بسم الله الرحمن الرحيم
من صحت رؤيته سلم و سعد ومن ضلت رؤيته شقي وهلك .

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق
الوعد الأمين.
أيها الأخوة:
لو حللت العمل الذي يعمله الإنسان من أين يبدأ ؟ و ما أول حركة فيه؟ أنا أعتقد أنه يبدأ من رؤيا، فحينما ترى أن هذا العمل نافع و مفيد، هذه الرؤيا التي تراها أنت هي الباعث الأول لهذا العمل، إذاً ما يترتب على هذه الرؤيا قد يكون خيراً عميماً أو شراً مستطيراً، فمن صحت رؤيته سلم و سعد، و من ضلت رؤيته شقي و هلك، الآية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾
[ سورة الحديد: الآية 28]
يرحمكم في الدنيا و يرحمكم في الآخرة، و حالة الأمن التي يشعر بها المؤمن لا تقدر بثمن، يشعر أنه مع الله و أن الله معه، و أن الله بيده كل شيء، مصادر الخوف و القلق في الدنيا لا تعد و لا تحصى، أنت من خوف الفقر في فقر، أنت من خوف المرض في مرض، توقع المصيبة مصيبة أكبر منها:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
[ سورة الشعراء: الآية 213]
القلق له مصادر عديدة، و القلق مدمر، و القلق يذهب بهجة الحياة، و القلق يبطل نعمة المال، يبطل نعمة الصحة، القلق من أشد الأمراض فتكاً بالإنسان، هنا المؤمن يؤتكم كفلين من رحمته، مكفول في الدنيا و مكفول في الآخرة:
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾
[ سورة الرحمن: الآية 46]
لا تتوهموا جنة الدنيا قصر و لا دخل فلكي و لا مركبة فارهة و لا امرأة جميلة، الرحمة في الدنيا أن تكون آمناً، أن تكون نظيفاً حكيماً مطبقاً لمنهج الله عز وجل، واثقاً أن الله سيرحمك، مرة أخ أراد أن يكون طريفاً في جلسة قال لي لعله صادق أو لعله يتسلى: قال لي تقول المؤمن سعيد، المؤمن ليس بسعيد، قلت: كيف ؟ قال: لو أن في الجو حراً شديداً لا يوجد عنده مكيف المؤمن، مثلاً، لو هناك أزمة مواصلات ليس عنده سيارة، فالأزمة عامة، و أغلب الظن المؤمن فقير قلت له: لو أن إنساناً لا يملك شيئاً، له دخل أربعة آلاف، عنده ثمانية أولاد، بيته بالأجرة عليه دعوى إخلاء، كم حياة هذا الإنسان شقية ؟ و له عم غني جداً و يملك خمسمائة مليون و ليس له أولاد و مات بحادث بحسب المواريث الإسلامية هذه الخمسمائة مليون لمن ؟ لهذا الابن الأخ ينالها جميعاً، لكن لأن قضايا المالية معقدة و معاملات الإرث معقدة و حساب التركات معقد يمكن لا يقبض درهماً واحداً من هذه الثروة إلا بعد عام، لماذا هو في هذا العام هو أسعد الناس مع أنه لم يستطع أن يأكل لقمة واحدة زيادة عن العام السابق ؟ و لا أن يرتدي ثياباً جديدة، و لا أن يغير بيته، دخل بالوعد، دخل أن هذا المبلغ سوف يكون بيده بعد حين، سيشتري هذا البيت و هذه المركبة، سوف يغير نظام حياته، سوف يشتري بيتاً في المصيف، سوف يسافر لبلاد العالم، خلال سنة هو أسعد إنسان لا لأنه ملك شيئاً لكنه دخل في وعد قطعي و هذا معنى قوله تعالى:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
[ سورة القصص: الآية 61]
المؤمن موعود بالجنة، موعود إذا مات هو من أهل الجنة، هذا الوعد اليقيني لخالق الأكوان يمتص كل مشكلاته المؤقتة، أما الإنسان حينما يكفر بالآخرة كل شيء في الدنيا يتعبه، فلذلك المشكلة تبدأ من الرؤيا، سيدنا يوسف حينما دعته امرأة ذات منصب و جمال، امرأة العزيز أغلب الظن التقاها جميلة جداً و هي سيدته و قد أمرته و هو أعزب و غير متزوج و غريب و ليس لصالحها أن يفشو الخبر، ماذا رأى حتى رفض ؟ و مئة مليون شاب يقف في الموقف نفسه يقبل و يرى ذلك مغنماً كبيراً، سائق عمومي استوقفته امرأة ترتدي عباءة إلى أين يا أختي ؟ قالت: خذني أينما تشاء، فهم عليها و قضى حاجته و أعطته ظرفين ظرف فيه خمسة آلاف دولار طار عقله فرحاً بها و ظرف فيه رسالة، قرأ الرسالة كلمتين مرحباً بك في نادي الإيدز، انتهى، و الدولارات مزورة وضع في السجن، هذا حينما قالت له خذني إلى أي مكان تريد ماذا رأى ؟ رأى ذلك مغنماً فأقبل فدمر، سيدنا يوسف ماذا رأى ؟ رأى أن هذا تدميراً لعلاقته بالله قال:
﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾
[ سورة يوسف: الآية 23]
هذا حصن المؤمن، استقامته حصن، المؤمن حينما يعرف الله، مرة أخ هنا و الله يمكن أول أو ثاني خطبة أخطبها عام أربع و سبعين استوقفني بعد نهاية الخطبة و صار يبكي، رجل كبير في السن قال لي زوجتي تخونني، قال لي من سنتين و كل يوم، قلت له: مع من ؟ قال لي: مع جاري، كيف عرفها ؟ قال لي: الحق علي مرة سهر معنا قلت لها تعالي اجلسي معنا إنه مثل أخوك، بدأت العلاقة، قال لي يأتي لعندنا على العشاء أشرب كأس من الشاي أذهب نائماً فيها مخدر كأس الشاي، قلت هذا لو يحضر درس علم و يعلم أن الاختلاط مدمر ما فعل هذا، العلم حصن، العلم حارس:
يا بني العلم يحرسك و أنت تحرص المال، سيدنا يوسف ماذا رأى ؟ رأى في إقدامه على هذا العمل انقطاعاً عن الله و تدميراً لسعادته فابتعد و قال:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾
[ سورة يوسف: الآية 33]
أما هذا الثاني ماذا رأى ؟ رأى ذلك مغنماً كبيراً فكان في هذا المغنم تمتماً لذلك:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾
[ سورة الحديد: الآية 28]
هل يوجد إنسان أعظم ممن تولى الله تطمينه و تكفل له بسعادة الدنيا و الآخرة معاً، هذا حال المؤمن:
﴿ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾
[ سورة الحديد: الآية 28]
عنده بصيرة قد يرفض عملاً يكون سبب دماره، قد يرفض تجارة تكون سبب دماره، قد يرفض سفراً يكون سبب دماره، قد يرفض إقامة مستقرة في مكان تكون سبب دماره، عنده نور هذا النور واضح في هذه الآية وضوحاً جلياً، حتى إن بعضهم يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾
[ سورة البقرة: الآية 183]
لعل قلوبكم تستنير بنور الله فترون الحق حقاً فتتبعوه، و ترون الباطل باطلاً فتجتنبوه، أي هذا الذي سرق ماذا رأى ؟ سبعة سرقوا دكان صائغ في يبرود بعد أسبوعين أعدموا جميعاً، سرقوا ثلاثة عشر كيلو ذهباً ماذا رأوا ؟ رأوا السرقة غنيمة، يأتي مؤمن يرى العمل غنيمة يعمل، أي لحكمة أرادها الله أي الأعمال الصالحة متعبة، و الأعمال السيئة سهلة، لو كان العكس كان هناك مشكلة، الدخل الحرام كثير و سهل، أعلى تجارة في العالم المخدرات كيلو المخدرات ينتقل من مكان زراعته إلى مكان بيعه بألف ضعف، لكن هناك تجارة ربحها بالمائة عشرة، لكن دخل حلال، في هذا المبلغ القليل البركة، و فيه راحة نفسية، فالعبرة أن تملك ذلك النور، و الله أيها الأخوة ما من شخص على وجه الأرض يرتكب حماقة إلا بسبب أنه أعمى:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ﴾
[ سورة طه ]
كنت أعمى في الدنيا، و الآن و الله مئات الأشخاص، و الله آلاف الأشخاص عميان يرون الغنيمة في المعصية، و يرون الفقر في الطاعة، و العكس هو الصحيح، لكن الله سبحانه و تعالى يرخي الحبل لعباده بمعنى أنهم يفعلون ما يشاءون، الذي يعصي يعصي الله قد تكون صحته جيدة، و الذي يطيع يطيع الله و قد يكون جسمه عليلاً، لكن بعد حين تنكشف الحقائق.إذاً:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾
[ سورة الحديد: الآية 28]
فالمؤمن يمشي بنور الله، كل شيء يفعله يقيمه في ضوء القرآن و السنة، هل يرضي الله أن نفعل هذا ؟ هذه العلاقة محرمة، هذا العمل محرم، هذه التجارة محرمة، هذه السفرة محرمة، عنده بحياته منظومة قيم تضبطه، ينضبط بقيم المؤمن أما الكافر يتفلت من كل منهج و من كل قيمة لذلك يقع في شر عمله، المؤمن له مرجعية، مرجعيته تحصنه من أن يخطئ، أما الكافر أعمى يرى مصلحته تبرق في كسب المال الحرام يقبل عليه فلذلك البطولة أن تملك هذه الرؤيا، و هذه الرؤيا ثمنها:
﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾
[ سورة الحديد: الآية 28]
أي اتقوا أن تعصوا الله و طبقوا سنة رسول الله، عندئذ يتألق في قلبكم نوراً يريكم الحق حقاً و الباطل باطلاً.
يوجد آية ثانية: إسلامنا واقعي، إسلامنا فيه زواج، إسلامنا دين الفطرة، و الإنسان إذا طبق الإسلام لا يشعر أنه محروم أبداً، ليس في الإسلام حرمان أبداً لكن هناك توجيه، يوجد قنوات نظيفة، الله سبحانه و تعالى ذكر أهل الكتاب قال:
﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾
[سورة الحديد: الآية 27]
رهبانية ليست في أصل الدين، أن يودع الله في الإنسان الدافع الجنسي ثم يحرم نفسه الزواج مدى الحياة شيء غير طبيعي و غير واقعي لأن كل شيء الله أمر به يتوافق مع الفطرة، فالإنسان فطرته الزواج، الزواج من الفطرة، هم ابتدعوا رهبانية قال:
﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾
[سورة الحديد: الآية 27]
لم نلزمهم بها، هم ابتدعوها، يوجد استثناء رائع، اسمه استثناء منقطع لا متصل:
﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾
[سورة الحديد: الآية 27]
أي هم حينما كتبوها على أنفسهم توهموا أنها ترضي الله لكن لأنها تخالف منهج الله لا ترضيه، لأنها غير واقعية و لن يستطيع هؤلاء أن يطبقوها:
﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾
[سورة الحديد: الآية 27]
أي ما تحملوها لذلك هناك كثير من الانحرافات عند من حرم نفسه ما سمح الله له به:
﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)﴾
[سورة الحديد: الآية 27]
يستفيد من هذه الآية أن منهج النبي متكامل، منهج واقعي، منهج يتوافق مع فطرة الإنسان، فلا إفراط و لا تفريط، فالإسلام وسطي، أي ما حرم الزواج و لا عمل إباحية جنسية، عمل زواجاً مقنناً وفق منهج صحيح، ما حرمك المال قال لك لا تعمل كالهنود يستخدمون اليوغا، و لا قال لك انغمس في المال إلى قمة رأسك، قال:
﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾
[ سورة الملك: الآية 15]
لا تغص فيها امشِ في مراكبها:
﴿ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)﴾
[ سورة الملك: الآية 15]
فلذلك إسلامنا واقعي، و إسلامنا دين الفطرة، و إسلامنا متوازن، و إسلامنا وسطي، و إسلامنا يتوافق مع حاجات الإنسان الأساسية، و إسلامنا يحقق في الإنسان دوافعه الثلاث، دافعه إلى الطعام و الشراب، و دافعه إلى الجنس عن طريق الزواج، و دافعه إلى إثبات الذكر عن طريق التفوق في العمل الصالح، فكل الحاجات الأساسية في الإنسان محققة في الإسلام، فلذلك يمكن أن نقول الإسلام دين واقعي، دين الفطرة، دين التوازن، دين الوسطية، هذه الآية دليل جداً:
﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾
[ سورة الحديد: الآية 27]
ابتدعوها هم ما كتبناها عليهم، هم حينما كتبوها على أنفسهم، و ابتغوا فيما يقولون رضوان الله، و لأنها لم تكتب عليهم و لأنها ليست واقعية الجواب:
﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾
[ سورة الحديد: الآية 27]
﴿ فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾
[ سورة الحديد: الآية 27]
هنا استنباط رائع هنا، رائع جداً، أن الإنسان إذا اجتهد بنية طيبة لو كان اجتهاده خطاً له عند الله أجر، الله جل جلاله أكرم و أعظم و أرحم من أن تجتهد في مرضاته اجتهاداً خطأ ثم لا تثاب عليه قال:
﴿ فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ ﴾
[ سورة الحديد: الآية 27]
طبقوا هذا ابتغاء مرضاة الله :
﴿ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)﴾
[ سورة الحديد: الآية 27]
والحمد لله رب العالمين