلق الأحكام بالوكيل.
    وتمام الحديث فيه دليل على العمل بالقرينة في مال الغير وأنه يصدق بها الرسول لقبض العين.
    وقد ذهب إلى تصديق الرسول في القبض جماعة من العلماء وقيده المهدي في الغيث: مع غلبة ظن صدقه. وعند الهادوية أنه لا يجوز تصديق الرسول لأنه مال الغير فلا يصح التصديق فيه وقيل عنهم إلا أن يحصل الظن بصدق الرسول جاز الدفع إليه.
    وَعَنْ عُرْوَةَ الْبارقيِّ رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: "أَنَّ رَسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بَعَثَ مَعَهُ بدينارٍ يَشْتري لَهُ أُضْحِيَةً" الحديثَ. رَوَاهُ البُخاريُّ في أَثْنَاءِ حديثٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
    (وَعَنْ عُرْوَةَ الْبارقيِّ رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: "أَنَّ رَسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بَعَثَ مَعَهُ بدينارٍ يَشْتري لَهُ أُضْحِيَةً" الحديثَ. رَوَاهُ البُخاريُّ في أَثْنَاءِ حديثٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ).
    أي في كتاب البيع وتقدم الكلام على ما فيه من الأحكام.
    وَعَنْ أَبي هُريرةَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قالَ: "بَعَثَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عُمَرَ عَلَى الصَّدقَةِ" الحديثَ، متّفقٌ عَلَيْهِ.
    (وَعَنْ أَبي هُريرةَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قالَ: "بَعَثَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عُمَرَ عَلَى الصَّدقَةِ" الحديثَ، متّفقٌ عَلَيْهِ).
    تمامه "فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله وأما العباس فهي عليَّ ومثلها معها".
    والظاهر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعث عمر لقبض الزكاة وابن جميل من الأنصار كان منافقاً ثم تاب بعد ذلك. قال المصنف: وابن جميل لم أقف على اسمه.
    وقوله: "ما ينقم" بكسر القاف ما ينكر "إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله" وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم لأنه إذا لم يكن له عذر إلا ما ذكره فلا عذر له وفيه التعريض بكفران النعمة والتقريع بسوء الصنيع.
    وقوله أعتاده جمع عتد بفتحتين وهو ما يعده الرجل من السلاح والدواب وقيل الخيل خاصة وحمل البخاري معناه على أنه جعلها زكاة ماله وصرفها في سبيل الله وهو بناء على أنه يجوز إخراج القيمة عن الزكاة.
    وقوله: "فهي عليَّ ومثلها معها" يفيد أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تحملها عن العباس تبرعاً وفيه صحة تبرع الغير بالزكاة ونظيره حديث أبي قتادة في تبرعه بتحمل الدين عن الميت وهذا أقرب الاحتمالات وقد روي بألفاظ أخر تحتمل احتمالات كثيرة وقد بسطها المصنف في الفتح وتبعه الشارح.
    وأما حديث أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يتعجل منه زكاة عامين فقد روي من طريق لم يسلم شيء منها من مقال.
    وفي الحديث دليل على توكيل الإمام للعامل في قبض الزكاة ولأجل هذا ذكره المصنف هنا.
    وفيه أن بعث العمال لقبض الزكاة سنة نبوية.
    وفيه أنه يذكر الغافل بما أنعم الله عليه بإغنائه بعد أن كان فقيراً ليقوم بحق الله.
    وفيه جواز ذكر من منع الواجب في غيبته بما ينقصه.
    وفيه تحُّمل الإمام عن بعض المسلمين والاعتذار عن البعض وحسن التأويل.
    وَعَنْ جابر رضيَ الله عَنْهُ: "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نَحَرَ ثلاثاً وَستينَ وأَمَرَ عَليّاً أَنْ يَذبَحَ الْباقي" الحديثَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
    (وَعَنْ جابر رضيَ الله عَنْهُ: "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نَحَرَ ثلاثاً وَستينَ وأَمَرَ عَليّاً أَنْ يَذبَحَ الْباقي" الحديثَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
    تقدم الكلام عليه في كتاب الحج وفيه دلالة على صحة التوكيل في نحر الهدي وهو إجماع إذا كان الذابح مسلماً فإن كان كافراً كتابياً صح عند الشافعي بشرط أن ينوي صاحب الهدي عند دفعه إليه أو عند ذبحه.
    وَعَنْ أَبي هُريرَة في قِصَّةِ الْعَسيفِ، قَال النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "واغْدُ يا أُنَيْسُ عَلى امْرأَةِ هذا فإنِ اعْتَرَفَتْ فَارجُمْهَا" الحديثَ، مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
    (وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العسيف) بعين وسين مهملتين فمثناة تحتية ففاء: الأجير وزناً ومعنى (قال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلى امْرَأَةِ هذا فإن اعْتَرَفَتْ فارْجُمْهَا" الحديث. متفق عليه).
    سيأتي في الحدود مستوفى. وذكر هنا بناء على أن المأمور وكيل عن الإمام في إقامة الحدّ.
    وبوّب البخاري "باب الوكالة في الحدود" وأورد هذا الحديث وغيره.
    وقال المصنف في الفتح: والإمام لما لم يتول إقامة الحدّ بنفسه وولاه غيره كان ذلك بمنزلة توكيله للغير.
    باب الإقرار
    الإقرار لغة: الإثبات، في الشرع: إخبار الإنسان بما عليه وهو ضد الجحود.
    عَنْ أَبي ذَرَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ لي النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "قلِ الحقَّ وَلَوْ كانَ مُرّاً" صَحّحَهُ ابنُ حِبّانَ مِنْ حَديثٍ طويلٍ.
    (عَنْ أَبي ذَرَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ لي النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "قلِ الحقَّ وَلَوْ كانَ مُرّاً" صَحّحَهُ ابنُ حِبّانَ مِنْ حَديثٍ طويلٍ).
    ساقه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب وفيه وصايا نبوية ولفظه: قال: "أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسَلَّم أن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من فوقي، وأن أحب المساكين، وأن أدنوَ مِنهم، وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني، وأن أقول الحق ولو كان مراً، وأن لا أخاف في الله لومة لائم، وأن لا أسأل أحداً شيئاً، وأن أستكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنوز الجنة".
    وقوله قل الحق يشمل قوله على نفسه وعلى غيره وهو مأخوذ من قوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين} ومن قوله تعالى: {ولا تقولوا على الله إلا الحق} وباعتبار شموله ذكره المصنف هنا تبعاً للرافعي فإنه ذكره في باب الإقرار.
    وفيه دلالة على اعتبار إقرار الإنسان على نفسه في جميع الأمور وهو أمر هام لجميع الأحكام لأن قول الحق على النفس و الإخبار بما عليها مما يلزمها التخلص منه بمال أو بدن أو عرض.
    وقوله: "ولو كان مُرّاً" من باب التشبيه لأن الحق قد يصعب إجراؤه على النفس كما يصعب عليها إساغة المرّ لمرارته ويأتي في باب الحدود والقصاص أحاديث في الإقرار.
    باب العارية
    العاريّة بتشديد المثناة التحتية وتخفيفها ويقال عارة وهي مأخوذة من عار الفرس إذا ذهب لأن العارية تذهب من يد المعير أو من العار لأنه لا يستعير أحد إلا وبه عار وحاجة.
    وهي في الشرع عبارة عن إباحة المنافع من دون ملك العين.
    عَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدبٍ قالَ: قالَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "عَلى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتى تُؤدِّيَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ والأرْبَعَةُ وَصَحّحَهُ الحاكِمُ.
    (عَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدبٍ قالَ: قالَ رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "عَلى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتى تُؤدِّيَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ والأرْبَعَةُ وَصَحّحَهُ الحاكِمُ).
    بناء منه على سماع الحسن من سمرة لأن الحديث من رواية الحسن عن سمرة وللحفاظ في سماعه منه ثلاثة مذاهب.
    الأول: أنه سمع منه مطلقاً وهو مذهب عليّ بن المديني والبخاري والترمذي.
    والثاني: لا، مطلقاً وهو مذهب يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين وابن حبان.
    والثالث: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وهو مذهب النسائي واختاره ابن عساكر وادعى عبد الحق أنه الصحيح.
    والحديث دليل على وجوب ردّ ما قبضه المرء وهو ملك لغيره ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو ما يقوم مقامه لقوله: "حتى تؤديه" ولا تتحقق التأدية إلا بذلك.
    وهو عام في الغصب والوديعة والعارية وذكره في باب العارية لشموله لها وربما يفهم منه أنها مضمونة على المستعير. وفي ذلك ثلاث أقوال.
    الأول: أنها مضمونة مطلقاً وإليه ذهب[اث] ابن عباس[/اث] وزيد بن علي وعطاء وأحمد وإسحاق والشافعي لهذا الحديث ولما يأتي مما يفيد معناه.
    والثاني: للهادي وآخرين معه أن العارية لا يجب ضمانها إلا إذا شرط مستدلين بحديث صفوان ويأتي الكلام عليه.
    والثالث: للحسن وأبي حنيفة وآخرين أنها لا تضمن وإن ضمنت لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ليس على المستعير غير المغل ولا على المستودع غير المغل ضمان" أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر وضعفاه وصححا وقفه على شريح.
    وقوله: "المغل" بضم الميم فغين معجمة قال في النهاية: أي إذا لم يخن في العارية والوديعة فلا ضمان عليه من الإغلال وهو الخيانة.
    وقيل المغل: المستغل وأراد به القابض لأنه بالقبض يكون مستغلاً والأوّل أولى. وحينئذ فلا تقوم به حجة. على أنه لا تقوم به الحجة ولو صح رفعه لأن المراد ليس عليه ذلك من حيث هو مستعير لأنه لو التزم الضمان للزمه.
    وحديث الباب كثيراً ما يستدلون منه بقوله:"على اليد ما أخذت حتى تؤديه" على التضمين ولا دلالة فيه صريحاً فإن اليد الأمينة أيضاً عليها ما أخذت حتى تؤدى ولذلك قلنا (وربما يفهم).
    ولم يبق دليل على تضمين العارية إلا قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عارية مضمونة في حديث صفوان فإن وصفها بمضمونة يحتمل أنها صفة موضحة وأن المراد من شأنها الضمان فيدل على ضمانها مطلقاً ويحتمل أنها صفة للتقييد وهو الأظهر لأنها تأسيس ولأنها كثيرة.
    ثم ظاهره أن المراد عارية قد ضمناها لك وحينئذ يحتمل أن يلزم ويحتمل أنه غير لازم بل كالوعد وهو بعيد فيتم الدليل بالحديث للقائل إنها تضمن ــــ وهو الأظهر ــــ بالتضمين إما بطلب صاحبها له أو بتبرع المستعير.
    وَعَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَدِّ الأمانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلا تخُنْ مَنْ خَانَك" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والترمِذيُّ وَحَسّنَهُ وَصَحّحَهُ الحاكِمُ وَاستْنكَرَهُ أَبُو حَاتمِ الرَّازيّ وأَخْرَجَهُ جَمَاعةٌ مِنَ الحُفّاظِ وَهُوَ شَامِلٌ لِلْعَارِيَةِ.
    (وَعَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَدِّ الأمانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلا تخُنْ مَنْ خَانَك" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والترمِذيُّ وَحَسّنَهُ وَصَحّحَهُ الحاكِمُ وَاستْنكَرَهُ أَبُو حَاتمِ الرَّازيّ وأَخْرَجَهُ جَمَاعةٌ مِنَ الحُفّاظِ وَهُوَ شَامِلٌ لِلْعَارِيَةِ) والوديعة ونحوهما وأنه يجب أداء الأمانة كما أفاده قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}.
    وقوله: "لا تخن من خانك" دليل على أنه لا يجازي بالإساءة من أساء وحمله الجمهور على أنه مستحب لدلالة قوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} {وإن عاقبتم} على الجواز.
    وهذه هي المعروفة بمسألة الظفر وفيها أقوال للعلماء.
    هذا القول الأول وهو الأشهر من أقوال الشافعي وسواء كان من جنس ما أخذ عليه أو من غيره جنسه.
    والثاني: يجوز إذا كان من جنس ما أخذ عليه لا من غيره لظاهر قوله: {بمثل ما عوقبتم به} وقوله: {مثلها} وهو رأي الحنفية و المؤيد.
    والثالث: لا يجوز ذلك إلا بحكم لظاهر النهي في الحديث ولقوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وأجيب أنه ليس أكلاً بالباطل والحديث يحمل فيه النهي على التنزيه.
    الرابع: لابن حزم أنه يجب عليه أن يأخذ بقدر حقه سواء كان من نوع ما هو له أو من غيره ويعينه ويستوفي حقه فإن فضل على ما هو له رده له أو لورثته وإن نقص بقي في ذمة من عليه الحق فإن لم يفعل ذلك فهو عاص لله عزّ وجلّ إلا أن يحلله ويبرئه فهو مأجور فإن كان الحق الذيله لا بينة له عليه وظفر بشيء من مال من عنده له الحق أخذه فإن طولب أنكر فإن استحلف حلف وهو مأجور في ذلك. قال: وهذا هو قول الشافعي وأبي سليمان وأصحابهما وكذلك عندنا كل من ظفر لظالم بمال ففرض عليه أخذه وإنصاف المظلوم منه واستدل بالآيتين بقوله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} وبقوله تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} وبقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لهند امرأة أبي سفيان: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" لما ذكرت له أن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وبنيَّ فهل عليَّ منجناح أن آخذ من ماله شيئاً ولحديث البخاري: "إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف".
    واستدل لكونه إذا لم يفعل يكون عاصياً بقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} قال: فمن ظفر بمثل ما ظلم فيه هو أو مسلم أو ذميّ فلم يزله عن يد الظالم ويردّ إلى المظلوم حقه فهو أحد الظالمين ولم يعن على البر والتقوى بل أعان على الإثم والعدوان.
    وكذلك أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من رأى منكراً أن يغيره بيده إن استطاع فمن قدر على قطع الظلم وكفه وإعطاء كل ذي حق حقه فلم يفعل فقد قدر على إنكار المنكر ولم يفعل فقد عصى الله ورسوله ثم ذكر حديث أبي هريرة فقال: هو من رواية [تض]طلق بن غنام عنشريك وقيس بن الربيع[/تض] وكلهم ضعيف قال: ولئن صح فلا حجة فيه لأنه ليس انتصاف المرء من حقه خيانة بل هو حق واجب وإنكار منكر وإنما الخيانة أن يخون بالظلم والباطل من لا حق له عنده.
    قلت ويؤيد ما ذهب إليه حديث: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" فإن الأمر ظاهر في الإيجاب، ونصر الظالم بإخراجه عن الظلم وذلك بأخذ ما في يده لغيره ظلماً.
    وَعَنْ يَعْلى بْنِ أُميّةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ لي رسولَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أَتَتْكَ رُسُلي فَأَعْطِهِمْ ثلاثين دِرْعاً" قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّهِ أَعاريَةٌ مَضْمُونةٌ أَوْ عَاريةٌ مُؤَدَّاةٌ؟ قالَ: بل عَاريةٌ مُؤَدَّاةٌ" رَوَاهُ أَحمَدُ وأَبو دَاودَ والنّسَائيُّ وصحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ.
    (وَعَنْ يَعْلى بْنِ أُميّةَ) ويقال منيه بضم الميم وفتح النون وتشديد التحتية المثناة صحابي مشهور (قالَ: قالَ لي رسولَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أَتَتْكَ رُسُلي فَأَعْطِهِمْ ثلاثين دِرْعاً" قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّهِ أَعاريَةٌ مَضْمُونةٌ أَوْ عَاريةٌ مُؤَدَّاةٌ؟ قالَ: بل عَاريةٌ مُؤَدَّاةٌ" رَوَاهُ أَحمَدُ وأَبو دَاودَ والنّسَائيُّ وصحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ).
    المضمونة: التي تضمن إن تلفت بالقيمة، والمؤداة: التي تجب تأديتها مع بقاء عينها فإن تلفت لم تضمن بالقيمة. والحديث دليل لمن ذهب إلى أنها لا تضمن العارية إلا بالتضمين وتقدم أنه أوضح الأقوال.
    وَعَنْ صَفْوانَ بْنِ أُميّة رضيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اسْتَعَار مِنْهُ دُرُوعاً يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ: أَغصْبٌ يا محمدُ؟ قالَ: "بَلْ عاريَةٌ مَضْمُونةٌ" رَوَاهُ أَبو دَاودَ وَأَحْمَدُ وَالنّسائيُّ وَصَحّحَهُ الحاكِمُ. وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهداً ضَعيفاً عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
    (وعن صفوان بن أمية) قرشي من أشراف قريش هرب يوم الفتح واستؤمن له فعاد وحضر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حنيناً والطائف كافراً ثم أسلم وحسن إسلامه.
    (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استعار منه دروعاً يوم حنين فقال: أغصبٌ يا محمد؟ قال: "بَلْ عَاريَةٌ مَضْمُونَةٌ" رواه أبو داود وأحمد والنسائي وصححه الحاكم وأخرج له شاهداً ضعيفاً عن ابن عباس) ولفظه "بل عارية مؤداة" وفي عدد الدروع روايات فلأبي داود: كانت ما بين الثلاثين إلى الأربعين، وللبيهقي في حديث مرسل: كانت ثمانين. وللحاكم من حديث جابر: كانت مائة درع وما يصلحها.
    وزاد أحمد والنسائي في رواية ابن عباس: فضاع بعضها فعرض عليه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يضمنها له فقال: أنا اليوم يا رسول الله أرغب في الإسلام.
    وقوله مضمونة تقدم الكلام عليها وأن أصل الوصف التقييد وأنه الأكثر فهو دليل على ضمانها بالتضمين كما أسلفنا لا أنه محتمل ويكون مجملاً كما قيل، قاله الشارح.
    باب الغصب
    عَنْ سَعيدٍ بْنِ زَيْدٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ اقْتطعَ شِبراً مِنَ الأرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ الله إياه يَوْم القيامةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضينَ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
    (عن سعيد بن زيد أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ اقْتَطَعَ شِبراً مِنَ الأرْضِ) أي من أخذه وهو أحد ألفاظ الصحيحين (ظُلْماً طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إيّاهُ مِنْ سَبْعِ أَرْضِين" متفق عليه).
    اختلف في معنى التطويق فقيل معناه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه ويؤيده أن في حديث ابن عمر: (خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين).
    وقيل يكلف نقل ما ظلمه منها يوم القيامة في المحشر ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة ويؤيده حديث: "أيما رجل ظلم شبراً من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين ثم يطوّقه حتى يقضي بين الناس" أخرجه الطبراني وابن حبان من حديث يعلى بن مرة مرفوعاً.
    ولأحمد والطبراني: "من أخذ أرضاً بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر". وفيه قولان آخران والحديث دليل على تحريم الظلم والغصب وشدة عقوبته وإمكان غصب الأرض وأنه من الكبائر وأن من ملك أرضاً ملك أسفلها إلى تخوم الأرض وله منع من أراد أن يحفر سرباً أو بئراً وأنه من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة أو أبنية أو معادن وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر من يجاوره وأن الأرضين السبع متراكمة لم يفتق بعضها من بعض لأنها لو فتقت لاكتُفِيَ في حق هذا الغاصب بتطويق التي غصبها لانفصالها عما تحتها.
    وفيه دلالة على أن الأرض تصير مغصوبة بالاستيلاء عليها.
    وهل تضمن إذا تلفت بعد الغصب؟ فيه خلاف: فقيل لا تضمن لأنه إنما يضمن ما أخذ لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه).
    قالوا: ولا يقاس ثبوت اليد في غير المنقول على النقل في المنقول لاختلافهما في التصرف.
    وذهب الجمهور إلى أنها تضمن بالغصب قياساً على المنقول المتفق على أنه يضمن بعد النقل بجامع الاستيلاء الحاصل في نقل المنقول وفي ثبوت اليد على غير المنقول بل الحق أن ثبوت اليد استيلاء وإن لم ينقل، يقال استولى الملك على البلد واستولى زيد على أرض عمرو.
    وقوله شبراً وكذا ما فوقه بالأولى وما دونه داخل في التحريم وإنما لم يذكر لأنه قد لا يقع إلا نادراً.
    وقد وقع في بعض ألفاظه عند البخاري (شيئاً) عوضاً عن (شبراً) فَعَمَّ.
    إلا أن الفقهاء يقولون إنه لا بد أن يكون المغصوب له قيمة فألزموا أنه حينئذ يأكل الرجل صاع تمر أو زبيب على واحدة واحدة فلا يضمن فيأكل عمره من المال الحرام فلا يضمن وإن أثم كأكله من الخبز واللحم على لقمة لقمة من غير استيلاء على الجميع.
    وَعَنْ أَنَسٍ رَضي اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ عِنْدَ بَعْضِ نسَائِهِ فأَرسلتْ إحْدى أُمهاتِ المؤمنينَ مَعَ خادمٍ لهَا بِقَصْعَةٍ فيها طعامٌ فَضَرَبَتْ بيدِها فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَضَمّهَا وجَعَلَ فيها الطعامَ وَقَال: "كُلُوا" وَدَفَعَ القْصعةَ الصّحيحَةَ للرَّسول وَحَبَسَ المكْسُورة" رَوَاهُ البْخَاريُّ وَالتِّرْمِذيُّ وَسَمّى الضّاربَةَ عَائِشَةَ وَزادَ: فَقَالَ النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "طَعَامٌ بطعَامٍ وَإنَاءٌ بإنَاءٍ" وَصَحّحَهُ.
    (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين) سماها ابن حزم زينب بنت جحش (مع خادم لها) قال المصنف لم أقف على اسم الخادم (بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: "كلُوا" ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة ــــ رواه البخاري والترمذي وَسَمَّى الضاربة عائشة وزاد فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "طَعَامٌ بطَعَامٍ وإنَاءٌ بإنَاءٍ" وصححه) واتفقت مثل هذه القصة من عائشة في صحفة أم سلمة فيما أخرجه النسائي عن أم سلمة: "أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة ــــ الحديث".
    وقد وقع مثلها لحفصة وأن عائشة كسرت الإناء. ووقع مثلها لصفية مع عائشة والحديث دليل على أن من استهلك على غيره شيئاً كان مضموناً بمثله وهو متفق عليه في المثلى من الحبوب وغيرها.
    وأما في القيمي ففيه ثلاثة أقوال:
    الأول للشافعي والكوفيين أنه يجب فيه المثل حيواناً كان أو غيره ولا تجزىء القيمة إلا عند عدمه.
    والثاني للهادوية أن القيمي يضمن بقيمته.
    وقال مالك والحنفية: أما ما يكال أو يوزن فمثله وما عدا ذلك من العروض والحيوانات فالقيمة.
    واستدل الشافعي ومن معه بقول النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إناء بإناء وطعام بطعام" وبما وقع في رواية ابن أبي حاتم: "من كسر شيئاً فهو له وعليه مثله" زاد في رواية الدارقطني فصارت قضية: أي من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أي حكماً عاماً لكل من وقع لهمثل ذلك فاندفع قول من قال إنها قضية عين لا عموم فيها ولو كانت كذلك لكان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "طعام بطعام وإناءٌ بإناء" كافياً في الدليل.
    على أن ذكره للطعام واضح في التشريع العام لأنه لا غرامة هنا للطعام بل الغرامة للإناء.
    وأما الطعام فهو هدية له صلى الله عليه وآله وسلم فإن عدم المثل فالمضمون له مخير بين أن يمهله حتى يجد المثل وبين أن يأخذ القيمة.
    واستدل في البحر وغيره لمن قال بوجوب القيمة بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قضى على من أعتق شركاً له في عبد أن يقوم عليه باقيه لشريكه قالوا فقضى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالقيمة.
    وأجيب بأن المعتق نصيبه من عبد بينه وبين آخر لم يستهلك شيئاً ولا غصب شيئاً ولا تعدّى أصلاً بل أعتق حصته التي أباح الله له عتقها ثم إن المستهلك بزعم المستدل هنا هو الشقص من العبد ومناظرة شقص لشقص تبعد فيكون النقد أقرب وأبعد من الشجار.
    على أن التقويم لغة يشمل التقدير بالمثل أو بالقيمة وإنما خص اصطلاحاً بالقيمة وكلام الشارع يفسر باللغة لا بالاصطلاح الحادث.
    واستدل بإمساكه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أكسار القصعة في بيت التي كسرت الهادوية والحنفية القائلين بأن العين المغصوبة إذا زال بفعل الغاصب اسمها ومعظم نفعها تصير ملكاً للغاصب.
    قال ابن حزم: إنه ليس في تعليم الظلمة أكل أموال الناس أكثر من هذا فيقال لكل فاسق: إذا أردت أخذ قمح يتيم أو غيره أو أكل غنمه أو استحلال ثيابه فقطعها ثياباً على رغمه واذبح غنمه واطبخها وخذ الحنطة واطحنها وكُلْ ذلك حلالاً طيباً وليس عليك إلا قيمة ما أخذت وهذا خلاف القرآن في نهيه تعالى أن يؤكل أموال الناس بالباطل وخلاف المتواتر عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن أموالكم عليك حرام".
    واحتجوا بخبر الشاة المعروف وهو أن امرأة دعته صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعام فأخبرته أنها أرادت ابتياع شاة فلم تجدها فأرسلت إلى جارة لها أن ابعثي لي الشاة التي لزوجك فبعثت بها إليها فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالشاة أن تطعم الأسارى.
    قالوا: فهذا يدل على أن حق صاحب الشاة قد سقط عنها إذا شويت.
    وأجيب بأن الخبر لا يصح. فإن صح فهو حجة عليهم لأنه خلاف قولهم إذ فيه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يبق ذلك اللحم في ملك التي أخذتها بغير إذن مالكها وهم يقولون إنه للغاصب وقد تصدق بها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بغير إذنها وخبر شاة الأسارى قد بحثنا فيه في منحة الغفار.
    وَعَنْ رَافعِ بنِ خديجٍ رضيَ الله عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ زَرَعَ في أَرْضِ قَوْمٍ بغير إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شيءٌ وَلَهُ نَفَقتُهُ" رَوَاهُ أَحْمدُ وَالأرْبعةُ إلا النّسائيَّ وَحَسّنَهُ التِّرْمذيُّ، ويُقالُ إنَّ البُخَاريَّ ضَعّفَهُ.
    وَعَنْ رَافعِ بنِ خديجٍ رضيَ الله عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ زَرَعَ في أَرْضِ قَوْمٍ بغير إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شيءٌ وَلَهُ نَفَقتُهُ" رَوَاهُ أَحْمدُ وَالأرْبعةُ إلا النّسائيَّ وَحَسّنَهُ التِّرْمذيُّ، ويُقالُ إنَّ البُخَاريَّ ضَعّفَهُ.
    هذا القول عن البخاري ذكره الخطابي وخالفه الترمذي فنقل عن البخاري تحسينه إلا أنه قال أبو زرعة وغيره: لم يسمع عطاء بن أبي رباح من رافع بن خديج.
    وقد اختلف فيه الحفاظ اختلافاً كثيراً وله شواهد تقويه وهو دليل على أن غاصب الأرض إذا زرع الأرض لا يملك الزرع وأنه لمالكها وله ما غرم على الزرع من النفقة والبذر وهذا مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق و مالك وهو قول أكثر علماء المدينة والقاسم بن إبراهيم وإليه ذهب أبو محمد بن حزم ويدل له حديث: "ليس لعرق ظالم حق" وسيأتي إذ المراد به من غرس أو زرع أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة.
    وذهب أكثر الأمة إلى أن الزرع لصاحب البذر الغاصب وعليه أجرة الأرض واستدلوا بحديث "الزرع للزارع وإن كان غاصباً" إلا أنه لم يخرجه أحد قال في المنار: وقد بحثت عنه فلم أجده والشارح نقله وبيض لمخرجه واستدلوا بحديث: "ليس لعرق ظالم حق" ويأتي وهو لأهل القول الأول أظهر في الاستدلال.
    وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر رضيَ اللَّهُ عنْهُما قالَ: قالَ رجُلٌ مِنْ أَصحابِ رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلى رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في أَرْضٍ غَرَسَ أَحَدُهما فيها نَخْلاً والأرضُ للآخَر، فَقَضى رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالأرضِ لِصَاحبها وأَمَرَ صَاحبَ النّخْلِ أَنْ يُخْرجَ نَخْلَهُ وَقَالَ: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظالمٍ حَقٌّ" رَوَاهُ أَبو داودَ وإسْنَادُهُ حَسَنٌ.
    وآخِرُهُ عِنْدَ أَصْحَّابِ السنن مِنْ روايةِ عُرْوَةَ عَنْ سعِيدِ بْنِ زَيْدِ واخْتُلِفَ في وَصْلهِ وإرسالِهِ وفي تَعْيين صَحابيِّهِ.
    (وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر رضيَ اللَّهُ عنْهُما قالَ: قالَ رجُلٌ مِنْ أَصحابِ رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلى رَسُولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في أَرْضٍ غَرَسَ أَحَدُهما فيها نَخْلاً والأرضُ للآخَر، فَقَضى رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالأرضِ لِصَاحبها وأَمَرَ صَاحبَ النّخْلِ أَنْ يُخْرجَ نَخْلَهُ وَقَالَ: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظالمٍ حَقٌّ" رَوَاهُ أَبو داودَ وإسْنَادُهُ حَسَنٌ.
    وآخِرُهُ عِنْدَ أَصْحَّابِ السنن مِنْ روايةِ عُرْوَةَ عَنْ سعِيدِ بْنِ زَيْدِ واخْتُلِفَ في وَصْلهِ وإرسالِهِ وفي تَعْيين صَحابيِّهِ).
    فرواه أبو داود من طريق عروة مرسلاً ومن طريق آخر متصلاً من رواية محمد بن إسحاق وقال: فقال رجل من أصحاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأكثر ظني أنه أبو سعيد.
    وفي الباب عن عائشة أخرجه أبو داود الطيالسي.
    وعن سمرة عند أبي داود والبيهقي وعن عبادة وعبد الله بن عمرو عند الطبراني.
    واختلفوا في تفسير (عرق ظالم) فقيل هو أن يغرس الرجل في أرض فيستحقها بذلك.
    وقال مالك: كل ما أخذ واحتفر وغرس بغير حق.
    وقال ربيعة: العرق الظالم يكون ظاهراً ويكون باطناً فالباطن: ما احتفر الرجل من الآبار واستخرجه من المعادن والظاهر: ما بناه أو غرسه.
    وقيل الظالم من بنى أو زرع أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة وكل ما ذكر من التفاسير متقارب ودليل على أن الزارع في أرض غيره ظالم ولا حق له بل يخير بين إخراج ما غرسه وأخذ نفقته عليه جمعاً بين الحديثين من غير تفرقة بين زرع وشجر.
    والقول بأنه دليل على أن الزرع للغاصب حمل له على خلاف ظاهره.
    وكيف يقول الشارع (ليس لعرق ظالم حق) ويسميه ظالماً وينفي عنه الحق ونقول بل الحق له؟
    وَعَنْ أَبي بَكْرَةً رضيَ الله عَنْهُ: أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ في خُطْبَتِهِ يَوْمَ النّحْرِ بمِنىً: "إنَّ دمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وَأَعراضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا في شَهْركُمْ هذا في بَلَدِكُم هذا" مُتّفّقٌ عَلَيْهِ.
    (وَعَنْ أَبي بَكْرَةً رضيَ الله عَنْهُ: أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ في خُطْبَتِهِ يَوْمَ النّحْرِ بمِنىً: "إنَّ دمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وَأَعراضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا في شَهْركُمْ هذا في بَلَدِكُم هذا" مُتّفّقٌ عَلَيْهِ).
    وما دل عليه واضح وإجماع ولو بدأ به المصنف في أول باب الغصب لكان أليق أساساً وأحسن افتتاحاً.
    باب الشفعة
    الشفعة بضم الشين المعجمة وسكون الفاء. في اشتقاقها ثلاثة أقوال:
    قيل من الشفع وهو الزوج، وقيل من الزيادة، وقيل من الإعانة.
    وهي شرعاً انتقال حصة إلى حصة بسبب شرعي كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى.
    وقال أكثر الفقهاء إنها وردت على خلاف القياس لأنها تؤخذ كرهاً ولأن الأذية لا تدفع عن واحد بضرر آخر.
    وقيل خالفت هذا القياس ووافقت قياسات أخر يدفع فيها ضرر الغير بضرر الآخر ثم يؤخذ حقه كرهاً كبيع الحاكم عن المتمرد والمفلس ونحوهما.
    عَنْ جابر بن عبد الله رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ: "قضى رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالشفْعةِ في كُلِّ ما لم يُقسمْ، فإذا وَقَعَت الحُدُود وَصُرِّفَتِ الطرقُ فَلا شُفعةَ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ وَاللفْظُ للْبُخاريِّ.
    وفي روايةِ مسْلمٍ "الشفْعَةُ في كُلِّ شِرْكٍ في أَرْضٍ أَو رَبْعٍ أَوْ حائطٍ لا يَصْلُحُ ــــ وفي لَفْظٍ لا يحل ــــ أنْ يَبيعَ حتى يَعْرضَ عَلى شريكه".
    وَفي روايةِ الطّحاويِّ "قضى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالشفعةِ في كلِّ شيء" ورجالُهُ ثِقاتٌ.
    (عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "قضى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالشُّفْعةِ في كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فإذا وقَعَتِ الْحُدودُ وصُرِّفَتِ) بضم الصاد المهملة وتشديد الراء ففاء معناه بينت مصارف (الطُّرُقُ) وشوارعها (فَلا شُفْعَةَ" متفق عليه واللفظ للبخاري وفي رواية مسلم) أي من حديث جابر (الشُّفْعَةُ في كُلِّ شِرْكٍ) أي مشترك (في أَرْض أَوْ رَبْعٍ) بفتح الراء وسكون الموحّدة الدار ويطلق على الأرض (أوْ حائِطٍ لا يَصْلُحُ ــــ وفي لفظ لا يحل ــــ أَنْ يَبيعَ) الخليط لدلالة السياق عليه (حَتى يَعْرضَ عَلى شريكهِ" وفي رواية الطحاوي أي من حديث جابر "قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة في كل شيءً" ورجاله ثقات).
    الألفاظ في هذا الحديث قد تضافرت في الأدلة على ثبوت الشفعة للشريك في الدور والعقار والبساتين وهذا مجمع عليه إذا كان مما يقسم.
    وفيما لا يقسم كالحمام الصغير ونحوه خلاف.
    وذهب الهادوية ــــ وفي البحر العترة ــــ إلى صحة الشفعة في كل شيء.
    ومثله في البحر عن أبي حنيفة وأصحابه ويدل له حديث الطحاوي.
    ومثله عند ابن عباس عن الترمذي مرفوعاً "الشفعة في كل شيء" وإن قيل إن رفعه خطأ فقد ثبت إرساله عن ابن عباس وهو شاهد لرفعه.
    على أن مرسل الصحابي إذا صحت عنه الرواية حجة.
    وعن المنصور أنه لا شفعة في المكيل والموزون لأنه لا ضرر فيه.
    فأجيب بأن فيه ضرراً وهو إسقاط حق الجوار ولأنا لا نسلم أن العلة الضرر.
    وذهب الأكثر على عدم ثبوتها في المنقول مستدلين بقوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فإنه دل على أنها لا تكون إلا في العقار وتلحق به الدار لقوله في حديث مسلم: "أو ربع".
    قالوا: ولأنه أخرج البزار من حديث جابر والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ الحصر فيهما.
    الأول: "لا شفعة إلا في ربع أو حائط".
    ولفظ الثاني: "لا شفعة إلا في دار أو عقار".
    إلا أنه قال البيهقي بعد سياقه له: الإسناد ضعيف. وأجيب بأنها لو ثبتت لكانت مفاهيم ولا تُقاوِمَ منطوقَ "في كل شيء".
    ومنهم من استثنى من المنقول الثياب فقال تصح فيها الشفعة.
    ومنهم من استثنى منه الحيوان فقال تصح فيه الشفعة.
    وفي حديث مسلم دليل على أنه لا يحل للشريك بيع حصته حتى يعرض على شريكه وأنه محرم عليه البيع قبل عرضه، ومن حمله على الكراهة فهو حمل على خلاف أصل النهي بلا دليل.
    واختلف العلماء هل للشريك الشفعة بعد أن آذنه شريكه ثم باعه من غيره فقيل له ذلك ولا يمنع صحتها تقدم إيذانه وهو قول الأكثر.
    وقال الثوري والحكم وأبو عبيد وطائفة من أهل الحديث تسقط شفعته بعد عرضه عليه وهو الأوفق بلفظ الحديث وهو الذي اخترناه في حاشية ضوء النهار.
    وفي قوله: "أن يبيع" ما يشعر بأنها إنما تثبت فيما كان بعقد البيع وهذا مجمع عليه، وفي غيره خلاف.
    وقوله في كل شيء يشمل الشفعة في الإجارة وقد منعها الهادوية وقالوا إنما تكون في عين لا منفعة وضعف قولهم لأن المنفعة تسمى شيئاً وتكون مشتركة فشملها "في كل شرك" أيضاً إذ لو لم تكن شيئاً ولا مشتركة لما صح التأجير فيها ولا القسمة بالمهايأة ونحو ذلك وهي بيع مخصوصفيشملها: "لا يحل له أن يبيع".
    فالحق ثبوت الشفعة فيها لشمول الدليل لها ولوجود علة الشفعة فيها.
    وظاهر قوله: "في كل شرك" أي مشترك ثبوتها للذمي على المسلم إذا كان شريكاً له في الملك وفيه خلاف.
    والأظهر ثبوتها للذمي في غير جزيرة العرب لأنهم منهيون عن البقاء فيها.
    وعَنْ أَنَسِ بْنِ مِالكٍ رضيَ الله عَنْهُ قالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "جَارُ الدَّار أَحَقُّ بالدارِ" رَوَاهُ النّسائي وصَحّحَه ابْنُ حِبّانَ وَلَهُ عِلّةٌ.
    (وعَنْ أَنَسِ بْنِ مِالكٍ رضيَ الله عَنْهُ قالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "جَارُ الدَّار أَحَقُّ بالدارِ" رَوَاهُ النّسائي وصَحّحَه ابْنُ حِبّانَ وَلَهُ عِلّةٌ).
    وهي أنه أخرجه أئمة من الحفاظ عن قتادة عن أنس وآخرون أخرجوه عن الحسن عن سمرة قالوا وهذا هو المحفوظ وقيل هما صحيحان جميعاً قاله ابن القطان وهو الأولى.
    وهذا وإن كان فيه علة فالحديث الآتي صحيح وهو قوله:
    وَعَنْ أَبي رافعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الجارُ أَحقُ بصقَبِهِ" أَخْرجهُ البُخاريُّ وفيهِ قِصَّةٌ.
    وهو قوله (وَعَنْ أَبي رافعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الجارُ أَحقُ بصقَبِهِ" أَخْرجهُ البُخاريُّ وفيهِ قِصَّةٌ).
    وهي أنه قال أبو رافع للمسور بن مخرمة: ألا تأمر هذا ــــ يشير إلى سعد ــــ أن يشتري مني بيتيّ اللَّذَيْنِ في داره فقال له سعد: والله لا أزيدك على أربعمائة دينار مقطعة أو منجمة فقال أبو رافع: سبحان الله لقد منعتهما من خمسمائة نقداً فلولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول: "الجار أحق بصقبه" ما بعتك.
    والحديث وإن كان ذكره أبو رافع في البيع فهو يعم الشفعة فذهب إلى ثبوتها الهادوية والحنفية وآخرون لهذه الأحاديث ولغيرها كحديث الشريد بن سويد قال: قلت: يا رسول الله أرض لي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار قال: "الجار أحق بصقبه" أخرجه ابن سعد عن عمرو بن شعيب عن الشريد وحديث جابر الآتي.
    وذهب[اث] عليٌّ[/اث] و[اث]عمر[/اث] و[اث]عثمان[/اث] والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم إلى أنه لا شفعة بالجوار.
    قالوا: والمراد بالجار في الحديث الشريك، قالوا: ويدل على أن المراد به ذلك حديث أبي رافع فإنه سمى الخليط جاراً واستدل بالحديث وهو من أهل اللسان وأعرف بالمراد والقول بأنه لا يعرف في اللغة تسمية الشريك جاراً غير صحيح فإن كل شيء قارب شيئاً فهو جار.
    وأجيب بأن أبا رافع غير شريك لسعد بل جار له لأنه كان يملك بيتين في دار سعد لا أنه كان يملك شقصاً شائعاً من منزل سعد.
    واستدلوا أيضاً بما سلف من أحاديث الشفعة للشريك وقوله: "إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" ونحوه من الأحاديث التي فيها حصر الشفعة قبل القسمة.
    وأجيب عنها بأن غاية ما فيها إثبات الشفعة للشريك من غير تعرض للجار لا بمنطوق ولا مفهوم.
    ومفهوم الحصر في قوله: "إنما جعل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الشفعة الحديث" إنما هو فيما قبل القسمة للمبيع بين المشتري والشريك فمدلوله أن القسمة تبطل الشفعة وهو صريح رواية:
    "وإنما جعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم".
    وأحاديث إثبات الشفعة للخليط لا تبطل ثبوتها للجار بعد قيام الأدلة عليها التي منها ما سلف ومنها الحديث الآتي:
    وعَنْ جابرٍ رَضى اللَّهُ عَنْهُ قالَ: رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الجارُ أَحَق بشُفْعَةِ جارهِ يُنتظرُ بهَا ــــ وإنْ كانَ غائباً ــــ إذا كانَ طَريقُهُمَا وَاحداً" رَواهُ أَحْمَدُ والأربعةُ ورَجاله ثقاتٌ.
    (وعَنْ جابرٍ رَضى اللَّهُ عَنْهُ قالَ: رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الجارُ أَحَق بشُفْعَةِ جارهِ يُنتظرُ بهَا وإنْ كانَ غائباً إذا كانَ طَريقهما وَاحداً" رَواهُ أَحْمَدُ والأربعةُ ورَجاله ثقاتٌ).
    أحسن المصنف بتوثيق رجاله وعدم إعلاله وإلا فإنهم قد تكلموا في هذه الرواية بأنه انفرد بزيادة قوله: "إذا كان طريقهما واحداً" عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي.
    قلت: وعبد الملك ثقة مأمون لا يضر انفراده كما عرف في الأصول وعلوم الحديث.
    والحديث من أدلة شفعة الجار إلا أنه قيده بقوله: "إذا كان طريقهما واحداً" وقد ذهب إلى اشتراط هذا بعض العلماء قائلاً بأنها تثبت الشفعة للجار إذا اشتركا في الطريق.
    قال في الشرح: ولا يبعد اعتباره:
    أما من حيث الدليل فللتصريح به في حديث جابر هذا.
    ومفهوم الشرط أنه إذا كان مختلفاً فلا شفعة.
    وأما من حيث التعليل فلأن شرعية الشفعة لمناسبة دفع الضرر والضرر بحسب الأغلب إنما يكون مع شدّة الاختلاط وشبكة الانتفاع وذلك إنما هو مع الشريك في الأصل أو في الطريق ويندر الضرر مع عدم ذلك.
    وحديث جابر المقيد بالشرط لا يحتمل التأويل المذكور أوَّلاً، لأنه إذا كان المراد بالجار الشريك فلا فائدة لاشتراط كون الطريق واحداً.
    قلت: ولا يخفى أنه قد آل الكلام إلى الخليط لأنه مع اتحاد الطريق تكون الشفعة للخلطة فيها وهذا هو الذي قررناه في منحة الغفار حاشية ضوء النهار.
    قال ابن القيم: وهو أعدل الأقوال وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
    وحديث جابر هذا صريح فيه فإنه أثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ونفاها به في حديثه الآخر مع اختلافها حيث قال: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة".
    فمفهوم حديث جابر هذا هو بعينه منطوق حديثه المتقدم فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ولا يناقضه وجابر روى اللفظين فَتوافقت السنن وائتلفت بحمد الله انتهى بمعناه.
    وقوله: "ينتظر بها" دال على أنها لا تبطل شفعة الغائب وإن تراخى.
    وأما الحديث الآتي وهو قوله:
    وعن ابن عُمَرَ عَنِ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الشفعة كَحَلِّ الْعِقَال" رواهُ ابنُ مَاجَهْ والبَزَّار وزاد "ولا شفعَةَ لِغائِبٍ" وإسْنادهُ ضَعيفٌ.
    وهو قوله: (وعن ابن عمر رضي الله عنه: الشفعة كحل عقال. رواه ابن ماجه والبزار وزاد: "ولا شفعة لغائب" وإسناده ضعيف).
    فإنه لا تقوم به حجة لما ستعرفه ولفظه من روايتهما: "لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل عقال" وضعفه البزار وقال ابن حبان لا أصل له وقال أبو زرعة منكر وقال البيهقي ليس بثابت.
    وفي معناه أحاديث كلها لا أصل لها.
    اختلف الفقهاء في ذلك فعند الهادوية والشافعية والحنابلة أنها على الفور ولهم تقادير في زمان الفور لا دليل على شيء منها.
    ولا شك أنه إذا كان وجه شرعيتها دفع لضرر فإنه يناسب الفورية يقال كيف يبالغ في دفع ضرر الشفيع ويبالغ في ضرر المشتري ببقاء مشتراه معلقاً.
    إلا أنه لا يكفي هذا القدر في إثبات حكم والأصل عدم اشتراط الفورية، وإثباتها يحتاج إلى دليل ولا دليل.
    وقد عقد البيهقي باباً في السنن الكبرى لألفاظ منكرة يذكرها بعض الفقهاء وعدّ منها الشفعة كحل عقال ولا شفعة لصبي ولا لغائب، والشفعة لا ترث ولا تورث، والصبي على شفعته حتى يدرك ولا شفعة لنصراني وليس لليهودي ولا للنصراني شفعة، فعد منها حديث الكتاب.
    باب القراض
    القراض بكسر القاف وهو معاملة العامل بنصيب من الربح.
    وهذه تسميته في لغة أهل الحجاز.
    وتسمى مضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض لما كان الربح يحصل في الغالب بالسفر أو من الضرب في المال وهو التصرف.
    عَنْ صهيبٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "ثَلاثٌ فِيهن الْبَرَكةُ: الْبَيْعُ إلى أجلٍ، والمُقَارضَةُ، وَخَلْطُ البُر بالشعير للْبَيْتِ لا للْبَيْعِ" رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ بإسنادٍ ضعيفٍ.
    (عَنْ صهيبٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "ثَلاثٌ فِيهن الْبَرَكةُ: الْبَيْعُ إلى أجلٍ، والمُقَارضَةُ، وَخَلْطُ البُر بالشعير للْبَيْتِ لا للْبَيْعِ" رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ بإسنادٍ ضعيفٍ).
    وإنما كانت البركة في ثلاث لما في البيع إلى أجل من المسامحة والمساهلة والإعانة للغريم بالتأجيل.
    وفي المقارضة لما في ذلك من انتفاع الناس بعضهم ببعض.
    وخلط البر بالشعير قوتاً لا للبيع لأنه قد يكون فيه غرر وغش.
    وعَنْ حكيمِ بنِ حِزامٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنّهُ كانَ يَشْترطُ عَلى الرَّجلِ إذا أَعْطَاهُ مَالاً مُقارَضةً أَنْ لا تَجْعَلَ مالي في كَبِدٍ رَطْبَةٍ وَلا تَحْمِلَهُ في بَحْر، ولا تَنْزلَ به في بَطْنِ مَسيل، فإنْ فَعَلْتَ شَيْئاً مِنْ ذلك فَقَدْ ضَمِنْتَمالي" رَواهُ الدَّارَقُطْنيُّ ورجالهُ ثِقاتٌ.
    وقالَ مالكٌ في الموطأِ عَنِ الْعلاءِ بنِ عَبْد الرَّحْمن بْنِ يعْقوبَ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَده: "إِنَّهُ عَمِلَ في مالٍ لِعُثمانَ عَلى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُما" وَهُوَ مَوْقوفٌ صحيحٌ.
    (وعَنْ حكيمِ بنِ حِزامٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنّهُ كانَ يَشْترطُ عَلى الرَّجلِ إذا أَعْطَاهُ مَالاً مُقارَضةً أَنْ لا تَجْعَلَ مالي في كَبِدٍ رَطْبَةٍ وَلا تَحْمِلَهُ في بَحْر، ولا تَنْزلَ به في بَطْنِ مَسيل، فإنْ فَعَلْتَ شَيْئاً مِنْ ذلك فَقَدْ ضَمِنْتَ مالي" رَواهُ الدَّارَقُطْنيُّ ورجالهُ ثِقاتٌ.
    وقالَ مالكٌ في الموطأِ عَنِ الْعلاءِ بنِ عَبْد الرَّحْمن بْنِ يعْقوبَ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَده: "إِنَّهُ عَمِلَ في مالٍ لِعُثمانَ عَلى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُما" وَوَ مَوْقوفٌ صحيحٌ).
    لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الإسلام وهو نوع من الإجارة إلا أنه عفى فيها عن جهالة الأجر.
    وكانت الرخصة في ذلك الموضع الرفق بالناس.
    ولها أركان وشروط:
    فأركانها العقد بالإيجاب أو ما في حكمه والقبول أو ما في حكمه وهو الامتثال بين جائِزَي التصرف إلا من مال مسلم لكافر على مال نقد عند الجمهور.
    ولها أحكام مجمع عليها:
    منها أن الجهالة مغتفرة فيها.
    ومنها أنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد.
    واختلفوا إذا كان ديناً فالجمهور على منعه:
    قيل لتجويز إعسار العامل بالدين فيكون من تأخيره عنه لأجل الربح فيكون من الربا المنهي عنه.
    وقيل لأن ما في الذمة يتحول عن الضمانة ويصير أمانة.
    وقيل لأن ما في الذمة ليس بحاضر حقيقة فلم يتعين كونه مال المضاربة.
    ومن شرط المضاربة أن تكون على مال من صاحب المال.
    واتفقوا أيضاً على أنه إذا اشترط أحدهما من الربح لنفسه شيئاً زائداً معيناً فإنه لا يجوز ويلغو.
    ودل حديث حكيم على أنه يجوز لمالك المال أن يحجر العامل عما شاء فإن خالف ضمن إذا تلف المال وإن سلم المال فالمضاربة باقية فيما إذا كان يرجع إلى الحفظ.
    وأما إذا كان الاشتراط لا يرجع إلى الحفظ بل كان يرجع إلى التجارة وذلك بأن ينهاه أن لا يشتري نوعاً معيناً ولا يبيع من فلان فإنه يصير فضولياً إذا خالف فإن أجاز المالك نفذ البيع وإن لم يجز لم ينفذ.
    باب المساقاة والإجارة
    عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُما: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عامَلَ أَهْلَ خَيبرَ بشَطرِ مَا يَخْرجُ مِنْها مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ" مُتّفق عَلَيْهِ.
    وفي رَوايةٍ لهُما: "فَسَأَلُوه أَنْ يقرَّهُمْ بها عَلى أَنْ يكفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "نُقِرُّكُمْ بهَا عَلى ذلك ما شِئنا" فَقَرُّوا بها حتى أَجْلاهُمْ عُمَر.
    ولمُسْلمٍ "أَنَّ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دَفَعَ إلى يهودِ خَيْبَرَ نخْلَ خَيْبَرَ وأَرْضَها عَلى أَنْ يَعْتَمِلُوها مِنْ أَموالهمْ وَلَهُمْ شَطْرُ ثَمَرهَا".
    (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُما: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عامَلَ أَهْلَ خَيبرَ بشَطرِ مَا يَخْرجُ مِنْها مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ" مُتّفق عَلَيْهِ.
    وفي رَوايةٍ لهُما: "فَسَأَلُوه أَنْ يقرَّهُمْ بها عَلى أَنْ يكفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "نُقِرُّكُمْ بهَا عَلى ذلك ما شِئنا" فَقَرُّوا بها حتى أَجْلاهُمْ عُمَر.
    ولمُسْلمٍ "أَنَّ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دَفَعَ إلى يهودِ خَيْبَرَ نخْلَ خَيْبَرَ وأَرْضَها عَلى أَنْ يَعْتَمِلُوها مِنْ أَموالهمْ وَلَهُمْ شَطْرُ ثَمَرهَا".
    الحديث دليل على صحة المساقاة والمزارعة وهو قول[اث] علي عليه السلام[/اث] و[اث]أبي بكس[/اث] و[اث]عمر[/اث] وأحمد وابن خزيمة وسائر فقهاء المحدثين أنهما تجوزان مجتمعتين وتجوز كل واحدة منفردة.
    والمسلمون في جميع الأمصار والأعصار مستمرون على العمل بالمزارعة.
    وقوله ما شئنا دليل على صحة المساقاة والمزارعة وإن كانت المدة مجهولة وقال الجمهور لا تجوز المساقاة والمزارعة إلا في مدة معلومة كالإجازة وتأولوا قوله: "ما شئنا" على مدة العهد وأن المراد نمكنكم من المقام في خيبر ما شئنا ثم نخرجكم إذا شئنا لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان عازماً على إخراج اليهود من جزيرة العرب وفيه نظر.
    وأما المساقاة فإن مدتها معلومة لأنها إجارة وقد اتفقوا على أنها لا تجوز إلا بأجل معلوم.
    وقال ابن القيم في زاد المعاد: "في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عامل أهل خيبر على ذلك واستمر في ذلك إلى حين وفاته ولم ينسخ البتة. واستمر عمل خلفائه الراشدين عليه وليس هذا من باب المؤاجرة في شيء بل من باب المشاركة وهو نظير المضاربة سواء، فمن أباح المضاربة وحرّم ذلك فقد فرق بين متماثلين فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دفع إليهم الأرض على أن يعتملوها من أموالهم ولم يدفع إليها البذر ولا كان يحمل إليهم البذر من المدينة قطعاً فدل على أن هديُه عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض وأنه يجوز أن يكون من العامل وهذا كان هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهدي الخلفاء الراشدين من بعده وكما أنه هو المنقول فهو الموافق للقياس فإن الأرض بمنزلة رأس المال في المضاربة والبذر يجري مجرى سقي الماء ولهذا يموت في الأرض ولا يرجع إلى صاحبه ولو كان بمنزلة رأس المال في المضاربة لاشترط عوده إلى صاحبه وهذا يفسد المزارعة فعلم أن القياس الصحيح هو الموافق لهدي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وخلفائه الراشدين انتهى".
    وقد أشار في كلامه إلى ما يذهب إليه الحنفية والهادوية من أن المساقاة والمزارعة لا تصح وهي فاسدة وتأولوا هذا الحديث بأن خيبر فتحت عنوة فكان أهلها عبيداً له صلى الله عليه وآله وسلم فما أخذه فهو له وما تركه فهو له وهو كلام مردود لا يحسن الاعتماد عليه.
    وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ رضيَ الله عَنْهُ قالَ: سَأَلْتُ رافِعَ بْنَ خَديجٍ عَنْ كِراءِ الأرْضِ بالذهَبِ وَالفِضَّةِ؟ فَقَالَ: لا بأسَ بِهِ إنّما كانَ النّاس يُؤاجِرونَ عَلى عَهْدِ رسولِ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عَلى المَاذِيَانَاتِ وأَقْبَالِ الجدَاولِ وأَشياءَ مِنَ الزَّرْعِ فَيَهْلِكُ هذا وَيَسْلَمُ هذا وَيَسْلمُ هذا ويَهلكُ هذا، ولمْ يَكُنْ للنّاسِ كِرَاءٌ إلا هذا فَلذلكَ زَجَرَ عَنْهُ، فأَمّا شيءٍ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلا بأسَ بِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
    وفيهِ بَيَانٌ لمَا أُجْمِلَ في المتّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ إطْلاقِ النَهْي عَنْ كِراءِ الأرْضِ.
    (وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه) هو الزُّرَقِي الأنصاري من ثقات أهل المدينة (قال: سألت رافع بنَ خَديجٍ عن كِرَاءِ الأرض بالذَّهَبِ والفِضَّةِ فقال: لا بأسَ بِهِ إنما كان الناسُ يؤاجرونَ على عهدِ رسولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على الماذياناتِ) بذال معجمة مكسورة ثم مثناة تحتية ثم ألف ونون ثم ألف ثم مثناة فوقية هي مسايل المياه وقيل ما ينبت حول السواقي (وَأَقْبالِ الجداول) بفتح الهمزة فقاف فموحدة أوائل الجداول (وأشْياءَ من الزرع فيهلك هذا ويسلمُ هذا، ويسلمُ هذا ويهلكُ هذا، ولم يكن للناس كراءٌ إلا هذا فلذلكَ زَجَرَ عنه فأما شيءٍ معلومٌ مضمونٌ فلا بأسَ به. رواه مسلم، وفيه بيان لما أُجْمِلَ في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراءِ الأرض).
    مضمون الحديث دليل على صحة كراء الأرض بأجرة معلومة من الذهب والفضة ويقاس عليهما غيرهما من سائر الأشياء المتقوّمة ويجوز بما يخرج منها من ثلث وربع لما دل عليه الحديث الأول.
    وحديث ابن عمر قال: "قد علمت أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما على الأرْبِعاءِ وشيء من التبن لا أدري ما هو"، أخرجه مسلم.
    وأخرج أيضاً أَنَّ ابن عمر كان يعطي أرضه بالثلث والربع ثم تركه.
    ويأتي ما يعارضه وقوله على الأربعاء جمع ربيع وهي الساقية الصغيرة ومعناه هو وحديث الباب أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على مسايل المياه ورؤُوس الجداول أو هذه القطعة والباقي للعامل فنهوا عن ذلك لما فيه من الغرر فربما هلك ذا دون ذاك.
    وَعَنْ ثابتِ بْنِ الضَّحَاكِ رضي اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عَنِ المزَارعةِ وأَمَرَ بالمؤاجَرَةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضاً.
    (وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عن المزارعة وَأَمَرَ بالمؤاجَرَةِ. رواه مسلم).
    وأخرج مسلم أيضاً "أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء المزارع فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في كراء الأرض فقال رافع لعبد الله: سمعت عَمَّيَّ وكانا شهدا بدراً يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نهى عن كراء الأرض فقال عبد الله: لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن الأرض تكرى ثم خَشِيَ عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدث في ذلك شيئاً لم يكن فترك كراء الأرض".
    وفي النهي عن المزارعة أحاديث ثابتة وقد جمع بينها وبين الأحاديث الدالة على جوازها بوجوه:
    أحسنها أن النهي كان في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليس لهم أرض فأمر الأنصار بالتكرم بالمواساة. ويدل له ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال: "كان لرجال من الأنصار فضول أرض وكانوا يكرونها بالثلث والربع فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وآله: من كانتله أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسكها".
    وهذا كما نهوا عن ادخار لحوم الأضحية ليتصدقوا بذلك ــــ ثم بعد توسع حال المسلمين زال الاحتياج فأبيح لهم المزارعة وتصرف المالك في ملكه بما شاء من إجارة وغيرها.
    ويدل على ذلك ما وقع من المزارعة في عهده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وعهد الخلفاء من بعده ومن البعيد غفلتهم عن النهي وترك إشاعة رافع له في هذه المدة وذكره في آخر خلافة معاوية.
    قال الخطابي: قد عقل المعنى ابن عباس وأنه ليس المراد تحريم المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض وإنما أريد بذلك أن يتمانحوا وأن يرفق بعضهم ببعض انتهى.
    وعن زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اختلفا فقال: "إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع" كأن زيداً يقول إن رافعاً اقتطع الحديث فروى النهي غير راو أوّله فأخلَّ بالمقصود.
    وأما الاعتذار عن جهالة الأجرة فقد صح في المرضعة بالنفقة والكسوة مع الجهالة قدراً أو لأنه كالمعلوم جملة لأن الغالب تقارب حال الحاصل وقد حد بجهة الكمية أعني النصف والثلث وجاء النص فقطع التكلفات.
    وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: "احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وَأَعْطَى الذي حَجَمَهُ أَجْرَهُ وَلَوْ كانَ حَرَاماً لَمْ يُعْطِهِ" رَوَاهُ الْبُخَاري.
    (وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: "احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وَأَعْطَى الذي حَجَمَهُ أَجْرَهُ وَلَوْ كانَ حَرَاماً لَمْ يُعْطِهِ" رَوَاهُ الْبُخَاري).
    وفي لفظ في البخاري: "ولو علم كراهية لم يعطه".
    وهذا من قول ابن عباس كأنه يريد الرد على من زعم أنه لا يحل إعطاء الحجام أجرته وأنه حرام.
    وقد اختلف العلماء في أجرة الحجام فذهب الجمهور إلى أنه حلال احتجوا بهذا الحديث وقالوا: هو كسب فيه دناءة وليس بمحرم وحملوا النهي على التنزيه ومنهم من ادعى النسخ وأنه كان حراماً ثم أبيح وهو صحيح إذا عرف التاريخ.
    وذهب أحمد وآخرون إلى أنه يكره للحر الاحتراف بالحجامة ويحرم عليه الإنفاق على نفسه من أجرتها ويجوز له الإنفاق على الرقيق والدواب وحجتهم ما أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن برجال ثقات من حديث محيصة: أنه سأل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن كسب الحجام فنهاه فذكر له الحاجة فقال: "اعلفه نواضحك". وأباحوه للعبد مطلقاً.
    وفيه جواز التداوي بإخراج الدم وغيره وهو إجماع.
    وَعَنْ رَافِع بنِ خديجٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كَسْبُ الحجّامِ خبيثٌ" رَوَاهُ مُسْلمٌ.
    (وَعَنْ رَافِع بنِ خديجٍ رضي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كَسْبُ الحجّامِ خبيثٌ" رَوَاهُ مُسْلمٌ).
    الخبيث ضد الطيب وهل يدل على تحريمه؟ الظاهر أنه لا يدل له فإنه تعالى قال: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} فسمى رذال المال خبيثاً ولم يحرمه وأما حديث: "من السحت كسب الحجام" فقد فسره هذا الحديث وأنه أريد بالسحت عدم الطيب.
    وأيد ذلك إعطاؤه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الحجام أجرته.
    قال ابن العربي: يجمع بينه وبين إعطائه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الحجام أجرته بأن محل الجواز ما إذا كانت الأجرة على عمل معلوم ومحل الزجر ما إذا كانت الأجرة على عمل مجهول.
    قلت: هذا بناء على أن ما يأخذه حرام.
    وقال ابن الجوزي: إنما كرهت لأنها من الأشياء التي تجب على المسلم للمسلم إعانته بها عند الاحتياج فما كان ينبغي أن يأخذ على ذلك أجراً.
    وَعَنْ أَبي هُريرة رضي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "قالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: ثَلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقيامةِ: رَجُلٌ أَعْطى بي ثمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُراً فَأَكل ثمنَهُ، وَرجلٌ استأجَرَ أجيراً فاستوفى مِنْه وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
    (وَعَنْ أَبي هُريرة رضي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "قالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: ثَلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقيامةِ: رَجُلٌ أَعْطى بي ثمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُراً فَأَكل ثمنَهُ، وَرجلٌ استأجَرَ أجيراً فاستوفى مِنْه وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
    فيه دلالة على شدة جرم من ذكر وأنه تعالى يخصمهم يوم القيامة نيابة عمن ظلموه.
    وقوله: أعطى بي أي حلف باسمي وعاهد أو أعطى الأمان باسمي وبما شرعته من ديني.
    وتحريم الغدر والنكث مجمع عليه وكذا بيع الحر مجمع على تحريمه.
    وقوله: استوفى منه أي استكمل منه العمل ولم يعطه الأجرة فهو أكل لماله بالباطل مع تعبه وكده.
    وَعَنِ ابنِ عَبّاسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهما أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْراً كِتابُ الله" أَخْرَجَهُ الْبُخَاري.
    (وَعَنِ ابنِ عَبّاسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهما أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْراً كِتابُ الله" أَخْرَجَهُ الْبُخَاري).
    وقد عارضه ما أخرجه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت ولفظه: "علّمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إليّ رجل منهم قوساً فقلت: ليست لي بمال فأرمي عليها في سبيل الله فأتيته فقلت: يا رسول الله أهدي إليَّ قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست لي بمال فأرمي عليها في سبيل الله. فقال: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها".
    فاختلف العلماء في العمل بالحديثين:
    فذهب الجمهور و مالك والشافعي إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن سواء كان المتعلم صغيراً أو كبيراً ولو تعين تعليمه على المعلم عملاً بحديث ابن عباس ويؤيده ما يأتي في النكاح من جعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تعليم الرجل لامرأته القرآن مهراً لها.
    قالوا: وحديث عبادة لا يعارض حديث ابن عباس إذ حديث ابن عباس صحيح وحديث عبادة في رواته مغيرة بن زياد مختلف فيه واستنكر أحمد حديثه وفيه الأسود بن ثعلبة فيه مقال فلا يعارض الحديث الثابت.
    قالوا: ولو صح فإنه محمول على أن عبادة كان متبرعاً بالإحسان وبالتعليم غير قاصد لأخذ الأجرة فحذره النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من إبطال أجره وتوعده.
    وفي أخذ الأجرة من أهل الصفة بخصوصهم كراهة ودناءة لأنهم ناس فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ المال منهم مكروه.
    وذهب الهادوية والحنفية وغيرهما إلى تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن مستدلين بحديث عبادة وفيه ما عرفت فيه قريباً.
    نعم استطرد البخاري ذكر أخذ الأجرة على الرقية في هذا الباب فأخرج من حديث أبي سعيد في رقية بعض الصحابة لبعض العرب وأنه لم يرقه حتى شرط عليه قطيعاً من غنم فتفل عليه وقرأ عليه {الحمد لله رب العالمين} فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة أي علة فأوفاه ما شرط ولما ذكروا ذلك لرسول الله قال: "قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهماً".
    وذكر البخاري لهذه القصة في هذا الباب وإن لم تكن من الأجرة على التعليم وإنما فيها دلالة على جواز أخذ العوض في مقابلة قراءة القرآن لتأييد جواز أخذ الأجرة على قراءة القرآن تعليماً أو غيره، إذ لا فرق بين قراءته للتعليم وقراءته للطب.
    وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَعطُوا الأجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يجفَّ عَرَقُهُ" رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ.
    وَفي البابِ عَنْ أَبي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عِنْدَ أَبي يَعْلَى والبَيْهَقيِّ وَجَابرٍ عِنْدَ الطّبرانيِّ وَكُلّها ضِعافٌ.
    (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَعطُوا الأجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يجفَّ عَرَقُهُ" رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ.
    وَفي البابِ عَنْ أَبي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عِنْدَ أَبي يَعْلَى والبَيْهَقيِّ وَجَابرٍ عِنْدَ الطّبرانيِّ وَكُلّها ضِعافٌ).
    لأن في حديث ابن عمر شرقي بن قطامي ومحمد بن زياد الراوي عنه وكذا في مسند أبي يعلى والبيهقي.
    وتمامه عند البيهقي: "وأعلمه أجره وهو في عمله" قال البيهقي عقيب سياقه بإسناده: وهذا ضعيف.
    وَعَنْ أَبي سعيدٍ الخدْريِّ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنِ استَأجَرَ أَجيراً فَلْيُسَمِّ لَهُ أُجْرَتَهُ" رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاق وَفيهِ انقِطاعٌ ووصَلَهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ طريقِ أَبي حَنيفةَ.
    (وَعَنْ أَبي سعيدٍ الخدْريِّ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنِ استَأجَرَ أَجيراً فَلْيُسَمِّ لَهُ أُجْرَتَهُ" رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاق وَفيهِ انقِطاعٌ ووصَلَهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ طريقِ أَبي حَنيفةَ).
    قال البيهقي: كذا رواه أبو حنيفة وكذا في كتابي عن أبي هريرة وقيل من وجه آخر ضعيف عن[تض] ابن مسعود[/تض].
    وفي الحديث دليل على ندب تسمية أجرة الأجير على عمله، لئلا تكون مجهولة فتؤدي إلى الشجار والخصام.
    باب إحياء الموات
    الموات بفتح الميم والواو الخفيفة الأرض التي لم تعمر شبهت العمارة بالحياة وتعطيلها بعدم الحياة وإحياؤها عمارتها.
    واعلم أن الإحياء ورد عن الشارع مطلقاً وما كان كذلك وجب الرجوع فيه إلى العرف لأنه قد بين مطلقات الشارع كما في قبض المبيعات والحرز في السرقة مما يحكم به العرف.
    والذي يحصل به الإحياء في العرف أحد خمسة أسباب:
    تبييض الأرض، وتنقيتها للزرع، وبناء الحائط على الأرض، وحفر الخندق القعير الذي لا يطلع من نزله إلا بمطلع.
    هذا كلام الإمام يحيى.
    عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْها أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "مَنْ عَمّرَ أَرْضاً لَيْسَتْ لأحَدٍ فَهُو أَحَقُّ بهَا" قَالَ عُرْوَةُ: وَقَضَى بهِ عُمَرُ في خلافَتِهِ، رَوَاهُ البُخَاريُّ.
    (عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من عَمّرَ أَرْضاً) بالفعل الماضي ووقع أعمر في رواية والصحيح الأول (لَيْسَتْ لأحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بها" قال عروة: وقضى به عمر في خلافته. رواه البخاري).
    وهو دليل على أن الإحياء تَمَلُّكٌ إن لم يكن ملكها مسلم أو ذمي أو ثبت فيها حق للغير.
    وظاهر الحديث أنه لا يشترط في ذلك إذن الإمام وهو قول الجمهور.
    وعن أبي حنيفة أنه لا بد من إذنه.
    ودليل الجمهور هذا الحديث والقياس على ماء البحر والنهر وما صيد من طير وحيوان وأنهم اتفقوا على أنه لا يشترط فيه إذن الإمام.
    وأما ما تقدم عليه يد لغير معين كبطون الأودية فلا يجوز إلا بإذن الإمام مما ليس فيه ضرر لمصلحة عامة ذكره بعض الهادوية.
    وقال المؤيد وأبو حنيفة: لا يجوز إحياؤها بحال لجريها مجرى الأملاك لتعلق سيول المسلمين بها إذ هي مجرى السيول.
    وقال الإمام المهدي ــــ وهو قوي ــــ: فإن تحول عنها جَرْيُ الماء جاز إحياؤها بإذن الإمام لانقطاع الحق وعدم تعين أهله وليس للإمام الإذن مع ذلك إلا لمصلحة عامة لا ضرر فيها.
    ولا يجوز الإذن لكافر بالإحياء لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "عاديُّ الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم" والخطاب للمسلمين. وقوله: وقضى به عمر، قيل: هو مرسل لأن عروة ولد في آخر خلافة عمر.
    وَعَنْ سَعيد بنِ زَيْدٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "مَنْ أَحْيا أَرْضاً مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ" رَوَاهُ الثّلاثةُ وَحَسّنَهُ الترمذي وَقالَ: رُوي مُرْسلاً، وَهو كما قال. واخْتُلفَ في صحابيّهِ فقيلَ: جَابرٌ، وَقيلَ: عائشة، وَقيلَ: عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ، والرَّاجحُ الأوَّلُ.
    (وعن سعيد بن زيد) تقدمت ترجمته في كتاب الوضوء (عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ أَحْيَا أرْضاً مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ". رواه الثلاثة وحسنه الترمذي وقال: رُوِيَ مرسلاً وهو كما قال واختلف في صحابيه) أي في راويه من الصحابة: (فقيل جابر وقيل عائشة وقيل عبد الله بن عمر. والراجح) من الثلاثة الأقوال (الأول):
    وفيه أن رجلين اختصما إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غرس أحدهما نخلاً في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها قال: فلقد رأيتها وإنها تضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها.
    وتقدم الكلام على فقهه وأنه: "ليس لعرق ظالم حق".
    وَعَنِ ابنِ عَبّاسٍ أَنَّ الصَّعبَ بْنَ جَثّامَةَ أَخبَرَهُ أَنَّ النّبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا حِمى إلا لله وَلرَسُولهِ" رَوَاهُ البُخَاريُّ.
    (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب) بفتح الصاد المهملة وسكون العين المهملة فموحدة (ابن جثامة) بفتح الجيم فمثلثة مشدّدة (أخبره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا حِمَى إلا للَّهِ ولِرَسُولهِ". رواه البخاري).
    الحمى يقصر ويمد والقصر أكثر وهو المكان المحمي وهو خلاف المباح ومعناه أن يمنع الإمام الرعي في أرض مخصوصة لتختص برعيها إبل الصدقة مثلاً.
    وكان في الجاهلية إذ أراد الرئيس أن يمنع الناس من محل يريد اختصاصه استعوى كلباً من مكان عال فإلى حيث ينتهي صوته حماه من كل جانب فلا يرعاه غيره ويرعى هو مع غيره فأبطل الإسلام ذلك وأثبت الحمى لله ولرسوله.
    وقال الشافعي يحتمل الحديث شيئين: أحدهما: ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا مما حماه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
    والآخر: معناه إلا على مثل ما حماه عليه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
    فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو الخليفة خاصة.
    ورجح هذا الثاني بما ذكره البخاري عن الزهري تعليقاً: أن عمر حمى الشرف والربذة.
    وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن نافع عن ابن عمر: أن عمر حمى الربذة لإبل الصدقة.
    وقد ألحق بعض الشافعية ولاة الأقاليم في أنهم يحمون لكن بشرط أن لا يضر بكافة المسلمين.
    واختلف هل يحمي الإمام لنفسه أو لا يحمي إلا لما هو للمسلمين؟
    فقال المهدي: كان له صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يحمي لنفسه لكنه لم يملك لنفسه ما يحمي لأجله.
    وقال الإمام يحيى والفريقان: لا يحمي إلا لخيل المسلمين ولا يحمي لنفسه ويحمي لإبل الصدقة ولمن ضعف من المسلمين عن الانتجاع لقوله: "لا حمى إلا لله" الحديث.
    ولا يخفى أنه لا دليل فيه على الاختصاص أما قصة عمر فإنها دالة على الاختصاص ولفظها فيما أخرجه أبو عبيد وابن أبي شيبة والبخاري والبيهقي عن أسلم: (أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يسمى هنياً على الحمى فقال له: يا هَنِيّ اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة. وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياك ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه يقول يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر عَليَّ من الذهب والورق. وايم الله إنهم يرون أني ظلمتهم وإنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على الناس في بلادهم) انتهى.
    هذا صريح أنه لا يحمى الإمام لنفسه.
    وعنْه رَضيَ الله تَعَالى عَنْهُ قالَ: قالَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وابْنُ مَاجَهْ.
    وَلَهُ مِنْ حَديثِ أَبي سَعيد مِثْلُهُ وَهُوَ في الموَطّأِ مُرْسَلٌ.
    (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا ضرر ولا ضرار"، رواه أحمد وابن ماجه. وله) أي: لابن ماجه (من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ مرسل).
    وأخرجه ابن ماجه أيضاً والبيهقي من حديث عبادة بن الصامت وأخرجه مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرسلاً بزيادة: "من ضارّ ضاره الله ومن شاق شاقّ الله عليه".
    وأخرجه بها الدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعاً.
    وأخرجه عبد الرزاق وأحمد عن ابن عباس أيضاً وفيه زيادة: "وللرجل أن يضع خشبته في حائط جاره والطريق الميتاء سبعة أذرع".
    وقوله لا ضرر: الضرر ضد النفع يقال: ضره ضراً وضراراً وأضر به يضر إضراراً ومعناه: لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه.
    والضرار فعال من الضر أي لا يجازيه بإضراره بإدخال الضر عليه فالضر ابتداء الفعل والضرر الجزاء عليه.
    قلت: يبعده جواز الانتصار لمن ظلم {ولمن انتصر بعد ظمه} الآية {وجزاء سيئة سيئة مثلها}.
    وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به، والضرار أن تضره من غير أن تنتفع وقيل: هما بمعنى وتكرارهما للتأكيد.
    وقد دل الحديث على تحريم الضرر لأنه إذا نفى ذاته دل على النهي عنه لأن النهي لطلب الكف عن الفعل وهو يلزم منه عدم ذات الفعل فاستعمل اللازم في الملزوم.
    وتحريم الضرر معلوم عقلاً وشرعاً إلا ما دل الشرع على إباحته رعاية للمصلحة التي تربو على المفسدة وذلك مثل إقامة الحدود ونحوها وذلك معلوم في تفاصيل الشريعة.
    ويحتمل أن لا تسمى الحدود من القتل والضرب ونحوه ضرراً من فاعلها لغيره لأنه إنما امتثل أمر الله له بإقامة الحد على العاصي فهو عقوبة من الله تعالى لا أنه إنزال ضرر من الفاعل ولذا لا يذم الفاعل لإقامة الحد بل يمدح على ذلك.
    وَعَن سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ أَحاطَ حَائِطاً على أَرْضٍ فهيَ لَهُ" رَوَاهُ أَبُو داوُدَ وَصَحّحَهُ ابنُ الجَارُودِ.
    (وَعَن سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ أَحاطَ حَائِطاً على أَرْضٍ فهيَ لَهُ" رَوَاهُ أَبُو داوُدَ وَصَحّحَهُ ابنُ الجَارُودِ).
    وتقدم أن من أعمر أرضاً ليست لأحد فهي له. وهذا الحديث بيّن نوعاً من أنواع العمارة ولا بد من تقييد الأرض بأنه لا حق فيها لأحد كما سلف.
    وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "مَنْ حَفَرَ بئراً فَلَهُ أَربعونَ ذِرَاعاً عَطَناً لمَاشِيَتِهِ" رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ بإسْنادٍ ضعيفٍ.
    (وعن عبد الله بن مُغَفّلٍ رضيَ الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ حَفَرَ بِئراً فَلَهُ أَرْبعُونَ ذرَاعاً عَطَناً" بفتح العين المهملة وفتح الطاء فنون. في القاموس العطن محركة وطن الإبل ومبركها حول الحوض "لمَاشِيَتِهِ" رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف).
    لأن فيه إسماعيل بن سلم وقد أخرجه الطبراني من حديث أشعث عن الحسن.
    وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد: "حريم البئر البدىء خمسة وعشرون ذراعاً وحريم البئر العاديّ خمسون ذراعاً".
    وأخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن المسيب عنه وأعله بالإرسال وقال: من أسنده فقد وهم، وفي سنده[تض] محمد بن يوسف المقري[/تض] شيخ شيخ الدارقطني وهو متهم بالوضع.
    ورواه البيهقي من طريق يونس عن الزهري عن ابن المسيب مرسلاً وزاد فيه: "وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها".
    وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة موصولاً ومرسلاً والموصول فيه[تض] عمر بن قيس[/تض] ضعيف.
    والحديث دليل على ثبوت الحريم للبئر والمراد بالحريم ما يمنع منه المحيي والمحتفر لإضراره.
    وفي النهاية سُمِّيَ بالحريم لأنه يحرم منه صاحبه منه ولأنه يحرم على غيره التصرف فيه والحديث نص في حريم البئر وظاهر حديث عبد الله أن العلة في ذلك هي ما يحتاج إليه صاحب البئر عند سقي إبله لاجتماعها على الماء.
    وحديث أبي هريرة دال على أن العلة في ذلك هو ما يحتاج إليه البئر لئلا تحصل المضرة عليها بقرب الإحياء منها ولذلك اختلف الحال في البديء والعاديِّ.
    والجمع بين الحديثين أنه يقدم ما يحتاج إليه إما لأجل السقي للماشية أو لأجل البئر.
    وقد اختلف العلماء في ذلك.
    فذهب الهادي والشافعي وأبو حنيفة إلى أن حريم البئر الإسلامية أربعون وذهب أحمد إلى أن الحريم خمسة وعشرون.
    وأما العيون فذهب الهادي إلى أن حريم العين الكبيرة الفوارة خمسمائة ذراع من كل جانب استحساناً.
    قيل: وكأنه نظر إلى أرض رخوة تحتاج إلى ذلك القدر وأما الأرض الصلبة فدون ذلك.
    والدار المنفردة حريمها فناؤها وهو مقدار طول جدار الدار وقيل: ما تصل إليه الحجارة إذا انهدمت وإلى هذا ذهب زيد بن علي وغيره.
    وحريم النهر قدر ما يلقى منه كسحه وقيل: مثل نصفه من كل جانب وقيل: بل بقدر أرض النهر جميعاً.
    وحريم الأرض ما تحتاج إليه وقت عملها وإلقاء كسحها وكذا المسيل حريمه مثل البئر على الخلاف.
    وكل هذه الأقوال قياس على البئر بجامع الحاجة وهذا في الأرض المباحة.
    وأما الأرض المملوكة فلا حريم في ذلك بل كل يعمل في ملكه ما شاء.
    وَعَنْ عَلْقَمَةَ بنِ وائلٍ عَنْ أَبيهِ: "أَنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَقْطَعَهُ أَرْضاً بحضرَمَوْتَ" رَوَاهُ أَبو دَاوُدَ والترْمذِي وصحّحَهُ ابنُ حِبّانَ.
    (وَعَنْ عَلْقَمَةَ بنِ وائلٍ عَنْ أَبيهِ: "أَنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَقْطَعَهُ أَرْضاً بحضرَمَوْتَ" رَوَاهُ أَبو دَاوُدَ والترْمذِي وصحّحَهُ ابنُ حِبّانَ) ، وصححه أيضاً الترمذي والبيهقي.
    ومعناه أنه خصه ببعض الأرض الموات فيختص بها ويصير أولى بها بإحيائه ممن لم يسبق إليها بالإحياء.
    واختصاص الإحياء بالموات متفق عليه في كلام الشافعية والهادوية وغيرهم.
    وحكى القاضي عياض: "أن الإقطاع تسويغ الإمام من مال الله شيئاً لمن يراه أهلاً لذلك.
    قال: وأكثر ما يستعمل في الأرض وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يحوزه إما بأن يملكه إياه فيعمره وإما بأن يجعل له غلتها مدة.
    قال السبكي والثاني: هو الذي يسمى في زماننا هذا إقطاعاً ولم أر أحداً من أصحابنا ذكره، وتخريجه على طريقة فقهية مشكل والذي يظهر أنه يحصل للمقطع بذلك اختصاص كاختصاص المتحجر ولكنه لا يملك الرقبة بذلك" انتهى.
    وبه جزم المحب الطبري.
    وادعى الأوزاعي نفي الخلاف في جواز تخصيص الإمام بعض الجند بغلة أرض إذا كان مستحقاً لذلك.
    قال ابن التين: إنما يسمى إقطاعاً إذا كان من أرض أو عقار وإنما يقطع من الفيء ولا يقطع من حق مسلم ولا معاهد. قال: وقد يكون الإقطاع تمليكاً وغير تمليك. وأما ما يقطع في أرض اليمن في هذه الأزمنة المتأخرة من إقطاع جماعة من أعيان الآل قُرىَ من البلاد العشرية يأخذون زكاتها وينفقونها على أنفسهم مع غناهم فهذا شيء محرم لم تأت به الشريعة المحمدية بل أتت بخلافه وهو تحريم الزكاة على آل محمد وتحريمها على الأغنياء من الأمة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
    وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَقْطَعَ الزبَيْرِ حُضْرَ فَرَسِهِ فَأَجْرَى الْفَرَسَ حَتى قامَ ثُمَّ رَمَى بَسوْطِهِ، فَقَالَ: "أَعْطُوهُ حَيْثُ بَلَغَ السّوْطُ" رَوَاهُ أَبُو داوُدَ وفيه ضَعْفٌ.
    (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أقطع الزبير حُضْرَ) بضم الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة فراء (فرسه) أي ارتفاع الفرس في عدوه (فأَجَرَى الفرس حتى قامَ ثم رَمى بسوطِهِ فقال: "أَعْطُوهُ حَيْثُ بلَغَ السّوْطُ" رواه أبو داود وفيه ضعف) لأن فيه العمري المكبر وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وفيه مقال.
    وأخرجه أحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر وفيه أن الإقطاع كان من أموال بني النضير.
    قال في البحر: وللإمام إقطاع الموات لإقطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزبير حضر فرسه ولفعل أبي بكر وعمر.
    وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحابةِ رَضي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: غَزَوْتُ مَعَ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَسَمِعْتُهُ يقُولُ: "النّاس شُرَكاءُ في ثلاثةٍ: في الكَلإ والماءِ والنّار" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو داودَ وَرجالُهُ ثِقاتٌ.
    (وعن رجل من الصحابة قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول: "النّاسُ شُرَكاءُ في ثلاثةٍ: في الْكَلإ) مهموز ومقصور (والْمَاءِ والنّارِ رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات).
    وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "ثلاث لا يمنعن: الكلأ والماء والنار" وإسناده صحيح.
    وفي الباب روايات كثيرة لا تخلو من مقال ولكن الكل ينهض على الحجية.
    ويدل للماء بخصوصه أحاديث في مسلم وغيره.
    والكلأ النبات رطباً كان أو يابساً وأما الحشيش والهشيم فمختص باليابس وأما الخلا مقصور غير مهموز فيختص بالرطب ومثله العشب.
    والحديث دليل على عدم اختصاص أحد من الناس بأحد الثلاثة وهو إجماع في الكلأ في الأرض المباحة والجبال التي لم يحرزها أحد فإنه لا يمنع من أخذ كلئها أحد إلا ما حماه الإمام كما سلف.
    وأما النابت في الأرض المملوكة والمتحجرة ففيه خلاف بين العلماء فعند الهادوية وغيرها أن ذلك مباح أيضاً وعموم الحديث دليل لهم.
    وأما النار فاختلف في المراد بها فقيل: أريد بها الحطب الذي يحطبه الناس وقيل: أريد بها الاستصباح منها والاستضاءة بضوئها وقيل: الحجارة التي تورى منها النار إذا كانت في موات.
    والأقرب أنه أريد بها النار حقيقة فإن كانت من حطب مملوك فقيل: حكمها حكم أصلها.
    وقيل: يحتمل أنه يأتي فيها الخلاف الذي في الماء وذلك لعموم الحاجة وتسامح الناس في ذلك.
    وأما الماء فقد تقدم الكلام فيه وأنه يحرم منع المياه المجتمعة من الأمطار في أرض مباحة وأنه ليس أحد أحق بها من أحد إلا لقرب أرضه منها، ولو كان في أرض مملوكة فكذلك إلا أن صاحب الأرض المملوكة أحق به يسقيها ويسقي ماشيته ويجب بذله لما فضل من ذلك. فلو كان في أرضهأو داره عين نابعة أو بئر احتفرها فإنه لا يملك الماء بل حقه فيه تقديمه في الانتفاع به على غيره وللغير دخول أرضه كما سلف.
    فإن قيل: فهل يجوز بيع العين والبئر نفسهما قيل: يجوز بيع العين والبئر لأن النهي وارد عن بيع فضل الماء لا البئر والعيون في قرارهما فلا نهي عن بيعهما والمشتري لهما أحق بمائهما بقدر كفايته وقد ثبت شراء عثمان لبئر رومة من اليهودي بأمره صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وسبلها للمسلمين.
    فإن قيل: إذا كان الماء لا يملك فكيف تحجر اليهودي البئر حتى باعها من عثمان؟
    قيل: هذا كان في أوّل الإسلام حين قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وقبل تَقَرُّرِ الأحكام على اليهودي، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أبقاهم أوّل الأمر على ما كانوا عليه وقرّرهم على ما تحت أيديهم.
    باب الوقف
    الوقف لغة الحبس يقال وقفت كذا أي حبسته وهو شرعاً جنس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح.
    عَنْ أَبي هُريرةَ رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "إذا مَاتَ ابنُ آدمَ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلَهُ إلا مِنْ ثَلاثٍ: "صَدَقَةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
    (عَنْ أَبي هُريرةَ رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "إذا مَاتَ ابنُ آدمَ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلَهُ إلا مِنْ ثَلاثٍ: "صَدَقَةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
    ذكره في باب الوقف لأنه فسر العلماء الصدقة الجارية بالوقف وكان أوّل وقف في الإسلام وقف عمر رضي الله عنه الآتي حديثه. كما أخرجه ابن أبي شيبة: أن أوّل حبس في الإسلام صدقة عمر، قال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل الفقه خلافاً في جواز وقف الأرضين.
    وأشار الشافعي أنه من خصائص الإسلام لا يعلم في الجاهلية.
    وألفاظه: وقفت وحبست وسبلت وأبدت، فهذه صرائح ألفاظه. وكنايته: تصدقت واختلف في (حرمت) فقيل صريح وقيل غير صريح.
    وقوله أو علم ينتفع به: المراد النفع الأخروي فيخرج ما لا نفع فيه كعلم النجوم من حيث أحكام السعادة وضدها.
    ويدخل فيه من ألف علماً نافعاً أو نشره فبقي من يرويه عنه وينتفع به.
    أو كتب علماً نافعاً ولو بالأجرة مع النية أو وقف كتباً.
    ولفظ الولد شامل للأنثى والذكر وشرط صلاحه ليكون الدعاء مجاباً.
    والحديث دليل على أنه ينقطع أجر كل عمل بعد الموت إلا هذه الثلاثة فإنه يجري أجرها بعد الموت ويتجدد ثوابها. قال العلماء لأن ذلك كسبه.
    وفيه دليل على أن دعاء الولد لأبويه بعد الموت يلحقهما وكذلك غير الدعاء من الصدقة وقضاء الدين وغيرهما.
    واعلم أنه قد زيد على هذه ثلاثة ما أخرجه ابن ماجه بلفظ: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً نشره وولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته".

    ووردت خصال أخر تبلغ عشراً ونظمها الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى قال:
    [شع] إذا مات ابن آدم ليس يجري
    عليه من فعال غير عشر[/شع]
    [شع] علوم بثها ودعاء نجل
    وغرس النخل والصدقات تجري[/شع]
    [شع] وراثة مصحف ورباط ثغر
    وحفر البئر أو إجراء نهر[/شع]
    [شع] وبيت للغريب بناه يأوى
    إليه أو بناء محل ذكر[/شع]
    وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: أَصابَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أرضاً بخَيْبَرَ فَأَتى النّبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يسْتَأمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رسولَ اللَّهِ إنِي أَصَبْتُ أَرْضاً بخَيْبَرَ لَمْ أُصبْ مالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدي مِنْهُ فَقَالَ: "إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بها" قالَ: فَتَصدَّقَ بها عُمَرُ: أَنَّهُ لا يُباعُ أَصْلُهَا وَلا يُورَثُ وَلا يُوهَبُ، فَتَصَدَّقَ بها في الفُقَرَاءِ وفي الْقرْبى وفي الرِّقابِ وفي سبيلِ اللَّهِ وابنِ السّبيلِ والضَّيْفِ، لا جُنَاحَ عَلىمَنْ وَلِيَها أَنْ يَأكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ ويُطْعِمَ صَديقاً غَيْرَ مُتَمَوِّل مالا. مُتّفقٌ عَلَيه واللّفْظُ لمسْلِمٍ.
    وفي روايةٍ للبُخاري: تَصَدَّقَ بأَصْلِهَا لا يُبَاعُ وَلا يوهبُ وُلكنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ.
    (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال أصابَ عمرُ أرضاً بخَيبَر) في رواية النسائي أنه كان لعمر مائة رأس فاشترى بها مائة سهم من خيبر (فأَتى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه فقالصَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
    "إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أصْلَها وتصَدَّقْتَ بها" قال: فتصدق بها عمر: وأَنّهُ لا يُبَاعُ أصْلُها ولا يُورَثُ ولا يُوهَبُ فَتَصَدّقَ بها عَلى الفقراء الْقُرْبى) أي ذوي قربى عمر (وفي الرِّقابِ وفي سَبيلِ الله وابْنِ السبّيل والضَّيْفِ لا جُنَاحَ عَلىَ مَنْ وليَهَا أَنْ يأكُلَ بالمَعْرُوفِ أو يُطْعِمَ صَديقاً غَيْرَ مُتَمَوّلٍ مَالاً" متفق عليه واللفظ لمسلم وفي رواية للبخاري: "تَصَدّقْ بأَصْله لا يُبَاعُ ولا يُوهَبُ ولكنْ يُنْفق ثُمَرُهُ").
    أفادت رواية البخاري أن كونه لا يباع ولا يوهب من كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأن هذا شأن الوقف، وهو يدفع قول أبي حنيفة بجواز بيع الوقوف.
    قال أبو يوسف: إنه لو بلغ أبا حنيفة هذا الحديث لقال به ورجع عن بيع الوقف.
    قال القرطبي: رد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه.
    وقوله: "أن يأكل منها من وليها بالمعروف" قال القرطبي: جرت العادة أن العامل يأكل من ثمرة الوقف حتى لو اشترط الواقف أن لا يأكل منه لاستقبح ذلك منه.
    والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة وقيل: القدر الذي يدفع الشهوة وقيل: المراد أن يأخذ منه بقدر عمله والأول أولى.
    وقوله: "غير متمول" أي غير متخذ منها مالاً أي ملكاً والمراد لا يتملك شيئاً من رقابها ولا يأخذ من غلتها ما يشتري بدله ملكاً بل ليس له إلا ما ينفقه.
    وزاد أحمد في روايته: أن عمر أوصى بها إلى حفصة أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من آل عمر، ونحوه عند الدارقطني.
    وَعَنْ أَبي هُريرة رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عنْهُ قالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عُمَرَ عَلى الصَّدَقةِ، الحديث وَفيهِ: "وَأَمّا خَالدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وأَعْتَادَهُ في سَبيلِ اللَّهِ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
    (وَعَنْ أَبي هُريرة رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عنْهُ قالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عُمَرَ عَلى الصَّدَقةِ، الحديث وَفيهِ: "وَأَمّا خَالدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وأَعْتَادَهُ في سَبيلِ اللَّهِ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ).
    تقدم تفسير الأعتاد، والحديث دليل على صحة وقف العين عن الزكاة وأنه يأخذ بزكاته آلات للحرب للجهاد في سبيل الله وعلى أنه يصح وقف العروض.
    وقال أبو حنيفة: لا يصح لأن العروض تبذل وتغير والوقف موضوع على التأبيد والحديث حجة عليه ودل على صحة وقف الحيوان لأنها قد فسرت الأعتاد بالخيل وعلى جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية.
    وتعقب ابن دقيق العيد جميع ما ذكر بأن القصة محتملة لما ذكر ولغيره فلا ينتهض الاستدلال بها على شيء مما ذكر قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصاداً وعدم تصرف ولا يكون وقفاً.
    باب الهبة، والعمرى، والرقبى
    الهبة ــــ بكسر الهاء ــــ مصدر وهبت وهي شرعاً تمليك عين بعقد على غير عوض معلوم في الحياة ويطلق على الشيء الموهوب ويطلق على أعم من ذلك.
    عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: أَنَّ أَباهُ أَتى بهِ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَالَ: إنِّي نَحَلْتُ ابني هذا غُلاماً كَانَ لي، فَقَالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نحَلْتَهُ مِثْلَ هذا؟" فَقَالَ لا، فَقَالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فَارْجِعْهُ" وفي لَفْظٍ: فَانْطلقَ أَبي إلى النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لِيشْهِدَهُ عَلى صَدَقتي فَقَالَ: "أَفَعَلْتَ هذا بولَدِكَ كُلِّهِمْ؟" قَالَ: لا، قالَ: "اتّقُوا الله واعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادكُمْ" فَرَجعَ أَبي فرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
    وفي روايةٍ لمسْلِمٍ قالَ: "فَأَشْهدْ عَلى هذا غَيري" ثمَّ قالَ: "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لك في الْبِر سَواءً؟" قالَ: بلى، قالَ: "فَلا إذنْ".
    (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: أَنَّ أَباهُ أَتى بهِ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَالَ: إنِّي نَحَلْتُ ابني هذا غُلاماً كَانَ لي، فَقَالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نحَلْتَهُ مِثْلَ هذا؟" فَقَالَ لا، فَقَالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فَارْجِعْهُ" وفي لَفْظٍ: فَانْطلقَ أَبي إلى النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لِيشْهِدَهُ عَلى صَدَقتي فَقَالَ: "أَفَعَلْتَ هذا بولَدِكَ كُلِّهِمْ؟" قَالَ: لا، قالَ: "اتّقُوا الله واعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادكُمْ"فَرَجعَ أَبي فرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
    وفي روايةٍ لمسْلِمٍ قالَ: "فَأَشْهدْ عَلى هذا غَيري" ثمَّ قالَ: "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لك في الْبِر سَواءً؟" قالَ: بلى، قالَ: "فَلا إذنْ").
    الحديث دليل على وجوب المساواة بين الأولاد في الهبة وقد صرح به البخاري وهو قول أحمد وإسحاق والثوري وآخرين.
    وأنها باطلة مع عدم المساواة وهو الذي تفيده ألفاظ الحديث من أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بإرجاعه، ومن قوله: اتقوا الله، وقوله: اعدلوا بين أولادكم، وقوله: فلا إِذَنْ، وقوله: لا أشهد على جور.
    واختلف في كيفية التسوية فقيل: بأن تكون عطية الذكر والأنثى سواء وهو ظاهر قوله في بعض ألفاظه عند النسائي: "ألا سويت بينهم" وعند ابن حبان: "سووا بينهم" ولحديث ابن عباس: "سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء" أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي بإسناد حسن.
    وقيل: بل التسوية أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين على حسب التوريث.
    وذهب الجمهور إلى أنها لا تجب التسوية بل تندب وأطالوا في الاعتذار عن الحديث وذكر في الشرح عشرة أعذار كلها غير ناهضة.
    وقد كتبنا في ذلك رسالة جواب سؤال أوضحنا فيها قوة القول بوجوب التسوية وأن الهبة مع عدمها باطلة.
    وَعَنِ ابن عَبّاسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "العائِدُ في هِبَتهِ كالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يعودُ في قَيْئِهِ" متفقٌ عَلَيْه.
    وَفي روَايةٍ للبُخاريِّ: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الذي يَعَودُ في هِبَتِهِ كالْكَلْبِ يَقِيءُ ثمَّ يَرْجَع في قَيْئِهِ".
    (وَعَنِ ابن عَبّاسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "العائِدُ في هِبَتهِ كالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يعودُ في قَيْئِهِ" متفقٌ عَلَيْه.
    وَفي روَايةٍ للبُخاريِّ: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الذي يَعَودُ في هِبَتِهِ كالْكَلْبِ يَقِيءُ ثمَّ يَرْجَع في قَيْئِهِ").
    فيه دلالة على تحريم الرجوع في الهبة وهو مذهب جماهير العلماء وبوب له البخاري ــــ باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته ــــ.
    وقد استثنى الجمهور ما يأتي من الهبة للولد ونحوه.
    وذهبت الهادوية و أبو حنيفة إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة إلا الهبة لذي رحم.
    قالوا: والحديث المراد به التغليظ في الكراهة. قال الطحاوي: قوله كالعائد في قيئه وإن اقتضى التحريم لكن الزيادة في الرواية الأخرى وهو قوله: كالكلب تدل على عدم التحريم لأن الكلب غير متعبد فالقيء ليس حراماً عليه والمراد التنزه عن فعل يشبه فعل الكلب.
    وتعقب باستبعاد التأويل ومنافرة سياق الحديث له وعرف الشرع في مثل هذه العبارة الزجر الشديد كما ورد النهي في الصلاة عن إقعاء الكلب ونقر الغراب والتفات الثعلب ونحوه ولا يفهم من المقام إلا التحريم والتأويل البعيد لا يلتفت إليه ويدل على التحريم الحديث الآتي وهو:
    وعنْ ابن عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ عن النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "لا يحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطيّةَ ثم يَرْجعَ فيها إلا الْوَالِدَ فيما يُعْطِي وَلَدَهُ" رَوَاهُ أَحْمدُ والأرْبَعَةُ، وَصَحّحَه الترْمِذي وابْنُ حِبّانَ وَالحاكمُ.
    (وعنْ ابن عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ عن النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "لا يحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطيّةَ ثم يَرْجعَ فيها إلا الْوَالِدَ فيما يُعْطِي وَلَدَهُ" رَوَاهُ أَحْمدُ والأرْبَعَةُ، وَصَحّحَه الترْمِذي وابْنُ حِبّانَ وَالحاكمُ).
    فإن قوله لا يحل ظاهر في التحريم والقول بأنه مجاز عن الكراهة الشديدة صرف له عن ظاهره.
    وقوله إلا الوالد دليل على أنه يجوز للأب الرجوع فيما وهبه لابنه كبيراً كان أو صغيراً واختصه الهادوية بالطفل وهو خلاف ظاهر الحديث.
    وفرق بعض العلماء فقال: يحل الرجوع في الهبة دون الصدقة لأن الصدقة يراد بها ثواب الآخرة وهو فرق غير مؤثر في الحكم.
    وحكم الأم حكم الأب عند أكثر العلماء.
    "نعم" وخص الهادي ما وهبته الزوجة لزوجها من صداقها بأنه ليس لها الرجوع في ذلك، ومثله رواه البخاري عن النخعي وعمر بن عبد العزيز تعليقاً.
    وقال الزهري: يرد إليها إن كان خدعها. وأخرج عبد الرزاق بسند منقطع: "إن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت".
    وَعَنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالَتْ: "كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَقْبَلُ الْهَديّةَ وَيُثِيبُ عَلَيها" رَوَاهُ الْبُخَاري.
    (وَعَنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالَتْ: "كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَقْبَلُ الْهَديّةَ وَيُثِيبُ عَلَيها" رَوَاهُ الْبُخَاري).
    فيه دلالة على أن عادته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانت جارية بقبول الهدية والمكافأة عليها.
    وفي رواية لابن أبي شيبة: "ويثيب عليها ما هو خير منها".
    وقد استدل به على وجوب الإثابة على الهدية إذ كونه عادة له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مستمرة يقتضي لزومه ولا يتم به الاستدلال على الوجوب لأنه قد يقال إنما فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مستمراً لما جبل عليه من مكارم الأخلاق لا لوجوبه.
    وقد ذهبت الهادوية إلى وجوب المكافأة بحسب العرف قالوا: لأن الأصل في الأعيان الأعواض.
    قال في البحر: ويجب تعويضها حسب العرف.
    وقال الإمام يحيى: المثلي مثله والقيمي قيمته ويجب له الإيصاء بها.
    وقال الشافعي في الجديد: الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لأنها بيع بثمن مجهول ولأن موضع الهبة التبرع فلو أوجبناه لكان في معنى المعاوضة وقد فرق الشرع والعرف بين الهبة والبيع. فما يستحق العوض أطلق عليه لفظ البيع، بخلاف الهبة.
    قيل: وكأن من أجازها للثواب جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها.
    وقال بعض المالكية: يجب الثواب على الهبة إذا أطلق الواهب أو كان مما يطلب مثله الثواب كالفقير للغني بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى.
    فإذا لم يرض الواهب بالثواب فقيل: تلزم الهبة إذا أعطاه الموهوب له القيمة وقيل: لا تلزم إلا أن يرضيه، والأول المشهور عن مالك رحمه الله ويرده الحديث الآتي وهو:
    وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قالَ: وَهَبَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نَاقَةً فَأثَابَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ: "رضيتَ؟" قالَ: لا، فَزَادَه فَقَالَ: "رَضَيْتَ؟" قالَ: لا، فَزَادَهُ فَقَالَ: "رضيت؟" قَالَ نَعَمْ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ.
    (وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قالَ: وَهَبَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نَاقَةً فَأثَابَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ: "رضيتَ؟" قالَ: لا، فَزَادَه فَقَالَ: "رَضَيْتَ؟" قالَ: لا، فَزَادَهُ فَقَالَ: "رضيت؟" قَالَ نَعَمْ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ).
    ورواه الترمذي وبين أن العوض كان ست بكرات.
    وفيه دليل على اشتراط رضا الواهب وأنه إن أسلم إليه قدر ما وهب ولم يرض زيد له وهو دليل لأحد القولين الماضيين وهو قول[اث] ابن عمر[/اث]. قالوا: فإذا اشترط فيه الرضا فليس هناك بيع انعقد.
    وَعَنْ جابرٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الْعُمْرَى لمَنْ وُهِبَتْ لَهُ" مُتّفقٌ عَلَيهِ.
    ولمَسْلمٍ: "أمسكوا عَلَيكُمْ أموَالَكُمْ وَلا تُفْسِدُوها فإنّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرى فَهِيَ للذي أُعْمِرَهَا حَياً وَمَيْتاً وَلِعَقِبِهِ".
    وفي لَفْظٍ "إنمَا الْعُمْرَى الّتي أجَازَها رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَنْ يَقُولَ: هِي لكَ وَلَعَقِبك، فَأَمّا إذا قالَ: هِيَ لكَ ما عِشْتَ فإنّها تَرْجعُ إلى صَاحِبها".
    ولأبي دَاوُدَ والنّسائي "لا تُرقِبُوا وَلا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئاً أَوْ أُعْمِرَ شَيْئاً فَهُوَ لورَثَتِهِ".
    (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الْعُمْرَى) بضم المهملة وسكون الميم وألف مقصورة (لِمَنْ وُهِبَتْ لهُ" متفق عليه ولمسلم) أي من حديث جابر: (أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمَوَالكُم ولا تُفْسِدُوهَا فإنّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فهِيَ للّذِي أُعْمِرَهَا حَيّاً ومَيْتاً ولعَقِبِهِ".
    وفي لفظ: "إنّمَا الْعُمْرَى التي أَجَازَها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنْ يقُولَ: هِيَ لَكَ ولعَقبِك، فأَمّا إذا قَالَ: هِي لكَ مَا عِشْتَ فإنّهَا تَرْجعُ إلى صَاحبها".
    (ولأبي داود والنسائي) أي: من حديث جابر ("لا تُرْقِبُوا ولا تُعْمِرُوا فَمَنْ أُرْقِبَ شيْئاً أَوْ أُعْمِرَ شَيْئاً فهوَ لِوَرَثَتِهِ").
    الأصل في العمرى والرقبى أنه كان في الجاهلية يعطي الرجل الرجل الدار ويقول: أعمرتك إياها أي أبحتها لك مدة عمرك فقيل لها عَمْرَى لذلك.
    كما أنه قيل لها رقبى لأن كلاً منهما يرقب موت الآخر.
    وجاءت الشريعة بتقرير ذلك، ففي الحديث دلالة على شرعيتها وأنها مملكة لمن وهب له وإليه ذهب العلماء كافة إلا رواية عن داود أنها لا تصح.
    واختلف إلى ماذا يتوجه التمليك.
    فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقبة كغيرها من الهبات.
    وعند الشافعي ومالك إلى المنفعة دون الرقبة.
    وتكون على ثلاثة أقسام:
    مؤبدة إن قال أبداً.
    ومطلقة عند عدم التقييد.
    ومقيدة بأن يقول ما عشت فإذا مت رجعت إليّ.
    واختلف العلماء في ذلك والأصح أنها صحيحة في جميع الأحوال وأن الموهوب له يملكها ملكاً تاماً يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات وذلك لتصريح الأحاديث بأنها لمن أعمرها حياً وميتاً.
    وأما قوله: "فإذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها" فلأنها بهذا القيد قد شرط أن تكون إلى الواهب بعد موته فيكون لها حكم ما إذا صرح بذلك الشرط وهي كما لو أعمره شهراً أو سنة فإنها عارية إجماعاً.
    وقوله: "أمسكوا أموالكم" وقوله: "لا ترقبوا" محمول على الكراهة والإرشاد لهم إلى حفظ أموالهم لأنهم كانوا يعمرون ويرقبون ويرجع إليهم إذا مات من أعمروه وأرقبوه فجاء الشرع بمراغمتهم وصحح العقد وأبطل الشرط المضاد لذلك فإنه أشبه الرجوع في الهبة وقد صح النهي عنه.
    وأخرج النسائي من حديث ابن عباس يرفعه: "العمرى لمن أعمرها والرقبى لمن أرقبها والعائد في هبته كالعائد في قيئه".
    وأما إذا صرح بالشرط كما في الحديث وقال: ما عشت، فإنها عارية مؤقتة لا هبة. ومرّ حديث: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" ومثله الحديث الآتي وهو:
    وَعَنْ عُمَرَ قالَ: حَمَلْتُ عَلى فَرَس في سبيل اللَّهِ فَأَضاعهُ صَاحِبُهُ، فَظَنَنْتُ أنّهُ بائِعُهُ برُخْصٍ، فَسأَلتُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عَن ذلك فَقَالَ: "لا تَبتعْهُ وَإنْ أَعْطاكَهُ بدِرْهَمٍ" الحديثَ، مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
    (وَعَنْ عُمَرَ قالَ: حَمَلْتُ عَلى فَرَس في سبيل اللَّهِ فَأَضاعهُ صَاحِبُهُ، فَظَنَنْتُ أنّهُ بائِعُهُ برُخْصٍ، فَسأَلتُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عَن ذلك فَقَالَ: "لا تَبتعْهُ وَإنْ أَعْطاكَهُ بدِرْهَمٍ" الحديثَ، مُتّفقٌ عَلَيْهِ).
    تمامه: "فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه".
    وقوله: فأضاعه أي قصر في مؤنته وحسن القيام به وقوله: لا تبتعه أي لا تشتره.
    وفي لفظ: ولا تعد في صدقتك، فسمى الشراء عوداً في الصدقة قيل: لأن العادة جرت بالمسامحة في ذلك من البائع للمشتري فأطلق على القدر الذي يقع به التسامح رجوعاً ويحتمل أنه مبالغة وأن عودها إليه بالقيمة كالرجوع.
    وظاهر النهي التحريم وإليه ذهب قوم.
    وقال الجمهور: إنه للتنزيه.
    وتقدم أن الرجوع في الهبة محرم وأنه الأقوى دليلاً إلا ما استثني.
    قال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب، وما إذا كان الواهب الوالد لولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب، لثبوت الأخبار باستثناء ذلك. ومما لا رجوع فيه مطلقاً الصدقة يراد بها ثواب الآخرة.
    قلت: هذا في الرجوع في الهبة فأما شراؤها وهو الذي فيه سياق هذا الحديث فالظاهر أن النهي للتنزيه، وإنما التحريم في الرجوع فيها. ويحتمل أنه لا فرق بينهما للنهي وأصله التحريم.
    وَعَنْ أَبي هُريرة عَنِ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "تَهَادُوا تَحَابُّوا" رَواهُ الْبُخَاريُّ في "الأدَبِ المُفْرَدِ" وَأَبُو يَعْلى بإسْنادٍ حَسَنٍ.
    (وَعَنْ أَبي هُريرة عَنِ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "تَهَادُوا تَحَابُّوا" رَواهُ الْبُخَاريُّ في "الأدَبِ المُفْرَدِ" وَأَبُو يَعْلى بإسْنادٍ حَسَنٍ).
    وأخرجه البيهقي وغيره وفي كل رواته مقال والمصنف قد حسن إسناده وكأنه لشواهده التي منها الحديث ــــ وإن كان ضعيفاً ــــ وهو قوله:
    وَعَنْ أَنَسٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تهادُوا فإنَّ الهَدِيّة تَسُلُّ السّخيمةَ" رَوَاهُ البزَّارُ بإسْنادٍ ضعيفٍ.
    (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تَهادُوا فإنَّ الْهَديةَ تسُلُّ السّخِيمَةَ) بالسين المهملة مفتوحة فخاء معجمة فمثناة تحتية في القاموس السخيمة والسخيمة بالضم: الحقد (رواه البزار بإسناد ضعيف) لأن في روايته من ضعف وله طرق كلها لا تخلو عن مقال وفي بعض ألفاظه: تذهب وَحَرَ الصدر بفتح الواو والحاء المهملة وهو الحقد أيضاً. والأحاديث وإن لم تخل عن مقال فإن للهدية في القلوب موقعاً لا يخفى.
    وَعَنْ أَبي هُريرة قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يا نساءَ المُسْلماتِ، لا تَحْقِرنَّ جارَةٌ لِجارَتها وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ" مُتّفقْ عَلَيْهِ.
    (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يَا نِساءَ الْمُسْلماتِ) قال القاضي: الأشهر نصب النساء على أنه منادى مضاف إلى المسلمات من إضافة الصفة وقيل غير هذا (لا تَحْقِرَنَّ) بالحاء المهملة ساكنة وفتح القاف وكسرها (جَارَةٌلِجَارَتِهَا ولوْ فِرْسِنَ شاةٍ) بكسر الفاء وسكون الراء وكسر السين المهملة آخره نون وهو من البعير بمنزلة الحافر من الدابة وربما استعير للشاة (متفق عليه).
    في الحديث حذف تقديره لا تحقرن جارة لجارتها هدية ولو فرسن شاة والمراد من ذكره المبالغة في الحث على هدية الجارة لجارتها لا حقيقة الفرسن لأنه لم تجر العادة بإهدائه.
    وظاهره النهيِ للْمُهْدِي "اسم فاعل" عن استحقار ما يهديه بحيث يؤدي إلى ترك الإهداء.
    ويحتمل أنه للْمُهْدَى إليه والمراد لا يحقرن ما أهدى إليه ولو كان حقيراً.
    ويحتمل إرادة الجمع وفيه الحث على التهادي سيما بين الجيران ولو بالشيء الحقير لما فيه من جلب المحبة والتأنيس.
    وَعَن ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما عنِ النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَهُوَ أحَقُّ بها مَا لم يُثبْ عليْها" رَوَاهُ الحاكم وصحّحَهُ، والمحْفوظُ مِنْ روَايةِ ابنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قولُهُ.
    (وَعَن ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما عنِ النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَهُوَ أحَقُّ بها مَا لم يُثبْ عليْها" رَوَاهُ الحاكم وصحّحَهُ، والمحْفوظُ مِنْ روَايةِ ابنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قولُهُ).
    قال المصنف: صححه الحاكم وابن حزم، وفيه دليل على جواز الرجوع في الهبة التي لم يثب عليها، وعدم جواز الرجوع في الهبة التي أثاب عليها الموهوب له الواهب. وتقدم الكلام في ذلك وفي حكم الهبة للثواب والمكافأة. وما أحسن ما قيل في ذلك إن الفاعل لا يفعل إلا لغرض، فالهبة للأدنى كثيراً ما تكون كالصدقة وهي غرض معهم.
    وللمساوي معاشرة لجلب المودة وحسن العشرة وهي مثل عطية الأدنى، إلا أن في عطية الأدنى توهم الصدقة.
    والعرف جار بتخالف الهدايا باعتبار حال المهدي والمهدى إليه فإذا كان الغرض الطمع والتحصيل كما يهدي المتكسب للملك يتحفه بشيء يرجو فضله فلو اقتصر الملك على قدر قيمتها لذم والذم دليل الرجوع بل إما أن يردها أو يعطيه خيراً منها.
    وإن كان غرض المهدي تحصيل الاتصال بينهما والمخالفة الحسنة وتصفية ذات البين أجزأه من المكافأة أدنى شيء قَلَّ أو كثر بل الأقل أنسب لإشعاره بأن ليس الغرض المعاوضة بل تكميل المودّة وأنه لا فرق بين ما تملكه أنت وما أملكه أنا.
    باب اللقطة
    اللقطة بضم اللام وفتح القاف قيل: لا يجوز غيره وقال الخليل: القاف ساكنة لا غير وأما بفتحها فهو اللاقط. قيل: وهذا هو القياس إلا أنه أجمع أهل اللغة والحديث على الفتح ولذا قيل: لا يجوز غيره.
    عَنْ أَنَسٍ قالَ: مَرَّ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بتَمْرَةٍ في الطريقِ فَقَالَ: "لَولا أَني أَخافُ أَنْ تَكونَ مِنَ الصَّدقةِ لأكَلْتُها" مُتّفق عَلَيْهِ.
    (عَنْ أَنَسٍ قالَ: مَرَّ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بتَمْرَةٍ في الطريقِ فَقَالَ: "لَولا أَني أَخافُ أَنْ تَكونَ مِنَ الصَّدقةِ لأكَلْتُها" مُتّفق عَلَيْهِ).
    دل على جواز أخذ الشيء الحقير الذي يتسامح به، ولا يجب التعريف به وأن الآخذ يملكه بمجرد الأخذ له.
    وظاهر الحديث أنه يجوز ذلك في الحقير وإن كان مالكه معروفاً. وقيل: لا يجوز إلا إذا جهل. وأما إذا علم فلا يجوز إلا بإذنه وإن كان يسيراً.
    وقد أورد عليه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كيف تركها في الطريق مع أن على الإمام حفظ المال الضائع وحفظ ما كان من الزكاة وصرفه في مصارفه.
    ويجاب عنه بأنه لا دليل على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يأخذها للحفظ، وإنما ترك أكلها تورّعاً أو أنه تركها عمداً ليأخذها من يمر ممن تحل له الصدقة. ولا يجب على الإمام إلا حفظ المال الذي يعلم طلب صاحبه له لا ما جرت العادة بالإعراض عنه لحقارته.
    وفيه حث على التورّع عن أكل يجوز فيه أنه حرام.
    وَعَنْ زَيْدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ قالَ: جاءَ رَجلٌ إلى النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَسَأَلَهُ عَنِ اللقَطَةِ فَقَالَ: "اعْرفْ عِفاصَهَا ووكاءَها ثمَّ عَرِّفْها سَنَةً فإنْ جاءَ صاحِبُها وإلا فَشَأنَكَ بها" قَالَ: فَضَالّةُ الْغَنمِ؟ قَالَ: "هيَ لك أَوْ لأخِيك أَوْ للذِّئْبِ" قال: فَضَالّةُ الإبلِ؟ قال: "مَا لَكَ وَلَها مَعَهَا سِقاؤُها وحذاؤها تَرِدُ الماءَ وتَأكلُ الشّجرَ حتى يَلقاهَا رَبُّها" مُتّفقٌ عَليْهِ.
    (وعن زيد بن خالد الجُهَني رضي الله عنه) هو أبو طلحة أو أبو عبد الرحمن نزل الكوفة ومات بها سنة ثمان وسبعين وهو ابن خمسين وثمانين سنة وروى عنه جماعة (قال: جاء رجلٌ إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) لم يقم برهان على تعيين الرجل (فسأله عن اللُّقَطَةِ) أي عن حكمها شرعاً (فقال: "اعْرفْ عِفاصَهَا" بكسر العين المهملة ففاء وبعد الألف صاد مهملة وعاءها ووقع في رواية خرقتها "ووكاءَها" بكسر الواو ممدوداً ما يربط به "ثمَّ عَرِّفْها" بتشديد الراء "سَنةً فإنْ جاءَ صاحبُهَا وإلا فَشأنَكَ بها" قال: فضالة الغنم) الضالة تقال على الحيوان. وما ليس بحيوان يقال له لقطة (قال: هِيَ لَكَ أَوْ لأخِيك أَوْ للذئْبِ" قال: فضالة الإبل قال: "مَا لكَ ولهَا مَعَهَا سِقَاؤها" أي جوفها وقيل عنقها "وحِذَاؤهَا" بكسر الحاء المهملة فذال معجمة أي خفها "تَردُ الْمَاءَ وتأكُلُ الشّجَرَ حَتى يلْقَاهَا رَبُّهَا" متفق عليه).
    اختلف العلماء في الالتقاط هل هو أفضل أم الترك فقال أبو حنيفة: الأفضل الإلتقاط لأن من الواجب على المسلم حفظ مال أخيه ومثله قال الشافعي.
    وقال مالك وأحمد: تركه أفضل لحديث: "ضالة المؤمن حرق النار" ولما يخاف من التضمين والدين.
    وقال قوم: بل الالتقاط واجب وتأولوا الحديث بأنه فيمن أراد أخذها للانتفاع بها من أول الأمر قبل تعريفه بها.
    هذا وقد اشتمل الحديث على ثلاثة مسائل:
    الأولى: في حكم اللقطة وهي الضائعة التي ليست بحيوان ــــ فإن ذلك يقال له ضالة ــــ فقد أمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الملتقط أن يعرف وعاءها وما تشد به وظاهر الأمر وجوب التعرف لما ذكر ووجوب التعريف ويزيد الأخير عليه دلالة قوله:
    وَعَنْهُ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من آوى ضالّةً فَهُو ضالٌّ ما لم يُعرِّفْها" رَوَاهُ مُسْلمٌ.
    (وَعَنْهُ) أي عن زيد بن خالد (قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من آوى ضالّةً فَهُو ضالٌّ ما لم يُعرِّفْها" رَوَاهُ مُسْلمٌ).
    فوصفه بالضلال إذا لم يعرف بها. وقد اختلف في فائدة معرفتهما.
    فقيل: لتردّ للواصف لها وأنه يقبل قوله بعد إخباره بصفتها ويجب ردها إليه كما دل له ما هنا.
    وما في رواية البخاري: "فإن جاء أحد يخبرك بها" وفي لفظ: "بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه" وإلى هذا ذهب أحمد ومالك واشترطت المالكية زيادة صفة الدنانير والعدد قالوا: لورود ذلك في بعض الروايات وقالوا: لا يضره الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء.
    فأما إذا عرف إحدى العلامتين المنصوص عليهما من العفاص والوكاء وجهل الأخرى فقيل: لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعاً.
    وقيل: تدفع إليه بعد الإنظار مدة.
    ثم اختلف هل تدفع إليه بعد وصفه لعفاصها ووكائها بغير يمينه أم لا بد من اليمين.
    فقيل: تدفع إليه بغير يمين لأنه ظاهر الأحاديث.
    وقيل: لا ترد إلا بالبينة. وقال من أوجب البينة: إن فائدة أمر الملتقط بمعرفتها لئلا يلتبس بماله لا لأجل ردها لمن وصفها فإنها لا ترد إليه إلا بالبينة.
    قالوا: وذلك لأنه مدّع وكل مدّع لا يسلم إليه ما ادعاه إلا بالبينة، وهذا أصل مقرر شرعاً لا يخرج عنه بمجرد وصف المدعى للعفاص والوكاء.
    وأجيب: بأن ظاهر الأحاديث وجوب الرد بمجرّد الوصف فإنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "فأعطها إياه".
    وفي حديث الباب مقدر بعد قوله فإن جاء صاحبها أي فأعطه إياها وإنما حذف جواب الشرط للعلم به.
    وحديث "البينة على المدعي" ليست البينة مقصورة على الشهادة بل هي عامة لكل ما تبين به الحق ومنها وصف العفاص والوكاء.
    على أنه قد قال من اشترط البينة: إنها إذا ثبتت الزيادة وهي قوله فأعطها إياه كان العمل عليها والزيادة قد صحت كما حققه المصنف فيجب العمل بها ويجب الرد بالوصف.
    وكما أوجب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم التعرف بها فقد حدّ وقته بسنة فأوجب التعريف بها سنة وأما ما بعدها:
    فقيل: لا يجب التعريف بها بعد السنة وقيل: يجب والدليل مع الأول.
    ودل على أنه يعرف بها سنة لا غير، حقيرة كانت أو عظيمة.
    ثم التعريف يكون في مظان اجتماع الناس من الأسواق وأبواب المساجد والمجامع الحافلة.
    وقوله: "وإلا فشأنك بها" نصب شأنك على الإغراء ويجوز رفعه على الابتداء وخبره بها وهو تفويض له في حفظها أو الانتفاع بها.
    واستدل به على جواز تصرف الملتقط فيها أي تصرف، إما بصرفها على نفسه غنياً كان أو فقيراً أو التصدق بها إلا أنه قد أورد من الأحاديث ما يقتضي أنه لا يتملكها.
    فعند مسلم: "ثم عرفها سنة فإن لم يجيء صاحبها كانت وديعة عندك".
    وفي رواية: "ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأَدّها إليه" ولذلك اختلف العلماء في حكمها بعد السنة.
    قال في نهاية المجتهد: إنه اتفق فقهاء الأمصار مالك والثوري والأوزاعي والشافعي على أنه يتملكها، ومثله عن[اث] عمر[/اث] و[اث]ابنه[/اث] و[اث]ابن مسعود[/اث] وقال أبو حنيفة: ليس له إلا أن يتصدق بها، ومثله يروى عن[اث] علي[/اث] و[اث] ابن عباس[/اث] وجماعة من التابعين وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها إلا أهل الظاهر فقالوا: تحل وتصير بعد السنة له مالاً من ماله ولا يضمنها إن جاء صاحبها.
    قلت: ولا أدري ما يقولون في حديث مسلم ونحوه الدال على وجوب ضمانها.
    وأقرب الأقوال ما ذهب إليه الشافعي ومن معه لأنه أذن صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في استنفاقه لها ولم يأمره بالتصدق بها ثم أمره بعد الإذن في الاستنفاق أن يردها إلى صاحبها إن جاء يوماً من الدهر وذلك تضمين لها.
    المسألة الثانية: في ضالة الغنم فقد اتفق العلماء على أن لواجد الغنم في المكان القفر البعيد عن العمران أن يأكلها لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" فإن معناه أنها معرضة للهلاك متردّدة بين أن تأخذها أو أخوك والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر والمراد من الذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع.
    وفيه حث على أخذه إياها، وهل يجب عليه ضمان قيمتها لصاحبها أو لا؟
    فقال الجمهور: إنه يضمن قيمتها.
    والمشهور عن مالك أنه لا يضمن واحتج بالتسوية بين الملتقط والذئب. والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط.
    وأجيب بأن اللام ليست للتمليك لأن الذئب لا يملك وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط فهي باقية على ملك صاحبها.
    والمسألة الثالثة: في ضالة الإبل وقد حكم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنها لا تلتقط بل تترك ترعى الشجر وترد المياه حتى يأتي صاحبها.
    قالوا: وقد نبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على أنها غنية غير محتاجة إلى الحفظ بما ركَّبَ الله في طباعها من الجلادة على العطش وتناول الماء بغير تعب لطول عنقها وقوتها على المشي فلا تحتاج إلى الملتقط بخلاف الغنم.
    وقالت الحنفية وغيرها: الأولى التقاطها.
    قال العلماء: والحكمة في النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تَطَلُّبه لها في رحال الناس.
    وَعَنْ عِياضِ بْنِ حِمارٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قال: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفاصَهَا ووكَاءَهَا، ثمَّ لا يَكْتُمُ وَلا يُغَيِّبُ، فإن جَاءَ رَبُّهَا فَهُو أَحَقُّ بها وإلا فهُو مالُ الله يؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ" رَوَاهُ أَحْمدُ والأرْبَعَةُ إلا التّرْمذي وَصَحّحَه ابْنُ خُزيمةَ وابنُ الجارُودَ وابن حِبَّانَ.
    (وعن عياض) بكسر المهملة آخره ضاد معجمة (ابن حمار) بلفظ الحيوان المعروف صحابي معروف (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفاصَهَا ووكَاءَهَا، ثمَّ لا يَكْتُمُ وَلا يُغَيِّبُ، فإن جَاءَ رَبُّهَا فَهُو أَحَقُّ بها وإلا فهُو مالُ الله يؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ" رَوَاهُ أَحْمدُ والأرْبَعَةُ إلا التّرْمذي وَصَحّحَه ابْنُ خُزيمةَ وابنُ الجارُودَ وابن حِبَّانَ).
    تقدم الكلام في اللقطة والعفاص والوكاء وأفاد هذا الحديث زيادة وجوب الإشهاد بعدلين على التقاطها، وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي فقالوا:
    يجب الإشهاد على اللقطة وعلى أوصافها.
    وذهب الهادي ومالك وهو أحد قولي الشافعي إلى أنه لا يجب الإشهاد قالوا: لعدم ذكر الإشهاد في الأحاديث الصحيحة فيحمل هذا على الندب.
    وقال الأولون: هذه الزيادة بعد صحتها يجب العمل بها فيجب الإشهاد ولا ينافي ذلك عدم ذكره في غيره من الأحاديث.
    والحق وجوب الإشهاد.
    في قوله: "فهو مال الله يؤتيه من يشاء" دليل للظاهرية في أنها تصير ملكاً للملتقط ولا يضمنها.
    وقد يجاب بأن هذا مقيد بما سلف من إيجاب الضمان. وأما قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يؤتيه من يشاء فالمراد أنه يحل انتفاعه بها بعد مرور سنة التعريف.
    وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمن بنِ عُثمانَ التَّيْمِيِّ رضي الله عَنْهُ: "أَن النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عَنْ لُقَطةِ الحاجِّ" رَواهُ مسلمٌ.
    (وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه) هو قرشي وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله، صحابي وقيل: إنه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليست له رؤية وأسلم يوم الحديبية وقيل يوم الفتح وقتل مع ابن الزبير (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عن لقطة الحاج. رواه مسلم).
    أي عن التقاط الرجل ما ضاع للحاج والمراد ما ضاع في مكة لما تقدّم من حديث أبي هريرة أنها "لا تحل لقطتها إلا لمنشد" وتقدم أنه حمله الجمهور على أنه نهيٌ عن التقاطها للتملك لا للتعريف بها فإنه يحل.
    قالوا: وإنما اختصت لقطة الحاج بذلك لإمكان إيصالها إلى أربابها لأنها إن كانت لمكي فظاهر وإن كانت لآفاقي فلا يخلو أفق في الغالب من رواد منه إليها فإذا عرَّفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها، قاله ابن بطال.
    وقال جماعة: هي كغيرها من البلاد وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود فاحتاج الملتقط إلى المبالغة في التعريف بها.
    والظاهر القول الأول وأن حديث النهي هذا مقيَّدٌ بحديث أبي هريرة بأنه لا يحل التقاطها إلا لمنشد فالذي اختصت به لقطة مكة بأنها لا تلتقط إلا للتعريف بها أبداً فلا تجوز للتملك ويحتمل أن هذا الحديث في لقطة الحاج مطلقاً في مكة وغيرها لأنه هنا مطلق ولا دليل على تقييده بكونها في مكة.
    وَعَنِ المِقْدامِ بنِ مَعْدِ يكرب رضي اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قال رسول اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَلا لا يحلُّ ذُو نابٍ مِنَ السِّباعِ، وَلا الحمَارُ الأهْلي، وَلا اللّقَطَةُ مِنْ مَالِ مُعاهَدٍ إلا أنْ يَسْتَغْني عَنْها" رَواهُ أَبو داود.
    (وعن المقدامِ بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَلا لا يَحِلُّ ذُو نابٍ مِنَ السبِّاعِ ولا الْحِمَارُ الأهْليُّ ولا اللقَطَةُ مِنْ مَال مُعَاهِدٍ إلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِي عَنْهَا". رواه أبو داود).
    يأتي الكلام على تحريم ما ذكر في باب الأطعمة وذكر الحديث هنا لقوله: "ولا اللقطة من مال معاهد" فدل على أن اللقطة من ماله كاللقطة من مال المسلم. وهذا محمول على التقاطها من محل غالب أهله أو كلهم ذميون وإلا فاللقطة لا تعرف من مال أي إنسان عند التقاطها.
    وقوله: "إلا أن يستغني عنها" مؤول بالحقير كما سلف في التمرة ونحوها، أو بعدم معرفة صاحبها بعد التعريف بها كما سلف أيضاً. وعبر عنه بالاستغناء لأنه سبب عدم المعرفة في الأغلب فإنه لو لم يستغن عنها لبالغ في طلبها أو نحو ذلك.
    "فائدة" قال النووي في شرح المهذب: اختلف العلماء فيمن مرَّ ببستان أو زرع أو ماشية فقال الجمهور: لا يأخذ منه شيئاً إلا في حال الضرورة فيأخذ ويغرم عند الشافعي والجمهور.
    وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء.
    وقال أحمد: إذا لم يكن للبستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج إلى ذلك، وفي الأخرى إذا احتاج ولا ضمان عليه في الحالين. وعلق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث قال البيهقي: يعني حديث ابن عمر مرفوعاً: "إذا مر أحدكم بحائط فليأكلولا يتخذ خبنة" أخرجه الترمذي واستغربه. قال البيهقي: لم يصح وجاء من أوجه أخر غير قوية. قال المصنف: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها وقد بينت ذلك في كتابي "المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة" اهـ.
    ولعل المراد إذا كانت الشفاعة في واجب كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ المظلوم من يد الظالم أو كانت في محظور كالشفاعة عنده في تولية ظالم على الرعية فإنها في الأولى واجبة فأخذ الهدية في مقابلها محرم والثانية محظورة فقبضها في مقابلها محظور.
    وفي المسئلة خلاف وأقاويل كثيرة قد نقلها الشارع عن المذهب ولم يتلخص البحث لتعارض الأحاديث في الإباحة والنهي، فلم يقو نقل أحاديث الإباحة على نقل الأصل وهو حرمة مال الآدمي وأحاديث النهي أكدت ذلك الأصل.
    باب الفرائض
    الفرائض جمع فريضة وهي فعلية بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض وهوالقطع وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى {نصيباً مفروضاً} أي مقداراً معلوماً وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على تعلم الفرائض وورد أنه أول علم يرفع.
    عن ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألحقوا الفَرائضَ بأَهْلها فَما بَقي فَهو لأوْلى رَجُلٍ ذَكَر" مُتّفقٌ عَلَيْه.
    (عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائضَ بِأَهْلِهَا) والمراد بها الست المنصوص عليها وهو أهلها في القرآن (فمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلى رَجُلٍ ذَكَرٍ") اختلف في فائدة وصف الرجل بالذكر والأقرب أنه تأكيد ونقلفي الشرح كلاماً كثيراً وفائدته قليلة (متفق عليه).
    والفرائض المنصوصة في القرآن ست: النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما.
    والمراد من أهلها من يستحقها بنص كتاب الله قال ابن بطال: المراد بأولى رجل أن الرجال من العصبة بعد أهل الفرائض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد، فإن استووا اشتركوا. ولم يقصد من يدلي بالآباءِ والأمهات مثلاً لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره إذا استووا في المنزلة.
    وقال غيره: المراد به العمة مع العم وبنت الأخ مع ابن الأخ وبنت العم مع ابن العم وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين أو لأب فإنهم يرثون بنص قوله تعالى: {وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين}.
    وأقرب العصبات البنون ثم بنوهم وإن سلفوا ثم الأب ثم الجد أبو الأب وإن علوا وتفاصيل العصبات وسائر أهل الفرائض مستوفى في كتب الفرائض.
    والحديث مبني على وجود عصبة من الرجال فإذا لم توجد عصبة من الرجال أُعْطِيَ بقية الميراث من لا فرض له من النساء كما يأتي في بنت وبنت ابن وأخت.
    وَعَنْ أُسامةَ بْنِ زَيْدٍ رَضي اللَّهُ عَنَهُ أَن النبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "لا يَرثُ المُسْلمُ الْكافرَ وَلا يرثُ الكافِرُ المُسْلمَ" متَفّقٌ عَلَيه.
    (وَعَنْ أُسامةَ بْنِ زَيْدٍ رَضي اللَّهُ عَنَهُ أَن النبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "لا يَرثُ المُسْلمُ الْكافرَ وَلا يرثُ الكافِرُ المُسْلمَ" متَفّقٌ عَلَيه).
    المسلم في صدر الحديث فاعل والكافر مفعول وفي آخره بالعكس، وإلى ما أفاده الحديث ذهب الجماهير.
    وروي خلافه عن[اث] معاذ[/اث] و[اث] معاوية[/اث] و مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم وإسحاق وذهب إليه الإمامية والناصر.
    قالوا: إنه يرث المسلم من الكافر من غير عكس. واحتج معاذ بأنه سمع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "الإسلام يزيد ولا ينقص" أخرجه أبو داود وصححه الحاكم.
    وقد أخرج مسدد أنه اختصم إلى معاذ أخوان مسلم ويهودي مات أبوهما يهودياً فحاز ابنه اليهودي ميراثه فنازعه المسلم فورّث معاذ المسلم. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن مغفل قال: "ما رأيت قضاء أحسن من قضاء معاوية نرث أهل الكتاب ولا يرثوننا كما يحل لنا النكاحمنهم ولا يحل لهم منّا".
    وأجاب الجمهور بأن الحديث المتفق عليه نص في منع التوريث، وحديث معاذ ليس فيه دلالة على خصوصية الميراث إنما فيه الإخبار بأن دين الإسلام يفضل غيره من سائر الأديان ولا يزال يزداد ولا ينقص.
    وَعَنِ ابْن مَسْعُودٍ رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ في بِنْتٍ وبِنْتِ ابنٍ وأخْتٍ: "قضى النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للابْنَةِ النِّصْفُ، ولابْنَةِ الابنِ السُدسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقى فَللأخْتِ" رَوَاهُ الْبُخاري.
    (وَعَنِ ابْن مَسْعُودٍ رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ في بِنْتٍ وبِنْتِ ابنٍ وأخْتٍ: "قضى النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للابْنَةِ النِّصْفُ، ولابْنَةِ الابنِ السُدسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقى فَللأخْتِ" رَوَاهُ الْبُخاري).
    فيه دلالة على أن الأخت مع البنت وبنت الإبن عصبة تعطى بقية الميراث، وهو مجموع على أن الأخوات مع البنات عصبة. وقد أفتى أبو موسى أن للأخت النصف ثم أمر السائل أن يسأل ابن مسعود فقضى ابن مسعود بقضاء النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو موسى: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.
    ضبط أئمة اللغة الحبر بكسر الحاء وفتحها ورواية المحدثين جميعاً له بفتحها.
    قال أبو عبيد: هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه وقيل سمي حبراً لما يبقى من أثر علومه ــــ زاد الراغب ــــ في قلوب الناس ومن آثار أفعاله الحسنة المقتدى بها.
    وَعَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ" رَوَاهُ أَحمد والأرْبَعَةُ إلا الترمذيَّ، وَأَخْرجهُ الحاكمُ بلفظِ أُسامَةَ، ورَوى النسائي حديثَ أسامةَ بهذا اللفْظِ.
    (وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يتَوَارَثُ أَهْلُ ملّتين" رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي وأخرجه الحاكم بلفظ أسامة وروى النسائي حديث أسامة بهذا اللفظ).
    والحديث دليل على أنه لا توارث بين أهل ملتين مختلفتين بالكفر أو بالإسلام والكفر.
    وذهب الجمهور إلى أن المراد بالملتين الكفر والإسلام فيكون كحديث "لا يرث المسلم الكافر ــــ الحديث".
    قالوا: وأما توريث ملل الكفر بعضهم من بعض فإنه ثابت ولم يقل بعموم الحديث للملل كلها إلا الأوزاعي فإنه قال: لا يرث اليهودي من النصراني ولا عكسه وكذلك سائر الملل.
    والظاهر من الحديث مع الأوزاعي وهو مذهب الهادوية والحديث مخصص للقرآن في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم} فإنه عام في الأولاد فيخص منه الولد الكافر بأنه لا يرث من أبيه المسلم والقرآن يخص بأخبار الآحاد كما عرف في الأصول.
    وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: جاءَ رجلٌ إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَالَ: إنَّ ابْنَ ابني ماتَ فَمَا لي مِنْ ميراثِهِ؟ فَقَالَ: "لكَ السُّدسُ" فَلَما وَلَّى دَعَاهُ فقالَ: "لكَ سُدسٌ آخَرُ" فَلَما وَلى دَعاهُ فقالَ: "إنَّ السُّدُسُ الآخرَ طُعْمَةٌ" رَوَاهُ أَحْمدُ والأربَعَةُ وَصَحّحَهُ التِّرمِذِيُّ، وهُو مِنْ روايةِ الحسَن البصري عَنْ عِمْرَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.
    (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: جاءَ رجلٌ إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَالَ: إنَّ ابْنَ ابني ماتَ فَمَا لي مِنْ ميراثِهِ؟ فَقَالَ: "لكَ السُّدسُ" فَلَما وَلَّى دَعَاهُ فقالَ: "لكَ سُدسٌ آخَرُ" فَلَما وَلى دَعاهُ فقالَ: "إنَّ السُّدُسُ الآخرَ طُعْمَةٌ" رَوَاهُ أَحْمدُ والأربَعَةُ وَصَحّحَهُ التِّرمِذِيُّ، وهُو مِنْ روايةِ الحسَن البصري عَنْ عِمْرَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.
    قال قتادة: لا أدري مع أي شيء ورثه، وقال: أقل شيء ورث الجد السدس.
    وصورة هذه المسألة أنه ترك الميت بنتين وهذا السائل ــــ وهو الجد ــــ فللبنتين الثلثان وبقي ثلث فدفع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى السائل السدس بالفرض لأنه فرض الجد هنا ولم يدفع إليه السدس الآخر لئلا يظنّ أن فرضه الثلث وتركه حتى ولي أي ذهب فدعاه فقال لك سدس آخر وهو بقية التركة فلما ذهب دعاه فقال إن الآخر ــــ بكسر الخاء ــــ طعمة أي زيادة على الفريضة والمراد من ذلك إعلامه بأنه زائد على الفرض الذي له فله سدس فرضاً والباقي تعصيباً.
    وَعَنِ ابنِ بُريدَةَ عَنْ أَبيهِ رضي اللَّهُ عَنْهُما: أَنّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جَعَلَ للجَدَّةِ السُدُسَ إذا لمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ رَوَاهُ أَبُو داودَ والنّسائيُّ وصحّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ وابنُ الجارُودِ وقوَّاه ابنُ عَدِي.
    (وعن ابن بريدة رضي الله عنه عن أبيه رضي الله عنه) هو بريدة بن الحصيب (أَنّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جَعَلَ للجَدَّةِ السُدُسَ إذا لمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ رَوَاهُ أَبُو داودَ والنّسائيُّ وصحّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ وابنُ الجارُودِ وقوَّاه ابنُ عَدِي).
    فيه عبد الله العتكي مختلف فيه، وثقه أبو حاتم.
    والحديث دليل على أن ميراث الجدة السدس سواء كانت أم أُم أو أُم أب، ويشترك فيه الجدتان فأكثر إذا استوين فإن اختلفن سقطت البعدى من الجهتين بالقربى. ولا يسقطهنّ إلا الأم والأب كل منهما يسقط من كان من جهته.
    وَعَنِ المقْدامِ بنِ معديكَربَ قالَ: قالَ رسولُ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الخالُ وَارثُ من لا وارثَ لَهُ" أخْرَجَهُ أَحْمَدُ والأرْبَعَةَ سِوَى الترمذيِّ وحسّنهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازي وصححهُ ابنُ حِبّانَ والحاكمُ.
    (وَعَنِ المقْدامِ بنِ معديكَربَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الخالُ وَارثُ من لا وارثَ لَهُ" أخْرَجَهُ أَحْمَدُ والأرْبَعَةَ سِوَى الترمذيِّ وحسّنهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازي وصححهُ ابنُ حِبّانَ والحاكمُ).
    فيه دليل على توريث الخال عند عدم من يرث من العصبة وذوي السهام والخال من ذوي الأرحام.
    وقد اختلف العلماء في توريث ذوي الأرحام فذهبت طائفة كثيرة من علماء الآل وغيرهم إلى توريثهم فمن خَلّف عمته وخالته ولا وارث له سواهما كان للعمة الثلثان وللخالة الثلث واستدلوا بهذا الحديث وبقوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض}.
    وخالفت طائفة من الأئمة وقالوا: لا يثبت لذوي الأرحام ميراث لأن الفرائض لا تثبت إلا بكتاب الله أو سنة صحيحة أو إجماع والكل مفقود هنا.
    وأجابوا عن حديث الباب أنه نص في الخال لا في غيره، والآية مجملة ومسمى أولى الأرحام فيهما غير مسماه في عرف الفقهاء.
    وقد وردت أحاديث بأنه لا ميراث للعمة والخالة وإن كان فيها مقال لكنها معتضدة بأن الأصل عدم الميراث حتى يقوم الدليل الناهض مما ذكرناه.
    والقائلون بأنه لا ميراث لذوي الأرحام يقولون يكون مال من لا وارث له لبيت المال إذا كان منتظماً وهو إذا كان في يد إمام عادل يصرفه في مصارفه، أو كان في البلد قاض قائم بشروط القضاء مأذون له في التصرف في مال المصالح دفع إليه ليصرفه فيها.
    وتفاصيل بقية مواريث ذوي الأرحام على القول به مستوفى في كتب هذا الفن فلا نطول بها.
    وعَنْ أَبي أَمَامة بنِ سَهْلٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلى أَبي عُبيْدَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "اللَّهُ ورسولهُ مَوْلى مَنْ لا موْلى لَهُ، والخالُ وارثُ مَنْ لا وارث لهُ" رَواهُ أَحُمدُ والأربعةُ سوى أَبي داودَ وحسنهُ الترمذي وصححه ابنُ حبّان.
    (وعَنْ أَبي أَمَامة بنِ سَهْلٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلى أَبي عُبيْدَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "اللَّهُ ورسولهُ مَوْلى مَنْ لا موْلى لَهُ، والخالُ وارثُ مَنْ لا وارث لهُ" رَواهُ أَحُمدُ والأربعةُ سوى أَبي داودَ وحسنهُ الترمذي وصححه ابنُ حبّان).
    الحديث يرد قول من قال إن المراد بالخال في حديث المقدام السلطان ولو كان كذلك لقال: أنا وارث من لا وارث له.
    وقد أخرج أبو داود وصححه ابن حبان: "أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه".
    فالجمع بينه وبين حديث المقدام وحديث أبي أمامة الدالين على ثبوت ميراث الخال حيث لا وارث له أنه أراد به أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وارث من لا وارث له في جميع الجهات من العصبات وذوي السهام والخال.
    والمراد من إرثه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه يصير المال لمصالح المسلمين.
    وأنه لا يكون المال لبيت المال إلا عند عدم جميع من ذكر من الخال وغيره.
    وعَنْ جابر رضيَ الله عنْهُ عَنِ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا استهلَّ المَوْلُود وَرثَ" رواهُ أَبو داوُدَ وصَحّحَهُ ابنُ حِبّانَ.
    (وعَنْ جابر رضيَ الله عنْهُ عَنِ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا استهلَّ المَوْلُود وَرثَ" رواهُ أَبو داوُدَ وصَحّحَهُ ابنُ حِبّانَ.
    والاستهلال روي في تفسيره حديث مرفوع ضعيف: "الاستهلال العطاس" أخرجه البزار.
    وقال ابن الأثير: استهل المولود إذا بكى عند ولادته وهو كناية عن ولادته حياً وإن لم يستهل بل وجدت منه أمارة تدل على حياته.
    والحديث دليل على أنه إذا استهل السقط ثبت له حكم غيره في أنه يرث.
    ويقاس عليه سائر الأحكام من الغسل والتكفين والصلاة عليه ويلزم من قتله القود أو الدية.
    واختلفوا هل يكفي في الإخبار باستهلاله عدلة أو لا بد من عدلين أو أربع.
    الأول للهادوية والثاني للهادي والثالث للشافعي.
    وهذا الخلاف يجري في كل ما يتعلق بعورات النساء.
    وأفاد مفهوم الحديث أنه إذا لم يستهل لا يحكم بحياته فلا يثبت له شيء من الأحكام التي ذكرناها.
    وَعَنْ عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّه قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَيْسَ للقَاتلِ منَ الميرَاثِ شيءٌ" رواهُ النسائيُّ والدارَقُطْنيُّ، وقَواهُ ابنُ عَبْدِ البرِّ وأَعَلّهُ النسائي. والصَّوابُ وقْفُهُ عَلى عَمْرو.
    والحديث له شواهد كثيرة لا تقصر عن العمل بمجموعها.
    وإلى ما أفاده من عدم إرث القاتل عمداً كان أو خطأ ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر العلماء.
    قالوا: لا يرث من الدية ولا من المال.
    وذهبت الهادوية و مالك إلى أنه إن كان القتل خطأ ورث من المال دون الدية ولا يتم لهم دليل ناهض على هذه التفرقة.
    بل أخرج البيهقي عن خلاس: أن رجلاً رمى بحجر فأصاب أُمه فماتت من ذلك، فأراد نصيبه من ميراثها فقال له إخوته: لا حق لك. فارتفعوا إلى عليّ عليه السلام فقال له عليّ عليه السلام: حقك من ميراثها الحجر فأغرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئاً.
    وأخرج أيضاً عن جابر بن زيد قال: "أيما رجل قتل رجلاً أو امرأة عمداً أو خطأ ممن يرث فلا ميراث له منهما وأيما امرأة قتلت رجلاً أو امرأة عمداً أو خطأ فلا ميراث لها منهما".
    وإن كان القتل عمداً فالقود إلا أن يعفو أولياء المقتول فإن عفوا فلا ميراث له من عقله ولا من ماله قضى بذلك[اث] عمر بن الخطاب[/اث] و[اث] عليُّ[/اث] وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين.
    وَعَنْ عُمَرَ بنِ الخطابِ رضي اللَّهُ عَنهُ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: "ما أَحْرَزَ الوَالِدُ أَو الوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كانَ" رَوَاهُ أبُو داودَ والنسائي وابنُ ماجَهْ وصحّحَهُ ابنُ المديني وابنُ عَبْدِ البر.
    (وَعَنْ عُمَرَ بنِ الخطابِ رضي اللَّهُ عَنهُ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: "ما أَحْرَزَ الوَالِدُ أَو الوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كانَ" رَوَاهُ أبُو داودَ والنسائي وابنُ ماجَهْ وصحّحَهُ ابنُ المديني وابنُ عَبْدِ البر).

    المراد بإحراز الوالد أو الولد أن ما صار مستحقاً لهما من الحقوق فإنه يكون للعصبة ميراثاً، والحديث فيه قصة.
    ولفظه في السنن: "أن رئاب بن حذيفة تزوج امرأة فولدت له ثلاثة غلمة فماتت أمهم فورثوها رباعها وولاء مواليها وكان عمرو بن العاص عصبة بنيها فأخرجهم إلى الشام فماتوا فقدم عمرو بن العاص ومات مولى لها وترك مالاً فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب فقال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أحرز ــــ الحديث ــــ قال فكتب له كتاباً فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت ورجل آخر".
    والحديث دليل على أن الولاء لا يورث وفيه خلاف.
    وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا أعتق رجل عبداً ثم مات ذلك الرجل وترك أخوين أو ابنين ثم مات أحد الابنين وترك ابناً أو أحد الأخوين وترك ابناً.
    فعلى القول بالتوريث ميراثه بين الابن وابن الابن أو الأخ وابن الأخ.
    وعلى القول بعدمه يكون للابن وحده.
    وَعَنْ عبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَر رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُما قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسبِ لا يباعُ وَلا يُوهَبُ" رَواهُ الحاكِمُ مِنْ طريقِ الشافعيِّ عَنْ محمدٍ بِنْ الحسَنِ عَنْ أبي يُوسُفَ وَصَحّحَهُ ابنُ حِبّانَ وأَعَلَّهُ البَيْهَقِيُّ.
    (وَعَنْ عبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَر رَضيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُما قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسبِ لا يباعُ وَلا يُوهَبُ" رَواهُ الحاكِمُ مِنْ طريقِ الشافعيِّ عَنْ محمدٍ بِنْ الحسَنِ عَنْ أبي يُوسُفَ وَصَحّحَهُ ابنُ حِبّانَ وأَعَلَّهُ البَيْهَقِيُّ).
    وللعلماء كلام كثير في طرق الحديث وصحته وعدمها، وقد تقدّم في كتاب البيع ودل على أن الولاء لا يكتسب ببيع ولا هبة ولا يقاس عليهما سائر التمليكات من النذر والوصية لأنه قد جعله كالنسب، والنسب لا ينتقل بعوض ولا بغير عوض.
    وَعَنْ أَبي قِلابَةَ عَنْ أَنَسٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَفْرضُكم زَيْدُ بنُ ثابتٍ" أَخرجَهُ أَحْمَدُ والأربعةُ سوى أبي داودَ وصحّحَهُ الترمذي وابن حِبّان والحاكِمُ وَأُعِلَّ بالإرْسَالِ.
    (وَعَنْ أَبي قِلابَةَ) بكسر القاف وتخفيف اللام بعد ألفه موحدة تابعي جليل (عَنْ أَنَسٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَفْرضُكم زَيْدُ بنُ ثابتٍ" أَخرجَهُ أَحْمَدُ والأربعةُ سوى أبي داودَ وصحّحَهُ الترمذي وابن حِبّانوالحاكِمُ وَأُعِلَّ بالإرْسَالِ).
    بأن أبا قلابة لم يسمع هذا الحديث من أنس وإن كان سماعه لغيره من الأحاديث عن أنس ثابتاً.
    وهذا الذي ذكر قطعة من الحديث فإنه حديث طويل فيه ذكر سبعة من الصحابة يختص كل منهم بخصلة خير، فذكر المصنف منه ما له تعلق بباب الفرائض لأنه شهادة لزيد بن ثابت بأنه أعلم المخاطبين بالمواريث. فيؤخذ منه أنه يرجع إليه عند الاختلاف واعتمده الشافعي في الفرائض ورجحهعلى غيره.
    باب الوصايا
    الوصايا جمع وصية كهدايا وهدية وهي شرعاً عهد خاص يضاف إلى ما بعد الموت.
    عَنِ ابنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَا حَقُّ امرىءٍ مُسلم لهُ شيءٌ يريد أن يُوصِيَ فيهِ يَبيتُ لَيْلَتَيْنِ إلا وَوَصِيّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ" متّفقٌ عَلَيْهِ.
    (عَنِ ابنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَا حَقُّ امرىءٍ مُسلم لهُ شيءٌ يريد أن يُوصِيَ فيهِ يَبيتُ لَيْلَتَيْنِ إلا وَوَصِيّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ" متّفقٌ عَلَيْهِ).
    كلمة "ما" نافية بمعنى ليس وحق اسمها وخبرها ما بعد إلا والواو زائدة في الخبر لوقوع الفصل بإلا.
    قال الشافعي: معناه ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه لأنه لا يدري متى تأتيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك.
    وقال غيره: الحق لغة الشيء الثابت ويطلق شرعاً على ما يثبت به الحكم والحكم الثابت أعم من أن يكون واجباً أو مندوباً ويطلق على المباح بقلة فإن اقترن به "على" ونحوه كان ظاهراً في الوجوب وإلا فهو على الاحتمال.
    وفي قوله: "يريد أن يوصي" ما يدل على أن الوصية ليست بواجبة عليه وإنما ذلك عند إرادته.
    وقد أجمع المسلمون على الأمر بها وإنما اختلفوا هل هي واجبة أم لا.
    فذهب الجماهير إلى أنها مندوبة.
    وذهب داود وأهل الظاهر إلى وجوبها.
    وحكي عن الشافعي في القديم، وادعى ابن عبد البر الإجماع على عدم وجوبها مستدلاً من حيث المعنى بأنه لو لم يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله سهم ينوب عن الوصية.
    والأقرب ما ذهب إليه الهادوية وأبو ثور من وجوبها على من عليه حق شرعي يخشى أن يضيع إن لم يوص به كوديعة ودين لله تعالى أو لآدمي.
    ومحل الوجوب فيمن عليه حق ومعه مال ولم يمكنه تخليصه إلا إذا أوصى به وما انتفى فيه واحد من ذلك فلا وجوب.
    وقوله: "ليلتين" للتقريب لا للتحديد وإلا فقد روي ثلاث ليال.
    وقال الطيبي: في تخصيص الليلتين والثلاث تسامح في إرادة المبالغة أي لا ينبغي أن يبيت زماناً وقد سامحناه في الليلتين والثلاث فلا ينبغي أن يتجاوز ذلك.
    وروى مسلم عن[اث] ابن عمر[/اث] راوي الحديث أنه قال: ولم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي.
    وأما ما أخرجه ابن المنذر بسند صحيح عن نافع "أنه قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي قال: أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه" فيجمع بينه وبين ما قبله بأنه كان يكتب وصيته ويتعاهدها وينجز ما كان يوصي به حتى وفد عليه الموت ولم يكن له شيء يوصي به.
    وفي قوله: "أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه" ما يدل لهذا الجمع.
    واستدل بقوله: "مكتوبة عنده" على جواز الاعتماد على الكتابة والخط وإن لم يقترن بشهادة.
    وقال بعض أئمة الشافعية إن ذلك خاص بالوصية وأنه يجوز الاعتماد على الخط فيها من دون شهادة لثبوت الخبر فيها ولأنّ الوصية لما أمر الشارع بها وهي تكون مما يلزم من حقوق ولوازم كان حقها أن تجدد في الأوقات واستصحاب الإشهاد في كل لازم يريد أن يتخلص منه خشية مفاجأة الأجل متعسر بل متعذر في بعض الأوقات فيلزم منه عدم وجود الوصية أو شرعيتها بالكتابة من دون شهادة إذ لا فائدة في ذلك وقد ثبت الأمر المذكور في الحديث بها فدل على قبولها من غير شهادة.
    وقال الجماهير: المراد مكتوبة بشرطها وهو الشهادة واستدلوا بقوله تعالى: {شهادة أحدكم أذا حضر أحدكم الموت} إنه دال على اعتبار الإشهاد في الوصية.
    وأجيب بأنه لا يلزم من ذكر الإشهاد في الآية أنها لا تصح الوصية إلا به.
    والتحقيق أن المعتبر معرفة الخط فإذا عرف خط الموصي عمل به ومثله خط الحاكم وعليه عمل الناس قديماً وحديثاً.
    وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث الكتب يدعو فيها العباد إلى الله تعالى وتقوم عليهم الحجة بذلك ولم يزل الناس يكتب بعضهم إلى بعض في المهمات من الدينيات والدنيويات ويعملون بها وعليه العمل بالوجادة كل ذلك من دون إشهاد.
    والحديث دليل على الإيصاء بشيء يتعلق بالحقوق ونحوها لقوله: "له شيء يريد أن يوصي".
    وأما كتب الشهادتين ونحوهما مما جرت به عادة الناس فلا يعرف فيه حديث مرفوع وإنما أخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن أنس موقوفاً قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
    وضمير كانوا عائد إلى الصحابة إذ المخبر صحابي.
    واختلف العلماء هل أوصى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أو لم يوص لاختلاف الروايات في ذلك.
    ففي البخاري عن ابن أبي أَوْفَى أنه لم يوص قالوا: لأنه لم يترك مالاً وأما الأرض قد كان سلبها وأما السلاح والبغلة فقد كان أخبر أنها لا تورث كما ذكره النووي.
    وفي المغازي لابن إسحاق أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يوص عند موته إلا بثلاث لكل من الداريين والرهاويين والأشعريين بجاد مائة وسق من خيبر وألا يترك في جزيرة العرب دينان وأن ينفذ بعث أسامة.
    وأخرج مسلم من حديث ابن عباس "أوصى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بثلاث: أجيزوا الوفد بمثل ما كنت أجيزهم ــــ الحديث".
    وفي حديث ابن أبي أوفى "أوصى بكتاب الله".
    وفي حديث أنس عند النسائي وأحمد وابن سعد "كانت وصيته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين حضره الموت: الصلاة وما ملكت أيمانكم".
    وقد ثبتت وصيته بالأنصار وبأهل بيته ولكنها ليست عند الموت وروي غير ذلك.
    وقد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أراد في مرضه أن يكتب كتاباً وهو وصيته للأمة إلا أنه حيل بينه وبينه كما أخرجه البخاري.
    وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وقاص رضيَ اللَّهُ تَعَالَى عنه قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ الله أَنا ذو مال ولا يرثُني إلا ابنَةٌ لي واحدةٌ أَفَأَتَصَدَّق بِثُلُثَيْ مالي؟ قالَ: "لا" قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشطره؟ قالَ "لا" قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بثلثِهِ؟ قالَ: "الثُّلْثُ والثُّلْثُ كثيرٌ؛ إنكَ أَنْ تَذَرَ ورثَتَكَ أَغْنياءَ خيَرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عالةً يَتَكَفَفُونَ الناسَ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
    (وعن سعد بن أبي وقاص قال: قلتُ يا رسول الله أنا ذو مال) وقع في رواية: كثير (ولا يَرثُني إلا ابنةٌ لي واحدةٌ أفأتصدَّقُ بِثُلُثَيْ مالي قال: "لا" قلت: أفأتصدقُ بِشَطْر مالي؟ قال: "لا" قلتُ أفأتصدقُ بثلثِهِ قال: "الثُّلُثُ والثُّلُثُ كثيرٌ إنّك أنْ) يروى بفتح الهمزة وكسرها فالفتح على تقدير لام التعليل والكسر على أنها شرطية وجوابه خير على تقدير فهو خير (تَذرْ ورَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تَذَرَهُمْ عالَةً) جمع عائل هو الفقير (يتَكَفّفُون) يسألون (النّاسَ) بأكفهم (متفق عليه).
    اختلف متى وقع هذا الحكم فقيل: في حجة الوداع بمكة فإنه مرض سعد فعاده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فذكر ذلك وهو صريح في رواية الزهري.
    وقيل: في فتح مكة أخرجه الترمذي عن ابن عيينة واتفق الحفاظ أنه وهم وأن الأول هو الصحيح وقيل: وقع ذلك في المرتين معاً.
    وأخذ من مفهوم قوله كثير أنه لا يوصي من مال قليل روي هذا عن[اث] علي[/اث] و[اث]ابن عباس[/اث] و[اث]عائشة[/اث].
    وقوله: "لا يرثني إلا ابنة لي" أي لا يرثني من الأولاد وإلا فإن سعداً كان من بني زهرة وهم عصبته وكان هذا قبل أن يولد له الذكور وإلا فإنه ذكر الواقدي أنه ولد لسعد بعد ذلك أربعة بنين وقيل أكثر من عشرة ومن البنات اثنتا عشرة بنتاً.
    وقوله: "أفأتصدق" يحتمل أنه استأذنه في تنجيز ذلك في الحال أو أراد بعد الموت إلا أنه في رواية بلفظ: أوصي وهي نص في الثاني فيحمل الأول عليه.
    وقوله: "بشطر مالي" أراد به النصف وقوله والثلث كثير يروى بالمثلثة وبالموحدة على أنه شك من الراوي وقع ذلك في البخاري ومثله وقع في النسائي وأكثر الروايات بالمثلثة.
    ووصف الثلث بالكثرة بالنسبة إلى ما دونه. وفي فائدة وصفه بذلك احتمالان:
    الأول بيان أن الأولى الاقتصار عليه من غير زيادة وهذا هو المتبادر وفهمه[اث] ابن عباس[/اث] فقال: وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع في الوصية.
    والثاني بيان أن التصدق بالثلث وهو الأكمل أي كثير أجره ويكون من الوصف بحال المتعلق.
    وفي الحديث دليل على منع الوصية بأكثر من الثلث لمن له وارث وعلى هذا استقر الإجماع.
    وإنما اختلفوا هل يستحب الثلث أو أقل؟
    فذهب[اث] ابن عباس[/اث] والشافعي وجماعة إلى أن المستحب ما دون الثلث لقوله والثلث كثير قال قتادة: أوصى أبو بكر بالخمس وأوصى عمر بالربع والخمس أحب إليّ.
    وذهب آخرون إلى أن المستحب الثلث لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة على حسناتكم" وسيأتي قريباً أنه حديث ضعيف.
    والحديث ورد فيمن له وارث فأما من لا وارث له فذهب مالك إلى أنه مثل من له وارث فلا يستحب له الزيادة على الثلث.
    وأجازت الهادوية والحنفية له الوصية بالمال كله وهو قول[اث] ابن مسعود[/اث] فلو أجاز الوارث الوصية بأكثر من الثلث نفذت لإسقاطهم حقهم وإلى هذا ذهب الجمهور وخالفت الظاهرية و المزني.
    وسيأتي في حديث ابن عباس: "إلا أن يشاء الورثة" وأنه حسن يعمل به.
    نعم فلو رجع الورثة عن الإجازة فذهب جماعة إلى أنه لا رجوع لهم في حياة الموصي ولا بعد وفاته.
    وقيل: إن رجعوا بعد وفاته فلا يصح لأن الحق قد انقطع بالموت بخلاف حال الحياة فإنه يتجدد لهم الحق.
    وسبب الخلاف الاختلاف في المفهوم من قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنك أن تذر إلى آخره" هل يفهم منه علة المنع من الوصية بأكثر من الثلث وأن السبب في ذلك رعاية حق الوارث وأنه إذا انتفى ذلك انتفى الحكم بالمنع؟
    أو أن العلة لا تتعدى الحكم؟ أو يجعل المسلمون بمنزلة الورثة كما هو أحد قولي الشافعي؟.
    والأظهر أن العلة متعدية وأنه ينتفي الحكم في حق من ليس له وارث معين.
    وَعَنْ عائشَةَ أَنّ رَجُلاً أَتى النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَالَ: يَا رسولَ الله إن أمي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تُوص وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلّمّتْ تَصَدَّقَتْ أَفَلَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قالَ: "نَعَمْ" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ. واللّفْظُ لمسْلِمٍ.
    (وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً) جاء مبيناً أنه سعد بن عبادة (أتى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال يا رسول الله إن أمي افْتُلِتَتْ) بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وكسر اللام (نَفْسُها) أخذت فلتة (ولم توصِ وأظنّها لو تَكَلّمَتْ تصَدَّقَتْ أَفَلَهَا أَجرٌ إن تَصَدَّقْتُ عنها؟ قال: "نَعَمْ" متفق عليه واللفظ لمسلم).
    في الحديث دليل على أن الصدقة من الولد تلحق الميت ولا يعارضه قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} لثبوت حديث: "إن أولادكم من كسبكم" ونحوه فولده من سعيه وثبوت "أو ولد صالح يدعو له" وقد قدمنا الكلام في ذلك في آخر كتاب الجنائز.
    وَعَنْ أَبي أُمامةَ الْباهليِّ رضي اللَّهُ تَعَالى عنه قالَ: سَمِعْتُ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَقُولُ: "إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطى كُلَّ ذي حقَ حَقّهُ فلا وصيّةَ لِوارثٍ" رَوَاهُ أَحْمدُ والأربعةُ إلا النسائيَّ وحسّنَهُ أَحمَدُ والترمذيُّ وَقَوَّاهُ ابنُ خُزيمةَ وَابنُ الْجَارود، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ مِنْ حديث ابنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وَزَادَ في آخرِهِ "إلا أَنْ يَشَاءَ الوَرَثَةُ" وإسْنَادُهُ حَسَنٌ.
    (وَعَنْ أَبي أُمامةَ الْباهليِّ رضي اللَّهُ عنه قالَ: سَمِعْتُ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَقُولُ: "إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطى كُلَّ ذي حقَ حَقّهُ فلا وصيّةَ لِوارثٍ" رَوَاهُ أَحْمدُ والأربعةُ إلا النسائيَّ وحسّنَهُ أَحمَدُ والترمذيُّ وَقَوَّاهُ ابنُ خُزيمةَ وَابنُ الْجَارود، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ مِنْ حديث ابنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وَزَادَ في آخرِهِ "إلا أَنْ يَشَاءَ الوَرَثَةُ" وإسْنَادُهُ حَسَنٌ).
    وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي.
    وعن أنس عند ابن ماجه وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني.
    وعن جابر عنده أيضاً وقال: الصواب إرساله.
    وعن علي عند ابن أبي شيبة ولا يخلو إسناد كل واحد منها عن مقال لكن مجموعها ينهض على العمل به.
    بل جزم الشافعي في الأم أن هذا المتن متواتر فإنه قال: إنه نقل كافة عن كافة وهو أقوى من نقل واحد.
    قلت: الأقرب وجوب العمل به لتعدد طرقه ولما قاله الشافعي وإن نازع في تواتره الفخر الرازي ولا يضر ذلك بثبوته فإنه متلقى بالقبول من الأمة كما عرف.
    وقد ترجم له البخاري فقال: "باب لا وصية لوارث" وكأنه لم يثبت على شرطه فلم يخرجه ولكنه أخرج بعده عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفاً في تفسير الآية وله حكم المرفوع.
    والحديث دليل على منع الوصية للوارث وهو قول الجماهير من العلماء.
    وذهب الهادي وجماعة إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى: {كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية قالوا: ونسخ الوجوب لا ينافي بقاء الجواز.
    قلنا: نعم لو لم يرد هذا الحديث فإنه ناف لجوازها إذ وجوبها قد علم نسخه من آية المواريث كما قال [اث]ابن عباس[/اث]: "كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ الله سبحانه من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمنوالربع وللزوج الشطر والربع".
    وقوله "إلا أن يشاء الورثة" دل على أنها تصح وتنفذ الوصية للوارث إن أجازها الورثة وتقدم الكلام في إجازة الورثة ما زاد على الثلث هل ينفذ بها أو لا وأن الظاهرية ذهبت إلى أنه لا أثر لإجازتهم والظاهر معهم لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما نهى عن الوصية للوارث قيدها بقوله: "إلا أن يشاء الورثة" وأطلق لما منع عن الوصية بالزائد على الثلث وليس لنا تقييد ما أطلقه.
    ومن قيد هنالك قال: إنه يؤخذ القيد من التعليل بقوله: إنك أن تذر الخ. فإنه دل على أَن المنع من الزيادة على الثلث كان مراعاة لحق الورثة فإن أجازوا سقط حقهم ولا يخلو عن قوة. هذا في الوصية للوارث.
    واختلفوا إذا أقرّ المريض للوارث بشيء من ماله فأجازه الأوزاعي وجماعة مطلقاً.
    وقال أحمد لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقاً واحتج بأنه لا يؤمن بعد المنع من الوصية لوارثه أن يجعلها إقراراً.
    واحتج الأول بما يتضمن الجواب عن هذه الحجة فقال: إن التهمة في حق المحتضر بعيدة وبأنه وقع الاتفاق أنه لو أقر بوارث آخر صح إقراره مع أنه يتضمن الإقرار بالمال وبأن مدار الأحكام على الظاهر فلا يترك إقراره للظن المحتمل فإن أمره إلى الله.
    قلت: وهذا القول أقوى دليلاً.
    واستثنى مالك ما إذا أقر لبنته ومعها من يشاركها من غير الولد كابن العم قال: لأنه يتهم في أنه يزيد لابنته وينقص ابن العم.
    وكذلك استثنى ما إذا أقر لزوجته المعروف بمحبته لها وميله إليها وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد لا سيما إذا كان له منها ولد في تلك الحال.
    قلت: والأحسن ما قيل عن بعض المالكية واختاره الروياني من الشافعية أن مدار الأمر على التهمة وعدمها فإن فقدت جاز وإلا فلا وهي تعرف بقرائن الأحوال وغيرها وعن بعض الفقهاء أنه لا يصح إقراره إلا للزوجة بمهرها.
    وَعَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رضيَ اللَّهُ تَعَالى عَنْهُ قالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن الله تَصَدَّقَ عَلَيْكمْ بثلثِ أَموالكُمْ عِنْدَ وَفاتِكُم زيادة في حَسَنَاتِكُمْ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيَ، وَأَخْرجهُ أَحْمدُ والبَزَّارُ منْ حَديثِأَبي الدَّرْداءِ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أَبي هُريرةَ، وكلها ضَعِيفةٌ لكنْ قَدْ يُقوِّي بَعْضُها بَعْضاً، والله أَعْلمُ.
    (وَعَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رضيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إن الله تَصَدَّقَ عَلَيْكمْ بثلثِ أَموالكُمْ عِنْدَ وَفاتِكُم زيادة في حَسَنَاتِكُمْ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيَ، وَأَخْرجهُ أَحْمدُ والبَزَّارُ منْ حَديثِ أَبي الدَّرْداءِ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أَبي هُريرةَ، وكلها ضَعِيفةٌ لكنْ قَدْ يُقوِّي بَعْضُها بَعْضاً، والله أَعْلمُ).
    وذلك لأن في إسناده[تض] إسماعيل بن عياش [/تض] وشيخه[تض] عتبة بن حميد[/تض] وهما ضعيفان وإن كان لهم في رواية إسماعيل تفصيل معروف.
    والحديث دليل على شرعية الوصية بالثلث وأنه لا يمنع منه الميت.
    وظاهره الإطلاق في حق من له مال كثير ومن قل ماله وسواء كانت لوارث أو غيره.
    ولكن يقيده ما سلف من الأحاديث التي هي أصح منه فلا تنفذ للوارث وإليه ذهب الفقهاء الأربعة وغيرهم والمؤيد بالله. وروى عن زيد بن علي.
    وذهبت الهادوية إلى نفوذها للوارث وادعى فيه إجماع أهل البيت ولا يصح هذا.
    واعلم أن قوله تعالى: {من بعد وصية يوصين بها أو دين} يقتضي ظاهره أنه يخرج الدين والوصية من تركة الميت على سواء فتشارك الوصية الدين إذا استغرق المال.
    وقد اتفق العلماء على أنه يقدّم إخراج الدين على الوصية لما أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث عليّ عليه السلام من رواية الحارث الأعور عنه قال: "قضى محمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن الدين قبل الوصية وأنتم تقرءون الوصية قبل الدين" وعلقه البخاري وإسناده ضعيف.
    لكن قال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه وقد أورد له شاهداً ولم يختلف العلماء أن الدين يقدم على الوصية.
    فإن قيل: فإذا كان الأمر هكذا فلم قدمت الوصية على الدين في الآية؟.
    قلت: أجاب السهيلي بأنها لما كانت الوصية تقع على وجه البر والصلة والدين يقع بتعدي الميت بحسب الأغلب بدأ بالوصية لكونها أفضل.
    وأجاب غيره: بأنها قدمت الوصية لأنها شيء يؤخذ بغير عوض والدين يؤخذ بعوض فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين وكان أداؤها مظنة التفريط بخلاف الدين قدمت الوصية لذلك، لأنها حظ الفقير والمسكين غالباً والدين حظ الغريم يطلبه بقوة وله مقال، ولأن الوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه فقدمت تحريضاً على العمل بها بخلاف الدين فإنه مطلوب منه ذكر أو لم يذكر.
    أو لأن الوصية ممكنة من كل أحد تتعلق بذمته إما ندباً أو وجوباً فيشترك فيها جميع المخاطبين وتقع بالمال وبالعمل وقل ما يخلو عن ذلك بخلاف الدين، وما يكثر وقوعه أهم بأن يذكر أَوَّلاً مما يقل وقوعه.
    باب الوديعة
    الوديعة هي العين التي يضعها مالكها أو نائبه عند آخر ليحفظها وهي مندوبة إذا وثق من نفسه بالأمانة لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" أخرجه مسلم. وقد تكون واجبة إذا لم يكن من يصلح لها غيره وخاف الهلاك عليها إن لم يقبلها.
    عَنْ عُمْرو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبيه عَنْ جَدِّهِ رضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "مَنْ أُوْدِعَ وَديعةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ" أَخْرَجَهُ ابن مَاجَهْ وإسْنَادُهُ ضعيفٌ.
    (عَنْ عُمْرو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبيه عَنْ جَدِّهِ عَنِ النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "مَنْ أُوْدِعَ وَديعةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ" أَخْرَجَهُ ابن مَاجَهْ وإسْنَادُهُ ضعيفٌ).
    وذلك أن في رواته المثنى بن الصباح وهو متروك.
    وأخرجه الدارقطني بلفظ: "ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان" وفي إسناده ضعيفان.
    قال الدارقطني: وإنما يوري هذا عن شريح غير مرفوع وفسر المغل في رواية الدارقطني بالخائن وقيل هو المستغل.
    وفي الباب آثار عن[اث] أبي بكر[/اث] و[اث] علي[/اث] و[اث] ابن مسعود[/اث] و[اث] جابر[/اث] أن الوديعة أمانة وفي بعضها مقال.
    ويغني عن ذلك الإجماع فإنه وقد على أنه ليس على الوديع ضمان إلا ما يروى عن الحسن البصري أنه إذا اشترط الضمان فإنه يضمن وقد تؤول بأنه مع التفريط.
    والوديعة قد تكون باللفظ كاستودعتك ونحوه من الألفاظ الدالة على الاستحفاظ ويكفي القبول لفظاً.
    وقد تكون بغير لفظ كأن يضع في حانوته وهو حاضر ولم يمنعه من ذلك أو في المسجد وهو غير مصل وأما إذا كان في الصلاة فلا لأنه لا يمكنه إظهار الكراهة.
    وفي باب الوديعة تفاصيل في الفروع كثيرة. قوله: (وباب قسم الصدقات) بين الأصناف الثمانية (في آخر الزكاة) وهو أليق بالاتصال به (وباب قسم الفيء والغنيمة يأتي عقب الجهاد إن شاء الله) وهو أولى بأن يلي الجهاد لأنه من توابعه.
    وإنما ذكر المصنف هذا لأنها جرت عادة كتب فروع الشافعية على جعل هذين البابين قبيل كتاب النكاح والمصنف خالفهم فألحقهما بما هو أليق بهما.

  2. #2
    مشرف القسم العام
    قسم هندسة الكهرباء
    قسم هندسة الشبكات wan lan
    الصورة الرمزية سائر في ربى الزمن
    تاريخ التسجيل
    Nov 2008
    الدولة
    اليمن السعيد
    المشاركات
    5,301
    معدل تقييم المستوى
    22

    افتراضي رد: سلسة سبل السلام شرح بلوغ المرام

    سبل السلام
    شرح بلوغ المرام
    للصنعاني


    كتــاب الأطعمــة

    عَنْ أَبي هُرَيْرةَ رضي اللّهُ عنهُ عن النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "كلُّ ذي ناب مِنَ السبِّاع فَأَكْلُهُ حَرَامٌ" رواهُ مسلمٌ.
    دل الحديث على تحريم ما له ناب من سباع الحيوانات. والناب: السنّ خلف الرباعية كما في القاموس. والسبع: هو المفترس من الحيوان كما في القاموس أيضاً؛ وفيه: الافتراس والاصطياد، وفي النهاية: أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع هو ما يفترس الحيوان ويأكله قهراً وقسراً كالأسد والذئب والنمر ونحوها.
    واختلف العلماء في المحرم منها: فذهب الهادوية و الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وداود إلى ما أفاده الحديث، ولكنهم اختلفوا في جنس السباع المحرمة فقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضبع واليربوع والسنور. وقال الشافعي: يحرم من السباع ما يعدو على الناس كالأسد والذئب والنمر دون الضبع والثعلب لأنهما لا يعدوان على الناس.
    وذهب[اث] ابن عباس[/اث] ــــ فيما حكاه عنه ابن عبد البرّ ــــ[اث] وعائشة وابن عمر[/اث]؛ ــــ على رواية عنه فيها ضعف ــــ والشعبي وسعيد بن جبير إلى حل لحوم السباع مستدلين بقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً} فالمحرم هو ما ذكر في الآية وما عداه حلال.
    وأجيب: بأن الآية مكية وحديث أبي هريرة بعد الهجرة، فهو ناسخ للآية عند من يرى نسخ القرآن بالسنّة. وبأن الآية خاصة بثمانية الأزواج من الأنعام ردّاً على من حرم بعضها كما ذكر الله تعالى قبلها من قوله: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام} إلى آخر الآيات. فقيل في الردعليهم {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} أي أن الذي أحللتموه هو المحرم والذي حرمتموه هو الحلال، وأن ذلك افتراء على الله وقن بها لحم الخنزير لكونه مشاركاً لها في علة التحريم وهو كونه رجساً. فالآية وردت في الكفار الذين يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله بهويحرمون كثيراً مما أباحه الشرع، وكان الغرض من الآية بيان حالهم وأنهم يضادون الحق فكأنه قيل: ما حرام إلا ما أحللتموه مبالغة في الرد عليهم.
    قلت: ويحتمل أن المراد قل لا أجد الآية محرماً إلا ما ذكر في الآية ثم حرم الله من بعد كل ذي ناب من السباع. ويروي عن مالك أنه إنما يكره أكل كل ذي ناب من السباع لا أنه محرم.
    [رح] ـــ وأخرجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "نَهَى". وزادَ: "وكلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ".
    وأخرجه أي أخرج معنى حديث أبي هريرة، من حديث ابن عباس بلفظ نهى أي عن كل ذي ناب من السباع، وزاد أي ابن عباس وكل ذي مخلب بكسر الميم وسكون الخاء المعجة وفتح اللام آخره موحدة [من الطير] وأخرج الترمذي من حديث جابر تحريم كل ذي مخلب من الطير، وأخرجه أيضاً من حديث العرباض بن سارية وزاد فيه: يوم خيبر.
    في القاموس المخلب ظفر كل سبع من الماشي والطائر أو هو لمايصيد من الطير. والظفر لما لا يصيد. وإلى تحريم كل ذي مخلب من الطير ذهبت الهادوية ونسبه النووي إلى الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وداود والجمهور. وفي نهاية المجتهد نسب إلى الجمهور القول بحل كل ذي مخلب من الطير، وقال: وحرمها قوم ونقل النووي أثبت لأنه المذكور في كتب الفريقين وأحمد، فإن في دليل الطالب على مذهب أحمد ما لفظه: ويحرم من الطير ما يصيد بمخلبه كعقاب وباز وصقر وباشق وشاهين وعدد كثيراً من ذلك ومثله في المنهاج للشافعية ومثله للحنفية.
    وقال مالك: يكره كل ذي مخلب من الطير ولا يحرم. وأما النسر فقالوا: ليس بذي مخلب لكنه محرم لاستخباثه. قالت الشافعية: ويحرم ما ندب قتله كحية وعقرب وغراب أبقع وحدأة وفأرة وكل سبع ضار واستدلوا بقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرام"،وتقدم في كتاب الحج قالوا: ولأن هذه مستخبثات شرعاً وطبعاً.
    قلت: وفي دلالة الأمر بقتلها على تحريم أكلها نظر ويأتي لهم أن الأمر بعدم القتل دليل على التحريم، وقد قال الشافعية: إن الآدمي إذا وطيء بهيمة من بهائم الأنعام فقد أمر الشارع بقتلها قالوا: ولا يحرم أكلها فدل على أنه لا ملازمة بين الأمر بالقتل والتحريم.
    [رح] ـــ وعن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهلِيَّةِ، وأَذِنَ في لُحُومِ الخَيْلِ". متفق عليه، وفي لفظ للبخاري: "ورخَّص".
    عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّميوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. متفق عليه وفي لفظ البخاري لرواية جابر هذه، (ورخص) عوض أذن وقد ثبت في روايات أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وجد القدور تغلي بلحمها فأمر بإراقتها، وقال: لا تأكلوا من لحومها شيئاً والأحاديث في ذلك كثيرة، وفي رواية إنها رجس أو نجس، وفي لفظ إنها رجس من عمل الشيطان. وفي الحديث مسألتان:
    الأولىأنه دل منطوقه على تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، إذ النهي أصله التحريم، وإلى تحريم أكل لحومها ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلا ابن عباس فقال: ليست بحرام. وفي رواية ابن جريج عن ابن عباس: وأبى ذلك البحر وتلا قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} وروي عن عائشة وعن مالك روايات أنها مكروهة أو حرام أو مباحة.
    وأما ما أخرجه أبو داود عن غالب بن أبجر قال: "أصابتنا سنّة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، فأتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقلت: إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة. فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من جهة جوال القرية ــــ يعني الجلالة ــــ.
    فقد قال الخطابي: أما حديث ابن أبجر فقد اختلف في إسناده قال أبو داود: رواه شعبة عن عبيد بن الحسن عن عبد الرحمن بن معقل عن عبد الرحمن بن بشر عن ناس من مزينة أن سيد مزين أبجر أو ابن أبي أبجر سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه مسعر فقال: عن ابن عيينة عن أبي معقل عن رجلين من مزينة أحدهما عن الآخر، وقد ثبت التحريم من حديث جابر، يريد هذا وساقه من طريق أبي داود متصلاً، ثم قال:
    وأما قوله: "إنما حرمتها من أجل جوالّ القرية" فإن الجوال هي التي تأكل العذرة وهي الجلة، إلا أن هذا لا يثبت، وقد ثبت أنه إنما نهى عن لحومها لأنها رجس، وساق سنده إلى محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: "لما افتتح رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خيبر أصبناحمراً خارجة من القرية فنحرنا وطبخنا منها فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله ورسوله ينهيانكم عنها وإنها رجس من عمل الشيطان فأُكفئت القدور" انتهى.
    وبهذا يبطل القول بأنها إنما حرمت مخافة قلة الظهر، كما أخرجه الطبراني وابن ماجه عن ابن عباس: إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر.
    وفي رواية البخاري عن ابن عباس في المغازي من رواية الشعبي أنه قال ابن عباس: لا أدري أنهى عنها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من أجل أنها حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم أو حرمها ألبتة يوم خيبر؟.
    فإنه يقال: قد علم بالنص أنه حرمها لأنها رجس وكأن ابن عباس لم يعلم بالحديث فتردد في نقله النهي، وإذ قد ثبت النهي وأصله التحريم عمل به، وإن جهلنا علته.
    وأما ما أخرجه الطبراني من حديث أم نصر المحاربية: أن رجلاً سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الحمر الأهلية فقال: "أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر،؟ قال: فأصب من لحومها" فهي رواية غير صحيحة لا تعارض بها الأحاديث الصحيحة.
    المسألة الثانية: دل الحديث على حل أكل لحوم الخيل، وإلى حلها ذهب زيد بن علي والشافعي وصاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وجماهير السلف والخلف لهذا الحديث، ولما في معناه من الأحاديث الصحيحة. وأخرج ابن أبي شيبة بسنده على شرط الشيخين عن عطاء أنه قال لابن جريج: لم يزل سلفك يأكلونه، قال ابن جريج: قلت له: أصحاب رسول الله؟ قال: نعم. ويأتي حديث أسماء: "نحرنا على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فرساً فأكلناه".
    وذهبت الهادوية و مالك وهو المشهور عند الحنفية إلى تحريم الخيل. واستدلوا بحديث خالد بن الوليد "نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن لحوم الخيل والبغال والحمير وكل ذي ناب من السباع" وفي رواية بزيادة "يوم خيبر".
    وأجيب عنه بأنه قال البيهقي فيه: هذا إسناد مضطرب مخالف لرواية الثقات، وقال البخاري: يروى عن أبي صالح ثور بن يزيد وسليمان بن سليم وفيه نظر. وضعف الحديث أحمد والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق.
    واستدلوا بقوله تعالى: {لتركبوها وزينة} وتقدير الاستدلال بالآية بوجوه:
    الأول: أن العلة المنصوصة تقتضي الحصر، فإباحة أكلها خلاف ظاهر الآية. وأجيب عنه بأن كون العلة منصوصة لا يقتضي الحصر فيها، فلا يفيد الحصر في الركوب والزينة، فإنه ينتفع بها في غيرهما اتفاقاً، وإنما نص عليهما لكونهما أغلب ما يطلب، ولو سلم الحصر لامتنع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به.
    الثاني: من وجوه دلالة الآية على تحريم الأكل: عطف البغال والحمير فإنه دال على اشتراكهما معها في حكم التحريم فمن أفرد حكمهما عن حكم ما عطف عليه احتاج إلى دليل. وأجيب عنه بأنّ هذا من باب دلالة الاقتران وهي ضعيفة.
    الثالث: من وجوه دلالة الآية: أنها سيقت للامتنان فلو كانت ممّا يؤكل لكان الامتنان به أكثر لأنه يتعلق ببقاء البنية. والحكيم لا يمتنّ بأدنى النعم ويترك أعلاها سيما وقد امتنّ بالأكل فيما ذكر قبلها: وأجيب بأنه تعالى خص الامتنان بالركوب لأنه غالب ما ينتفع بالخيلفيه عند العرب فخوطبوا بما عرفوه وألفوه، كما خوطبوا في الأنعام بالأكل وحمل الأثقال لأنه كان أكثر انتفاعهم بها لذلك، فاقتصر في كل من الصنفين بأغلب ما ينتفع به فيه.
    الرابع: من وجوه دلالة الآية: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة التي امتن بها وهي الركوب والزينة. وأجيب عنه: بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى للزم مثله في البقر ونحوها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به لمنفعة أخرى.
    وقد أجيب عن الاستدلال بالآية بجواب إجمالي وهو: أن آية النحل مكية اتفاقاً والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، وأيضاً فإن آية النحل ليست نصاً في تحريم الأكل، والحديث صريح في جوازه، وأيضاً لو سلم ما ذكر كان غايته للدلالة على ترك الأكل وهو أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه أو خلاف الأولى، وحيث لم يتعين هنا واحد منها لا يتم بها التمسك، فالتمسك بالأدلة المصرحة بالجواز أولى.
    وأما زعم البعض أن حديث جابر دال على التحريم لكونه ورد بلفظ الرخصة، والرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل أنه رخص لهم فيها بسبب المخمصة فلا يدل على الحل المطلق، فهو ضعيف لأنه ورد بلفظ أذن لنا ولفظ أطعمنا فعبر الراوي بقوله: "رخص لنا" عن "أذن" لا أنه أراد الرخصة الاصطلاحية الحادثة بعد زمن الصحابة، فلا فرق بين العبارتين "أذن ورخص" في لسان الصحابة.
    وعَنْ ابنِ أَبي أَوْفى رضي اللّهُ عَنْهُما قال: "غَزَوْنَا مَعَ رسولِ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سَبْعَ غزواتٍ نأكُلُ الجرادَ" مُتفقٌ عَلَيْهِ.
    (وعن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات نأكل الجراد) وهواسم جنس، والواحدة جرادة، يقع على الذكر والأنثى كحمامة (متفق عليه).
    وهو دليل على حل الجراد. قال النووي: وهو إجماع وأخرج ابن ماجه عن أنس قال: كان أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتهادين الجراد في الأطباق.
    وقال ابن العربي في شرح الترمذي: إن جراد الأندلس لا يؤكل لأنه ضرر محض. فإذا ثبت ما قاله فتحريمها لأجل الضرر، كما تحرم السموم ونحوها.
    واختلفوا هل أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجراد أم لا؟ وحديث الكتاب يحتمل أنه كان يأكل معهم إلا أن في رواية البخاري زيادة لفظ: "نأكل الجراد معه" قيل: وهي محتملة أن المراد غزونا معه فيكون تأكيداً لقوله مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل أن المراد نأكل معه. قلت: وهذا الأخير هو الذي يحسن حمل الحديث عليه إذ التأسيس أبلغ من التأكيد ويؤيده ما وقع في الطب عند أبي نعيم بزيادة: ويأكل معنا.
    وأما ما أخرجه أبو داود من حديث سليمان. أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجراد فقال: "لا آكله ولا أحرمه" فقد أعله المنذري بالإرسال، وكذلك ما أخرجه ابن عدي في ترجمة ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر "أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الضب فقال: "لا آكله ولا أحرمه، وسئل عن الجراد فقال مثل ذلك"، فإنه قال النسائي: ثابت ليس بثقة.
    ويؤكل عند الجماهير على كل حال ولو مات بغير سبب لحديث "أحلّ لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال" أخرجه أحمد والدارقطني مرفوعاً من حديث ابن عمر وقال: إن الموقوف أصح، ورجح البيهقي الموقوف وقال: له الحكم الرفع.
    واختلف فيه هل هو من صيد البحر أم من صيد البر؟ وورد حديثان أنه من صيد البحر. وورد عن بعض الصحابة أنه يلزم المحرم فيه الجزاء فدل أنه عنده من صيد البر، والأصل فيه أنه برّي حتى يقوم دليل على أنه بحري.
    وَعَنْ أَنس رضي اللّهُ عنه في قِصَّةِ الأرنَبِ قال: "فَذبحها فبعث بِوَركِهَا إلى رسول اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقبِلَهُ" مُتّفقٌ عليهِ.
    وفي القصة أنه قال أنس: "أنفجنا أرنباً ونحن بمر الظهران فسعى القوم وتعبوا، فأخذتها فجئت بها إلى أبي طلحة فبعث بوركها أو قال بفخذها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبلها" وهو لا يدل على أنه أكل منها، لكن في رواية البخاري في كتاب الهبة قال الراوي وهو هشام بن يزيد: قلت لأنس: وأكل منها؟ قال: وأكل منها ثم قال: فقبله.
    والإجماع واقع على حل أكلها، إلا أن الهادوية و[اث] عبد الله بن عمر[/اث] وعكرمة وابن أبي ليلى قالوا: يكره أكلها، لما أخرجه أبو داود والبيهقي من حديث ابن عمر أنها جيء بها إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلم يأكلها ولم ينه عنها وزعم أي ابن عمر أنها تحيض،وأخرج البيهقي عن عمر وعمار مثل ذلك وأنه أمر بأكلها ولم يأكل منها؛ قلت: لكنه لا يخفى أن عدم أكله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدل على كراهيتها، وحكى الرافعي عن أبي حنيفة تحريمها.
    (فائدة): ذكر الدميري في حياة الحيوان أن الذي يحيض من الحيوان: المرأة والضبع والخفاش والأرنب. ويقال: إن الكلبة كذلك.
    وعنِ ابن عَبّاسٍ رضي اللّهُ عَنْهُما قال: "نهى رسولُ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عَنْ قَتْلِ أربعِ مِنَ الدَّوابِّ: النّمْلَةِ والنّحْلة والهُدْهُدِ والصُّرَدِ" رواهُ أَحْمَدُ وأَبُو داودَ وصحّحهُ ابنُ حِبّانَ.
    قال البيهقي: رجاله رجال الصحيح؛ قال البيهقي: هو أقوى ما ورد في هذا الباب. وفيه دليل على تحريم قتل ما ذكر، ويؤخذ منه تحريم أكلها لأنه لو حل لما نهى عن القتل. وتقدم لنا في هذا الاستدلال بحث. وتحريم أكلها رأي الجماهير، وفي كل واحدة خلاف إلا النملة فالظاهر أن تحريمها إجماع.
    وعن ابن أبي عَمّار رضي اللّهُ عنهُ قالَ: "قُلْتُ لجابر: الضَّبُعُ صيدٌ هُوَ؟ قالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَالَهُ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم؟ قال: نَعَمْ" رواهُ أَحْمَدُ والأربعَةُ وصحّحهُ البخاري وابنُ حِبّانَ.
    (وعن ابن أبي عمار رضي الله عنه) هو عبد الرحمن بن أبي عمار المكي وثقه أبو زرع والنسائي ولم يتكلم فيه أحد ويسمى القس لعبادته، ووهم ابن عبد البرّ في إعلاله وقال البيهقي: إن الحديث صحيح (قال: قلت لجابر: الضبع صيد هو؟ قال: نعم. قلت: قاله رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم؟ قال: نعم. رواه أحمد والأربعة وصححه البخاري وابن حبان).
    الحديث دليل على حل أكل الضبع. وإليه ذهب الشافعي فهو مخصص من حديث تحريم كل ذي ناب من السباع، وأخرج أبو داود من حديث جابر مرفوعاً "الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسنّ ويؤكل" وأخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. قال الشافعي: وما زال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير.
    وحرّمه الهادوية والحنفية عملا بالحديث العام كما أشرنا إليه، ولكن أحاديث التحليل تخصصه، وأما استدلالهم على التحريم بحديث خزيمة بن جزء وفيه: "قال صلى الله عليه وآله وسلم أو يأكل الضبع أحد؟" أخرجه الترمذي وفي إسناده[تض] عبد الكريم أبو أمية[/تض]، وهو متفق على ضعفه.
    وعنْ ابن عُمَر رضي اللّهُ عنهُما أَنّه سُئِل عنِ القنْفُذ فقال: {قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً} ، فقال شَيْخٌ عِنْدَهُ: سمِعْتُ أبا هُريرةَ يقُولُ: ذكر عِنْدَ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَال: "خبيثةٌ من الخبائثِ" فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: إنْ كانَ رسولُ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ هذا فَهُوَ كما قال. أخْرجهُ[تض] أَحمدُ[/تض] و[تض]أَبو داودَ[/تض] وإسنادُهُ ضعيفٌ.
    (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن القنفذ) بضم القاف وفتحها وضم الفاء (فقال: {قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً} فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "خبيثةٌ من الخبائث" فقال[اث] ابن عمر[/اث]: إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال هذا فهو كما قال. أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف).
    ضعف بجهالة الشيخ المذكور، قال الخطابي: ليس إسناده بذلك وله طرق قال البيهقي: لم يرد إلا من وجه ضعيف، وقد ذهب إلى تحريمه أبو طالب والإمام يحيى.
    وقال الرافعي: في القنفذ وجهان؛ أحدهما أنه يحرم وبه قال أبو حنيفة وأحمد لما روي في الخبر أنه من الخبائث، وذهب مالك وابن أبي ليلى إلى أنه حلال وهو أقوى من القول بتحريمه لعدم نهوض الدليل عليه، مع القول بأن الأصل الإباحة في الحيوانات، وهي مسألة خلافية معروفة في الأصول فيها خلاف بين العلماء.
    وعن ابنِ عُمر رضي اللّهُ عنهما قالَ: "نهى رسولُ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الجلالة وأَلبانها" أخرجهُ الأربعةُ إلاّ النسائيَّ وحسّنَهُ الترمِذيُّ.
    وأخرج الحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمرو بن العاص نحوه، وقال: "حتى تعلف أربعين ليلة".
    ورواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "نهى عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة وعن ركوبها" ولأبي داود "أن يركب عليها وأن يشرب ألبانها".
    والجلالة هي التي تأكل العذرة والنجاسات، سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو الدجاج.
    والحديث دليل على تحريم الجلالة وألبانها وتحريم الركوب عليها. وقد جزم ابن حزم أن من وقف في عرفات راكباً على جلالة لا يصح حجه، وظاهر الحديث أنه إذ ثبت أنها أكلت الجلة فقد صارت محرّمة.
    وقال النووي: لا تكون جلالة إلا إذا غلب على علفها النجاسة، وقيل: بل الاعتبار بالرائحة والنتن، وبه جزم النووي والإمام يحيى وقال: لا تطهر بالطبخ ولا بإلقاء التوابل وإن زال الريح لأن ذلك تغطية لا استحالة.
    وقال الخطابي: كرهه أحمد وأصحاب الرأي و الشافعي وقالوا: لا تؤكل حتى تحبس أياماً. قلت: قد عين في الحديث حبسها أربعين يوماً، وكان[اث] ابن عمر[/اث] يحبس الدجاجة ثلاثة أيام. ولم يرَ مالك بأكلها بأساً من غير حبس.
    وذهب الثوري ورواية عن أحمد إلى التحريم كما هو ظاهر الحديث. ومن قال يكره ولا يحرم قال: لأن النهي الوارد فيه إنما كان لتغير اللحم وهو لا يوجب التحريم بدليل المذكى إذا جف.
    ولا يخفى أن هذا رأي في مقابلة النص، ولقد خالف الناظرون هنا السنة، فقال المهدي في البحر: المذهب والفريقان: ونُدب حبس الجلالة قبل الذبح، الدجاجة ثلاثة أيام، والشاة سبعة والبقرة والناقة أربعة عشر وقال مالك: لا وجه له. قلنا: لتطييب أجوافها ا هــــ. والعمل بالأحاديث هو الواجب وكأنهم حملوا النهي على التنزيه ولا ينهض عليه دليل. وأما مخالفتهم للتوقيف فلم يعرف وجهه.
    وعَنْ أَبي قَتَادة رضي الله عنه في قِصَّةِ الحمار الوَحْشي: "فَأَكلَ منهُ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" مُتَّفَقٌ عَلَيه.
    تقدّم ذكر قصة الحمار هذا الذي أهداه أبو قتادة في كتاب الحج. وفي هذا دلالة على أنه يحل أكل لحمه وهو إجماع. وفيه خلاف شاذ أنه إذا عُلِف وأَنِسَ صار كالأهلي.
    وعَنْ أَسْماءَ بنت أَبي بكْر رضي اللّهُ عنْهُما قالتْ: "نحرنا على عهد رسول اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فرساً فأَكَلْنَاهُ" مُتّفقٌ عليه.
    وفي رواية: ونحن بالمدينة. وفي رواية الدارقطني هنا "فأكلناه نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم".
    والحديث دليل على حل أكل لحم الخيل، وتقدّم الكلام فيه، لأن الظاهر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم علم ذلك وقرره؛ كيف وقد قالت: إنه أكل منه صلى الله عليه وآله وسلم. وقالت هنا: نحرنا، وفي رواية الدارقطني: ذبحنا؛ فقيل: فيه دليل على أن النحر والذبح واحد، قيل: ويجوز أن يكون أحد اللفظين مجازاً إذ النحر للإبل خاصة وهو الضرب بالحديد في لبة البدنة حتى تفرى أوداجها والذبح هو قطع الأوداج في غير الإبل. قال ابن التين: الأصل في الإبل النحر وفي غيرها الذبح وجاء في البقرة: {فذبحوها} وفي السنة نحرها.
    وقد اختلف العلماء في نحر ما يذبح وذبح ما ينحر؛ فأجازه الجمهور والخلاف فيه لبعض المالكية.
    وقوله في الحديث: "ونحن بالمدينة" يردّ على من زعم أن حلها قبل فرض الجهاد فإنه فرض أوّل دخولهم المدينة.
    وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: "أُكل الضَّبُّ على مائدة رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" متفقٌ عليه.
    فيه دليل على حل أكل الضب وعليه الجماهير وحكى عياض عن قوم تحريمه وعن الحنفية كراهته وقال النووي: أظنه لا يصح عن أحد فإن صح فهو محجوج بالنص وبإجماع من قبله.
    وقد احتج القائلون بالتحريم بما أخرجه أبو داود "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الضب" وفي إسناده إسماعيل بن عياش ورجاله شاميون وهو قوي في الشاميين فلا يتم قول الخطابي: ليس إسناده بذلك، ولا قول ابن حزم: فيه ضعيف ومجهولون؛ فإن رجاله ثقات كما قاله المصنف، ولا قول البيهقي: فيه إسماعيل بن عياش وليس بحجة؛ لما عرفت من أنه رواه عن الشاميين وهو حجة في روايته عنهم.
    وبما أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن حسنة "أنهم طبخوا ضباباً فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أمة من بني إسرائيل مسخت في دواب الأرض فأخشى أن تكون هذه. فألقوها" وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان والطحاوي وسنده على شرط الشيخين.
    وأجيب عن الأول: بأن النهي وإن كان أصله التحريم لكن صرفه هنا إلى الكراهة ما أخرجه مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كلوه فإنه حلال ولكنه ليس طعامي" وهذه الرواية تردّ ما رواه مسلم أنه قال بعض القوم عند ابن عباس: إن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في الضب: "لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحرمه" ولذا أعل ابن عباس هذه الرواية فقال "بئس ما قلتم ما بعُث نبيُّ الله إلا مُحلاً ومُحرماً" كذا في مسلم.
    وأجيب عن الثاني: بأنه يحتمل أنه وقع منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ذلك، أعني: خشية أن تكون أمة ممسوخة، قبل أن يعلمه الله تعالى أن الممسوخ لا ينسل؛ وقد أخرج الطحاوي من حديث ابن مسعود قال: "سئل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ؟ قال: إن الله لم يهلك قوماً أو يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة" وأصل الحديث في مسلم ولم يعرفه ابن العربي. فقال: قولهم إن الممسوخ لا ينسل: دعوى فإنه لا يعرف بالعقل إنما طريقه النقل وليس فيه أمر يعوّل عليه.
    وأجيب أيضاً: بأنه لو سلم أنه ممسوخ لا يقتضي تحريم أكله، فإنه كونه كان آدمياً قد زال حكمه ولم يبق له أثر أصلاً. وإنما كره صلى الله عليه وآله وسلم الأكل منه لما وقع عليه من سخط الله سبحانه كما كره الشرب من مياه ثمود.
    قلت: ولا يخفى أنه لو لم يرَ تحريمه لما أمر بإلقائها، أو بتقريرهم عليه، لأنه إضاعة مال ولا إذن لهم في أكله، فالجواب الذي قبله هو الأحسن. ويستفاد من المجموع جواز أكله وكراهته للنهي.
    وعَنْ عبدِ الرَّحمن بن عثمان القُرشي رضي الله عنه: "أَنَّ طبيباً سأَل رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الضِّفدع بِجْعَلُها في دواءِ فنهى عنْ قتلها" أَخْرجَهُ أَحْمدُ وصحّحهُ الحاكم وأَخرجهُ أبو داود والنسائيُّ.
    (وعن عبد الرحمن بن عثمان) هو ابن عبد الله التيمي (القرشي رضي الله عنه) ابن أخي طلحة بن عبد الله الصحابي، قيل: إنه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليست له رؤية. أسلم يوم الفتح وقيل: يوم الحديبية وقتل مع ابن الزبير في يوم واحد روى عنه ابناه وابن المنكدر (أن طبيباً سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن الضفدع) بزنة الخنصر (يجعلها في دواء فنهى عن قتلها. أخرجه أحمد وصححه الحاكم وأخرجه أبو داود والنسائي) والبيهقي بلفظ: "ذكر طبيب عند النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دواء وذكر الضفدع يجعلها فيه فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الضفادع".
    قال البيهقي: هو أقوى ما ورد في النهي عن قتل الضفدع. وأخرج من حديث ابن عمر: "لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح ولا تقتلوا الخفاش فإنه لما خرب بيت المقدس قال: يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم" قال البيهقي: إسناده صحيح.
    وعن أنس "لا تقتلوا الضفادع فإنها مرّت على نار إبراهيم فجعلت في أفواهها الماء وكانت ترشه على النار".
    والحديث دليل على تحريم قتل الضفادع. قالوا: ويؤخذ منه تحريم أكلها ولأنها لو حلت لما نهى عن قتلها وتقدّم نظير هذا الاستدلال وليس بواضح.

    باب الصيد والذبائح

    الصيدُ: يطلق على المصدر أي التصيد وعلى المصيد.
    واعلم أنه تعالى أباح الصيد في آيتين من القرآن: الأولى قوله تعالى: {يا أيها الذين امنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} والثانية: {وما علّمتم من الجوارح مكلبين}.
    والآلة التي يصاد بها ثلاثة: الحيوان الجارح، والمحدّد، والمثقل؛ ففي الحيوان:
    عَنْ أبي هُريرة رضي اللّهُ عنهُ قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من اتْخذَ كَلباً إلا كَلْب ماشيةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زرعٍ انْتُقصَ مِنْ أَجْرهِ كلَّ يوْمٍ قيراطٌ" مُتّفقٌ عَلَيهِ.
    الحديث دليل على المنع من اتخاذ الكلاب واقتنائها وإمساكها إلا ما استثناه من الثلاثة، وقد وردت بهذه الألفاظ روايات في الصحيحين وغيرهما. واختلف العلماء هل المنع للتحريم أو للكراهة؟.
    فقيل: بالأول، ويكون نقصان القيراط عقوبة في اتخاذها، بمعنى أن الإثم الحاصل باتخاذها يوازن قدر قيراط من أجر المتخذ له، وفي رواية "قيراطان".
    وحكمة التحريم: ما في بقائها في البيت من التسبب إلى ترويع الناس وامتناع دخول الملائكة، الذين دخولهم يقرب إلى فعل الطاعات ويبعد عن فعل المعصية، وبُعْدُهم سبب لضد ذلك، ولتنجيسها الأواني.
    وقيل: بالثاني، بدليل نقص بعض الثواب على التدريج، فلو كان حراماً لذهب الثواب مرة واحدة. وفيه أن فعل المكروه تنزيهاً لا يقتضي نقص شيء من الثواب. وذهب إلى تحريم اقتناء الكلب الشافعية إلا المستثنى.
    واختلف في الجمع بين رواية "قيراط" ورواية"قيراطان"، فقيل: إنه باعتبار كثرة الإضرار كما في المدن ينقص قيراطان، وقلته كما في البوادي ينقص قيراط، أو أن الأول إذا كان في المدينة النبوية والثاني في غيرها. أو قيراط من عمل النهار وقيراط من عمل الليل. فالمقتصر في الرواية باعتبار كل واحد من الليل والنهار، والمثني باعتبار مجموعهما، واختلفوا أيضاً هل النقصان من العمل الماضي أو من الأعمال المستقبلة، قال ابن التين: المستقبلة وحكى غيره الخلاف.
    وفيه دليل على أن من اتخذ المأذون منها فلا نقص عليه، وقيس عليه اتخاذه لحفظ الدور إذا احتيج إلى ذلك أشار إليه ابن عبد البرّ. واتفقوا على أنه لا يدخل الكلب العقور في الإذن لأنه مأمور بقتله.
    وفي الحديث دليل على التحذير من الإتيان بما ينقص الأعمال الصالحة. وفيه الإخبار بلطف الله تعالى في إباحة لما يحتاج إليه في تحصيل المعاش وحفظه.
    (تنبيه): ورد في مسلم الأمر بقتل الكلاب فقال القاضي عياض: ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث في قتل الكلاب إلا ما استثني. قال: وهذا مذهب مالك وأصحابه. وذهب آخرون إلى جواز اقتنائها جميعاً ونسخ قتلها إلا الأسود البهيم قال:
    وعندي أن النهي أولاً كان نهياً عاماً عن اقتنائها جميعاً وأمر بقتلها جميعاً، ثم نهى عن قتل ما عدا الأسود ومنع الاقتناء في جميعها إلا المستثنى ا هــــ والمراد بالأسود البهيم ذو النقطتين فإنه شيطان، والبهيم الخالص السواد، والنقطتان معروفتان فوق عينيه.
    وَعَنْ عَديِّ بن حاتم رضي اللّهُ عنْهُ قالَ: قال لي رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أَرْسَلْت كَلْبك فاذكر اسمَ اللّهِ عليه، فإنْ أمْسَكَ عليكَ فأَدْرَكْتَهُ حَيّاً فاذْبحهُ، وإنْ أَدْرَكْتهُ قد قَتَلَ ولم يأكلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وإنْ وجدْتَ مَعَ كَلْبك كَلْباً غَيْرهُ وَقَد قَتَلَ فلا تأكُلْ، فإنك لا تدري أَيُهُما قَتَلَهُ، وإنْ رَمَيْتَ سهمك فاذْكر اسم الله، فإن غاب عنك يوْماً فَلمْ تجدْ فيه إلا أثَرَ سهمك فكُل إن شئت وإن وَجَدتَهُ غريقاً في الماءِ فلا تأكلْ" متفقٌ عليه وهذا لفظ مسلمٌ.
    (وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "إذا أرسلت كلبك) المعلم (فاذكر اسم الله تعالى عليه، فإن أمسك عليك فأَدركته حيّاً فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكلْهُ، وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتَلَهُ، وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله تعالى) هذا إشارة إلى آلة الصيد الثانية أعني المحدد وهو قتله بالرماح والسيوف لقوله تعالى: {تناله أيديكم ورماحكم} ولكن الحديث في السهم (فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدتهُ غريقاً في الماءِ فلا تأكل" متفق عليه وهذا لفظ مسلم).
    في الحديث مسائل:
    الأولى: أنه لا يحل صيد الكلب إلا إذا أرسله صاحبه فلو استرسل بنفسه لم يحل ما يصيده عند الجمهور، والدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أرسلت" فمفهوم الشرط أن غير المرسل ليس كذلك.
    وعن طائفة أن المعتبر كونه معلماً فيحل صيده وإن لم يرسله صاحبه بناءً على أنه خرج قوله: "إذا أرسلت" مخرج الغالب فلا مفهوم له. وحقيقة المعلّم هو أن يكون بحيث يغرى فيقصد ويزجر فيقعد. وقيل: التعليم قبول الإرسال والإغراء حتى يمتثل الزجر في الابتداء لا بعد العدو ويترك أكل ما أمسك فالمعتبر امتثاله للزجر قبل الإرسال وأما بعد إرساله على الصيد فذلك متعذر.
    والتكليب إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل، كما قال تعالى: {تعلمونهن مما علّمكم الله} قال جار الله: مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه.
    المسألة الثانية: في قوله: "فاذكر اسم الله عليه" هذا مأخوذ من قوله تعالى: {واذكروا اسم الله عليه} فإن ضمير "عليه" يعود إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى ما علمتم من الجوارح أي سموا عليه عند إرساله كما أفاده الكشاف.
    وكذلك قوله: "إن رميت فاذكر اسم الله" دليل على اشتراط التسمية عند الرمي، وظاهر الكتاب والسنّة وجوب التسمية. واختلف العلماء:
    فذهبت الهادوية والحنفية إلى أن التسمية واجبة على الذاكر عند الإرسال ويجب عليه أيضاً عند الذبح والنحر فلا تحل ذبيحته ولا صيده إذا تركت عمداً مستدلين بقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} ، وبالحديث هذا. قالوا، وقد عفي عن الناسي بحديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" ولما يأتي من حديث ابن عباس بلفظ: "فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم ثم ليأكل" وسيأتي في آخر الباب إن شاء الله تعالى.
    وذهب آخرون: إلى أنها سنة منهم [اث]ابن عباس[/اث] ومالك ورواية عن أحمد مستدلين بقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} قالوا: فأباح التذكية من غير اشتراط التسمية ولقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} وهم لا يسمون. ولحديث عائشة الآتي: "أنهم قالوا: يا رسول الله إن قوماً يأتوننا بلحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا أفنأكل منه؟ قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: سموا عليه أنتم وكلوا".
    وأجابوا عن أدلة الإيجاب بأن قوله: (ولا تأكلوا) المراد به ما ذبح للأصنام كما قال تعالى: {وماذبح على النصب وما أهل لغير الله} لأنه تعالى قال: {وإنه لفسق} وقد أجمع المسلمون على أن من أكل متروك التسمية عليه فليس بفاسق، فوجب حملها على ما ذكر جمعاً بينه وبين الآية السابقة وحديث عائشة.
    وذهبت الظاهرية: إلى أنه لا يجوز أكل ما لم يسم عليه ولو كان تاركها ناسياً، لظاهر الآية الكريمة، وحديث عدي رضي الله عنه فإنه لم يفصل. قالوا: وأما حديث عائشة وفيه: "أنهم قالوا: يا رسول الله إن قوماً حديث عهدهم بالجاهلية يأتون بلحمان ــــ الحديث" فقد قال ابن حجر: إنه أعله البعض بالإرسال. قال الدارقطني: الصواب أنه مرسل.
    على أنه لا حجة فيه لأنه أدار الشارع الحكم على المظنة وهي كون الذابح مسلماً وإنما شك على السائل حداثة إسلام القوم فألغاه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بل فيه دليل على أنه لا بدّ من التسمية وإلا لبين له عدم لزومها وهذا وقت الحاجة إلى البيان، وأما حديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" فهم متفقون على تقدير رفع الإثم أو نحوه ولا دليل فيه، وأما أهل الكتاب فهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم.
    فيتحصل قوة كلام الظاهرية، فيترك ما تيقن أنه لم يسم عليه وأما ما شك فيه والذابح مسلم فكما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "اذكروا اسم الله وكلوا".
    المسألة الثالثة: في قوله: "فإن أدركته حياً فاذبحه"، فيه دليل على أنه يجب عليه تذكيته إذا وجده حياً ولا يحل إلا بها وذلك اتفاق، فإن أدركه وفيه بقية حياة فإن كان قد قطع حلقومه أو مريئه أو جرح أمعاءه أو أخرج حشوه فيحل بلا ذكاة.
    قال النووي: بالإجماع، وقال المهدي للهادوية: إنه إذا بقي فيه رمق وجب تذكيته، والرمق إمكان التذكية لو حضرت آلة.
    ودل قوله: "وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكله". أنه إذا أكل حرم أكله، وقد عرفت أن من شرط المعلم أن لا يأكل فأكله دليل على أنه غير كامل التعليم. وقد ورد في الحديث الآخر تعليل ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" وهو مستفادمن قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} فإنه فسر الإمساك على صاحبه بألا يأكل منه.
    وقد أخرج أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا أرسلته ولم يأكل فكل فإنما أمسك على صاحبه" وإلى هذا ذهب أكثر العلماء.
    وروي عن[اث] عليّ[/اث] رضي الله عنه وجماعة من الصحابة حله وهو مذهب مالك لقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في حديث أبي ثعلبة الذي أخرجه أبو داود بإسناد حسن أنه قال: يا رسول الله إن لي كلاباً مكلبة فأفتني في صيدها قال: "كل مما أمسكن عليك" قال: وإن أكل؟ قال: "وإن أكل" وفي حديث سلمان "كله وإن لم تدرك منه إلا نصفه".
    قيل: فيحمل حديث عدي على أن ذلك في كلب قد اعتاد الأكل فخرج عن التعليم، وقيل: إنه محمول على كراهة التنزيه، وحديث أبي ثعلبة لبيان أصل الحل وقد كان عدي موسراً فاختار صلى الله تعالى عليه وآله وسلم له الأولى وكان أبو ثعلبة معسراً فأفتاه بأصل الحل.
    وقال الأوّلون: الحديثان قد تعارضا وهذه الأجوبة لا يخفى ضعفها فيرجع إلى الترجيح. وحديث عدي أرجح لأنه مخرج في الصحيحين ومتأيد بالآية وقد صرح صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بأنه يخاف أنه إنما أمسك على نفسه، فيترك ترجيحاً لجنبة الحظر كما قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الحديث: "وإن وجدت مع كلبك كلباً آخر ــــ إلى قوله ــــ فلا تأكل" فإنه نهى عنه لاحتمال أن المؤثر فيه كلب آخر غير المرسل فيتركه ترجيحاً لجنبة الحظر.
    وقوله: "فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكله إن شئت" اختلفت الأحاديث في هذا. فروى مسلم وغيره من حديث أبي ثعلبة في الذي يدرك صيده بعد ثلاث أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: "كل ما لم ينتن" وروى مسلم أيضاً من حديثه أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا رميت بسهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت".
    ولاختلافها اختلف العلماء. فقال مالك: إذا غاب مصرعه ثم وجد به أثر من الكلب فإنه يأكله ما لم يبت فإذا بات كره. وفيه أقوال أخر. والتعليل بما لم ينتن وما لم يبت هو النص ويحمل ذكر الأوقات على التقييد به وترك الأكل للاحتياط وترجيح جنبة الحظر.
    وقوله: "وإن وجدته غريقاً فلا تأكل" ظاهره وإن وجد به أثر السهم لأنه يجوز أنه مات إلا بالغرق.
    المسألة الرابعة: الحديث نص في صيد الكلب واختلف فيما يعلم من غيره كالفهد والنمر، ومن الطيور كالبازي والشاهين وغيرهما.
    فذهب مالك وأصحابه إلى أنه يحل صيد كل ما قبل التعليم حتى السنور.
    وقال جماعة منهم مجاهد: لا يحل إلا صيد الكلب. وأما ما صاده غيره الكلب فيشترط إدراك ذكاته.
    وقوله تعالى: {من الجوارح مكلبين} دليل للثاني بناءً على أنه من الكلْب ــــ بسكون اللام ــــ فلا يشمل غيره من الجوارح، ولكنه يحتمل أنه مشتق من الكلَب ــــ بفتح اللام ــــ وهو مصدر بمعنى التكليب وهو التضرية فيشمل الجوارح كلها. والمراد بالجوارح هنا الكواسب علىأهلها وهو عام.
    قال في الكشاف: الجوارح الكواسب من سباع البهائم والطير والكلب والفهد والنمر والعقاب والبازي والصقر والشاهين.
    والمراد بالمكلب: معلم الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف. واشتقاقه من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتق له منه لكثرته في جنسه أو لأنّ السبع يسمى كلباً ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك" فأكله الأسد، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة يقال هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به ا هــــ.
    فدل كلامه على شمول الآية للكلب وغيره من الجوارح على تقدير الاشتقاقين، ولا شك أن الآية نزلت والعرب تصيد بالكلاب والطيور وغيرهما، وقد أخرج الترمذي من حديث عدي بن حاتم سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صيد البازي فقال: "ما أمسك عليك فكل" وقد ضعف بمجالد، ولكن قد أوضحنا في حواشي ضوء النهار أنه يعمل بما رواه.
    وعن عَديَ رضي الله عنه قالَ: سأَلت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عنْ صَيْدِ المعراض فقال: "إذا أصبتَ بحَدِّهِ فَكُلْ، وإذا أصَبْتَ بعرضِهِ فقتل فإنّهُ وقيذٌ فلا تأكُلْ" رواهُ البُخاريُّ.
    (وعن عدي رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن صيد المعراض) بكسر الميم وسكون المهملة آخره معجمة يأتي تفسيره (فقال: "إذا أصبت بحدِّه فكُلْ، وإذا أصبت بعَرْضه فقتل فإنه وقيذ) بفتح الواو وبالقاف فمثناة تحتية وذال معجمة بزنة عظيم يأتيبيانه (فلا تأكل" رواه البخاري).
    اختلف في تفسير المعراض على أقوال لعل أقربها ما قاله ابن التين: إنه عصا في طرفه حديد يرمي به الصائد، فما أصاب بحده فهو ذكي يؤكل وما أصاب بعرضه فهو وقيذ أي موقوذ، والموقوذ ما قتل بعصا أو حجر أو ما لا حدّ فيه، والموقوذة المضروبة بخشبة حتى تموت، من وقذته ضربته.
    وفي الحديث إشارة إلى آلة من آلات الاصطياد وهي المحدد فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبره أنه إذا أصاب بحد المعراض أكل فإنه محدد وإذا أصاب بعرضه فلا يأكل.
    وفيه دليل أنه لا يحل صيد المثقل، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري.
    وذهب الأوزاعي ومكحول وغيرهما من علماء الشام: إلى أنه يحل صيد المعراض مطلقاً.
    وسبب الخلاف معارضة الأصول في هذا الباب بعضها لبعض، ومعارضة الأثر لها، وذلك أن من الأصول في هذا الباب أن الوقيذ محرّم بالكتاب والإجماع ومن أصوله أن العقر ذكاة الصيد فمن رأى أن ما قتله المعراض وقيذ منعه على الإطلاق ومن رآه عقراً مختصاً بالصيد، وأن الوقذ غير معتبر فيه لم يمنعه على الإطلاق، ومن فرق بينما خزق من ذلك وما لم يخزق نظر إلى حديث عدي هذا وهو الصواب.
    هذا وقوله: "فإنه وقيذ" أي كالوقيذ وذلك لأن الوقيذ المضروب بالعصا من دون حدّ وهذا قد شاركه في العلة وهي القتل بغير حدّ.
    وعَنْ أبي ثَعْلبةَ رضي الله عنهُ عن النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا رَمَيْتَ بسهمِكَ فغَابَ عنْك فأَدركْتَهُ فكُلْهُ ما لم يُنتن" أخرجهُ مُسلمٌ.
    تقدم الكلام فيما غاب عن مصرعه من الصيد سواء كان بسهم أو جارح، وفي الحديث دلالة على تحريم أكل ما أنتن من اللحم، قيل: ويحمل على ما يضر الآكل أو صار مستخبثاً أو يحمل على التنزيه، ويقاس عليه سائر الأطعمة المنتنة.
    وعَنْ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ قوْماً قالوا للنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إنَّ قوْماً يأتوننا باللحم لاندري أَذُكِرَ اسمُ الله عَلَيْه أمْ لا؟ فَقَالَ: "سمُّوا الله عليهِ أنتم وكُلُوه" رواهُ البُخاريُّ.
    (وعن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إن قوماً يأتوننا باللحم لاندري أَذُكر اسم الله عليه) أي عند ذكاته (أم لا؟ قال: "سمُّوا الله عليه أَنتم وكُلُوه" رواه البخاري).
    تقدم أن في رواية "إن قوماً حديث عهدهم بالجاهلية" وهي هنا في البخاري من تمام الحديث بلفظ "قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر" وفي رواية مالك زيادة "وذلك في أول الإسلام".
    والحديث قد أعل بالإرسال، وليس بعلة عندنا على ما عرفت سيما وقد وصله البخاري، وتقدم أن الحديث من أدلة من قال بعدم وجوب التسمية ولا يتم ذلك.
    وإنما هو دليل على أنه لا يلزم أن يعلموا التسمية فيما يجلب إلى أسواق المسلمين وكذا ما ذبحه الأعراب من المسلمين لأنهم قد عرفوا التسمية، قال ابن عبد البرّ: لأن المسلم لا يظن به في كل شيء إلا الخير إلا أن يتبين خلاف ذلك. ويكون الجواب عنهم بقوله: "فسموا" إلخ منالأسلوب الحكيم وهو جواب السائل بغير ما يترقب كأنه يقول: الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله عليه وتأكلوا منه، وهذا يقرر ما قدمناه من وجوب التسمية، إلا أن تحمل أمور المسلمين على السلامة.
    وأما ما اشتهر من حديث "المؤمن يذبح على اسم الله سمى أم لم يسمّ" وإن قال الغزالي في الأحياء: إنه صحيح، فقد قال النووي: إنه مجمع على ضعفه. وقد أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة وقال: إنه منكر لا يحتج به.
    وكذا ما أخرجه أبو داود في المراسيل عن الصلت السدوسي عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر" فهو مرسل، وإن كان الصلت ثقة فالإرسال علة عند من لم يقبل المراسيل، وقولنا فيما تقدم إنه ليس الإرسال علة: نريد إذا أعلوابه حديثاً موصولاً ثم جاء من جهة أخرى مرسلاً.
    وعن عبد الله بن مُغَفّلٍ المُزني رضي الله عنهُ أنَّ رسولَ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عنِ الحذف وقال: "إنّها لا تصيدُ صيداً ولا تنْكأُ عدوًّا ولكنها تكسرُ السِّنَّ وتفْقأُ العين" متفقٌ عليه واللفظ لمسلم.
    (وعن عبد الله بن مغفل المُزني رضي الله عنه أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى عن الخذف) بفتح الخاء المعجمة وسكون الذال المعجمة ففاء (وقال: "إنها) أنث الضمير مع أن مرجعه الخذف وهو مذكر نظراً إلى المحذوف به وهي الحصاة (لا تصيد صيداً ولا تنكأ) بفتح حرف المضارعة وهمزة في آخره (عدواً ولكنها تكسر السنَّ وتفقأُ العين". متفق عليه واللفظ لمسلم).
    الخذف: رمي الإنسان بحصاة أو نواة أو نحوهما يجعلها بين أصبعيه السبابتين أو السبابة والإبهام. وفي تحريم ما يقتل بالخذف من الصيد الخلاف الذي مضى في صيد المثقل لأن الحصاة تقتل بثقلها لا بحدّ. والحديث نهى عن الخذف لأنه لا فائدة فيه، ويخاف منه المفسدة المذكورة، ويلحق به كل ما فيه مفسدة.
    واختلف فيما يقتل بالبندقة فقال النووي: إنه إذا كان الرمي بالبنادق وبالخذف إنما هو لتحصيل الصيد وكان الغالب فيه عدم قتله فإنه يجوز ذلك إذا أدركه الصائد وذكاه كرمي الطيور الكبار بالبنادق.
    وأما أثر ابن عمر وهو ما أخرجه عنه البيهقي أنه كان يقول: "المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة" فهذا في المقتولة بالبندقة، وكلام النووي في الذي لا يقتلها وإنما يحسبها على الرامي حتى يذكيها؛ وكلام أكثر السلف أنه لا يؤكل ما قتل بالبندقة وذلك لأنه قتل بالثقل.
    قلت: وأما البنادق المعروفة الآن فإنها ترمي بالرصاص فيخرج وقد صيرته نار البارود كالميل فيقتل بحدّه لا بصدمه فالظاهر حل ما قلته.
    وعن بن عبّاس رضي اللّهُ عنهما أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا تتّخذُوا شيئاً فيهِ الرُّوحُ غرضاً" رَوَاهُ مُسْلمٌ.
    (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تتخذوا شيئاً فيه الرُّوح غرضاً") بفتح الغين المعجمة وفتح الراء فضاد معجمة هو في لأصل الهدف يرمى ثم جعل اسماً لكل غاية يتحرى إدراكها (رواه مسلم).
    الحديث نهى عن جعل الحيوان هدفاً يرمى إليه، والنهي للتحريم لأنه أصله ويؤيده قوّة حديث "لعن الله من فعل هذا" لما مر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وطائر قد نصب وهم يرمونه.
    ووجه حكمة النهي أن فيه إيلاماً للحيوان، وتضييعاً لماليته، وتفويتاً لذكاته إن كان مما يذكى، ولمنفعته إن كان غير مذكى.
    وعَنْ كَعْبِ بن مالك رضي اللّهُ عنْهُ "أَنَّ امرّأَةً ذبحتْ شاةً بحجر فسُئلَ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن ذلك فَأَمَرَ بأَكلها" رواه البُخاريُّ.
    الحديث دليل على صحة تذكية المرأة، وهو قول الجماهير، وفيه خلاف شاذ أنه يكره ولا وجه له.
    ودليل على صحة التذكية بالحجر الحادّ إذا فرى الأوداج، لأنه جاء في رواية أنها كسرت الحجر وذبحت به، والحجر إذا كسرت يكون فيه الحدّ.
    ودليل على أنه يصح أكل ما ذبح بغير إذن المالك، وخالف فيه إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر وغيرهم. واحتجوا بأمره صلى الله عليه وآله وسلم بإكفاء ما في قدور ما ذبح من المغنم قبل القسمة بذي الحليفة كما أخرجه الشيخان.
    وأجيب: بأنه إنما أمر بإراقة المرق وأما اللحم فباق جُمِعَ ورد إلى المغنم. فإن قيل: لم ينقل جمعه ورده إليه. قلنا: ولم ينقل أنهم أتلفوه وأحرقوه فيجب تأويله بما ذكرنا موافقة للقواعد الشرعية.
    قلت: لا يخفى تكليف الجواب والمرق مال لو كان حلالاً لما أمر بإراقته فإنه من إضاعة المال.
    وأما الاستدلال على المدعي بشاة الأسارى، فإنها ذبحت بغير إذن مالكها فأمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالتصدق بها على الأسارى كما هو معروف، فإنه استدلال غير صحيح، وذلك لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يستحل أكلها ولا أباح لأحد من المسلمين أكلها بل أمر أن تطعم الكفار المستحلين للميتة.
    وقد أخرج أبو داود من حديث رجل من الأنصار قال: "خرجنا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في سفر فأصاب الناس مجاعة شديدة وجهد فأصابوا غنماً فانتهبوها فإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على فرسه فأكفأ قدورنا ثم جعل يرمل اللحم بالتراب وقال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة".
    فهذا مثل الحديث الذي أخرجه الشيخان، وفيه التصريح بأنه حرام وفيه إتلاف اللحم لأنه ميتة، فعرفت قوة كلام أهل الظاهر.
    وأما حديث الكتاب وأنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أمر بأكل ما ذبح بغير إذن مالكه فإنه يردّ على أهل الظاهر لأنهم يقولون بحل ما ذبح بغير إذن مالكه مخافة أن يموت أو نحوه.
    وفيه دليل على أنه يجوز تمكين الكفار مما هو محرّم على المسلمين، ويدل له أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عمر عن لبس الحلة من الحرير فبعث بها عمر لأخيه المشرك إلى مكة. كما في البخاري وغيره.
    قال المصنف في الفتح: ويدل الحديث على تصديق الأجير الأمين فيما أؤتمن عليه حتى يتبين عليه دليل الخيانة، لأن في الحديث أنها كانت المرأة أمة راعية لغنم سيدها وهو كعب بن مالك فخشيت على الشاة أن تموت فذبحتها. ويؤخذ منه جواز تصرف المودع لمصلحة بغير إذن المالك.
    وذهبت الحنفية إلى أنه لا يقيم الحدود مطلقاً إلا الإمام أو من أذن له. وقد استدل الطحاوي بما أخرجه من طريق مسلم بن يسار قال: كان أبو عبد الله رجل من الصحابة يقول: الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان.
    وعَنْ رافع بنِ خديج رضي اللّهُ عَنْهُ عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَا أَنهر الدَّم وذكر اسم الله عليه فكُلْ لَيْس السِّنَّ والظُّفُرَ أَمّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وأَمّا الظُّفُرَ فَمُدى الحبشة" مُتّفقٌ عليه.
    (وعن رافع بن خديج رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال سبب الحديث أنه قال رافع بن خديج: يا رسول الله إنا لاقو العدوّ غداً وليس معنا مدى فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ("ما أنهر الدم) بفتح الهمزة فنون ساكنة فهاء مفتوحة فراء أي ما أساله وصبه بكثرة، من النهر (وذكر اسم الله عليه فكل؛ ليس السِّنَّ والظُّفُرَ، أمّا السِّن فعظمٌ وأمّا الظُّفُرُ فَمُدَى) بضم الميم وبفتحها وفتح الدال المهملة فألف مقصورة: جمع مدية مثلثة الميم وهي الشفرة أي السكين (الحبشة" متفق عليه).
    فيه دلالة صريحة بأنه يشترط في الذكاة ما يقطع ويجري الدم. واعلم أنه تكون الذكاة بالنحر للإبل وهو الضرب بالحديد في لبة البدنة حتى يفري أوداجها. واللبة ــــ بفتح اللام وتشديد الموحدة ــــ موضع القلادة من الصدر. والذبح لما عداها وهو قطع الأوداج أي الودجين وهماعرقان محيطان بالحلقوم، فقولهم الأوداج تغليب على الحلقوم والمريء فسميت الأربعة أوداجاً.
    واختلف العلماء فقيل لا بدّ من قطع الأربعة وعن أبي حنيفة: يكفي قطع ثلاثة من أي جانب، وقال الشافعي: يكفي قطع الأوداج والمريء. وعن الثوري يجزيء قطع الودجين. وعن مالك يشترط قطع الحلقوم والودجين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أنهر الدم" وإنهاره إجراؤه وذلك يكون بقطع الأوداج لأنها مجرى الدم وأما المريء فهو مجرى الطعام وليس به من الدم ما يحصل به إنهاره.
    والحديث دليل على أنه يجزيء الذبح بكل محدد، فيدخل السيف والسكين والحجر والخشبة والزجاج والقصب والخزف والنحاس وسائر الأشياء المحددة.
    والنهي عن السن والظفر مطلقاً من آدمي أو غيره منفصل أو متصل ولو كان محدداً، وقد بين صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم النهي في الحديث بقوله: "أما السن فعظم" فالعلة كونه عظماً، وكأنه قد سبق منه صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الذبح بالعظم.
    وقد علل النووي وجه النهي عن الذبح بالعظم أنه ينجس به وهو من طعام الجن فيكون كالاستجمار بالعظم.
    وعلل في الحديث النهي عن الذبح بالظفر بكونه مدى الحبشة أي وهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم، وأورد عليه بأن الحبشة تذبح بالسكين أيضاً فيلزم المنع من ذلك التشبه. وأجيب: بأن الذبح بالسكين هو الأصل وهو غير مخصص بالحبشة.
    وعلل ابن الصلاح ذلك بأنه إنما منع لما فيه من التعذيب للحيوان ولا يحصل به إلا الخنق الذي ليس على صفة الذبح. وفي المعرفة للبيهقي رواية عن الشافعي أنه حمل الظفر في هذا الحديث على النوع الذي يدخل في الطيب وهو من بلاد الحبشة وهو لا يفري فيكون في معنى الخنق.
    وإلى تحريم الذبح بما ذكر ذهب الجمهور. وعن أبي حنيفة وصاحبيه أنه يجوز بالسنّ والظفر المنفصلين واحتجوا بما أخرجه أبو داود من حديث عدي بن حاتم "أفر الدم بما شئت" والجواب أنه عام خصصه حديث رافع بن خديج.
    وعنْ جابر بن عبد الله رضي الله عَنْهُما قال: "نهى رسول اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَنْ يُقْتلَ شيءٌ منَ الدوابِّ صبْراً" رَوَاهُ مُسلمٌ.
    وهو دليل على تحريم قتل أي حيوان صبراً وهو إمساكه حياً ثم يرمى حتى يموت، وكذلك من قتل من الآدميين في غير معركة ولا حرب ولا خطأ فإنه مقتول صبراً. والصبر: الحبس.
    وعَنْ شدَّاد بن أَوس رضي اللّهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الله كتب الإحسانَ على كل شيءٍ، فإذا قَتَلْتُمْ فأَحسنوا القِتْلةَ، وإذا ذبحتُمْ فأحسِنوا الذِّبحة، ولْيُحِدَّ أَحدُكُمْ شَفْرَتَهُ، ولْيُرحْ ذبيحتَهُ" رواهُ مُسْلمٌ.
    (وعن شدّاد بن أوس رضي الله عنه) شداد بالشين المعجمة ودالين مهملتين هو: أبو يعلى شداد بن أوس بن ثابت النجاري الأنصاري وهو ابن أخي حسان بن ثابت لم يصح شهوده بدراً، نزل بيت المقدس وعداده في أهل الشام، مات به سنة ثمان وخمسين، وقيل: غير ذلك، قال[اث] عبادة بن الصامت[/اث] و[اث]أبو الدرداء[/اث]: كان شداد ممن أوتي العلم والحلم (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأَحْسنوا القِتلة) بكسر القاف مصدر نوعي (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) بزنة القتلة (وليحدَّ أَحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". رواه مسلم.
    قوله كتب الإحسان أي أوجبه، كما قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} وهو فعل الحسن ضد القبيح فيتناول الحسن شرعاً والحسن عرفاً، وذكر ما هو أبعد شيء عن اعتبار الإحسان وهو الإحسان في القتل، لأي حيوان من آدمي وغيره في حدّ وغيره، ودل على نفي المثلة مكافأة إلا أنه يحتمل أنه مخصص بقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وقد تقدم الكلام في ذلك.
    وأبان بعض كيفية إحسانها بقوله: "وليحد" بضم حرف المضارعة من أحدّ السكين أحسن حدها، والشفرة بفتح المعجمة السكين العظيمة وما عظم من الحديد وحدّد وقوله: "وليرح" بضم حرف المضارعة أي من الإراحة ويكون بإحداد السكين وتعجيل إمرارها وحسن الصنيعة.
    وَعَنْ أبي سعيد الخدري رضي الله عنهُ قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ذكاة الجنين ذكاةُ أُمّه" رواهُ أَحْمدُ وصححه ابنُ حِبّان.
    الحديث له طرق عند الترمذي وأبي داود والدارقطني إلا أنه قال عبد الحق: إنه لا يحتج بأسانيده كلها، وقال الجويني: إنه صحيح لا يتطرق احتمال إلى متنه ولا ضعف إلى سنده، وتابعه الغزالي، والصواب أنه بمجموع طرقه يعمل به، وقد صححه ابن حبان وابن دقيق العيد.
    وفي الباب عن جابر وأبي الدرداء وأبي أمامة وأبي هريرة قاله الترمذي. وفيه عن جماعة من الصحابة مما يؤيد العمل.
    والحديث دليل على أن الجنين إذا خرج من بطن أمه ميتاً بعد ذكاتها فهو حلال مذكى بذكاة أمه. وإلى هذا ذهب الشافعي وجماعة حتى قال ابن المنذر: لم يروِ عن أحد من الصحابة ولا من العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه، إلا ما يروى عن أبي حنيفة، وذلك لصراحة الحديث فيه، ففي لفظ "ذكاة الجنين بذكاة أمه" أخرجه البيهقي، فالباء سببية أي إن ذكاته حصلت بسبب ذكاة أمه، أو ظرفيه ليوافق ما عند البيهقي أيضاً "ذكاة الجنين في ذكاة أمه".
    واشترط مالك أن يكون قد أشعر، لما رواه أحمد بن عصام عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً "إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه"، لكنه قال الخطيب: تفرّد به[تض] أحمد بن عصام[/تض] وهو ضعيف، وهو في الموطأ موقوف على ابن عمر، وهو أصح.
    وعورض بما رواه ابن المبارك عن [تض]ابن أبي ليلى[/تض] قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" وفيه ضعف لسوء حفظ ابن أبي ليلى، ولكنه أخرج البيهقي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" روي عن أوجه عن ابن عمر مرفوعاً، قال البيهقي: ورفعه عنه ضعيف والصحيح أنه موقوف. قلت: والموقوفان عنه قد صحّا وتعارضا فيطرحان ويرجع إلى إطلاق حديث الباب وما في معناه.
    وذهب الهادوية والحنفية إلى أن الجنين إذا خرج ميتاً من المذكاة فإنه ميتة لعموم {حرمت عليكم الميتة} وكذا لو خرج حياً ثم مات، وإليه ذهب ابن حزم، وأجابوا عن الحديث بأن معناه ذكاة الجنين إذا خرج حياً فهو ذكاة أمه، قاله في البحر. قلت: ولا يخفى أنه إلغاء للحديث عن الإفادة، فإنه معلوم أن ذكاة الحي من الأنعام ذكاة واحدة من جنين وغيره كيف ورواية البيهقي بلفظ ذكاة الجنين في ذكاة أمه، فهي مفسرة لرواية ذكاة أمه، وفي أخرى بذكاة أمه.
    وعن ابن عبّاس رضي اللّهُ عنهما أَنّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "المسلم يكفيه اسمهُ، فإن نسي أَنْ يسمّي حين يَذْبح فَلْيُسمِّ ثمَّ ليأكلْ" أَخرجهُ الدارقطني وفي إسناده [تض]مُحَمّدُ بنُ يزيد بن سِنان[/تض] وهُو صدوقٌ ضعيف الحفظ، وأَخرجهُ عبدُ الرَّزاق بأسنادٍ صحيح إلى ابن عَبّاسٍ موقوفاً عليه، ولَهُ شاهدٌ عِنْدَ أَبي داودَ في مراسيله بلفظ "ذبيحةُ المُسلم حَلال ذُكرَ اسمُ الله عَلَيْها أَم لمْ يذكر" ورجالهُ موثقون.
    (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "المسلم يكفيه اسمُهُ) الضمير للمسلم وقد فسره حديث البيهقي عن ابن عباس قال فيه: "فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله" (فإن نسي أن يُسَمِّيَ حين يذبحُ فليسم ثمَّ ليأكل" أخرجه الدارقطني) وفيه راوٍ في حفظه ضعف بينه بقوله: (وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان، وهو صدوق ضعيف الحفظ. وأخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس موقوفاً عليه. وله شاهد عند أبي داود في مراسيله بلفظ "ذبيحة المسلم حلالٌ ذُكر اسمُ الله عليها أم لم يذكر" ورجاله موثقون).
    وفي الباب مرسل صحيح، ولكنها لا تقاوم ما سلف من الأحاديث الدالة على وجوب التسمي مطلقاً، إلا أنها تفت في عضد وجوب التسمية مطلقاً وتجعل ترك أكل ما لم يسم عليه من باب التورّع.

    باب الأضاحي
    الأضاحي: جمع أضحية بضم الهمزة ويجوز كسرها، ويجوز حذف الهمزة وفتح الضاد كأنها اشتقت من اسم الوقت الذي شرع ذبحها فيه، وبها سمي اليوم يوم الأضحى.
    عنْ أَنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه "أَنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ يضحي بكبشين أَملحين أَقرنين، ويُسمّي ويكبِّر ويضعُ رجْله على صفاحهِما" وفي لَفْظ "ذبحهما بيده" متفقٌ عليهِ، وفي لفظ "سمينين" ولأبي عوانةَ في صحيحه "ثمينين" بالمثلثةِ بدل السِّين، وفي لَفْظ لمسْلمٍ ويقول: "بسم الله والله أكبرُ".
    (عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، ويسمي ويكبر ويضع رجله على صفاحهما) بالمهملتين الأولى مكسورة. في النهاية: صفحة كل شيء وجهه وجانبه (وفي لفظ ذبحهما بيده متفق عليه، وفي لفظ سمينين، ولأبي عوانة في صحيحه) أي عن أنس رضي الله عنه (ثمينين ــــ بالمثلث بدل السين) هذا مدرج من كلام أحد الرواة أو أبي عوانة أو المصنف (وفي لفظ لمسلم) من رواية أنس (ويقول: "بسم الله والله أكبر").
    الكبش: هو الثني إذا خرجت رباعيته، والأملح الأبيض الخالص، وقيل: الذي يخالط بياضه شيء من سواد، وقيل: الذي يخالط بياضه حمرة، وقيل: هو الذي فيه بياض وسواد والبياض أكثر، والأقرن هو الذي له قرنان.
    واستحب العلماء التضحية بالأقرن لهذا الحديث، وأجازوها بالأجم الذي لا قرن له أصلاً، واختلفوا في مكسور القرن: فأجازه الجمهور وعند الهادوية لا يجزيء إذا كان القرن الذاهب مما تحله الحياة.
    واتفقوا على استحباب الأملح قال النووي: إن أفضلها عند الصحابة البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء وهي التي لا يصفو بياضها ثم البلقاء وهي التي بعضها أسود وبعضها أبيض ثم السوداء، وأما حديث عائشة: "يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد" فمعناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود.
    قلت: إذا كانت الأفضلية في اللون مستندة إلى ما ضحى به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فالظاهر أنه لم يتطلب لوناً معيناً حتى يحكم بأنه الأفضل بل ضحى بما اتفق له وتيسر حصوله فلا يدل على أفضلية لون من الألوان.
    وقوله: "ويسمي ويكبر" فسره لفظ مسلم بأنه "بسم الله والله أكبر" أما التسمية فتقدم الكلام فيها. وأما التكبير فكأنه خاصّ بالتضحية والهدي لقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم}.
    وأما وضع رجله صلى الله عليه وآله وسلم على صفحة العنق وهي جانبه فليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الضحية. ودل هو وما بعده أنه يتولى الذبح بنفسه ندباً.
    وَله منْ حديث عائشة "أَمر بكبش أقرنَ يَطأُ في سوادِ ويبركُ في سوادٍ وَيَنْظرُ في سوادٍ فأُتي بهِ لِيُضَحِّي بهِ، فقالَ لهَا: "يا عائشةُ هَلُمِّي المُدْيَةَ" ثمَّ قالَ: "اشحذيها بحجَر" فَفَعَلَتْ، ثمَّ أَخذها وأَخَذَهُ فأَضجعهُ، ثمَّ قَالَ: "بسم الله، اللهُمَّ تقبّلْ مِنْ محمّد وآل محمّدٍ ومِنْ أُمّةِ محمدٍ" ثم ضَحى بهِ.
    (وله من حديث) أي لمسلم من حديث (عائشة رضي الله عنها أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأُتي به ليضحي به فقال لها: "يا عائشة هلمِّي ا لمدية" ثم قال "اشحذيها") أي المدية تقدم ضبطها وهو بمعنى وليحدّ أحدكم شفرته (بحجر ففعلت ثم أخذها) أي المدية (وأخذه فأضجعه) أي الكبش (ثم ذبحه ثم قال: "بسم الله اللهمَّ تقبّل من محمد وآل محمد ومن أُمّة محمد" ثم ضحى به).
    فيه دليل على أنه يستحب إضجاع الغنم ولا تذبح قائمة ولا باركة لأنه أرفق بها، وعليه أجمع المسلمون، ويكون الإضجاع على جانبها الأيسر لأنه أيسر للذابح في أخذ السكين باليمنى وإمساك رأسها باليسار.
    وفيه أنه يستحب الدعاء بقبول الأضحية وغيرها من الأعمال، وقد قال الخليل والذبيح عند عمارة البيت: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} ، وقد أخرج ابن ماجه أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال عند التضحية وتوجيهها للقبلة: {وجهت وجهي}.
    ودل قوله: "وآل محمد" وفي لفظ "عن محمد وآل محمد" أنه تجزىء التضحية من الرجل عن أهل بيته ويشركهم في ثوابها، وأنه يصح نيابة المكلف عن غيره في فعل الطاعات، وإن لم يكن من الغير أمر ولا وصية، فيصح أن يجعل ثواب عمله لغيره، صلاة كانت أو غيرها، وقد تقدم ذلك ودل له ما أخرجه الدارقطني من حديث جابر "أن رجلاً قال: يا رسول الله إنه كان لي أبوان أبرهما في حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صيامك".
    وَعَنْ أَبي هُريرة رضي الله عَنهُ قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ ولَمْ يضحِّ فلا يقربنَّ مُصَلاّنا" رواهُ أَحمَدُ وابنُ ماجه وصحّحه الحاكمُ لكن رجّحَ الأئمةُ غَيْرهُ وقْفَهُ.
    (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "منْ كانَ لهُ سعةٌ ولم يضح فلا يقربنَّ مصلانا". رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم ورجح الأئمة غيره) أي غير الحاكم (وقفه).
    وقد استدل به على وجوب التضحية على من كان له سعة، لأنه لما نهى عن قربان المصلى دل على أنه ترك واجباً، كأنه يقول لا فائدة في الصلاة مع ترك هذا الواجب، ولقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} فقيل يوم النحر ويومان بعده وهو المشهور، وقيل: العشر الأول من ذي الحجة، والسبب الثاني: معارضة دليل الخطاب في هذه الآية بحديث جبير بن مطعم مرفوعاً أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: "كل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" فمن قال في الأيام المعلومات إنها يوم النحر ويومان بعده في هذه الآية رجح دليل الخطاب فيها على الحديث المذكور، وقال:لا نحر إلا في هذه الأيام. ومن رأى الجمع بين الحديث والآية قال: لا معارضة بينهما، إذ الحديث اقتضى حكماً زائداً على ما في الآية، مع أن الآية ليس المقصود فيها تحديد أيام النحر والحديث المقصود منه ذلك، قال: يجوز الذبح في اليوم الرابع إذا كان من أيام التشريق باتفاق.
    ولا خلاف بينهم أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وأنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر إلا ما يروى عن[اث] سعيد بن جبير[/اث] أنه قال: يوم النحر من أيام التشريق. وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على القولين، وأما من قال يوم النحر فقط فبناءً على أن المعلومات العشر الأول، قالوا: وإذا كان الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز الذبح هنا إلا في اليوم العاشر وهو محل الذبح المنصوص عليه فوجب أن لا يكون إلا يوم النحر فقط انتهى.
    (فائدة): في النهاية أيضاً ذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا يجوز التضحية في ليالي أيام النحر؛ وذهب غيره إلى جواز ذلك.
    وسبب الاختلاف هو أن اليوم يطلق على اليوم والليلة نحو قوله: {فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام} ويطلق النهار دون الليل نحو {وسبع ليال وثمانية أيام} فعطف الأيَّام على الليالي والعطف يقتضي المغايرة.
    ولكن بقي النظر في أيهما أظهر، والمحتج بالمغايرة في أنه لا يصح بالليل عمل بمفهوم اللقب ولم يقل به إلا الدقاق، إلا أن يقال دل الدليل على أنه يجوز في النهار، والأصل في الذبح الحظر فيبقى الليل على الحظر والدليل على تجويزه في الليل ا هــــ.
    قلت: لا حظر في الذبح بل قد أباح الله ذبح الحيوان في أي وقت وإنما كان الحظر عقلاً قبل إباحة الله تعالى لذلك.
    وعنِ البراءِ بن عازبٍ رضي اللّهُ عنهُ قالَ: قام فينا رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "أَرْبعٌ لا تجوزُ في الضَّحايا: العوراءُ الْبَيِّنُ عَوَرُها، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعرجاءُ البيِّنُ ظَلَعُها، والكبيرةُ التي لا تُنْقي" رَوَاهُ أَحمد والأربعةُ وصحّحهُ الترمذي وابن حِبّان.
    (وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البيّن عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البيِّن ظلعها والكبيرة التي لا تنقي") بضم المثناة الفوقية وإسكان النون وكسر القاف أي التي لا نِقي لها بكسر النون وإسكان القاف وهو المخ (رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبّان).
    وصححه الحاكم وقال: على شرطهما وصوب كلامه المصنف، وقال: لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ولكنه صحيح أخرجه أصحاب السنن بأسانيد صحيحة وحسنه أحمد بن حنبل فقال: ما أحسنه من حديث، وقال الترمذي صحيح حسن.
    والحديث دليل على أن هذه الأربعة العيوب مانعة من صحة التضحية، وسكت عن غيرها من العيوب، فذهب أهل الظاهر إلى أنه لا عيب غير هذه الأربعة، وذهب الجمهور إلى أنه يقاس عليها غيرها مما كان أشد منها أو مساوياً لها كالعمياء ومقطوعة الساق.
    وقوله "البين عورها" قال في البحر: إنه يعفى عما إذا كان الذاهب الثلث فما دونه، وكذا في العرج قال الشافعي: العرجاء إذا تأخرت عن الغنم لأجله فهو بين. وقوله "ظلعها" أي اعوجاجها.
    وعنْ جابر رضي اللّهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تذبحُوا إلا مُسِنّةً إلا أن يَعْسر عليكم فَتَذْبحوا جَذَعةً منَ الضَّأنِ" رواهُ مُسلمٌ.
    المسنة: الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها كما قدمنا.
    والحديث دليل على أنه لا يجزيء الجذع من الضأن في حال من الأحوال إلا عند تعسر المسنة؛ وقد نقل القاضي عياض الإجماع على ذلك، ولكنه غير صحيح لما يأتي، وحكي عن[اث] ابن عمر[/اث] والزهري أنه لا يجزيء ولو مع التعسر.
    وذهب كثيرون إلى إجزاء الجذع من الضأن مطلقاً وحملوا الحديث على الاستحباب بقرينة حديث أم بلال أنه قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ضحوا بالجذع من الضأن" أخرجه أحمد وابن جرير والبيهقي، وأشار الترمذي إلى حديث "نعمت الأضحية الجذع من الضأن" وروى ابن وهب عن عقبة بن عامر بلفظ "ضحينا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بالجذع من الضأن". قلت: ويحتمل أن ذلك كله عند تعسر المسنة.
    وعن علي رضي الله عنهُ قالَ: "أمرَنا رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَنْ نَستْشرفَ العينَ والأذنَ، ولا نُضحِّيَ بعوراءَ ولا مُقابَلة ولا مدابرةٍ ولا خرْقاءَ ولا ثرماءَ" أخْرجَهُ أَحْمدُ والأربعَةُ وصححه الترمذيُّ وابن حبّان والحاكمُ.
    (وعن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أن نستشرف العين والأذن) أي نشرف عليهما ونتأملهما لئلا يقع نقص وعيب (ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة) بفتح الموحدة ما قطع من طرف أذنها شيء ثم بقي معلقاً (ولا مدابرة) والمدابرة بالدال المهملة وفتح الموحدة ما قطع من مؤخر أذنها شيء وترك معلقاً (ولا خرقا) بالخاء المعجمة مفتوحة والراء ساكنة المشقوقة الأذنين (ولا ثرمي) بالمثلثة فراء وميم وألف مقصورة هي من الثرم وهو سقوط الثني من الأسنان، وقيل: الثنية والرباعية، وقيل: هو أن تنقطع السن من أصلها مطلقاً، وإنما نهى عنها لنقصان أكلها، قاله في النهاية؛ ووقع في نسخة الشرح شرقاء بالشين المعجمة والراء والقاف وعليها شرح الشارح ولكن الذي في نسخ بلوغ المرام الصحيحة الثرمي كما ذكرناه (أخرجه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم).
    فيه دليل على أنها تجزىء الأضحية إلا ما ذكر وهو مذهب الهادوية، وقال الإمام يحيى: تجزىء وتكره، وقواه المهدي وظاهر الحديث مع الأول.
    وورد النهي عن التضحية بالمصْفَرة بضم الميم وإسكان الصاد المهملة ففاء مفتوحة فراء أخرجه أبو داود والحاكم، وهي المهزولة كما في النهاية، وفي رواية: "المصفورة" قيل: هي المستأصلة الأذن.
    وأخرج أبو داود من حديث عقبة بن عامر السلمي أنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المصفرة والمستأصلة والنجقاء والمشيعة والكسراء" فالمصفرة: التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها، والمستأصلة: التي استؤصل قرنها من أصله، والنجقاء: التي تنجق عينها، والمشيعة: التي لا تتبع الغنم عجفاً أو ضعفاً، والكسراء: الكسيرة. هذا لفظ أبي داود.
    وأما مقطوع الألية والذنب فإنه يجزيء لما أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي سعيد قال: "اشتريت كبشاً لأضحي به فعدا الذئب فأخذ منه الألية فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ضح به" وفيه جابر الجعفي وشيخه محمد بن قرظة مجهول، إلا أن له شاهداً عند البيهقي، واستدل به ابن تيمية في المنتقى على أن العيب الحادث بعد تعيين الأضحية لا يضر. وذهبت الهادوية إلى عدم إجزاء مسلوب الألية.
    وفي نهاية المجتهد: أنه ورد في هذا الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان فذكر النسائي عن أبي بردة "أنه قال: يا رسول الله أكره النقص يكون في القرن والأذن فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وما كرهته فدعه ولا تحرّمه على غيرك" ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه: "أمرنا رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نستشرف العين" الحديث.
    فمن رجح حديث أبي بردة قال: لا تتقي إلا العيوب الأربعة وما هو أشد منها. ومن جمع بين الحديثين حمل حديث أبي بردة على العيب اليسير الذي هو غير بين وحديث علي عليه السلام على الكثير البين.
    (فائدة): أجمع العلماء على جواز التضحية من جميع بهيمة الأنعام، وإنما اختلفوا في الأفضل. والظاهر أن الغنم في الضحية أفضل لفعله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره، وإن كان يحتمل أن ذلك لأنها المتيسرة لهم.
    ثم الإجماع على أنه لا يجوز التضحية بغير بهيمة الأنعام إلا ما حكي عن الحسن بن صالح أنها تجوز التضحية ببقرة الوحش عن عشرة والظبي عن واحد وما روي عن أسماء أنها قالت: ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخيل، وما روي عن أبي هريرة أنه ضحى بديك.
    وعَنْ عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عَنْهُ قالَ: "أَمرني رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَنْ أَقومَ على بُدْنِهِ، وأَن أَقْسِمَ لحومَها وجُلُودَها وجلالهَا على المساكين، ولا أُعْطي في جزارتها شيئاً منْها" متفقٌ عليْهِ.
    هذا في بدنه صلى الله عليه وآله وسلم التي ساقها في حجة الوداع وكانت مع التي أتى بها علي رضي الله عنه من اليمن مائة بدنة، نحرها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم النحر بمنى نحر بيده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثلاثاً وستين، ونحر بقيتها علي رضي الله عنه. وقد تقدم في كتاب الحج.
    والبدن: تطلق لغة على الإبل والبقر والغنم إلا أنها هنا للإبل، وهكذا استعمالها في أحاديث، وفي كتب الفقه في الإبل خاصة.
    ودل على أنه يتصدق بالجلود والجلال كما يتصدق باللحم، وأنه لا يعطي الجزار منها شيئاً أجرة، لأن ذلك في حكم البيع لاستحقاقه الأجرة، وحكم الأضحية حكم الهدي في أنه لا يباع لحمها ولا جلدها ولا يعطى الجزار منها شيئاً.
    قال في نهاية المجتهد: العلماء متفقون فيما علمت أنه لا يجوز بيع لحمها واختلفوا في جلدها وشعرها مما ينتفع به، فقال الجمهور: لا يجوز وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه بغير الدنانير والدراهم يعني بالعروض، وقال عطاء: يجوز بكل شيء دراهم وغيرها، وإنما فرّق أبو حنيفة بين الدراهم وغيرها لأنه رأى أن المعاوضة في العروض هي من باب الانتفاع لإجماعهم على أنه يجوز الانتفاع به.
    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عَنْهما قالَ: "نحرْنا معَ رسولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عامَ الحديبيةِ البَدَنَةَ عن سبعة والبقرَةَ عنْ سبْعةٍ" رواهُ مُسلمٌ.
    دل الحديث على جواز الاشتراك في البدنة والبقرة وأنهما يجزيان عن سبعة، وهذا في الهدي، ويقاس عليه الأضحية، بل قد ورد فيها نص، فأخرج الترمذي والنسائي من حديث ابن عباس قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة سبعة وفي البعير عشرة" وقد صح اشتراك أهل بيت واحد في ضحية واحدة كما في حديث مخنف. وإلى هذا ذهب زيد بن علي وحفيده أحمد بن عيسى والفريقان.
    قال النووي: سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين مفترضين أو متطوّعين، أو بعضهم متقرّباً وبعضهم طالب لحم، وبه قال أحمد، وذهب مالك: إلى أنه لا يجوز الاشتراك في الهدي إلا في هدي التطوّع، وهدي الإحصار عندي من هدي التطوّع.
    واشترطت الهادوية في الاشتراك اتفاق الغرض قالوا، ولا يصح مع الاختلاف لأن الهدي شيء واحد فلا يتبعض، بأن يكون بعضه واجباً وبعضه غير واجب، وقالوا إنها تجزيء البدنة عن عشرة لما سلف من حديث ابن عباس، وقاسوا الهدي على الأضحية. وأجيب: بأنه لا قياس مع النص.
    وادّعى ابن رشد الإجماع على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة قال: وإن كان روي من حديث رافع بن خديج: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدل البعير بعشر شياه" أخرجه في الصحيحين، ومن طريق ابن عباس وغيره "البدنة عن عشر" قال الطحاوي: وإجماعهم دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة ا هــــ. ولا يخفى أنه لا إجماع مع خلاف من ذكرنا وكأنه لم يطلع عليه.
    واختلفوا في الشاة، فقال الهادوية: تجزيء عن ثلاثة في الأضحية قالوا: وذلك لما تقدم من تضحية النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بالكبش عن محمد وآل محمد قالوا: وظاهر الحديث أنها تجزىء عن أكثر لكن الإجماع قصر الإجزاء على الثلاثة.
    قلت: وهذا الإجماع الذي ادعوه يباين ما قاله في نهاية المجتهد فإنه قال: إنه وقع الإجماع على أن الشاة لا تجزىء إلا عن واحد.
    والحق أنها تجزىء الشاة عن الرجل وعن أهل بيته لفعله صلى الله عليه وآله وسلم ولما أخرجه مالك في الموطأ من حديث أبي أيوب الأنصاري قال: "كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته ثم تباهى الناس بعد".
    (فائدة): من السنة لمن أراد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره إذا دخل شهر ذي الحجة لما أخرجه مسلم من أربع طرق من حديث أم سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً".
    وأخرج البيهقي من حديث عمرو بن العاص أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لرجل سأله عن الضحية وأنه قد لا يجدها فقال: "قلم أظافرك، وقص شاربك، واحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله عزّ وجلّ" وهذا فيه شرعية هذه الأفعال في يوم التضحية وإن لم يترك من أول شهر الحجة.
    وذهب أحمد وإسحق: أنه يحرم للنهي، وإليه ذهب ابن حزم، وقال من لم يحرمه: قد قامت القرينة على أن النهي ليس للتحريم وهو ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث عائشة قالت: "أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بيدي ثم قلدها رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بيده ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شيء مما أحله الله حتى نحر الهدي".
    قال الشافعي: فيه دلالة على أنه لا يحرم على المرء شيء يبعثه بهديه، والبعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية. قلت: هذا قياس منه والنص قد خص من يريد التضحية بما ذكر.
    (فائدة أخرى): يستحب للمضحي أن يتصدق وأن يأكل، واستحب كثير من العلماء أن يقسمها أثلاثاً، ثلثاً للادخار وثلثاً للصدقة وثلثاً للأكل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلوا وتصدّقوا وادّخروا" أخرجه الترمذي بلفظ "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليتسع ذو الطول على من لا طول له فكلوا ما بدا لكم وتصدّقوا وادخروا" ولعل الظاهرية توجب التجزئة. وقال عبد الوهاب: أوجب قوم الأكل وليس بواجب في المذهب.

    باب العقيقة
    العقيقة: هي الذبيحة التي تذبح للمولود. وأصل العق: الشقُّ والقطع، وقيل للذبيحة عقيقة لأنه يشق حلقها، ويقال: عقيقة للشعر الذي يخرج على رأس المولود من بطن أمه، وجعله الزمخشري أصلاً والشاة المذبوحة مشتقة منه.
    عن ابن عباس رضي اللّهُ عَنْهُما "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عَقَّ عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً" رواهُ أَبو داود وصحّحهُ ابنُ خُزيمة وابنُ الجارود وعبدُ الحقِّ لكن رجح أبو حاتم إرساله.
    وقد أخرج البيهقي والحاكم وابن حبان من حديث عائشة بزيادة "يوم السابع وسماهما، وأمر أن يماط عن رأسيهما الأذى" وأخرج البيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين رضي الله عنهما يوم السابع من ولادتهما" وأخرج البيهقي أيضاً من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "عق عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام" قال الحسن البصري: إماطة الأذى حلق الرأس.
    وصححه ابن السكن بأتم من هذا وفيه: "وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونها على رأس المولود فأمرهم النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يجعلوا مكان الدم خلوقاً" ورواه أحمد والنسائي من حديث بريرة وسنده صحيح ويؤيد هذه الأحاديث الحديث الآتي وهو قوله:
    وأخرجَ ابنُ حِبّانَ مِنْ حديث أَنسٍ نحوه.
    والأحاديث دلت على مشروعية العقيقة. واختلف فيها مذاهب العلماء. فعند الجمهور أنها سنة. وذهب داود ومن تبعه إلى أنها واجبة.
    واستدل الجمهور بأن فعله صلى الله عليه وآله وسلم دليل على السنية وبحديث "من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل" أخرجه مالك.
    واستدلت الظاهرية بما يأتي من قول عائشة رضي الله عنها أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمرهم بها، والأمر دليل الإيجاب، وأجاب الأولون بأنه صرفه عن الوجوب قوله: "فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل".
    وقوله في حديث عائشة "يوم سابعه" دليل أنه وقتها وسيأتي فيه حديث سمرة وأنه لا يشرع قبله ولا بعده.
    وقال النووي: إنه يعق قبل السابع وكذا عن الكبير، فقد أخرج البيهقي من حديث أنس: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عق عن نفسه بعد البعثة" ولكنه قال: منكر، وقال النووي: حديث باطل. وقيل يجزىء في السابع والثاني والثالث لما أخرجه البيهقي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال: "العقيقة تذبح لسبع ولأربع عشرة ولإحدى وعشرين".
    ودل الحديث على أنه يجزىء عن الغلام شاة؛ لكن الحديث الآتي وهو قوله:
    وعنْ عائشة رضي الله عنها: "أنَّ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَمرهمْ أَن يُعَقَّ عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاةٌ" رواهُ الترمذيُّ وصحّحهُ.
    (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أمرهم أن يعق عن الغلام شاتان) وفي رواية (مكافئتان) قال النووي: بكسر الفاء وبعدها همزة ويأتي تفسيره (وعن الجارية شاة. رواه الترمذي وصححه).
    وقال: حسن صحيح. إلا أني لم أجد لفظه "أن يعق" في نسخ الترمذي.
    قال أحمد وأبو داود: معنى مكافئتان متساويان أو مقاربتان وقال الخطابي: المراد التكافؤ في السن فلا تكون إحداهما مسنة والأخرى غير مسنة بل يكونان مما يجزيء في الأضحية، وقيل: معناه أن يذبح إحداهما مقابلة للأخرى.
    دل الحديث على أنه يعق عن الغلام بضعف ما يعق عن الجارية. وإليه ذهب الشافعي وأبو ثور وأحمد وداود لهذا الحديث.
    وذهبت الهادوية و مالك إلى أن يجزيء عن الذكر والأنثى عن كل واحد شاة للحديث الماضي. وأجيب: بأن ذلك فعل وهذا قول والقول أقوى، وبأنه يجوز أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ذبح عن الذكر كبشاً لبيان أنه يجزيء وذبح الاثنين مستحب، على أنه أخرج أبو الشيخ حديث ابن عباس من طريق عكرمة بلفظ "كبشين كبشين". ومن حديث عمرو بن شعيب مثله، وحينئذٍ فلا تعارض. وفي إطلاق لفظ الشاة دليل على أنه لا يشترط فيها ما يشترط في الأضحية ومن اشترطها فبقياس.
    وأَخْرَجَ أَحمدُ والأربعةُ عنْ أمِّ كُرْز الكَعْبيّة نحْوَهُ.
    (وأخرج أحمد والأربعة عن أُم كُرْز) بضم أوله وسكون الراء بعدها زاي (الكعبية) المكية صحابية لها أحاديث، قاله المصنف في التقريب (نحوه).
    أي نحو حديث عائشة ولفظه في الترمذي: عن سباع بن ثابت أن محمد بن ثابت بن سباع أخبره أن أم كرز أخبرته أنها سألت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن العقيقة قال: "عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة، ولا يضركم أذكرانا كنّ أم إناثاً" قال أبو عيسى ــــ يعني الترمذي ــــ حسن صحيح. وهو يفيد ما يفيد الحديث الثالث.
    وعنر سمرة رضي اللّهُ عنهُ أَنَّ رسول اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "كُلُّ غلامٍ مُرْتهنٌ بعقيقته يذبحُ عَنْهُ يومَ سابعهِ ويحلَقُ ويُسمّى" رواهُ أَحمدُ والأربعة وصحّحه الترمذيُّ.
    وهذا هو حديث العقيقة الذي اتفقوا على أنه سمعه الحسن من سمرة واختلفوا في سماعه لغيره منه من الأحاديث.
    قال الخطابي: اختلف في قوله "مرتهن بعقيقته" فذهب أحمد بن حنبل أنه مات وهو طفل لم يعق عنه، أنه لا يشفع لأبويه، قلت: ونقله الحليمي عن عطاء الخراساني ومحمد بن مطرف وهما إمامان عالمان متقدمان على أحمد.
    وقيل إن المعنى: العقيقة لازمة لا بدّ منها فشبه لزومها للمولود بلزوم الرهن للمرهون في يد المرتهن وهو يقوي قول الظاهرية بالوجوب.
    وقيل: المراد أنه مرهون بأذى شعره ولذلك جاء "فأميطوا عنه الأذى"، ويقوّي قول أحمد ما أخرجه البيهقي عن عطاء الخراساني وأخرجه ابن حزم عن بريدة الأسلمي قال: إن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس، وهذا دليل لو ثبت لمن قال بالوجوب.

    وتقدم أنها موقتة باليوم السابع كما دل ما مضى ودل له هذا أيضاً. وقال مالك: تفوت بعده، وقال: من مات قبل السابع سقطت عنه العقيقة. وللعلماء خلاف في العق بعده وفي قولها: أمرهم أي المسلمين بأن يعق كل مولود له عن ولده، فعند الشافعي يتعين على كل من تلزمه النفقة للمولود، وعند الحنابلة يتعين على الأب إلا أن يموت أو يمتنع.
    وأخذ من لفظ تذبح بالبناء للمجهول أنه يجزىء أن يعق عنه الأجنبي وقد تأيد بأنه صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين كما سلف إلا أنه يقال قد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبوهما كما ورد به الحديث بلفظ "كل بني أم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة ــــ رضي الله عنها ــــ فأنا وليهم وأنا عصبتهم" وفي لفظ "وأنا أبوهم" أخرجه الخطيب من حديث فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها ومن حديث عمر رضي الله تعالى عنه.
    وأما ما أخرجه أحمد من حديث أبي رافع أن فاطمة رضي الله تعالى عنها لما ولدت حسناً قالت: يا رسول الله ألا أعق عن ولدي بدم؟ قال: "لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة" فهو من الأدلة على أنه قد أجزأ عنه ما ذبحه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عنه وأنها ذكرت هذا فمنعها ثم عق عنه وأرشدها إلى تولي الحلق والتصدق وهذا أقرب لأنها لا تستأذنه إلا قبل ذبحه وقبل مجيء وقت الذبح وهو السابع.
    وفي قوله في حديث سمرة "ويحلق" دليل على شرعية حلق رأس المولود يوم سابعه، وظاهره عام لحلق رأس الغلام والجارية. وحكى المازني كراهة حلق رأس الجارية، وعن بعض الحنابلة تحلق لإطلاق الحديث.
    وأما تثقيب أذن الصبية لأجل تعليق الحلي فيها الذي يفعله الناس في هذه الأعصار وقبلها فقال الغزالي في الإحياء: إنه لا يرى فيه رخصة فإن ذلك جرح مؤلم ومثله موجب للقصاص فلا يجوز إلا لحاجة مهمة كالفصد والحجامة والختان، والتزين بالحلي غير مهم، فهذا وإن كان معتاداًفهو حرام ا هــــ. وفي كتب الحنابلة أن تثقيب آذان الصبايا للحلي جائز ويكره للصبيان وفي فتاوى قاضي خان من الحنفية: لا بأس بثقب أذن الطفل لأنهم كانوا في الجاهلية يفعلونه ولم ينكره عليهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
    قوله "ويسمى" هذا هو الصحيح في الرواية. وأما روايته بلفظ ويدمي من الدم أي يفعل في رأسه من دم العقيقة كما كانت تفعله الجاهلية فقد وهم راويها، بل المراد تسمية المولود.
    وينبغي اختيار الاسم الحسن له لما ثبت من أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يغير الاسم القبيح، وصح عنه "إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى شاهان شاه ملك الأملاك لا ملك إلا الله تعالى" فتحرم التسمية بذلك وألحق به تحريم التسمية بقاضي القضاة وأشنع منه حاكم الحكام نص عليه الأوزاعي.
    ومن الألقاب القبيحة ما قاله الزمخشري: إنه توسع الناس في زماننا حتى لقبوا السفلة بألقاب العلية، وهب أن العذر مبسوط فما أقول في تلقيب من ليس من الدين في قبيل ولا دبير بفلان الدين هي لعمري والله الغصة التي لا تساغ.
    وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ونحوهما وأصدقها حارث وهمام، ولا تكره التسمية بأسماء الأنبياء ويس وطه خلافاً لمالك وفي مسند الحارث ابن أبي أسامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من كان له ثلاثة من الولد ولم يسم أحدهم بمحمد فقد جهل" فينبغي التسمي باسمه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أخرج في كتاب الخصائص لابن سبع عن[اث] ابن عباس[/اث] "أنه إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ألا ليقم من اسمه محمد فليدخل الجنة تكرم لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم" وقال مالك: سمعت أهل المدينة يقولون: ما من أهل بيت فيهم اسم محمد إلا رزقوا رزق خير، وقال ابن رشد: يحتمل أن يكونوا عرفوا ذلك بالتجربة أو عندهم فيه أثر.
    (فائدة): روى أبو داود والترمذي أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أذّن في أذن الحسن والحسين حين ولدا، ورواه الحاكم، والمراد الأذن اليمنى، وفي بعض المسانيد: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ في أذن مولود سورة الإخلاص، وأخرج ابن السني عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام الصلاة في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان" وهي التابعة من الجنّ.
    ويستحب تحنيكه بتمر لما في الصحيحين من حديث أبي موسى قال: ولد لي غلام فأتيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فسماه إبراهيم، وحنكه بتمرة ودعا له بالبركة. والتحنيك أن يضع التمر ونحوه في حنك المولود حتى ينزل في جوفه منه شيء، وينبغي أن يكون المحنك من أهل الخيرممن ترجى بركته.

  3. #3
    مشرف القسم العام
    قسم هندسة الكهرباء
    قسم هندسة الشبكات wan lan
    الصورة الرمزية سائر في ربى الزمن
    تاريخ التسجيل
    Nov 2008
    الدولة
    اليمن السعيد
    المشاركات
    5,301
    معدل تقييم المستوى
    22

    افتراضي رد: سلسة سبل السلام شرح بلوغ المرام

    سبل السلام
    شرح بلوغ المرام
    للصنعاني




    كتاب الجنائز

    الجنائز: جمع جنازة بفتح الجيم وكسرها، وفي القاموس: الجنازة الميت ويفتح أو بالكسر الميت وبالفتح السرير أو عكسه أو بالكسر السرير مع الميت.
    [رح1] ــــ عَنْ أَبي هُريرة رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أَكْثروا ذِكْرَ هاذِم اللّذات: الموت" رواه التّرمذي والنسائيُّ وصحّحه ابنُ حبّان.
    ــ (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أكثروا ذكر هاذم اللّذات: المَوْت") بالكسر بدل من هاذم (رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان) والحاكم وابن السكن وابن طاهر وأعله الدارقطني بالإرسال.
    وفي الباب عن عمر وعن أنس وما تخلو عن مقال، قال المصنف في التلخيص نقلاً عن السهيلي: إن الرواية في هاذم بالذال المعجمة معناه القاطع وأمّا بالمهلة فمعناه المزيل للشيء وليس مراداً هنا، قال المصنف: وفي هذا النفي نظر لا يخفى (قلت): يريد المعنى على الدال المهملة صحيح فإن الموت يزيل اللذات كما يقطعها ولكن العمدة الرواية.
    والحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن ذكر أعظم المواعظ وهو الموت، وقد ذكر في آخر الحديث فائدة الذكر بقوله "فإنكم لا تذكرونه في كثير إلا قلله ولا قليل إلا كثره". وفي رواية للديلمي عن أبي هريرة "أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيى الله قلبه وهوّن عليه الموت" وفي لفظ لابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان "أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكره عبدٌ قط في ضيق إلا وسعه ولا في سعة إلا ضيقها" وفي حديث أنس عن ابن لال في مكارم الأخلاق "أكثروا ذكر الموت فإن ذلك تمحيص للذنوب وتزهيد في الدنيا" وعند البزار "أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا في سعة إلا ضيقها" وعند ابن أبي الدنيا "أكثروا من ذكر الموت فإنه يمحق الذنوب ويزهد في الدنيا فإن ذكرتموه عند الغني هدمه وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم".
    [رح2] ــــ وعن أَنسٍ رضيَ الله عنهُ قال: "قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يتمنّينَّ أَحدُكُم الموتَ لِضُرٍ نزل به، فإنْ كانَ لا بُدّ مُتمنياً فَليقُل: اللّهُمَّ أَحيني ما كانت الحياةُ خيْراً لي، وتَوَفّني إذا كانت الوفاةُ خيْراً لي" متفقٌ عليْه.
    وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (لا يتمنّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْت لضُرَ نزلَ به فإنْ كان لا بُدَّ) أي لا فرار ولا محالة كما في القاموس (مُتَمنِّياً فَلْيَقُل) بدلاً من لفظ التمني الدعاء وتفويض ذلك إلى الله: (اللهم أَحْيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي، متفق عليه).
    الحديث دليل على النهي عن تمني الموت للوقوع في بلاء أو محنة أو خشية ذلك من عدوُ أو مرض أو فاقة أو نحوها من مشاق الدنيا لما في ذلك من الجزع وعدم الصبر على القضاء وعدم الرضا.
    وفي قوله "لضر نزل به" ما يرشد إلى أنه إذا كان لغير ذلك من خوف فتنة في الدين فإنه لا بأس به، وقد دل له حديث الدعاء "إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون"، أو كان تمنياً للشهادة كما وقع ذلك لعبد الله ابن رواحة وغيره من السلف، وكما في قول مريم {يا ليتني مت قبل هذا} فإنها إنما تمنت ذلك لمثل هذا الأمر المخوف من كُفر من كَفر وشقاوة من شقي بسببها.
    وفي قوله: "فإن كان لا بدّ متمنياً" يعني إذا ضاق صدره وفقد صبره عدل إلى هذا الدعاء، وإلا فالأولى له أن لا يفعل ذلك.
    [رح3] ــــ وعن بريدةَ رضي اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "المؤْمِنُ يموتُ بِعَرَقِ الجبين" رواهُ الثلاثة وصحّحهُ ابنُ حبّان.
    (وعن بريدة رضي الله عنه) هو ابن الحصيب (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "المُؤْمِنُ يمُوتُ بعرقِ) بفتح العين المهملة والراء (الجبين". رواه الثلاثة وصححه ابن حبان) وأخرجه أحمد وابن ماجه وجماعة، وأخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود.
    وفيه وجهان: أحدهما: أنه عبارة عما يكابده من شدة السياق "النزع" الذي يعرق دونه جبينه أي يشدد عليه تمحيصاً لبقية ذنوبه، والثاني: أنه كناية عن كدّ المؤمن في طلب الحلال وتضييقه على نفسه بالصوم والصلاة حتى يلقى الله تعالى، فيكون الجارّ والمجرور في محل النصب علىالحال.
    والمعنى على الأوّل أن حال الموت ونزوع الروح شديد عليه فهو صفة لكيفية الموت وشدته على المؤمن، والمعنى على الثاني أن يدركه الموت في حال كونه على هذه الحالة الشديدة التي يعرق منها الجبين فهو صفة للحال التي يفاجئه الموت عليها.
    [رح4] ــــ وعَنْ أَبي سعيد وأَبي هُريرة رضيَ الله عنهما قالا: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَقِّنوا مَوْتاكُم لا إله إلا الله" رَوَاهُ مسلمٌ والأرْبعةُ.
    (وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لَقِّنُوا مَوْتاكم) أي الذين في سياق الموت فهو مجاز (لا إله إلا اللَّهُ" رواه مسلم والأربعة) وهذا لفظ مسلم، ورواه ابن حبان عن أبي هريرة بلفظه وزيادة، "فمن كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه ما أصابه قبل ذلك" وقد غلط من نسبه إلى الشيخين أو إلى البخاري، وروى ابن أبي الدنيا عن حذيفة بلفظ "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنها تهدم ما قبلها من الخطايا". وفي الباب أحاديث صحيحة.
    وقوله: "لقنوا" المراد تذكير الذي في سياق الموت هذا اللفظ الجليل وذلك ليقولها، فتكون آخر كلامه فيدخل الجنة كما سبق، فالأمر في الحديث بالتلقين عام لكل مسلم يحضر وهو في سياق الموت، وهو أمر ندب، وكره العلماء الإكثار عليه والموالاة، لئلا يضجر ويضيق حاله ويشتد كربه، فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق، قالوا: وإذا تكلم مرة فيعاد عليه التعريض ليكون آخر كلامه، وكأن المراد بقول لا إله إلا الله أي وقول محمد رسول الله فإنها لا تقبل إحداهما إلا بالآخرى كما علم.
    والمراد "بموتاكم": موتى المسلمين. وأما موتى غيرهم، فيعرض عليهم الإسلام، كما عرضه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على عمه عند السياق، وعلى الذمي الذي كان يخدمه، فعاده وعرض عليه الإسلام فأسلم، وكأنه خص في الحديث موتى أهل الإسلام لأنهم الذين يقبلون ذلك ولأن حضور أهل الإسلام عندهم هو الأغلب بخلاف الكفار فالغالب أنه لا يحضر موتاهم إلا الكفار.
    (فائدة) يحسن أن يُذكَّر المريض بسعة رحمة الله ولطفه وبرّه، فيحسن ظنه بربه. لما أخرجه مسلم من حديث جابر "سمعت رسول اللهصَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول قبل موته: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله". وفي الصحيحين مرفوعاً من حديث أبي هريرة "قال: قال الله:أنا عند ظن عبدي بي". وروى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه" وقد قال بعض أئمة العلم: إنه يحسن جمع أربعين حديثاً في الرجاء تقرأ على المريض فيشتد حسن ظنه بالله تعالى، فإنه تعالى عند ظن عبده به.
    وإذا امتزج خوف العبد برجائه عند سياق الموت فهو محمود. أخرج الترمذي بإسناد جيد من حديث أنس: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دخل على شاب وهو في الموت فقال: "كيف تجدك؟" قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول اللهصَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجوه وآمنه مما يخاف".
    (فائدة أخرى) ينبغي أن يوجه من هو في السياق إلى القبلة، لما أخرجه الحاكم وصححه من حديث أبي قتادة: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور قالوا: توفي وأوصى بثلث ماله لك يا رسول الله وأوصى أن يوجه للقبلة إذا احتضر، فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أصاب الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده" ثم ذهب فصلى عليه وقال: "اللهم اغفر له وأدخله جنتك وقد فعلت" وقال الحاكم: لا أعلم في توجيه المحتضر للقبلة غيره.
    [رح5] ــــ وعن مَعْقل بن يسارٍ رضي اللَّهُ عنهُ أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "اقرَءُوا على موتاكُم يس" رواهُ أبو داود والنسائي وصححه ابنُ حِبَّان.
    (وعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اقرءُوا على مَوْتَاكُمْ) قال ابن حبان: أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه (يس" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان) وأخرجه أحمد وابن ماجه من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان،وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار، ولم يقل النسائي وابن ماجه عن أبيه، وأعله ابن القطان بالاضطراب والوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه، ونقل عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث مضطرب الإسناد مجهول المتن ولا يصح، وقال أحمد في مسنده: حدثنا أبو المغيرة: حدثنا صفوان قال: كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت يس عند الميت خفف عنه بها. وأسنده صاحب الفردوس عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا هوّن الله عليه" اهـ. وهذان يؤيدان ما قاله ابن حبان من أن المراد به المحتضر وهما أصرح في ذلك مما استدل به.
    وأخرج أبو الشيخ في فضائل القرآن وأبو بكر المروزي في كتاب الجنائز عن أبي الشعثاء صاحب ابن عباس أنه يستحب قراءة سورة الرعد وزاد فإن ذلك يخفف عن الميت وفيه أيضاً عن الشعبي قال: كانت الأنصار يستحبون أن يقرءُوا عند الميت سورة البقرة.
    [رح6] ــــ وعَنْ أُمِّ سَلَمة رضيَ الله عَنْها قالت: دَخلَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على أَبي سَلَمَةَ وقد شَقَّ بصرهُ فَأَغْمَضَهُ ثمَّ قال: "إن الرُّوح إذا قُبض تَبِعهُ الْبصرُ" فَضَجَّ ناسٌ من أَهلْهِ، فقال: "لا تدعُوا على أَنفسكُمْ إلا بخيرفإن الملائكةَ يُؤَمِّنُون على ما تقُولون" ثمَّ قال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأبي سَلمة، وارْفَعْ درجتهُ في المهْديِّين، وافْسح لَهُ في قبره ونوِّرْ لَهُ فيه، واخلْفهُ في عقبه" رواهُ مُسْلمٌ.
    (وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سلمة وقد شَقَّ بصره) في شرح مسلم أنه بفتح الشين ورفع بصره فاعل شق هكذا ضبطناه وهو المشهور، وضبطه بعضهم بصره بالنصب وهو صحيح أيضاً فالشين مفتوحة بلا خلاف. (فأغمضه ثم قال: "إن الرُّوح إذا قُبض تبعه البصرُ" فضج ناس من أهله فقال: "لا تَدعُوا على أنْفُسكم إلا بخَيْر فإنَّ الملائكة يؤمنون على ما تقُولون") أي من الدعاء (ثم قال: اللّهُم اغفر لأبي سلَمَة وارفَعْ درجته في المَهْديّين، وافْسح لهُ قبرهِ، ونَوِّرْ لهُ فيه واخْلفْهُ في عقِبه" رواه مسلم) يقال: شق الميت بصره إذا حضره الموت وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد عنه طرفه.
    وفي إغماضه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم طرفه دليل على استحباب ذلك، وقد أجمع عليه المسلمون. وقد علل في الحديث ذلك بأن البصر يتبع الروح أي ينظر أين يذهب.
    والحديث من أدلة من يقول إن الأرواح لطيفة متحللة في البدن، وتذهب الحياة من الجسد بذهابها، وليس عرضاً كما يقوله آخرون.
    وفيه دليل على أنه يدعى للميت عند موته، ولأهله، وعقبه، بأمور الآخرة والدنيا.
    وفيه دلالة على أن الميت ينعم في قبره أو يعذب.
    [رح7] ــــ وعن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين تُوُفي سُجِّيَ بِبُرْد حِبَرَة" مُتّفقٌ عليه.
    (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين توفي سجي ببرد حبرة) بالحاء المهملة فموحدة فراء فتاء تأنيث بزنة عنبة (متفق عليه).
    التسجية بالمهملة والجيم التغطية أي: غطي، والبرد يجوز إضافته إلى الحبرة ووصفه بها، والحبرة ما كان لها أعلام، وهي من أحب اللباس إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
    وهذه التغطية قبل الغسل. قال النووي في شرح مسلم: إنه مجمع عليها، وحكمته صيانة الميت عن الانكشاف، وستر صورته المتغيرة عن الأعين، قالوا: وتكون التسجية بعد نزع ثيابه التي توفي فيها لئلا يتغير بدنه بسببها.
    [رح8] ــــ وعنها رضي الله عنها أَنَّ أَبا بكر الصِّديق رضي الله عنْهُ قَبّلَ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعْدَ مَوْتِه" رواهُ البخاريُّ.
    (وعنها) أي عائشة رضي الله عنها (أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قَبّل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد موته. رواه البخاري).
    استدل به على جواز تقبيل الميت بعد موته، وعلى أنها تندب تسجيته، وهذه أفعال صحابة بعد وفاته لا دليل فيها لانحصار الأدلة في الأربعة نعم هذه الأفعال جائزة على أصل الإباحة وقد أخرج الترمذي من حديث عائشة أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبّل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي أو قال: وعيناه تذرفان.. قال الترمذي: حديث عائشة حسن صحيح.
    [رح9] ــــ وعن أَبي هُريرة رضي الله عنْهُ عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "نَفْسُ المؤمن مُعلّقةٌ بِدَيْنِهِ حَتى يُقْضى عَنْهُ" رواهُ أَحْمدُ والترمذيُّ وحسّنَهُ.
    وقد ورد التشديد في الدين حتى ترك صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الصلاة على من مات وعليه دين حتى تحمله عنه بعض الصحابة، وأخبر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه يغفر للشهيد عند أول دفعة من دمه كل ذنب إلا الدين.
    وهذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت مشغولاً بدينه بعد موته، ففيه حث على التخلص عنه قبل الموت، وأنه أهم الحقوق، وإذا كان هذا الدين المأخوذ برضا صاحبه فكيف بما أخذ غصباً ونهباً وسلباً؟
    [رح10] ــــ وعن ابن عباسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في الذي سقط عنْ راحلته فمات: "اغْسِلُوهُ بماءٍ وسِدْرٍ وكفنوهُ في ثَوْبَيْنِ" مُتّفقٌ عليهِ.
    (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في الذي سقط عن راحلته فمات) وذلك هو واقف بعرفة على راحلته كما في البخاري: (اغْسلوه بماءٍ وسِدْر وكفنُوه في ثوبين" متفق عليه) تمامه "ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه" وبعده في البخاري "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً".
    الحديث دليل على وجوب غسل الميت، قال النووي: الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، قال المصنف بعد نقله في الفتح: وهو ذهول شديد فإن الخلاف فيه مشهور عند المالكية، حتى إن القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة. ولكن الجمهور على وجوبه، وقد رد ابن العربي على من لم يقل بذلك وقال: وقد توارد القول والعمل وغسل الطاهر المطهر فكيف بمن سواه؟. ويأتي كمية الغسلات في حديث أمّ عطية قريباً.
    وقوله: "بماء وسدر" ظاهره: أنه يخلط السدر بالماء في كل مرة من مرات الغسل، قيل: وهو يشعر بأنّ غسل الميت للتنظيف لا للتطهير، لأن الماء المضاف لا يتطهر به؛ قيل: وقد يقال يحتمل أنّ السدر لا يغير وصف الماء فلا يصير مضافاً، وذلك بأن يمعك بالسدر ثم يغسل بالماء في كل مرة، وقال القرطبي: يجعل السدر في ماء ثم يخضخض إلى أن تخرج رغوته ويدلك به جسد الميت ثم يصب عليه الماء القراح هذه غسلة؛ وقيل: لا يطرح السدر في الماء أي لئلا يمازج الماء فيغير وصف الماء المطلق.
    وتمسك بظاهر الحديث بعض المالكية فقال: غسل الميت إنما هو للتنظيف فيجزي الماء المضاف كما الورد ونحوه، وقالوا: إنما يكره لأجل السرف.
    والمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبدي يشترط فيه ما يشترط في الاغتسالات الواجبة والمندوبة.
    وفي الحديث النهي عن تحنيطه ولم يذكره المصنف كما عرفت، وتعليله بأنه يبعث ملبياً يدل على أن علة النهي كونه مات محرماً، فإذا انتفعت العلة انتفى النهي، وهو يدل على أنّ الحنوط للميت كان أمراً متقرّراً عندهم.
    وفيه أيضاً النهي عن تخمير وتغطية رأسه لأجل الإحرام، فمن ليس بمحرم يحنط ويخمر رأسه. والقول بأن ينطع حكم الإحرام بالموت كما تقول الحنفية وبعض المالكية خلاف الظاهر، وقد ذكر في الشرح خلافهم وأذلتهم وليست بناهضة في مخالفة ظاهر الحديث فلا حاجة إلى سردها.
    وقوله "وكفنوه في ثوبين" يدل على وجوب التكفين، وأنه لا يشترط فيه أن يكون وتراً، وقيل: يحتمل أن الاقتصار عليهما لأنه مات فيهم وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة، ويحتمل أنه لم يجد له غيرهما، وأنه من رأس المال، لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر به ولم يستفصل هل عليه دين مستغرق أم لا؟
    وورد الثوبان في هذه الرواية مطلقين وفي رواية في البخاري "في ثوبيه" وللنسائي "في ثوبيه اللذين أحرم فيهما" قال المصنف: فيه استحباب تكفين الميت في ثياب إحرامه؛ وأن إحرامه باق وأنه لا يكفن في المخيط.
    وفي قوله "يبعث ملبياً" ما يدل لمن شرع في عمل طاعة في حيل بينه وبين تمامها بالموت أنه يرجى له أن يكتبه الله في الآخرة من أهل ذلك العمل.
    [رح11] ــــ وعَنْ عائشةَ رضي الله عَنْها قالتْ: "لمّا أَرادُوا غُسْلَ رسولِ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالوا: واللَّهِ ما نَدْري نُجَرِّد رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من ثيابه كما نُجَرِّدُ مَوْتانا أَمْ نغسله وعليه ثيابه؟" الحديثَ، رواهُ أَحْمَدُ وأَبو داود.
    وتمامه عند أبي داود "فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم ملكهم من ناحية البيت، لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه ثيابه فقاموا إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم". وكانت عائشة تقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا نساؤه" وفي رواية لابن حبان "وكان الذي أجلسه في حجره علي بن أبي طالب رضي الله عنه" وروى الحاكم قال: "غسلالنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عليّ رضي الله عنه وعلى يد عليّ خرقة فغسله فأدخل يده تحت القميص فغسله والقميص عليه" وروى ذلك الشافعي عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه.
    وفي هذه القصة دلالة على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كغيره من الموتى.
    [رح12] ــــ وعنْ أُمِّ عطيّة رضي الله عَنْها قالت: دخل عَلَيْنا النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ونحْن نغسِّل ابنته فقال: "اغْسِلْنها ثلاثاً أوْ خمساً أَوْ أَكثر منْ ذلك إن رأَيْتُنَّ ذلك بماءٍ وسِدْرٍ، واجْعَلْن في الآخرة كافوراً أو شَيْئاً مِنْ كافور" فلَمّا فرغْنا آذَنّاهُ فأَلقى إليْنا حِقْوَه فقالَ: "أَشْعِرْنها إيّاهُ" مُتفقٌ عليه. وفي رواية "ابْدأنَ بميامِنها ومَوَاضِع الوضُوءِ منها" وفي لفظٍ للبخاري "فَضَفَرْنا شَعْرها ثلاثة قرونٍ فَأَلْقيْناها خلفها".
    (وعن أمّ عطية رضي الله عنها) تقدم اسمها وفيه خلاف وهي أنصارية (قالت: دخل علينا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ونحن نغسل ابنته) لم تقع في شيء من روايات البخاري مسماة، والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص كانت وفاتها في أوّل سنة ثمان، ووقع في روايات أنها أم كلثوم. ووقع في البخاري عن ابن سيرين: "لا أدري أي بناته" (فقال: "اغْسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إنْ رأَيتن ذلك بماءٍ وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أَوْ شيئاً من كافور") هو شك من الروايات أي اللفظين قال. والأول محمول على الثاني لأنه نكرة في سياق الإثبات، فيصدق بكل شيء منه (فلما فرغنا آذناه) في البخاري "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لهنّ: فإذا فرغتن آذنني" ووقع في رواية البخاري "فلما فرغن" عوضاً عن فرغنا (فألقى إلينا حقوه) في لفظ البخاري "فأعطانا حِقوه" وهو بفتح المهملة ويجوز كسرها وبعدها قاف ساكنة والمراد هنا الإزار. وأطلق على الإزار مجازاً إذ معناه الحقيقي معقد الإزار فهو من تسمية الحال باسم المحل (فقال: "أَشْعرنْها إيّاه" متفق عليه) أي اجعلنه شعارها أي الثوب الذي يلي جسدها (وفي رواية) أي للشيخين عن أم عطية (ابْدَأن بميامنها ومواضع الوضوء منها") (وفي لفظ للبخاري) أي عن أم عطية (فَضَفَرنا شعرها ثلاثة قُرون فأَلْقيناها خلْفها).
    دل الأمر في قوله "اغسلنها ثلاثاً" على أنه يجب ذلك العدد. والظاهر الإجماع على إجزاء الواحدة فالأمر بذلك محمول على الندب.
    وأما أصل الغسل فقد علم وجوبه من محل آخر، وقيل: تجب الثلاثة.
    وقوله:"أو خمساً" أو للتخيير لا للترتيب هو الظاهر.
    وقوله: "أو أكثر" قد فسر في رواية أو سبعاً بدل قوله أو أكثر من ذلك، وبه قال أحمد وكره الزيادة على سبع، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً قال بمجاوزة السبع، إلا أنه وقع عند أبي داود "أو سبعاً أو أكثر من ذلك"، ظاهرها شرعية الزيادة على السبع.
    وتقدم الكلام في كيفية غسلة السدر. قالوا: والحكمة فيه أنه يليّن جسد الميت.
    وأما غسله الكافور فظاهره أنه يجعل الكافور في الماء ولا يضر الماء تغييره به، والحكمة فيه أنه يطيب رائحة الموضع لأجل من حضر من الملائكة وغيرهم، مع أنه فيه تجفيفاً وتبريداً وقوة نفوذ، وخاصية في تصليب جسد الميت وصرف الهوام عنه، ومنع ما يتحلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الروائح الطيبة في ذلك. وهذا هو السر في جعله في الآخرة إذ لو كان في الأولى مثلاً لأذهبه الماء.
    وفيه دلالة على البداءة في الغسل بالميامن، والمراد بها ما يلي الجانب الأيمن.
    وقوله: "ومواضع الوضوء منها" ليس بين الأمرين تناف لإمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معاً، وقيل المراد: ابدأن بميامنها في الغسلات التي لا وضوء فيها ومواضع الوضوء منها في الغسلة المتصلة بالوضوء.
    والحكمة في الأمر بالوضوء تجديد سمة المؤمن في ظهور أثر الغرة والتحجيل، وظاهر موضع الوضوء دخول المضمضة والاستنشاق.
    وقولها "ضفرنا شعرها" استدل به على ضفر شعر الميت، وقال الحنفية: يرش شعر المرأة خلفها وعلى وجهها مفرقاً.
    قال القرطبي: كأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم عطية لم يكن عن أمره صلى الله عليه وآله وسلم. ولكنه قال المصنف: إنه قد روى سعيد بن منصور ذلك بلفظ "قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اغسلنها وتراً واجعلن شعرها ضفائر" وفي صحيح ابن حبان "اغسلنها ثلاثة أو خمساً أو سبعاً واجعلن لها ثلاثة قرون".
    والقرن هنا المراد به الضفائر، وفي بعض ألفاظ البخاري "ناصيتها وقرنيها" ففي لفظ ثلاثة قرون تغليب، والكل حجة على الحنفية، والضفر يكون بعد نقض شعر الرأس وغسله وهو في البخاري صريحاً.
    وفيه دلالة على إلقاء الشعر خلفها، وذهل ابن دقيق العيد عن كون هذه الألفاظ في البخاري فنسب القول به إلى بعض الشافعية وأنه استند في ذلك إلى حديث غريب.
    [رح13] ــــ وعنْ عائشة رضيَ اللَّهُ عَنْها قالتْ: "كُفّن رسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ثلاثَةِ أَثْوابٍ بيضٍ سُحُوليّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ لَيْس فيها قميصٌ ولا عِمامةٌ" مُتّفَقٌ عليه.
    (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في ثلاثة أثواب بيض سُحولية) بضم السين المهملة والحاء المهملة (من كُرْسُف) بضم الكاف وسكون الراء وضم السين المهملة ففاء أي قطن (ليس فيها) أي الثلاثة (قميص ولا عمامة) بل إزار ورداء ولفافة كما صرح به في طبقات ابن سعد عن الشعبي (متفق عليه).
    فيه أن الأفضل التكفين في ثلاثة أثواب بيض، لأن الله تعالى لم يكن يختار لنبيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا الأفضل، وقد روى أهل السنن من حديث ابن عباس "البسوا ثياب البياض فإنها أطيب وأطهر وكفنوا فيها موتاكم" وصححه الترمذي والحاكم، وله شاهد من حديث سمرة أخرجوه وإسناده صحيح أيضاً.
    (وللخمسة) أي من حديث أبي هريرة، (وصححه ابن حبان بلفظ: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، وقال النسائي: هذا خطأ) أخرجه المذكورين من حديث عليّ بن عبد الله البارقي عن ابن عمر بهذا، وأصله في الصحيحين بدون ذكر النهار، وقال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن ابن عمر غير عليّ وأنكروه عليه، وكان ابن معين يضعف حديثه هذا ولا يحتج به، ويقول: إن نافعاً وعبد الله بن دينار وجماعة رووه عن ابن عمر بدون ذكر النهار، وروي بسنده عن يحيى بن معين أنه قال: صلاة النهار أربع لا يفصل بينهن فقيل له: فإن أحمد بن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، قال: بأي حديث قيل بحديث الأزدي، قال: ومن الأزدي حتى أقبل منه. قال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ، وكذا قال الحاكم في علوم الحديث، وقال الدارقطني في العلل: ذكر النهار فهي وهم، وقال الخطابي: روي هذا الحديث طاوس ونانع وغيرهما عن ابن عمر فلم يذكر أحد فيه النهار إلا أن سبيل الزيادة من الثقة أن تقبل، وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وقال: والبارقي احتج به مسلم والزيادة من الثقة مقبولة، انتهى كلام المصنف في التلخيص.
    وأما ما تقدم في حديث عائشة "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سجي ببرد حبرة" وهي برد يماني مخطط غالي الثمن، فإنه لا يعارض ما هنا لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يكفن في ذلك البرد بل سجوه به ليتجفف فيه ثم نزعوه عنه كما أخرجه مسلم، على أن الظاهر أن التسجيةكانت قبل الغسل. قال الترمذي: تكفينه في ثلاثة أثواب بيض أصح ما رود في كفنه.
    وأما ما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث علي رضي الله عنه "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كفن في سبعة أثواب" فهو من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيء الحفظ يصلح حديثه في المتابعات إلا إذا انفرد فلا يحسن، فكيف إذا خالف كما هنا. فلا يقبل، قال المصنف: وقد روى الحاكم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر ما يعضد رواية ابن عقيل.
    فإن ثبت، جمع بينه وبين حديث عائشة بأنها روت ما اطلعت عليه وهو الثلاثة، وغيرها روى ما اطلع عليه سيما إن صحت الرواية عن علي فإنه كان المباشر للغسل.
    واعلم أنه يجب من الكفن ما يستر جميع جسد الميت، فإن قصر عن ستر الجميع قدم ستر العورة، فما زاد عليها ستر به من جانب الرأس وجعل على الرجلين حشيش، كما فعل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في عمه حمزة ومصعب بن عمير.
    فإذا أريد الزيادة على الواحد، فالمندوب أن يكون وتراً، ويجوز الاقتصار على الاثنين كما مر في حديث المحرم الذي مات، وقد عرفت من رواية الشعبي كيفية الثلاثة، وأنها إزار ورداء ولفافة، وقيل مئزر ودرجان، وقيل يكون منها قميص غير مخيط وإزار يبلغ من سرته إلى ركبته، ولفافة يلف بها من قرنه إلى قدمه، وتأول هذا القائل قول عائشة: "ليس فيها قميص ولا عمامة" بأنها أرادت نفي وجود الأمرين معاً لا القميص وحده، أو أن الثلاث خارجة عن القميص والعمامة، والمراد أن الثلاثة مما عداها وإن كانا موجودين، وهذا بعيد جداً، قيل والأولى أن يقال أن التكفين بالقميص وعدمه سواء يستحبان فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كفن عبد الله بن أُبَيْ في قميصه أخرجه. البخاري. ولا يفعل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلا ما هو الأحسن.
    وفيه أن قميص الميت مثل قميص الحي مكفوفاً مزروراً، وقد استحب هذا محمد بن سيرين كما ذكره البيهقي في الخلافيات، قال في الشرح: وفي هذا رد على من قال إنه لا يشرع القميص إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة. قلت: وهذا يتوقف على أن كف أطراف القميص كان عرف أهل ذلك العصر.
    [رح14] ــــ وعن ابنِ عُمَر رضي الله عنهما قال: "لمّا تُوفِّي عبد الله ابنُ أُبيَ جَاءَ ابْنُهُ إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقَال: أَعْطني قميصكَ أُكَفِّنْهُ فيهِ، فَأَعطاهُ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قميصه" مُتّفقٌ عَلَيْهِ.
    (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أُبيّ جاء ابنه) هو عبد الله بن عبد الله (إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: اعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قميصه. متفق عليه).
    هو دليل على شرعية التكفين في القميص كما سلف قريباً. وظاهر هذه الرواية أنه طلب القميص منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبل التكفين إلا أنه قد عارضها ما عند البخاري من حديث جابر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أتى عبد الله بن أبيّ بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيهمن ريقه وألبسه قميصه" فإنه صريح أنه كان الإعطاء والإلباس بعد الدفن، وحديث ابن عمر يخالفه، وجمع بينهما بأن المراد من قوله في حديث ابن عمر فأعطاه أي أنعم له بذلك فأطلق على العدة اسم العطية مجازاً لتحقق وقوعها، وكذا قوله في حديث جابر "بعد ما دفن" أي دُلِّيَ في حفرته أو أن المراد من حديث جابر أن الواقع بعد إخراجه من حفرته هو النفث، وأما القميص فقد كان ألبس، والجمع بينهما لا يدل على وقوعهما معاً لأن الواو لا تقتضي الترتيب ولا المعية فلعله أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من غير إرادة الترتيب.
    وقيل إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أعطاه أحد قميصيه أوّلا ولما دفن أعطاه الثاني بسؤال ولده عبد الله. وفي الإكليل للحاكم ما يؤيد ذلك.
    واعلم أنه إنما أعطى عبد الله بن عبد الله بن أبيّ لأنه كان رجلاً صالحاً ولأنه سأله ذلك وكان لا يرد سائلاً، وإلا فإن أباه الذي ألبسه قميصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وكفن فيه من أعظم المنافقين ومات على نفاقه، وأنزل الله فيه: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً}.
    وقيل إنما كساه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قميصه لأنه كان كسا العباس لما أُسر ببدر فأراد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يكافئه.
    [رح15] ــــ وعن ابنِ عبّاسٍ رضيِ الله عَنْهُما أَنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "البسُوا مِنْ ثيابكُمُ الْبَيَاض فإنها مِنْ خَيْر ثيابكُمْ، وكفِّنوا فيها موتاكُم" رواهُ الخمسةُ إلا النّسائيَّ وصححهُ الترمذيُّ.
    تقدم حديث البخاري عن عائشة: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كفن في ثلاثة أثواب بيض.
    وظاهر الأمر أنه وجب التكفين في الثياب البيض ويجب لبسها إلا أنه صرف الأمر عنه في اللبس أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لبس غير الأبيض، وأما التكفين فالظاهر أنه لا صارف عنه إلا أنه لا يوجد الأبيض كما وقع في تكفين شهداء أُحد فإنه صلى الله عليه وآلهوسلم كفن جماعة في نمرة واحدة كما يأتي فإنه لا بأس به للضرورة.
    وأما ما رواه ابن عدي من حديث ابن عباس: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كفن في قطيفة حمراء" ففيه قيس بن الربيع وهو ضعيف وكأنه اشتبه عليه بحديث: أنه جعل في قبره قطيفة حمراء، وكذلك ما قيل إنه كفن في بردة حبرة وتقدم الكلام أنه إنما سجي بماء ثم نزعت عنه.
    [رح16] ــــ وعن جابِرٍ رضيَ الله عنهُ قال قال النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذَا كَفّنَ أَحَدُكُم أَخاهُ فَلْيُحسن كَفَنهُ" رواهُ مسلْمٌ.
    ورواه الترمذي أيضاً في حديث أبي قتادة وقال: حسن غريب. ثم قال: وقال: ابن المبارك: قال سَلاَّم بن أبي مطيع في قوله "فليحسن كفنه" قال: هو الصفاء بالضاد المعجمة والفاء أي الواسع الفائض.
    وفي الأمر بإحسان الكفن دلالة على اختيار ما كان أحسن في الذات، وفي صفة الثوب، وفي كيفية وضع الثياب على الميت.
    فأما حسن الذات فينبغي أن يكون على وجه لا يعد من المغالاة كما سيأتي النهي عنه.
    وأما صفة الثوب فقد بينها حديث ابن عباس الذي قبل هذا.
    وأما كيفية وضع الثياب على الميت فقد بينت فيما سلف.
    وقد وردت أحاديث في إحسان الكفن وذكرت فيها علة ذلك: أخرج الديلمي عن جابر مرفوعاً "أحسنوا كفن موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون بها في قبورهم" وأخرج أيضاً من حديث أم سلمة: "أحسنوا الكفن ولا تؤذوا موتاكم بعويل ولا بتزكية ولا بتأخير وصية ولا بقطيعة وعجلوا بقضاء دَيْنه واعدلوا عن جيران السوء وأعمقوا إذا حفرتم ووسعوا".
    ومن الإحسان إلى الميت ما أخرجه أحمد من حديث عائشة عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من غسل ميتاً فأدّى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لِيَلِهِ أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلمفمن ترون عنده حظاً من ورع وأمانة" رواه أحمد. وأخرج الشيخان من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة". وأخرج عبد الله بن أحمد من حديث أبيّ بن كعب: إن آدم عليه السلام قبضته الملائكة وغسلوه وكفنوه وحنطوه وحفروا له وألحدوه وصلوا عليه ودخلوا قبره ووضعوا عليه اللبن ثم خرجوا من القبر ثم حثوا عليه التراب ثم قالوا: يا بني آدم هذا سنتكم.
    [رح17] ــــ وعَنْهُ رضي اللَّهُ عنهُ قالَ: "كانَ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَجْمَعُ بيْنَ الرَّجُلين من قتْلى أُحُدٍ في ثَوْبٍ واحد ثمَّ يقُولُ: "أَيُّهمْ أَكْثرُ أَخْذا للقُرآن؟" فيَقُدِّمُهُ في اللّحد، ولم يُغَسّلوا ولم يُصَلَّ عليهم" رواه البخاريُّ.
    (وعنه) أي عن جابر (قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول: "أَيُّهمْ أَكْثر أخذاً للقرآن" فيقدّمه في اللحد) سمي لحداً لأنه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن وسطه والإلحاد لغة الميل (ولم يغسلوا ولم يصلّ عليهم. رواه البخاري).
    دل على أحكام (الأول) أنه يجوز جمع الميتين في ثوب واحد للضرورة وهو أحد الاحتمالين (والثاني) أن المراد يقطعه بينهما ويكفن كل واحد على حياله وإلى هذا ذهب الأكثرون، بل قيل إن الظاهر أنه لم يقل بالاحتمال الأول أحد فإن فيه التقاء بشرتي الميتين ولا يخفى أن قول جابر في تمام الحديث فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة. دليل على الاحتمال الأول، وأما الشارح رحمه الله فقال: الظاهر الاحتمال الثاني كما فعل في حمزة رضي الله عنه (قلت): حديث جابر أوضح في عدم تقطيع الثوب بينهما فيكون أحد الجائزين، والتقطيع جائز على الأصل.
    (الحكم الثاني) أنه دل على أنه يقدّم الأكثر أخذاً للقرآن على غيره لفضيلة القرآن ويقاس عليه سائر جهات الفضل إذا جمعوا في اللحد.
    (الحكم الثالث) جمع جماعة في قبر وكأنه للضرورة وبوّب البخاري "باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر" وأورد فيه حديث جابر هذا وإن كان رواية جابر في الرجلين، فقد وقع ذكر الثلاثة في رواية عبد الرزاق: كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد. وروى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وسلم يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر. صححه الترمذي. ومثله المرأتان والثلاث:
    وأما دفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فقد روى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع "أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه" وكأنه كان يجعل بينهما حائلا من تراب.
    (الحكم الرابع) أنه لا يغسل الشهيد وإليه ذهب الجمهور ولأهل المذاهب تفاصيل في ذلك.
    وروي عن سعيد بن المسيب والحسن وابن سريج أنه يجب غسله. والحديث حجة عليهم، وقد أخرج أحمد من حديث جابر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في قتلى أحد: "لا تغسلوهم فإن كل جرحٍ أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة" فبين الحكمة في ذلك.
    (الحكم الخامس) عدم الصلاة على الشهيد وفي ذلك خلاف بين العلماء معروف فقالت طائفة: يصلى عليه عملاً بعموم أدلة الصلاة على الميت وبأنه روي "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى على قتلى أُحد، وكبر على حمزة سبعين تكبيره"، وبأنه روى البخاري عن عقبة بن عامر "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلّى على قتلى أحد" وقالت طائفة: لا يصلى عليه عملا برواية جابر هذه.
    قال الشافعي: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يصل على قتلى أُحد" وما روي أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلّى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحييعلى نفسه. قال: وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين يعني، والمخالف يقول: لا يصلى على القبر إذا طالت المدة "فلا يتم له الاستدلال" وكأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعاً لهم بذلك، ولا يدل على نسخ الحكم الثابت انتهى.
    ويؤكد كونه دعا لهم عدم الجمعية بأصحابه، إذ لو كانت صلاة الجنازة لأشعر أصحابه وصلاها جماعة كما فعل في صلاته علي النجاشي، فإن الجماعة أفضل قطعاً وأهل أحد أولى الناس بالأفضل، ولأنه لم يرد عنه أنه صلى على قبر فرادى، وحديث عقبة أخرجه البخاري بلفظ "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على قتلى أُحُد بعد ثمان سنين" وزاد ابن حبان "ولم يخرج من بيته حتى قبضه الله تعالى".
    [رح18] ــــ وعنْ عليٍ رضيَ الله عنه قال: سمعْتُ رسول اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقُولُ: "ولا تَغَالَوْا في الكفن فإِنّهُ يُسْلبُ سلباً سريعاً" رواهُ أبو داودَ.
    من رواية الشعبي عن علي عليه السلام وفي إسناده عمرو بن هشام الجنبي بفتح الجيم فنون ساكنة فموحدة مختلف فيه، وفيه انقطاع بين الشعبي وعليّ لأن الدارقطني قال: إنه لم يسمع منه سوى حديث واحد اهـ.
    وفيه دلالة على المنع من المغالاة في الكفن وهي زيادة الثمن.
    وقوله: "فإنه يسلب سلباً سريعاً" كأنه إشاره إلى أنه سريع البلى والذهاب، كما في حديث عائشة: "إن أبا بكر نظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيها" (قلت) إن هذا خلق قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للمهلة.
    ذكره البخاري مختصراً.
    [رح19] ــــ وعن عائشةَ رضيَ الله عَنْها أَنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ لهَا: "لَوْمُتِّ قَبْلي لَغَسّلْتُك" الحديث، رواهُ أَحمدُ وابن مَاجَهْ وصَحّحهُ ابنُ حبِّانَ.
    فيه دلالة على أن للرجل أن يغسل زوجته وهو قول الجمهور.
    وقال أبو حنيفة: لا يغسلها بخلاف العكس لارتفاع النكاح ولا عدة عليه والحديث يرد قوله. هذا في الزوجين.
    وأما في الأجانب فإنه أخرج أبو داود في المراسيل من حديث أبي بكر ابن عياش عن محمد بن أبي سهل عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس فيهم امرأة غيرها والرجل مع النساء ليس معهن رجل غيره فإنهما ييممان ويدفنان" وهما بمنزلة من لا يجد الماء انتهى. محمد بن أبي سهل هذا ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: لا يتابع على حديثه. وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" رواه أبو داود وابن ماجه وفي إسناده اختلاف.
    [رح20] ــــ وعنْ أَسْماءَ بنْتِ عُمَيْسٍ رَضيَ اللَّهُ عنْها: "أَنَّ فاطِمَة رضيَ اللَّهُ عَنْها أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَها عَليٌّ" رواهُ الدارقطنيُّ.
    هذا يدل على ما دل عليه الحديث الأول وأما غسل المرأة زوجها فيستدل له بما أخرجه أبو داود عن عائشة أنها قالت: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غير نسائه" وصححه الحاكم، وإن كان قول صحابية، وكذلك حديث فاطمة، فهو يدل على أنه كان أمراً معروفاً في حياته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ويؤيده ما رواه البيهقي من أن أبا بكر أوصى امرأته أسماء بنت عميس أن تغسله واستعانت بعبد الرحمن بن عوف لضعفها عن ذلك ولم ينكره أحد. وهو قول الجمهور والخلاف فيه لأحمد بن حنبل. قال: لارتفاع النكاح كذا في الشرح.
    والذي في دليل الطلب من كتب الحنابلة ما لفظه: وللرجل أن يغسل زوجته وأمته وبنتاً دون سبع وللمرأة غسل زوجها وسيدها وابن دون سبع.
    [رح21] ــــ وعَنْ بُرَيْدةَ رضي اللَّهُ عَنْهُ في قصة الْغامدية التي أَمَرَ النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برجْمِهَا في الزِّنَا قالَ: "ثمَّ أَمَرَ بها فَصُلِيَ عَلَيْها ودُفِنَتْ" رواهُ مسلمٌ.
    (وعن بريدة رضيَ الله عنه في قصة الغامدية) بالغين المعجمة وبعد الميم دال مهملة نسبة إلى غامد وتأتي قصتها في الحدود (التي أمر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برجمها في الزنا قال: ثم أمر بها فصُلِّي عليها ودفنت. رواه مسلم).
    فيه دليل على أنه يصلي على من قتل بحدّ وليس فيه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الذي صلى عليه، وقد قال مالك: إنه لا يصلي الإمام على مقتول في حدّ لأن الفضلاء لا يصلون على الفساق زجراً لهم. قلت: كذا في الشرح لكن قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الغامدية: "إنها تابت توبة لو قسمت بين أهل المدينة لوسعتهم" أو نحو هذا اللفظ.
    وللعلماء خلاف في الصلاة على الفساق، وعلى من قتل في حد، وعلى المحارب، وعلى ولد الزنا، وقال ابن العربي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا اهـ. وقد ورد في قاتل نفسه الحديث:
    [رح22] ــــ وعَنْ جابرِ بنِ سَمُرَةَ رضيَ اللَّهُ عنهما قالَ: "أُتِيَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم برجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بمشَاقِص فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ" رواه مُسْلمٌ.
    المشاقص جمع مشقص وهو نصل عريض.
    قال الخطابي: ترك الصلاة عليه معناه العقوبة له وردع لغيره عن مثل فعله.
    وقد اختلف الناس في هذا، وكان عمر بن عبد العزيز لا يرى الصلاة على من قتل نفسه، وكذلك قال الأوزاعي.
    وقال أكثر الفقهاء: يصلي عليه اهـ، وقالوا في هذا الحديث: إنه صلى عليه الصحابه. قالوا: وهذا كما ترك النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الصلاة على من مات وعليه دين أول الأمر، وأمرهم بالصلاة على صاحبهم، قلت: إن ثبت نقل أنه أمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أصحابهبالصلاة على قاتل نفسه. تم هذا القول وإلا فرأى عمر بن عبد العزيز أوفق، إلا أن في رواية للنسائي: "أما أنا فلا أصلي عليه"، فربما أخذ منها أن غيره صلى عليه.
    [رح23] ــــ وعَنْ أَبي هُريْرةَ رضيَ الله عَنْه في قصّة المرأَةِ الّتي كانتْ تَقُمُّ المسْجد قال فَسأَلَ عَنْها النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَقَالُوا: ماتتْ، فَقَالَ: "أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُوني؟" فَكأَنهُمْ صَغّروا أَمْرها، فَقَال: "دُلُوني علىقَبْرها" فَدَلُّوه فَصَلى عَلَيْها، مُتّفَقٌ عَلَيْهِ، وزادَ مسْلمٌ ثمَّ قالَ: "إنَّ هذهِ الْقُبُور مملُوءَةٌ ظُلْمَةٌ على أهلِها وإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بصلاتي عَلَيْهم".
    (وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت تَقم المسجد) بفتح حرف المضارعة أي تخرج القمامة منه وهي الكناسة (فسأل عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: مات فقال: "أَفلا كنتمْ آذنتموني فكأَنهمْ صغرا أَمْرها فقال: دلُّوني على قبرها) أي بعد قولهم في جواب سؤاله إنها ماتت (فدلوه فصلى عليها. متفق عليه وزاد مسلم) أي من رواية أبي هريرة (ثم قال) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ("إنَّ هذه القبور مملوءةٌ ظُلْمةٌ على أَهْلها وإنَّ اللَّهَ عزَّ وجل يُنوِّرها لهمْ بصلاتي عليْهم) وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري لأنها مدرجة في هذا الإسناد، وهي من مراسيل ثابت كما قال أحمد. هذا والمصنف جزم أن القصة كانت مع امرأة وفي البخاري: أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء بالشك من ثابت الراوي لكنه صرح في رواية أخرى في البخاري عن ثابت قال: "ولا أراه إلا امرأة" وبه جزم ابن خزيمة من طريق أخرى عن أبي هريرة فقال: "امرأة سوداء" ورواه البيهقي أيضاً بإسناد حسن وسماها أم محجن وأفاد أن الذي أجابه صلى الله عليه وآله وسلم عن سؤاله هو أبو بكر، وفي البخاري عوض "فسأل عنها" فقال: "ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله" الحديث.
    والحديث دليل على صحة الصلاة على الميت بعد دفنه مطلقاً سواء أصلي عليه قبل الدفن أم لا وإلى هذا ذهب الشافعي.
    ويدل له أيضاً صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على البراء بن معرور فإنه مات والنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمكة فلما قدم صلى على قبره، وكان ذلك بعد شهر من وفاته.
    ويدل له أيضاً صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على الغلام الأنصاري الذي دفن ليلا ولم يشعر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بموته، أخرجه البخاري.
    ويدل له أيضاً أحاديث وردت في الباب عن تسعة من الصحابة أشار إليها في الشرح.
    وذهب أبو طالب تحصيلاً لمذهب الهادي إلا أنه لا صلاة على القبر واستدل له في البحر بحديث لا يقوى على معارضة أحاديث المثبتين لما عرفت من صحتها وكثرتها.
    واختلف القائلون بالصلاة على القبر في المدة التي تشرع فيها الصلاة، فقيل إلى شهر بعد دفنه، وقيل إلى أن يبلى الميت لأنه إذا بلي لم يبق ما يصلي عليه، وقيل أبداً لأن المراد من الصلاة عليه الدعاء وهو جائز في كل وقت. قلت: هذا هو الحق إذ لا دليل على التحديد بمدة.

    وأما القول بأن الصلاة على القبر من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم فلا تنهض لأن دعوى الخصوصية خلاف الأصل.
    [رح24] ــــ وعنْ حذيْفةَ رضي الله عنه "أنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يَنْهى عنِ النّعْي" رواهُ أَحمد والتِّرْمذي وحسَّنَه.
    (وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان ينهى عن النعي) في القاموس: نعاه له نعياً ونعياً ونعياناً أخبره بموته (رواه أحمد والترمذي وحسنه) وكأن صيغة النهي هي ما أخرجه الترمذي من حديث عبد الله عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "إياكم والنعي فإن النعي من عمل الجاهلية" فإن صيغة التحذير في معنى النهي. وأخرج حديث حذيفة وفيه قصة، فإنه ساق سنده إلى حذيفة أنه قال لمن حضره: "إذا مت فلا يؤذن أحد إني أخاف أن يكون نعياً فإني سمعت رسول لله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ينهى عن النعي" هذا لفظه ولم يحسنه.
    ثم فسر الترمذي النعي بأنه عندهم أن ينادي في الناس إن فلاناً مات ليشهدوا جنازته. وقال بعض أهل العمل: لا بأس أن يعلم الرجل أهل قرابته وإخوانه. وروي عن إبراهيم أنه قال: لا بأس بأن يعلم الرجل قرابته انتهى.
    وقيل المحرّم ما كانت تفعله الجاهلية كانوا يرسلون من يعلم بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق.
    وفي النهاية: والمشهور في العربية أنهم كانو إذا مات منهم شريف أو قتل بعثوا راكباً إلى القبائل ينعاه إليهم يقول: نَعاءِ فلاناً أو يَانَعَاء العرب: أي هلك فلان أو هلكت العرب بموت فلان انتهى.
    ويقرب عندي أن هذا هو المنهي عنه. قلت: ومنه النعي من أعلى المنارات كما يعرف في هذه الأعصار في موت العظماء.
    قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات (الأولى) إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة.
    (الثانية) دعوى الجمع الكثير للمفاخرة فهذه تكره.
    (الثالثة) إعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم انتهى.
    وكأنه أخذ سنية الأولى من أنه لا بد من جماعة يخاطبون بالغسل والصلاة والدفن ويدل له قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ألا آذنتموني" ونحوه، ومنه:
    [رح25] ــــ وَعَنْ أبي هريرة رضيَ الله عنه: "أَنَّ النّبِيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نَعَى النّجاشيَّ في اليوْمِ الذي ماتَ فيهِ وخرَجَ بهمْ إلى المُصلى فَصَفَّ بهمْ وَكَبّرَ عَلَيْهِ أَرْبعاً" مُتّفَقٌ عليْه.
    (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نعى النّجاشي) بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة ثم مثناة تحتية مشددة وقيل مخففة، لقب لكل مَن ملك الحبشة واسمه أصحمة (في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى) يحتمل أنه مصلى العيدأو محل اتخذ لصلاة الجنائز (فصف بهم وكبر عليه أربعاً، متفق عليه).
    فيه دلالة على أن النعي اسم للإعلام بالموت وأنه لمجرد الإعلام جائز.
    وفيه دلالة على شرعية صلاة الجنازة على الغائب، وفيه أقوال:
    الأول: تشرع مطلقاً وبه قال الشافعي وأحمد وغيرهما وقال ابن حزم لم يأت عن أحد من السلف خلافه.
    والثاني: منعه مطلقاً وهو للهادوية والحنفية ومالك.
    والثالث: يجوز في اليوم الذي مات فيه الميت أو ما قرب منه إلا إذا طالت المدة.
    الرابع: يجوز ذلك إذا كان الميت في جهة القبلة، ووجه التفصيل في القولين معاً الجمود على قصة النجاشي. وقال المانع له مطلقاً: إن صلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على النجاشي خاصة به، وقد عرف أن الأصل عدم الخصوصية واعتذروا بما قاله أهل القول الخامس وهو: يصلى على الغائب إذا مات بأرض لا يصلى عليها فيها كالنجاشي فإنه مات بأرض لم يسلم أهلها واختاره ابن تيمية، ونقله المصنف في فتح الباري عن الخطابي وأنه استحسنه الروياني، ثم قال: وهو محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار أنه لم يصلِّ عليه في بلده أحد.
    واستدل بالحديث على كراهة الصلاة على الجنازة في المسجد، لخروجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. والقول بالكراهة للحنفية والمالكية، ورد بأنه لم يكن في الحديث نهي عن الصلاة فيه، وبأن الذي كرهه القائل بالكراهة إنما هو إدخال الميت المسجد وإنما خرج صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تعظيماً لشأن النجاشي ولتكثر الجماعة الذين يصلون عليه.
    وفيه شرعية الصفوف على الجنازة لأنه أخرج البخاري في هذه القصة حديث جابر وأنه كان في الصف الثاني أو الثالث وبوّب له البخاري "باب من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام".
    وفي الحديث من أعلام النبوّة إعلامهم بموته في اليوم الذي توفي فيه مع بُعد ما بين المدينة والحبشة.
    [رح26] ــــ وعن ابن عبّاسٍ رضيِ اللَّه عنْهُما قالَ: سَمِعْت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: "ما مَنْ رجلٍ مُسْلمٍ يموتُ فَيَقومُ على جنازتِهِ أَربْعونَ رجُلاً لا يُشركُون بالله شيئاً لا شَفّعَهُمُ اللَّهُ فيهِ" رواهُ مُسلْمٌ.
    في الحديث دليل على فضيلة تكثير الجماعة على الميت. وأن شفاعة المؤمن نافعة مقبولة عنده تعالى وفي رواية "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة: كلهم يشفعون له إلا شُفعوا فيه". وفي رواية "ثلاثة صفوف" رواها أصحاب السنن.
    قال القاضي: قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد عن سؤاله اهـ. ويحتمل أن يكون صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أخبر بقبول شفاعة كل واحد من هذه الأعداد ولا تنافي بينهما إذ مفهوم العدد يطرح مع وجود النص فجميع الأحاديث معمول بها وتقبل الشفاعة بأذناها..
    [رح27] ــــ وعَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ رضيَ الله عَنْهما قال: "صَلّيْتُ وَرَاءَ النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على امرأَةٍ مَاتَتْ في نفاسِها فَقَامَ وَسْطَهَا" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
    فيه دليل على مشروعية القيام عند وسط المرأة إذا صلى عليها وهذا مندوب، وأما الواجب فإنما هو استقبال جزء من الميت رجلاً أو امرأة.
    واختلف العلماء في حكم الاستقبال في حق الرجل والمرأة فقال أبو حنيفة: إنهما سواء.
    وعند الهادوية أنه يستقبل الإمام سرة الرجل وثديي المرأة لرواية أهل البيت عليهم السلام عن علي عليه السلام. وقال القاسم: صدر المرأة، وبينه وبين السرة من الرجل، إذ قد روي قيامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند صدرها ولا بدّ من مخالفة بينها وبين الرجل.
    وعن الشافعي أنه يقف حذاء رأس الرجل وعند عجيزتها لما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس: أنه صلى على رجل فقام عند رأسه وصلى على المرأة فقام عند عجيزتها فقال له العلاء بن زياد: هكذا كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يفعل؟ قال: نعم. إلا أنه قال المصنف في الفتح: إن البخاري أشار بإيراد حديث سمرة إلى تضعيف حديث أنس.
    [رح28] ــــ وعنْ عائشة رضي الله عنها قالت: "واللَّهِ لَقَدْ صلى رَسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ابْنَيْ بَيْضَاءَ في المسجد" رواه مُسلمٌ.
    (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: والله لقد صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ابني بيضاء) هما سهل وسهيل أبوهما وهب بن ربيعة وأمهما البيضاء اسمها دعد والبيضاء صفة لها (في المسجد. رواه مسلم) قالته عائشة ردّاً على من أنكر عليها صلاتها على سعد بن أبي وقاص في المسجد فقالت: "ما أسرع ما نسي الناس والله لقد صلى" الحديث.
    والحديث دليل على ما ذهب إليه الجمهور من عدم كراهة صلاة الجنازة في المسجد.
    وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها لا تصح وفي القدوري للحنفية ولا يصلى على ميت في مسجد جماعة. واحتجا بما سلف من خروجه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى الفضاء للصلاة على النجاشي وتقدّم جوابه وبما أخرجه أبو داود "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" وأجيب بأنه نص أحمد على ضعفه لأنه تفرّد به صالح مولى التوأمة وهو ضعيف على أنه في النسخ المشهورة من سنن أبي داود بلفظ "فلا شيء عليه".
    وقد روى أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد وأن صهيباً صلى على عمر في المسجد.
    وعند الهادوية يكره إدخال الميت المسجد كراهة تنزيه وتأولوا هم والحنفية والمالكية حديث عائشة بأن المراد أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ابني البيضاء وجنازتهما خارج المسجد وهو صلى الله تعالى على وآله وسلم داخل المسجد ولا يخفي بعده وأنه لا يطابق احتجاج عائشة.
    [رح29] ــــ وعن عبد الرحمن بنِ أبي لَيْلى رضي الله عنهُ قالَ: "كانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ على جنَائزنا أَرْبَعاً وإنّهُ كَبّرَ على جنازَةٍ خَمْساً فَسَأَلْتُهُ فقالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُكَبِّرُهَا" رواه مُسْلمٌ والأربعةُ.
    (وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى) هو أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه ولد لست سنين بقيت من خلافة عمر سمع أباه وعلي بن أبي طالب عليه السلام وجماعة من الصحابة ووفاته سنة اثنتين وثمانين وفي سبب وفاته أقوال، قيل: فقد، وقيل قتل، وقيل غرق في نهر البصرة (قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعاً وإنه كبر على جنازة خمساً فسألته فقال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يكبرها. رواه مسلم والأربعة) تقدم في حديث أبي هريرة أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كبر في صلاته على النجاشي أربعاً ورويت الأربع عن ابن مسعود وأبي هريرة وعقبة بن عامر والبراء بن عازب وزيد بن ثابت، وفي الصحيحين عن ابن عباس: صلى على قبر فكبر أربعاً. وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى على جنازة فكبر أربعاً. قال ابن أبي داود: ليس في الباب أصح منه.
    فذهب إلى أنها أربعاً لا غير جمهور من السلف والخلف منهم الفقهاء الأربعة ورواية زيد بن علي عليه السلام.
    وذهب أكثر الهادوية إلى أنه يكبر خمس تكبيرات واحتجوا بما روي أن علياً عليه السلام كبر على فاطمة خمساً وأن الحسن كبر على أبيه خمساً وعن ابن الحنفية أنه كبر على ابن عباس خمساً وتأولوا رواية الأربع بأن المراد بها ما عدا تكبيرة الافتتاح وهو بعيد:
    [رح30] ــــ وعنْ علي رضي اللَّهُ عَنْهُ "أنّهُ كَبّرَ على سهْلِ بن حُنيفٍ سِتاً وقالَ: إنّهُ بدْريٌّ" رواهُ سعيدُ بنُ منصورٍ وأَصْله في البخاري.
    (وعن علي رضي الله عنه أنه كبر على سهل بن حنيف) بضصم المهملة فنون فمثناة تحتية ففاء (ستا وقال: "إنه بدريٌّ") أي ممن شهد وقعة بدر معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (رواه سعيد بن منصور وأصله في البخاري) الذي في البخاري "أن علياً كبر على سهل بن حنيف" زاد البرقاني في مستخرجه ستاً كذا ذكره البخاري في تاريخه.
    وقد اختلفت الروايات في عدة تكبيرات الجنازة فأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب: أن عمر قال: كل ذلك قد كان أربعاً وخمساً فاجتمعنا على الأربع. ورواه ابن المنذر من وجه آخر عن سعيد، ورواه البيهقي أيضاً عن أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً فجمع عمر أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فأخبر كلٌّ بما رأى فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. وروى ابن عبد البر في الاستذكار بإسناده: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يكبر على الجنائز أربعاً وخمساً وستاًوثمانياً حتى جاء موت النجاشي فخرج إلى المصلى وصف الناس وراءه وكبر عليه أربعاً ثم ثبت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على أربع حتى توفاه الله؛ فإن صح هذا فكأن عمر ومن معه لم يعرفوا استقرار الأمر على الأربع حتى جمعهم وتشاوروا في ذلك.
    [رح31] ــــ وعن جابرٍ رضي اللَّهُ عنه قال: كانَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُكبِّرُ على جنائزنا أَربعاً، ويقرأُ بفاتحةِ الكتابِ في التّكبيرةِ الأولى" رواهُ الشّافعيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ.
    سقط هذا الحديث من نسخة الشرح فلم يتكلم عليه الشارح رحمه الله قال المصنف في الفتح: إنه أفاد شيخه في شرح الترمذي أنه سنده ضعيف وفي التلخيص إنه رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عقيل عن جابر انتهى وقد ضعفوا[تض] ابن عقيل[/تض].
    واعلم أنه اختلف العلماء في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، فنقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير مشروعيتها وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.
    ونقل عن أبي هريرة وابن عمر أنه ليس فيها قراءة وهو قول مالك والكوفيين. واستدل الأولون بما سلف وهو وإن كان ضعيفاً فقد شهد له قوله:
    [رح32] ــــ وعنْ طلحةَ بن عبد الله بنِ عَوْفٍ رضي اللَّهُ عنهُ قالَ: "صلْيتُ خلفَ ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما على جنازةٍ فَقَرَأَ بفاتحة الْكتابِ، قال: لِتَعْلَمُوا أَنّها سُنّةٌ" رواهُ البُخاري.
    وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه والنسائي بلفظ "فأخذت بيده فسألته عن ذلك فقال: نعم يا ابن أخي إنه حق وسنة" وأخرج النسائي أيضاً من طريق أخرى بلفظ "فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال: سنة وحق" وقد روى الترمذي عن ابن عباس: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. ثم قال لا يصح هذا. والصحيح عن ابن عباس قوله: "من السنة".
    قال الحاكم: أجمعوا على أن قول الصحابي "من السنة" حديث مسند قال المصنف: كذا نقل الإجماع مع أن الخلاف عند أهل الحديث وعند الأصوليين شهير.
    والحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة لأن المراد من السنة الطريقة المألوفة عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا أن المراد بها ما يقابل الفريضة فإنه اصطلاح عرفي. وزاد الوجوب تأكيداً قوله: "حق" أي ثابت. وقد أخرج ابن ماجه من حديث أم شريك قالت: أمرنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. وفي إسناده ضعف يسير يجبره حديث ابن عباس.
    والأمر من أدلة الوجوب، وإلى وجوبها ذهب الشافعي وأحمد وغيرهما من السلف والخلف.
    وذهب آخرون إلى عدم مشروعيتها لقول ابن مسعود: لم يوقت لنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قراءة في صلاة الجنازة بل قال: "كبّر إذا كبر الإمام واختر من أطايب الكلام ما شئت" إلا أنه لم يعزه إلى كتاب حديثي حتى تعرف صحته من عدمها ثم هو قول صحابي على أنه ناف وابن عباس مثبت وهو مقدم.
    وعن الهادي وجماعة من الآل أن القراءة سنة عملا بقول ابن عباس سنة وقد عرفت المراد بها في لفظه.
    واستدل للوجوب بأنهم اتفقوا أنها صلاة وقد ثبت حديث "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" فهي داخلة تحت العموم وإخراجها منه يحتاج إلى دليل.
    وأما موضع قراءة الفاتحة فإنه بعد التكبيرة الأولى ثم يكبر فيصلي على النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثم يكبر فيدعو للميت وكيفية الدعاء قد أفادها قوله:
    [رح33] ــــ وعن عَوْفِ بن مالك رضي الله عَنْهُ قال: صلى رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على جنَازَةٍ فَحَفِظْتُ منْ دعائهِ "اللهمَّ اغفِرْ لهُ، وارْحَمْهُ، وعَافِهِ واعْفُ عنْهُ، وأَكرم نُزُلَهُ، ووسع مُدْخلهُ، واغْسِلْهُ بالماءِ والثّلْج والبْرَدِ،ونقّه من الْخطايا كما يُنَقَى الثّوب الأبْيضُ من الدنس، وأَبْدلهُ داراً خَيْراً من دارهِ، وأَهْلاً خيراً من أَهْله، وأَدْخلْهُ الجنّةَ، وقِهِ فتْنة القبر وعذابَ النّار" رواه مُسلمٌ.
    يحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جهر به فحفظه ويحتمل أنه سأله ما قاله فذكره له فحفظه.
    وقد قال الفقهاء: يندب الإسرار، ومنهم من قال يخير، ومنهم من قال: يسر في النهار ويجهر بالليل.
    وفي الدعاء ينبغي الإخلاص فيه لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أخلصوا له الدعاء" وما ثبت عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أولى. وأصح الأحاديث الواردة في ذلك هذا الحديث وكذلك قوله:
    [رح34] ــــ وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنهُ قالَ: "فكان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا صلى على جنازةِ يقولُ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وميِّتِنا، وشاهدِنا وغائبنا، وصَغيرِنا وكبيرِنا، وذكَرِنا وأُنثانا، اللهُمَّ مَنْ أَحييَتْه مِنّا فأَحْيهِ علىالإسلام، ومَنْ توفّيْتَهُ مِنّا فتوفّهُ على الإيمان، اللهُمَّ لا تحْرمْنَا أَجْرَهُ، ولا تُضلنا بَعْدَهُ" رواهُ مسلم والأربعةُ.
    (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جنازة يقول: "اللهم اغفر لحيّنا وميِّتنا وشاهدنا) أي حاضرنا (وغائبنا وصغيرنا) أي ثبته عند التكليف للأفعال الصالحة وإلا فلا ذنب له (وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا، اللهُمَّ من أحْييْته منّافأَحيْه على الإسلام، ومن توفيْتَهُ منّا فتوفّهُ على الإيمان، اللهم لا تحرمنْا أجْرَهُ ولا تُضِلْنا بَعْدهُ" رواه مسلم والأربعة) والأحاديث في الدعاء للميت كثيرة ففي سنن أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعا في الصلاة على الجنازة: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئناك شفعاء فاغفر له". وابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع قال: "صلى بنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على جنازة رجل من المسلمين فسمعته يقول: اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فقه فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم".
    واختلاف الروايات دال على أن الأمر متسع في ذلك ليس مقصوراً على شيء معين، وقد اختار الهادوية أدعية أخرى، واختار الشافعي كذلك، والكل مسطور في الشرح.
    وأما قراءة سورة مع الحمد فقد ثبت ذلك كما عرفت في رواية النسائي ولم يرد فيها تعيين وإنما الشأن في إخلاص الدعاء للميت لأنه الذي شرعت له الصلاة، والذي ورد به الحديث وهو قوله:
    [رح35] ــــ وعَنْهُ رضي الله عنهُ أَنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا صَلّيْتُمْ على الميّت فَأَخْلِصُوا له الدعاءَ" رواهُ أَبو داود، وصححهُ ابنُ حبَّانَ.
    (وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا صليْتم على الميِّت فأَخلصوا لهُ الدعاءَ" رواه أبو داود وصححه ابن حبان) لأنهم شفعاء والشافع يبالغ في طلبها يريد قبول شفاعته فيه.
    وروى الطبراني: أن ابن عمر كان إذا رأى جنازة قال: "هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله"، اللهم زدنا إيماناً وتسليماً. ثم أسند عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال: "من رأى جنازة فقال: الله أكبر صدق الله ورسوله هذا ما وعد الله ورسوله اللهم زدناإيماناً وتسليماً تكتب له عشرون حسنة".
    [رح36] ــــ وعنْ أبي هُريْرة رضيَ اللَّهُ عنه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: وأَسرعُوا بالجنازةِ، فإنْ تَكُ صالحةً فَخَيْرٌ تُقدِّمُونها إليْهِ، وإنْ تَكُ سوى ذلك فَشَرٌّ تَضعونهُ عَنْ رقابكُم" مُتّفقٌ عليهِ.
    (وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أسرعوا بالجنازة فإن تكُ) أي الجنازة والمراد بها الميت (صالحة فخيْرٌ) خبر مبتدأ محذوف أي فهو خير ومثله شر الآتي (تُقدِّمُونها إليْه، وإن تكُ سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عنْ رقابكم) "متفق عليه".
    نقل ابن قدامة أن الأمر بالإسراع للندب بلا خلاف بين العلماء.
    وسئل ابن حزم فقال بوجوبه، والمراد به شدة المشي وعلى ذلك حمله بعض السلف.
    وعند الشافعي والجمهور المراد بالإسراع فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الإسراع شديد. والحاصل أنه يستحب الإسراع بها لكن بحيث إنه لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل والمشيع.
    وقال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن، لأن البطء ربما أدى إلى التباهي والاختيال، هذا بناء على أن المراد بقوله بالجنازة بحملها إلى قبرها، وقيل: المراد الإسراع بتجهيزها فهو أعم من الأول. قال النووي: هذا باطل مردود بقوله في الحديث "تضعونه عنرقابكم"، وتعقب بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن المعاني كما تقول حمل فلان على رقبته ديوناً. قال: ويؤيده أن الكل لا يحملونه، قال المصنف بعد نقله في الفتح: ويؤيده حديث ابن عمر سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره" أخرجه الطبراني بإسناد حسن، ولأبي داود مرفوعاً: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله.
    والحديث دليل على المبادرة بتجهيز الميت ودفنه، وهذا في غير المفلوج ونحوه فإنه ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله.
    والحديث دليل على المبادرة بتجهيز الميت ودفنه، وهذا في غير المفلوج ونحوه فإنه ينبغي التثبت في أمره.
    [رح37] ــــ وَعَنْهُ رضي الله عنهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ شهدَ الجنَازَة حَتى يُصَلى عَليها فَلَهُ قيراطٌ، وَمَن شهدها حَتى تُدفَنَ فلهُ قيراطانِ" قيل: وما القيراطان؟ قال: "مِثْل الجبلين العظيميْن" متفقٌ عليهِ، ولمسْلمٍ "حتى توضَعَ في اللّحْدِ" وللبُخاريِّ "مَنْ تبعَ جنَازَةَ مُسْلم إيماناً واحْتساباً وكانَ معَهَا حَتى يُصلى عليهَا ويُفرغَ مِنْ دَفْنها فإنّهُ يَرْجع بقيراطيْن، كُلُّ قيراط مِثْلُ أُحُدٍ".
    (وعنه رضي الله عنه) أي أبي هريرة (قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فلهُ قيراطٌ ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان" قيل) صرح أبو عوانة بأن القائل وما القيراطان هو أبي هريرة (وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين"متفق عليه. ولمسلم) أي من حديث أبي هريرة حتى توضع في اللحد". وللبخاري أيضاً من حديث أبي هريرة ("من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين كل قيراطٍ مثلُ أُحُدٍ") فاتفقا على صدر الحديث ثم انفرد كل واحد منهما بلفظ. وهذا الحديث رواه اثنا عشر صحابياً.
    وقوله: "إيماناً واحتساباً) قيد به لأن لا بد منه لأن ترتب الثواب على العمل يستدعي سبق النية، فيخرج من فعل ذلك على سبيل المكافأة المجردة أو على سبيل المحاباة. ذكره المصنف في الفتح.
    وقوله: "مثل أُحد" ووقع في رواية النسائي: "فله قيراطان من الأجر كل واحد منهما أعظم من أحد" وفي رواية لمسلم: "أصغرهما مثل أُحد". وعند ابن عدي من رواية واثلة: "كتب له قيراطان من الأجر أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أُحد".
    والشهود: الحضور وظاهره الحضور معها من ابتداء الخروج بها. وقد ورد في لفظ مسلم: "من خرج مع جنازة من بيتها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أُحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط". والروايات إذا رد بعضها إلى بعض تقضي بأنه لا يستحق الأجرالمذكور إلا من صلى عليها ثم تبعها.
    قال المصنف رحمه الله: الذي يظهر لي أنه يحصل الأجر لمن صلى وإن لم يتبع لأن ذلك وسيلة إلى الصلاة لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من صلى وتبع. وأخرج سعيد بن منصور من حديث عروة عن زيد بن ثابت: "إذا صليت على جنازة فقد قضيت ما عليك" أخرجه ابن أبي شيبة بلفظ "إذا صليتم" وزاد في آخره "فخلوا بينها وبين أهلها" ومعناه قد قضيت حق الميت فإن أروت الاتباع فلك زيادة أجر. وعلق البخاري قول حميد بن هلال: ما علمنا على الجنازة إذنا ولكن من صلى ورجع فله قيراط.
    وأما حديث أبي هريرة: أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها فليس له أن يرجع حتى يستأذن وليها. أخرجه عبد الرزاق فإنه حديث منقطع موقوف. وقد رويت في معناه أحاديث مرفوعة كلها ضعيفة.
    ولما كان وزن الأعمال في الآخر ليس لنا طريق إلى معرفة حقيقته ولا يعلمه إلا الله، ولم يكن تعريفنا لذلك إلا بتشبيهه بما نعرفه من أحوال المقادير، شبه قدر الأجر الحاصل من ذلك بالقيراط ليبرز لنا المعقول في صورة المحسوس. ولما كان القيراط حقير القدر بالنسبة إلى مانعرفه في الدنيا نبه على معرفة قدره: بأنه كأحد الجبل المعروف بالمدينة.
    وقوله: "حتى تدفن" ظاهر في وقوع مطلق الدفن وإن لم يفرغ منه كله.
    ولفظ "حتى توضع في اللحد" كذلك إلا إن في الرواية الأخرى لمسلم "حتى يفرغ من دفنها" ففيها بيان وتفسير لما في غيرها.
    والحديث ترغيب في حضور الميت والصلاة عليه ودفنه، وفيه دلالة على عظم فضل الله وتكريمه للميت وإكرامه بجزيل الإثابة لمن أحسن إليه بعد موته.
    تنبيه ــــ في حمل الجنازة ــــ: أخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده إلى عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا تبع أحدكم الجنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربعة ثم ليتطوع بعد أو يذر فإنه من السنة. وأخرج بسنده: أن عثمان ابن عفان حمل بين العمودين سرير أمه فلم يفارقه حتىوضعه" وأخرج أيضاً "أن أبا هريرة رضي الله عنه حمل بين عمودي سرير سعد بن أبي وقاص. وأخرج: أن ابن الزبير حمل بين عمودي سرير المسور بن مخرمة. وأخرج من حديث يوسف بن ماهك قال: شهدت جنازة رافع بن خديج وفيها ابن عمر وابن عباس فانطلق ابن عمر حتى أخذ بمقدم السرير بين القائمين فوضعه على كاهله ثم مشى بها. انتهى.
    [رح38] ــــ وعَنْ سالمٍ عَنْ أبيهِ رضي الله عنْهُما "أَنّهُ رأَى النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأَبا بَكْرٍ وعُمر وهُم يمشُونَ أمامَ الْجنازة" رواهُ الخمسة وصححهُ ابنُ حبِّان وأَعلْهُ النّسائيُّ وطائفةٌ بالإرْسالِ.
    (وعن سالم رضي الله عنه) هو أبو عبد الله وأبو عمرو: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد فقهاء المدينة من سادات التابعين وأعيان علمائهم روى عن أبيه وغيره مات سنة ست ومائة (عن أبيه) هو عبد الله بن عمر (أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر وهميمشون أمام الجنازة. رواه الخمسة وصححه ابن حبان وأعله النسائي وطائفه بالإرسال) اختلف في وصله وإرساله فقال أحمد: إنما هو عن الزهري مرسل، وحديث سالم موقوف على ابن عمر من فعله. قال الترمذي: أهل الحديث يرون المرسل أصح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الزهري عن سالم أن عبد الله بن عمر كان يمشي بين يديها وأبا بكر وعمر وعثمان. قال الزهري: وكذلك السنة. وقد ذكر الدارقطني في العلل اختلافاً كثيراً فيه على الزهري قال: والصحيح قول من قال عن الزهري عن سالم عن أبيه: أنه كان يمشي. قال: وقد مشى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهم بين يديها. وهذا مرسل وقال البيهقي: إن الموصول أرجح لأنه من رواية ابن عيينة وهو ثقة حافظ، وعن علي بن المديني قال: قلت لابن عيينة: يا أبا محمد خالفك الناس في هذا الحديث، فقال: استيقن؛ الزهري حدثنية مراراً لست أحصيه، يعيده ويبديه، سمعته من فيه، عن سالم عن أبيه. قال المصنف: وهذا لا ينفي عنه الوهم لأنه ضبط أنه سمعه منه عن سالم عن أبيه والأمر كذلك إلا أن فيه إدراجاً. وصححه الزهري وحدث به ابن عيينة.
    وللاختلاف في الحديث اختلف العلماء على خمسة أقوال (الأوّل) أن المشي أمام الجنازة أفضل لوروده من فعله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وفعل الخلفاء وذهب إليه الجمهور والشافعي.
    (والثاني) للهادية والحنفية أن المشي خلفها أفضل لما رواه ابن طاوس عن أبيه "ما مشى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حتى مات إلا خلف الجنازة" ولما رواه سعيد بن منصور من حديث عليّ عليه السلام قال: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ. إسناده حسن وهو موقوف له حكم الرفع، وحكى الأثرم أن أحمد تكلم في إسناده.
    (الثالث) أنه يمشي بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها علقه البخاري عن أنس، وأخرجه ابن أبي شيبة موصولاً وكذا عبد الرزاق، وفيه التوسعة على المشيعين وهو يوافق سنة الإسراع بالجنازة وأنهم لا يلزمون مكاناً واحداً يمشون فيه لئلا يشق عليهم أو على بعضهم.
    (القول الرابع) للثوري أن الماشي يمشي حيث شاء والراكب خلفها لما أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث المغيرة مرفوعاً "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها".
    (القول الخامس) للنخعي إن كان مع الجنازة نساء مشي أمامها وإلا فخلفها.
    [رح39] ــــ وعَن أُمِّ عطيةَ رضيَ اللَّهُ عنها قالتْ: "نُهينا عن اتّباع الجنائز ولمْ يُعْزَمْ عَلينا" مُتفقٌ عليه.
    (وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: نهينا) مبني للمجهول (عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا متفق عليه) جمهور أهل الأصول والمحدثين أن قول الصحابي نهينا أو أمرنا بعدم ذكر الفاعل له حكم المرفوع إذ الظاهر من ذلك أن الآمر والناهي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    وأما هذا الحديث فقد ثبت رفعه وأنه أخرجه البخاري في باب الحيض عن أم عطية بلفظ "نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ــــ الحديث" إلا أنه مرسل لأن أم عطية لم تسمعه منه لما أخرجه الطبراني عنها قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة جمع النساء في بيت ثم بعث إلينا عمر فقال: "إني رسول رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إليكن بعثني إليكن لأبايعكن على ألا تشركن بالله شيئاً" الحديث. وفي آخره "ونهانا أن نخرج في جنازة".
    وقولها: "ولم يعزم علينا" ظاهر في أن النهي للكراهية لا للتحريم كأنها فهمته من قرينة وإلا فأصله التحريم، وإلى أنه للكراهة ذهب جمهور أهل العلم ويدل له ما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال: دعها يا عمر" الحديث وأخرجه النسائي وابن ماجه. ومن طريق أخرى ورجالها ثقات.
    [رح40] ــــ وعنْ أَبي سَعِيدٍ رضي اللَّهُ عنهُ أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا رأَيْتُمُ الجنازة فقُوموا، فَمَنْ تبعها فلا يجْلسْ حتى تُوضع" مُتّفقٌ عليه.
    الأمر ظاهر في وجوب القيام للجنازة إذا مرت بالمكلف وإن لم يقصد تشييعها وظاهر في عموم كل جنازة من مؤمن وغيره ويؤيده أنه أخرج البخاري قيامه صلى الله عليه وآله وسلم لجنازة يهودي مرت به. وعلل ذلك بأن الموت فزع وفي رواية "أليست نفساً" وأخرج الحاكم "إنما قمنا للملائكة" وأخرج أحمد والحاكم وابن حبان: "إنما نقوم إعظاماً للذي يقبض النفوس". ولفظ ابن حبان: "إعظاماً لله". ولا منافاة بين التعليلين.
    وقد عارض هذا الأمر حديث عليّ رضي الله عنه عند مسلم: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قام للجنازة ثم قعد. والقول بأنه يحتمل أن مراده قام ثم قعد لما بعدت عنه، يدفعه أن علياً أشار إلى قوم بأن يقعدوا ثم حدثهم الحديث. ولما تعارض الحديثان اختلف العلماء في ذلك.
    فذهب الشافعي إلى أن حديث عليّ عليه السلام ناسخ للأمر بالقيام، وردّ أن حديث عليّ ليس نصّاً لاحتمال أن قعوده صلى الله عليه وآله وسلم كان لبيان الجواز، ولذا قال النووي: المختار أنه مستحب. وأما حديث عبادة بن الصامت أنه كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقوم للجنازة فمرّ به حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فقال: "اجلسوا خالفوهم". أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وأخرجه البزار والبيهقي، فإنه حديث ضعيف فيه [تض]بشر بن رافع[/تض] قال البزار: تفرّد به بشر وهو لين الحديث.
    وقوله: "ومن تبعها فلا يجلس حتى توضع" أفاد النهي لمن شيعها، عن الجلوس حتى توضع، ويحتمل أن المراد حتى توضع في الأرض أو توضع في اللحد، وقد روي الحديث باللفظين إلا أنه رجح البخاري وغيره رواية "توضع في الأرض".
    فذهب بعض السلف إلى وجوب القيام حتى توضع الجنازة لما يفيده النهي هنا ولما عند النسائي من حديث أبي هريرة وأبي سعيد: "ما رأينا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع".
    وقال الجمهور: إنه مستحب. وقد روى البيهقي من حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما: إن القائم مثل الحامل ــــ يعني في الأجر.
    [رح41] ــــ وعَنْ أبي إسحاق رضي اللَّهُ عنْهُ "أَنَّ عبد الله بنِ يزيدَ أَدخَلَ الميْتَ منْ قبلِ رِجْلَي القَبْر وقال: هذا مِنَ السُّنّةِ" أَخرجَهُ أَبو داودَ.
    (وعن أبي إسحاق) هو السبيعي بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة والعين المهملة الهمداني الكوفي رأى علياً عليه السلام وغيره من الصحابة وهو تابعي مشهور، كثير الرواية، ولد لسنتين من خلافة عثمان، ومات سنة تسع وعشرين ومائة (رضي الله عنه أن عبد الله بن يزيد) هوعبد الله بن يزيد الخطمي بالخاء المعجمة الأوسي كوفي شهد الحديبية وهو ابن سبع عشرة سنة وكان أميراً على الكوفة وشهد مع علي عليه السلام صفين والجمل ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (أدخل الميت من قِبَل رجلي القبر) أي من جهة المحل الذي يوضع فيه رجلاً الميت فهو من إطلاق الحال على المحل (وقال: هذا من السنة. أخرجه أبو داود) وروى عن علي عليه السلام قال: "صلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على جنازة رجل من ولد عبد المطلب فأمر بالسرير فوضع من قبل رجلي اللحد ثم أمر به فسل سلا". ذكره الشارح ولم يخرجه. وفي المسألة ثلاثة أقوال:
    (الأول) ما ذكر وإليه ذهبت الهادوية والشافعي وأحمد.
    (والثاني) يسل من قبل رأسه لما روى الشافعي عن الثقة مرفوعاً من حديث ابن عباس "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سل ميتاً من قبل رأسه" وهذا أحد قولي الشافعي.
    (والثالث) لأبي حنيفة أنه يسل من قبل القبلة معترضاً إذ هو أيسر (قلت): بل ورد به النص كما يأتي في شرح حديث جابر في النهي عن الدفن ليلا فإنه أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس وهو نص في إدخال الميت من قبل القبلة ويأتي أنه حديث حسن فيستفاد من المجموع أنه فعلٌ مخيرفيه.
    (فائدة) اختلف في تجليل القبر بالثوب عند مواراة الميت فقيل يجلل سواء كان المدفون رجلاً أو امرأة لما أخرجه البيهقي لا أحفظه إلا من حديث ابن عباس قال: "جلل رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبر سعد بثوبه" قال البيهقي: لا أحفظه إلا من حديث [تض]يحيي بن عقبة بن أبي العيزار[/تض] وهو ضعيف.
    وقيل يختص بالنساء لما أخرجه البيهقي أيضاً من حديث أبي إسحاق "أنه حضر جنازة الحرث الأعور فأبي عبد الله بن يزيد أن يبسطوا عليه ثوباً وقال: إنه رجل" قال البيهقي: وهذا إسناده صحيح وإن كان موقوفاً (قلت) ويويده ما أخرجه أيضاً البيهقي عن رجل من أهل الكوفة "أن عليبن أبي طالب أتاهم يدفنون ميتاً وقد بسط الثوب على قبره فجذب الثوب من القبر، وقال: "إنما يصنع هذا بالنساء".
    [رح42] ــــ وعن ابنِ عُمَرَ رضيَ الله عنهما عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا وَضَعْتُم مَوْتاكُم في القُبُور فقولوا: بسم اللَّهِ، وعلى مَلّهِ رسول الله" أَخْرجهُ أَحْمدُ وأَبو داود والنسائي وصححه ابنُ حبَّانَ وأعلّهُ الدارقطني بالوقفِ.
    ورجح النسائي وقفه على ابن عمر أيضاً، إلا أنه له شواهد مرفوعة ذكرها في الشرح، وأخرج الحاكم والبيهقي بسند ضعيف "لما وضعت أم كلثوم ينت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في القبر قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى} بسم الله وفي سبيل الله وعلى مِلَّة رسول الله"، وللشافعي دعاء آخر استحسنه فدل كلامه على أنه يختار الدافن للميت ما يراه وأنه ليس فيه حد محدود.
    [رح 34/045] ـ وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَالَ: "كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيّاً". رَوَاهُ أَبُو داود بِإِسْنَادِ عَلَي شَرْطِ مُسْلِمٍ.
    وَزَادَ ابْنُ مَاجَهَ ـ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا: "فِي الإثْمِ".
    (وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "كسرُ عظْم الميت ككسره حيّاً" رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم: وزاد ابن ماجه) ، أي في الحديث هذا وهو قوله: "من حديث أم سلمة: "في الإثم") بيان للمثلية.
    فيه دلالة على وجوب اخترام الميت كما يحترم الحي، ولكن زيادة "في الإثم" أنبأت أنه يفارقه من حيث إنه لا يجب الضمان، وهو يحتمل أن الميت يتألم كما يتألم الحي، وقد ورد به حديث:
    [رح44] ــــ وعن سعد بن أَبي وقّاص رضيَ الله عنه قال: "الْحِدوا لي لَحْداً وانْصِبُوا عليَّ اللّبِنَ نصْباً كما صُنع برسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم" رواهُ مُسْلمٌ.
    هذا الكلام قاله سعد لما قيل له ألا نتخذ لك شيئاً كأنه الصندوق من الخشب؟ فقال: اصنعوا. فذكره. واللحد بفتح اللام وضمها هو الحفر تحت الجانب القبلي من القبر.
    وفيه دلالة أنه لحد له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقد أخرجه أحمد وابن ماجه بإسناد حسن. وأنه كان بالمدينة رجلان رجل يلحد ورجل يشق فبعث الصحابة في طلبهما فقالوا: أيهما جاء عمل عمله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء الذي يلحد لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. ومثله عن ابن عباس عند أحمد والترمذي. وأن الذي كان يلحد هو أبو طلحة الأنصاري: وفي إسناده ضعف.
    وفيه الدلالة على أن اللحد أفضل.
    [رح45] ــــ وللبيْهَقيِّ عن جابرٍ رضيَ الله عنه نَحْوُهُ وزاد: "ورُفِع قَبْرُهُ عن الأرض قدْرَ شِبْرٍ" وصحّحهُ ابنُ حبَّان.
    (وللبيهقي) أي وروي البيهقي (عن جابر رضي الله عنه نحوه) أي نحو حديث سعد (وزاد: ورفع قبره عن الأرض قدر شبر وصححه ابن حبان).
    هذا الحديث أخرجه البيهقي وابن حبان من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. وفي الباب من حديث القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أماه اكشفي لي عن قبر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وصاحبيه فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا وطئية، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. أخرجه أبو داود والحاكم وزاد: رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مقدماً وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وعمر رأسه عند رجلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج أبو داود في المراسيل عن صالح بن أبي صالح قال: رأيت قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبراً أو نحو شبر.
    ويعارضه ما أخرجه البخاري من حديث سفيان التمار: أنه رأى قبر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسنماً. أي مرتفعاً كهيئة السنام وجمع بينهما البيهقي بأنه كان أولاً مسطحاً ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك أصلح فجعل مسنماً.
    (فائدة) كانت وفاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يوم الاثنين عندما زاغت الشمس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ودفن يوم الثلاثاء. كما في الموطأ. وقال جماعة يوم الأربعاء. وتولى غسله ودفنه علي والعباس وأسامة. أخرجه أبو داود من حديث الشعبي وزاد: وحدثني مرحب، وكذا في الشرح والذي في التلخيص: مرحب أو أبو مرحب بالشك أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف. وفي رواية البيهقي زيادة مع علي والعباس الفضل بن العباس وصالح ــــ وهو شقران ــــ ولم يذكر ابن عوف. وفي رواية له ولابن ماجه: على والفضل وقثم وشقران. وزاد. وسوّى لحده رجل من الأنصار. وجمع بين الروايات بأن من نقص فباعتبار ما رأى أول الأمر ومن زاد أراد به آخر الأمر..
    [رح36] ــــ ولمسلم عنه رضي الله عنه: نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يجصص القبر وأن يقعدا عليه، وأن يبنى عليه.
    (ولمسلم عنه رضي الله عنه) أي عن جابر (نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه).
    الحديث دليل على تحريم الثلاثة المذكورة لأنه الأصل في النهي. وذهب الجمهور إلى أن النهي في البناء والتجصيص للتنزيه. والقعود للتحريم وهو جمع بين الحقيقة والمجاز ولا يعرف ما الصارف عن حمل الجميع على الحقيقة التي هي أصل النهي.
    وقد وردت الأحاديث في النهي عن البناء على القبور والكتب عليها والتسريج وأن يزاد فيها وأن توطأ. فأخرج أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود مرفوعاً: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". وفي لفظ للنسائي: "نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه". وأخرج البخاري من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن اللهاليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". واتفقا على إخراج حديث أبي هريرة بلفظ "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وأخرج الترمذي "أن علياً عليه السلام قال لأبي الهياج الأسدي: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سوّيتهُ ولا تمثالاً إلا طمسته "قال الترمذي: حديث حسن، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، فكرهوا أن يرفع القبر فوق الأرض.
    قال الشارح رحمه الله: وهذه الأخبار المعبر فيها باللعن والتشبيه بقوله: "لا تجعلوا قبري وثناً يعبد من دون الله" تفيد التحريم للعمارة والتزيين والتجصيص ووضع الصندوق المزخرف ووضع الستائر على القبر وعلى سمائه والتمسح بجدار القبر وأن ذلك قد يفضي مع بعد العهد وفشو الجهل إلى ما كان عليه الأمم السابقة من عبادة الأوثان، فكان في المنع عن ذلك بالكلية قطع لهذه الذريعة المفضية إلى الفساد، وهو المناسب للحكمة المعتبرة في شرع الأحكام من جلب المصالح ودفع المفاسد، سواء كانت بأنفسها أو باعتبار ما تفضي إليه انتهى. وهذا كلام حسنوقد وفينا المقام حقه ومسألة مستقلة.
    [رح47] ــــ وعَنْ عامرِ بنِ ربيعةَ رضيَ اللَّهُ عنْهُ "أنَّ النبيَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلّى على عثمانَ بنِ مَظْعُون وأَتى الْقَبْرَ فَحَثى عليه ثلاثَ حَثَيَات وهُوَ قائمٌ" رواهُ الدارقطنيُّ.
    وأخرجه البزار وزاد بعد قوله وهو قائم "عند رأسه" وزاد أيضاً "فأمر فرشَّ عليه الماء" وروى أبو الشيخ في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة مرفوعاً "من حثا على مسلم احتساباً كتب له بكل ثراة حسنة" وإسناده ضعيف. وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حثى من قبل الرأس ثلاثاً" إلا أنه قال أبو حاتم: حديث باطل وروى البيهقي من طريق محمد بن زياد عن أبي أمامة قال: "توفي رجل فلم تصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها على قبر فغفرت له ذنوبه". ولكن هذه شهد بعضها لبعض.
    وفيه دلالة على مشروعية الحثي على القبر ثلاثاً، وهو يكون باليدين معاً لثبوته في حديث عامر بن ربيعة ففيه حثا بيديه، واستحب أصحاب الشافي أن يقول عند ذلك {منها خلقناكم وفيها نعيدكم} الآية.
    [رح48] ــــ وعن عثْمانَ رضي الله عنه قال: كانَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إذا فرغ مِنْ دفن الميِّتِ وقَفَ عَلْيه وقال: "استغْفِرُوا لأخيكُمْ واسْأَلُوا لَهُ التّثْبيت فإنّهُ الآن يُسْأَل" رواهُ أبو داود وصححه الْحاكِمُ.
    فيه دلالة على انتفاع الميت باستغفار الحي له، وعليه ورد قوله تعالى: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} وقوله: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} ونحوهما.
    وعلى أنه يسأل في القبر، وقد وردت به الأحاديث الصحيحة، كما أخرج ذلك الشيخان. فمنها من حديث أنس أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم". زاد مسلم: "وإذا انصرفوا أتاه ملكان" زاد ابن حبان والترمذيمن حديث أبي هريرة: "أزرقان أسودان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير". زاد الطبراني في الأوسط: "أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر وأصواتهما البقر مثل الرعد" تزاد عبد الرزاق: "ويحفران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها" وزاد البخاري من حديث البراء: "فيعاد روحه في جسده".
    ويستفاد في مجموع الأحاديث أنهما يسألانه فيقولان: "ما كنت تعبد؟ فإن كان الله هداه فيقول: كنت أعبد الله، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله". وفي رواية "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقال له: صدقت" "فلا يسأل عن شيء غيرها" "ثم يقال له: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى". وفي لفظ: "فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة وألبسوه من الجنة قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له مد بصره، ويقال له انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله مقعداً من الجنة فيراهما جميعاً، فيقول: دعوني حتى أذهب أبشر أهلي فيقال له: اسكت، ويفسح له قبره سبعون ذراعاً ويملأ خضراً إلى يوم القيامة". وفي لفظ "ويقال له نم فينام نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله. وأما الكافر والمنافق فيقول له الملكان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري ويقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم: فيقول: هاه هاه لا أدري فيقال: لا دريت ولا تليت ــــ أي لا فهمت ولا تبعت من يفهم ــــ ويضرب بمطارق من حديد ضربة لو ضرب بها جبل لصار تراباً فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين".
    واعلم أنه قد وردت أحاديث على اختصاص هذه الأمة بالسؤال في القبر دون الأمم السالفة قال العلماء: والسر فيه أن الأمم كانت تأتيهم الرسل فإن أطاعوهم فالمراد، وإن عصوهم اعتزلوهم وعولجوا بالعذاب. فلما أرسل الله محمداً صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رحمة للعالمين أمسكعنهم العذاب وقبل الإسلام ممن أظهره سواء أخلص أم لا، وقيض الله لهم من يسألهم في القبور ليخرج الله سرهم بالسؤال وليميز الله الخبيث من الطيب.
    وذهب ابن القيم إلى عموم المسألة وبسط المسألة في كتاب الروح.
    [رح49] ــــ وَعَنْ ضَمْرَةَ بنِ حبيب رضيَ الله عنه أَحَدَ التّابعين قالَ: "كانُوا يَسْتَحِبُّون إذا سُوِّيَ على الميِّت قَبْرُهُ وانْصرف النّاسُ عَنْهُ أَن يُقالَ عِنْدَ قَبْرهِ: يا فُلانُ قُلْ: لا إله إلا الله، ثلاث مرَّات، يا فلان قُلْ: ربِّيَ اللَّهُ، وديني الإسْلامُ، ونَبِيِّيِّ محمّدٌ" رواهُ سَعيدُ بنُ مَنْصُور مَوْقُوفاً، وللطّبَرَاني نَحْوُهُ مِنْ حَديثِ أَبي أَمَامَةَ مَرْفوعاً مُطَوَّلاً.
    (وعن ضمرة) بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم (ابن حبيب) بالحاء المهملة مفتوحة فموحدة فمثناة فموحدة (أحد التابعين) حمصي ثقة روى عن شدّاد بن أوس وغيره (قال: كانوا) ظاهره الصحابة الذين أدركهم (يستحبون إذا سوي) بضم السين المهملة مغير الصيغة من التسوية (على الميت قبره وانصرف الناس عنه أن يقال عند قبره: يا فلان قل: لا إله إلا الله ثلاث مرات، يا فلان قل: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد. رواه سعيد بن منصور موقوفاً) على ضمرة بن حبيب (وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة مرفوعاً مطولاً) ولفظه عن أبي أمامة: إذا أنا متُ فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: "إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب ثم يقول: يا فلانابن فلانة، فإنه يستوي قاعداً ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما كنت عليه في الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً. فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله فإنه لم يعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمّه حوّاء، يا فلان ابن حواء" قال المصنف: إسناده صالح وقد قوّاه الضياء في أحكامه. قلت: قال الهيثمي بعد سياقه ما لفظه: أخرجه الطبراني في الكبير، وفي إسناده جماعة لم أعرفهم. وفي هامشه: فيه[تض] عاصم بن عبد الله[/تض] ضعيف: ثم قال: والراوي عن أبي أمامة سعيد الأزدي بيض له أبو حاتم، وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: هذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول: يافلان ابن فلانة قال: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة. ويروى فيه عن أبي بكر ابن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه.
    وقد ذهب إليه الشافعية.
    وقال في المنار: إن حديث التلقين هذا حديث لا يشك أهل المعرفة بالحديث في وضعه. وأنه أخرجه سعيد بن منصور في سنه عن ضمرة بن حبيب عن أشياخ له من أهل حمص فالمسئلة حمصية.
    وأما جعل "اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل": شاهداً له، فلا شهادة فيه.
    وكذلك أمر[اث] عمرو بن العاص[/اث] بالوقوف عند قبره مقدار ما ينحر جزور ليستأنس بهم عند مراجعة رسل ربه: لا شهادة فيه على التلقين. وابن القيم جزم في الهدى بمثل كلام المنار، وأما في كتاب الروح فإنه جعل حديث التلقين من أدلة سماع الميت لكلام الأحياء وجعل اتصال العمل بحديث التلقين من غير نكير كافياً في العمل به، ولم يحكم له بالصحة بل قال في كتاب الروح: إنه حديث ضعيف ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله.
    [رح50] ــــ وعَنْ بُرَيْدَة بن الحَصيْبِ الأسْلَمِيِّ رضي الله عنْهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عن زيارَةِ القبُورِ فَزُوروها" رواهُ مُسْلمٌ، زَادَ التِّرْمِذيُّ: "فإنها تُذكّرُ الآخِرَةَ".
    (وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "كنتُ نهيتكم عن زيارة القبُور فزوروها" رواه مسلم زاد الترمذي) أي من حديث بريدة ("فإنها تذكِّرُ الآخرة").
    51 ــــ زادَ ابنُ مَاجَهْ مِنْ حديث ابنِ مَسْعودٍ "وَتُزَهِّدُ في الدُّنْيَا".
    (زاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود) وهو الحديث السابق بلفظ "ما مضى" وزاد ("وتُزَهّدُ في الدنيا") وفي الباب أحاديث عن أبي هريرة عن مسلم وعن ابن مسعود عن ابن ماجه والحاكم وعن أبي سعيد عند أحمد والحاكم وعن عليّ عليه السلام عند أحمد وعن عائشة عن ابن ماجه.
    والكل دال على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها للاعتبار فإنه في لفظ حديث ابن مسعود "فإنها عبرة وذكرى للآخرة والتزهيد في الدنيا" فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً.
    وحديث بريدة جمع فيه بين ذكر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان نهى أولاً عن زيارتها ثم أذن فيها أخرى.
    وفي قوله: "فزوروها" أمر الرجال بالزيارة وهو أمر ندب اتفاقاً، ويتأكد في حق الوالدين لآثار في ذلك.
    وأما ما يقوله عند وصوله المقابر فهو: السلام عليكم دار قوم مؤمنين ورحمة الله وبركاته، ويدعو لهم بالمغفرة ونحوها. وسيأتي حديث مسلم في ذلك قريباً وأما قراءة القرآن ونحوها عند القبر فسيأتي الكلام فيها قريباً.
    [رح52] ــــ وَعَنْ أَبي هُرَيْرةَ رضي الله عنهُ "أنَّ رسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لَعَنَ زَائرَاتِ القُبُور" أَخْرجهُ الترمذيُّ وصحّحهُ ابنُ حِبّان وقال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن. وفي الباب عن ابن عباس وحسان.
    وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا كان قبل أن يرخص النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في زيارة القبور فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء.
    وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهن ثم ساق بسنده أن عبد الرحمن بن أبي بكر توفي ودفن في مكة وأتت عائشة قبره ثم قالت:
    [شع] وكنا كندماني جذيمة برهة
    من الدهر حتى قيل: لن يتصدعا[/شع] [شع] وعشنا بخير في الحياة وقبلنا
    أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا[/شع] [شع] ولما تفرقنا كأني ومالكاً
    لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً[/شع] اهـ ويدل ما قاله بعد أهل العلم ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله إذا زرت القبور؟ فقال: قولي: "السلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين يرحم الله المتقدمين منّا والمتأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". وما أخرج الحاكم من حديث علي ابن الحسين أن فاطمة عليها السلام كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده. قلت: وهو حديث مرسل فإن علي بن الحسين لم يدرك فاطمة بنت محمد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. وعموم ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان مرسلاً: من زار قبر الوالدين أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب بارّاً.
    [رح53] ــــ وعَنْ أَبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضيَ اللَّهُ عنْهُ قالَ: "لَعَن رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم النّائِحَةَ والمُسْتَمِعَةَ" أَخْرَجَهُ أَبُو داود.
    النوح هو رفع الصوت بتعديد شمائل الميت ومحاسن أفعاله.
    والحديث دليل على تحريم ذلك وهو مجمع عليه.
    [رح54] ــــ وعَنْ أُمِّ عطيّةَ رضي الله عنْها قالت: "أَخذ عَلَيْنا رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند البيعة أَنْ لا نَنُوح" متفقٌ عليه.
    كان أخذه عليهنّ ذلك وقت المبايعة على الإسلام.
    والحديثان دالان على تحريم النياحة وتحريم استماعها إذ لا يكون اللعن إلا على محرم. وفي الباب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ليس منّا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". متفق عليه. وأخرجا من حديث أبي موسى: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق". وفي الباب غير ذلك.
    ولا يعارض ذلك ما أخرج أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن ابن عمر: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مر بنساء ابن عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أُحد فقال: "لكن حمزة لا بواكي" فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة ــــ الحديث. فإنه منسوخ بما في آخره بلفظ "فلا تبكين على هالك بعد اليوم" وهو يدل على أنه عبر عن النياحة بالبكاء.
    فإن البكاء غير منهي عنه كما يدل له ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة قال: "مات ميت من آل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن فقال له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: دعهن يا عمر فإن العين تدمع والقلب مصاب والعهد قريب" والميت هي زينب بنته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كما صرح به في حديث ابن عباس أخرجه أحمد وفيه أنه قال لهن: "إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما كان من العين ومن القلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان" فإنه يدل على جواز البكاء، وإنه إنما نهي عن الصوت.
    ومنه قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "العين تدمع ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب" قاله في وفاة ولده إبراهيم، وأخرج البخاري من حديث ابن عمر "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا ــــ وأشار إلى لسانه ــــ أو يرحم" وأما ما في حديث عائشة عن الشيخين في قوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لمن أمره أن ينهى النساء المجتمعات للبكاء على جعفر بن أبي طالب "أحث في وجههن التراب" فيحمل على أنه كان بكاء بتصويت النياحة فأمر بالنهي عنه ولو بحثو التراب في أفواههنّ.
    [رح55] ــــ وعن ابنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عَنْهُما عن النّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "الميِّتُ يُعَذبُ في قبره بما نيح عليهِ" مُتّفقٌ عَلَيْه، ولهُما نحْوُهُ عن المغيرةِ بن شعبةَ.
    (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الميتُ يعذب في قبره بما نيح عليه" متفق عليه. اولهما) أي الشيخين كما دل له متفق عليه فإنهما المراد به (نحوه) أي نحو حديث ابن عمر وهو (عن المغيرة بن شعبة).
    الأحاديث في الباب كثيرة. وفيها دلالة على تعذيب الميت بسبب النياحة عليه. وقد استشكل ذلك لأن تعذيبه بفعل غيره. واختلفت الجوابات.
    فأنكرت عائشة ذلك على عمر وابنه عبد الله واحتجت بقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وكذلك أنكره أبو هريرة.
    واستبعد القرطبي إنكار عائشة وذكر أنه رواه عدة من الصحابة فلا وجه لإنكارها مع إمكان تأويله، ثم جمع القرطبي بين حديث التعذيب والآية بأن قال: حال البرزخ يلحق بأحوال الدنيا وقد جرى التعذيب فيها بسبب ذنب الغير كما يشير إليه قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} فلا يعارض حديث التعذيب، آية {ولا تزر وازرة وزر أخرى} لأن المراد بها الإخبار من حال الآخرة واستقواه الشارح.
    وذهب الأكثرون إلى تأويله بوجوه. الأوّل: للبخاري أنه يعذب بذلك إذا كان سنته وطريقته وقد أقرّ عليه أهله في حياته فيعذب لذلك، وإن لم يكن طريقته فإنه لا يعذب. فالمراد على هذا أنه يعذب ببعض بكاء أهله وحاصله أنه قد يعذب العبد بفعل غيره إذا كان له فيه سبب.
    الثاني: المراد أنه يعذب إذا أوصى أن يبكي عليه وهو تأويل الجمهور قالوا: وقد كان معروفاً عند القدماء كما قال طرفة بن العبد:
    [شع] إذا مت فابكيني بما أنا أهله
    وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبد[/شع] ولا يلزم من وقوع النياحة من أهل الميت امتثالاً له أن لا يعذب لو لم يمتثلوا بل يعذب بمجرّد الإيصاء، فإن امتثلوه وناحوا عذب على الأمرين: الإيصاء لأنه فعله، والنياحة لأنها بسببه.
    والثالث: أنه خاص بالكافر وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلا وفيه بُعْد لا يخفى فإن الكافر لا يحمل عليه ذنب غيره أيضاً لقوله تعالى: {لا تزر وازرة وزر أخرى}.
    الرابع: أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة للميت بما يندبه به أهله كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه واناصراه واكاسياه جلد الميت وقال: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟" وأخرج معناه ابن ماجه والترمذي.
    الخامس: أن معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها فإنه يرق لهم، وإلى هذا التأويل ذهب محمد بن جرير وغيره وقال، القاضي عياض، هو أولى الأقوال واحتجوا بحديث فيه: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم زجر امرأة عن البكاء على ابنها وقال: إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، يا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم. واستدل له أيضاً أن أعمال العباد تعرض على موتاهم وهو صحيح.
    وثمة تأولات أخر وما ذكرناه أشف ما في الباب.
    [رح56] ــــ وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنهُ قالَ: "شهِدْتُ بِنْتاً للنّبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (تدفن) ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جالسٌ على الْقَبْر فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعانِ" رَوَاهُ البخاريُّ.
    قد بين الواقدي وغيره في روايته أن البنت أم كلثوم، وقد أورد البخاري قول من قال إنها رقية بأنها ماتت ورسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بدر لم يشهد صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دفنها.
    والحديث دليل على جواز البكاء على الميت بعد موته وتقدم ما يدل له أيضاً إلا أنه عورض بحديث فإذا وجبت فلا تبكين باكية. وجمع بينهما بأنه محمول على رفع الصوت أو أنه مخصوص بالنساء لأنه قد يفضي بكاؤهن إلى النياحة فيكون من باب سد الذريعة.
    [رح57] ــــ وعَنْ جابر رضيَ الله عَنْه أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ باللّيْل إلا أَنْ تُضْطَرُّوا" أَخْرجهُ ابنُ مَاجَهْ، وأَصْلُهُ في مُسْلمٍ لكن قالَ: "زَجَرَ أَنْ يُقْبر الرَّجُلُ بالليْل حتى يُصَلّى عليه".

    (وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا" أخرجه ابن ماجه وأصله في مسلم لكن قال: زَجَرَ) بالزي والجيم والراء عوض "نهى" (أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه).
    دل على النهي عن الدفن للميت ليلاً إلا لضرورة، وقد ذهب إلى هذا الحسن وورد تعليل النهي عن ذلك بأن ملائكة النهار أرأف من ملائكة الليل في حديث قال الشارح: الله أعلم بصحته.
    وقوله "وأصله في مسلم" لفظ الحديث الذي فيه: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض وكفن في كفن غير طائل وقبر ليلاً وزجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي عليه إلا أن يضطر الإنسان إلى ذلك". وهو ظاهر أن النهي إنما هو حيث كان مظنة حصولالتقصير في حق الميت بترك الصلاة أو عدم إحسان الكفن إذا كان يحصل بتأخر الميت إلى النهار كثرة المصلين أو حضور من يرجى دعاؤه، حسن تأخره، وعلى هذا فيؤخر عن المسارعة فيه لذلك ولو في النهار؛ دل لذلك دفن علي عليه السلام لفاطمة عليها السلام ليلاً ودفن الصحابة لأبي بكر ليلاً، وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دخل قبراً ليلاً فأسرج له سراج فأخذ من قبل القبلة فقال: رحمك الله إن كنت لأوّاهاً تلاءً للقرآن". الحديث، قال: هو حديث حسن قال: وقد رخص أكثر أهل العلم في الدفن ليلاً.
    وقال ابن حزم: لا يدفن أحد ليلاً إلا أن يضطر إلى ذلك. قال: ومن دفن ليلاً من أصحابه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأزواجه فإنه لضرورة أوجبت ذلك من خوف زحام أو خوف الحر على من حضر أو خوف تغير أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلاً. ولا يحل لأحد أن يظن بهم رضي الله عنهم خلاف ذلك اهـ.
    (تنبيه) تقدم في الأوقات حديث عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب" اهـ. وكان يحسن ذكر المصنف له هنا.
    [رح58] ــــ وَعَنْ عبد الله بن جَعْفَر رضي اللَّهُ عَنْهُما قال: لمّا جاءَ نَعْيُ جَعْفَر حين قُتِل قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَر طَعَاماً فَقَدْ أَتَاهُمْ ما يُشْغِلُهُمْ" أخْرجهُ الْخمسَةُ إلا النّسائيَّ.
    فيه دليل على شرعية إيناس أهل الميت بصنع الطعام لهم لما هم فيه من الشغل بالموت، ولكنه أخرج أحمد من حديث[اث] جرير بن عبد الله البجلي[/اث]: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة".
    فيحمل حديث جرير على أن المراد صنعة أهل الميت الطعام لمن يدفن منهم ويحضر لديهم كما هو عرف بعض أهل الجهات، وأما الإحسان إليهم بحمل الطعام لهم فلا بأس به وهو الذي أفاده حديث جعفر.
    ومما يحرم بعد الموت العقر عند القبر لورود النهي عنه، فإنه أخرج أحمد وأبو داود من حديث أنس: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا عقر في الإسلام". قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة، قال الخطابي: كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبلالرجل يقولون نجازيه على فعله لأنه كان يعقرها في حياته فيطعمها الأضياف ونحن نعقرها عند قبره حتى تأكلها السباع والطير فيكون مطعماً بعد وفاته كما كان يطعم في حياته.
    ومنهم من كان يذهب إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكباً ومن لم يعقر عنده حشر راجلاً وكان هذا على مذهب من يقول منهم بالبعث فهذا فعل جاهلي محرم.
    [رح59] ــــ وعَنْ سُليْمانَ بن بُريْدَةَ عن أَبيه رضيْ اللَّهُ عَنْهُما قال: كانَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُعَلِّمُهُمْ إذا خرَجُوا إلى المقابر "السلامُ على أهْلِ الدِّيار مِنَ المؤمنين والمسلمين، وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ بكُمْ للاحِقُون، أَسْأَلُ اللَّهَ لنَا ولكُمُ العافية" رواه مُسْلمٌ.
    (وعن سليمان بن بريدة رضي الله عنه) هو الأسلمي روى عن أبيه وعمران بن حصين وجماعة مات سنة خمس عشرة ومائة (عن أبيه) أي بريدة (قال: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يعلمهم) أي الصحابة (إذا خرجوا إلى المقابر) أي (أن يقولوا: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية. رواه مسلم) وأخرجه أيضاً من حديث عائشة وفيه زيادة "ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين".
    والحديث دليل على شرعية زيارة القبور والسلام على من فيها من الأموات وأنه بلفظ السلام على الأحياء.
    قال الخطابي: فيه أن اسم الدار يقع على المقابر وهو صحيح فإن الدار في اللغة تقع على الرابع المسكون وعلى الخراب غير المأهول.
    والتقييد بالمشيئة للتبرك وامتثالاً لقوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله} وقيل المشيئة عائدة إلى تلك التربة بعينها.
    وسؤاله العافية دليل على أنها من أهم ما يطلب وأشرف ما يسئل، والعافية للميت بسلامته من العذاب ومناقشة الحساب.
    ومقصود زيارة القبور: الدعاء لهم والإحسان إليهم وتذكر الآخرة والزهد في الدنيا، وأما ما أحدثه العامة من خلاف، كدعائهم الميت والاستصراخ به والاستغاثة به وسؤال الله بحقه وطلب الحاجات إليه تعالى به فهذا من البدع والجهالات وتقدم شيء من هذا.
    [رح60] ــــ وعن ابن عَبّاسٍ رضي الله عَنْهُما قالَ: مرَّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بقبُور المدينة فأَقْبلَ عليهمْ بوجْهِهِ فقال: "السّلامُ عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ الْقُبور، يَغْفِرُ اللَّهُ لنا ولكم، أَنْتُم سَلَفُنا ونْحنُ بالأثَر" رواهُ التِّرمذيُّ وقالَ حسنٌ.
    فيه أنه يسلم عليهم إذا مرّ بالمقبرة وإن لم يقصد الزيادة لهم.
    وفيه أنهم يعلمون بالمارّ بهم وسلامه عليهم وإلا كان إضاعة.
    وظاهره في جمعة وغيرها وفي الحديثين ــــ الأول وهذا ــــ دليل أن الإنسان إذا دعا لأحد أو استغفر له يبدأ بالدعاء لنفسه والاستغفار لها، وعليه وردت الأدعية القرآنية {ربنا اغفر لنا ولإخواننا} {واستغفر لذنبك وللمؤمنين} وغير ذلك.
    وفيه أن هذه الأدعية ونحوها نافعة للميت بلا خلاف وأما غيرها من قراءة القرآن له فالشافعي يقول: لا يصل ذلك إليه.
    وذهب أحمد وجماعة من العلماء إلى وصول ذلك إليه.
    وذهب جماعة من أهل السنة والحنفية الى أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كان أو صوماً أو حجاً أو صدقة أو قراءة قرآن أو ذكرا أو أي أنواع القرب، وهذا هو القول الأرجح دليلاً، وقد أخرج الدارقطني: أن رجلاً سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه كيف يبر أبويه بعد موتهما فأجابه: "بأنه يصلي لهما مع صلاته ويصوم لهما مع صيامه". وأخرج أبو داود من حديث معقل بن يسار عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اقرءُوا على موتاكم سورة يس" وهو شامل للميت بل هو الحقيقة فيه، وأخرج الشيخان "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يضحي عن نفسه بكبش وعن أمته بكبش".
    وفيه إشارة إلى أن الإنسان ينفعه عمل غيره وقد بسطنا الكلام في حواشي ضوء النهار بما يتضح منه قوة هذا المذهب.
    [رح61] ــــ وعن عائشة رضي اللَّهُ عَنْها قالت: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تَسُبُّوا الأموات فإنّهُمْ قدْ أَفْضَوا إلى ما قد قدَّمُوا" رواهُ الْبُخاريَّ.
    (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا) أي وصلوا (إلى ما قدَّموا) من الأعمال (رواه البخاري).
    الحديث دليل على تحريم سب الأموات. وظاهره العموم للمسلم والكافر. وفي الشرح: الظاهر أن مخصص بجواز سب الكافر لما حكاه الله من ذم الكفار في كتابه العزيز كعاد وثمود وأشباههم.
    قلت: لكن قوله "قد أفضوا إلى ما قدَّموا" علة عاملة للفريقين معناها أنه لا فائدة تحت شبهم والتفكه بأعراضهم، وأما ذكره تعالى للأمم الخالية بما كانوا فيه من الضلال فليس المقصود ذمهم بل تحذيراً من تلك الأفعال التي أفضت بفاعلها إلى الوبال وبيان محرمات ارتكبوها.

    وذكر الفاجر بخصال فجوره لغرض جائز، وليس من السب المنهي عنه فلا تخصيص بالكفار، نعم الحديث مخصص ببعض المؤمنين كما في الحديث: أنه مُرَّ عليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بجنازة فأثنوا عليها شرا الحديث وأقرهم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك بل قال: "وجبت" أي النار ثم قال: "أنتم شهداء الله". ولا يقال إن الذي أثنوا عليه شراً ليس بمؤمن لأنه قد أخرج الحاكم في ذمه: "بئس المرء كان لقد كان فظاً غليظاً". والظاهر أنه مسلم إذ لو كان كافراً لما تعرضوا لذمه بغير كفره.
    وقد أجاب القرطبي عن سبهم له وإقراره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لهم بأنه يحتمل أنه كان مستظهراً بالشر ليكون من باب لا غيبة لفاسق، أو بأنه يحمل النهي عن سب الأموات على ما بعد الدفن. قلت: وهو الذي يناسب التعليل بإفضائهم إلى ما قدموا فإن الإفضاء الحقيقي بعد الدفن.
    [رح62] ــــ وروى التّرمذيُّ عن المُغيرةِ نحْوَهُ لكن قال: "فَتُؤْذُوا الأحْياءَ".
    (وروي الترمذي عن المغيرة نحوه) أي نحو حديث عائشة في النهي عن سب الأموات (لكن قال) عوض قوله "فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" (فتؤذوا الأحياء) قال ابن رشد: إن سب الكافر يحرم إذا تأذى به الحي المسلم. ويحل إذا لم يحصل به الأذية، وأما المسلم فيحرم إلا إذا دعت الضرورة كأنه يكون فيه مصلحة للميت إذا أريد تخليصه من مظلمة وقعت منه فإنه يحسن بل يجب إذا اقتضى ذلك سبه وهو نظير ما استثني من جواز الغيبة لجماعة من الأحياء لأمور.
    (تنبيه) من الأذية للميت القعود على قبره لما أخرجه أحمد قال الحافظ ابن حجر: بإسناد صحيح من حديث[اث] عمرو بن حزم الأنصاري[/اث] قال: رآني رسول اللهصَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأنا متكيء على قبر فقال: "لا تؤخذ صاحب القبر" وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من الجلوس عليه" وأخرج مسلم عن أبي مرثد مرفوعاً "لا تجلسوا على القبور ولا تُصلّوا إليها".
    والنهي ظاهر في التحريم. وقال المصنف في فتح الباري نقلاً عن النووي: إن الجمهور يقولون بكراهة القعود عليه،وقال مالك: المراد بالقعود الحدث وهو تأويل ضعيف أو باطل انتهى. وبمثل قول مالك قال أبو حنيفة كما في الفتح. قلت: والدليل يقتضي تحريم القعود عليه والمرور فوقه، لأن قوله: "لا تؤذ صاحب القبر" نهى عن أذية المقبور من المؤمنين، وأذية المؤمن محرمة بنص القرآن {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا}

  4. #4
    عضو متميز
    تاريخ التسجيل
    Jan 2009
    المشاركات
    35
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: سلسة سبل السلام شرح بلوغ المرام


    شكرا على الموضوع
    رائع جدا الطرح والاروع منه من اختاره

    تقبل مروري الخاطف

  5. #5
    مشرف القسم العام
    قسم هندسة الكهرباء
    قسم هندسة الشبكات wan lan
    الصورة الرمزية سائر في ربى الزمن
    تاريخ التسجيل
    Nov 2008
    الدولة
    اليمن السعيد
    المشاركات
    5,301
    معدل تقييم المستوى
    22

    افتراضي رد: سلسة سبل السلام شرح بلوغ المرام

    اشكر لك مرورك العطر مدرب التنمية وان شاء الله نتشرف بزيارتك مره اخري

 

 

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
لتوفير الجهد والوقت عليك ابحث عن ما تريد في جوجل من هنا

جميع الحقوق محفوظة لـ شبكة توب ماكس تكنولوجي

Copyright © 2007 - 2010, topmaxtech.net . Trans by topmaxtech.

المعهد غير مسئول عن أي اتفاق تجاري أو تعاوني بين الأعضاء
فعلى كل شخص تحمل مسئولية نفسه اتجاه ما يقوم به من بيع وشراء و اتفاق مع أي شخص أو جهة