بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
فضل الدعاء على المؤمن :
أيها الأخوة الكرام: المؤمن بإقباله على الله جل جلاله وباتصاله به، يعيش في جو مسعد، وكأنه في واحة وسط صحراء مقفرة، وكأنه في مكان مكيف وسط حر شديد، إن اتصاله بالله عز وجل، وإقباله عليه، يجعله في سعادة دائمة، وكأنه لا يعيش مع الناس، وكأنه لا يتأثر بما حوله من ضواغط ومتعبات ومزعجات.
إذاً فضيلة الدعاء، بل فضل الدعاء على المؤمن أنه يعيش جواً من الصلة بالله، وجواً من التوكل على الله، وجواً من الثقة بالمستقبل، وجواً من التوازن الذي يحققه الدعاء في نفس المؤمن، فعن ابن عباس قال: (( جاءَ رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله إنّي رأيْتُني اللّيلةَ - أي رأيت الليلة - وأنا نائِمٌ كأَنّي أُصَلّي خَلْفَ شجَرَةٍ فسَجدْتُ فَسَجَدَتِ الشَجرةُ لسُجودي، فَسَمِعْتُها وهي تقولُ: اللّهُمّ اكتُبْ لي بها عندَكَ أجراً، وضَعْ عَنّي بها وِزراً، واجعَلْهَا لي عندَك ذُخْراً، وتَقَبّلْها منّي كما تَقَبّلْتَها مِن عبدِك داودَ عليه الصلاة والسلام))
[ أبو داود عن ابن عباس]
رجل جاء النبي قال له: يا رسول الله صليت وراء شجرة فلما سجدت وجدت هذه الشجرة تسجد كما سجدت، وسمعتها تقول في المنام: ((اللّهُمّ اكتُبْ لي بها عندَكَ أجراً، وضَعْ عَنّي بها وِزراً، واجعَلْهَا لي عندَك ذُخْراً، وتَقَبّلْها منّي كما تَقَبّلْتَها مِن عبدِك داودَ عليه الصلاة والسلام))
قال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سجدة ثم سجد فقال مثلما أخبره الرجل من قول الشجرة .
رجل صلى ورأى مناماً وسمع الشجرة تقول هذا الكلام وهذا شيء بالمنام جائز، فالنبي عليه الصلاة والسلام من شدة تعلقه بالله عز وجل يبدو أنه أعجبه هذا الدعاء فصلى وقرأ السجدة وسجد ودعا بهذا الدعاء. علامة الإيمان أن الإنسان كلما استمع إلى شيء يزيده قرباً من الله يسرع إلى أخذه :
أيها الأخوة: هذه القصة ذات دلالة عميقة، على الإنسان أن ينتفع بكل شيء حوله، كل شيء يزيده قرباً من الله عز وجل يأخذه ويستنبطه، ولو كان من رجل وهو سيد الخلق، رجل عادي صلى ورأى مناماً، سمع الشجرة تدعو بهذا الدعاء فتمثله النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق و يوحى إليه، طبعاً هذا الموقف له بالقرآن أثر، سيدنا زكريا لما رأى مريم عليها السلام قد يأتيها الرزق: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾
[ سورة آل عمران الآية: 36 ]
على اختلاف ما فهمه المفسرون من هذا الرزق، بعضهم فهمه فواكه نادرة جداً، وبعضهم فهمه علم من الله عز وجل، أنت حينما تصغي إلى طفل صغير أو إلى فتاة صغيرة فإذا بها تنطق بالحكمة، وتنطق بمعان لم تأتِ على بال معظم الناس، تستغرب! قال: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾
[ سورة آل عمران ]
هذا موقف ثان، كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما حدثه ذلك الرجل أنه صلى ورأى شجرة تصلي معه وتدعو بهذا الدعاء، فأخذه النبي فوراً، معنى ذلك حالة المؤمن حالة المتلهف، أي شيء حوله يزيده قرب من الله عز وجل يأخذه فوراً، فكما أن هذا النبي الكريم سيدنا زكريا عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام حينما رأى من هذه الفتاة الطاهرة السيدة مريم حينما رأى هذا الرزق العظيم إما أنه علم تنطق به، أو أنه إكرام من الله عز وجل لم يعهد لأحد غيرها قال: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ﴾
تمنى أن يكون له غلام كهذه الفتاة، يؤتيه الله رزقاً من لدنه ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾
المؤمن متلهف، أي شيء حوله يقتبسه فوراً، والمستكبر لا يقتبس، المستكبر لو سمع حكمة، أو سمع تفسير آية، أو سمع حكماً شرعياً دقيقاً لا يتأثر ولا يأخذه، لكن علامة الإيمان أنه كلما استمعت إلى شيء يزيدك قرباً من الله عز وجل تسارع إلى أخذه والتقاطه وتسجيله. من ينظر الله إليه يعطيه سؤله :
شيء آخر: روى النسائي عن يعقوب بن عاصم عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال: لا إله إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، مخلصا بها روحه مصدقا بها لسانه وقلبه، إلا فتقت له السموات فتقا حتى ينظر الرب إلى قائلها من أهل الدنيا، وحق لعبد إذا نظر الله إليه أن يعطيه سؤله))
[روى النسائي عن يعقوب بن عاصم عن رجلين من أصحاب رسول الله ]
أعيد عليكم هذا الحديث: ((من قال: - أي عبد من دون استثناء- لا إله إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد - أي يملك ويحمدأ هناك من يملك ولا يحمد، هناك من يحمد ولا يملك، لكن الله جل جلاله - له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، مخلصا بها روحه - مخلصاً لهذا القول - مصدقا بها لسانه وقلبه إلا فتقت له السماوات فتقا حتى ينظر الرب إلى قائلها من أهل الدنيا - أي هذا العبد إذا قال هذا الكلام بإخلاص شديد، بعناية فائقة، بمصداقية عالية، لا بد من أن تفتق السماء لينظر الله إلى عمله - إلا فتقت له السماوات فتقا حتى ينظر الرب إلى قائلها من أهل الدنيا، وحق لعبد إذا نظر الله إليه أن يعطيه سؤله))
أيها الأخوة: هذا أيضاً من فعل الصحابة، كانت الصحابة يتمثلون هذا الكلام، لأنه كلمة صادقة، بإخلاص، بمصداقية، بإتقان، يقولها العبد لا بد من أن ينظر الله إليه، وحق لعبد إذا نظر الله إليه أن يعطيه سؤله. من خصائص الدعاء أن تثني على الله و تعلن عن ضعفك وابتهالك وتطلب حاجتك :
عندنا لفتة كريمة هو أن أحد العارفين سئل ما أفضل الدعاء يوم عرفة؟ فأجاب: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، هذا ليس دعاء هذا ثناء، لكن أجمع العلماء على أن الثناء دعاء:
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ﴾
داعياً ماذا قال؟ ﴿ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾
[ سورة الأنبياء الآيات: 87 - 88 ]
معنى هذا أن الثناء دعاء، أنت حينما تقول لإنسان: أنت رحيم، أنت منصف، أنت محسن، تقول له: أنت رحيم فارحمني، أنت منصف فأنصفني، أنت محسن فأحسن إلي، فالثناء دعاء، ذكرت لكم قبل يومين أن خصائص الدعاء أن تثني على الله عز وجل، وأن تعلن عن ضعفك وابتهالك، وأن تطلب حاجتك، فالدعاء المقبول فيه تمجيد لله، وفيه تذلل له، وفيه طلب للحاجة،" لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير قال هذا دعاء، دعاء يوم عرفة، وسيدنا يونس لما قال: ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾
أي أنقذني يا رب، الأمر بيدك، وأنا ظالم فأنقذني، قيل له: هذا ثناء لا دعاء، قال: أما تعرف قول الشاعر ؟ أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثنـاء
***
الثناء هو الدعاء :
أي الثناء هو الدعاء، لذلك روى الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم عشية يوم عرفة كان يقول:
(( اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، وأنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف المضطر، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسمه، ورغم لك أنفه. اللهم لا تجعلني بدعائك شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين))
[ الطبراني عن ابن عباس]
ماذا قال أحد الأنبياء ؟ ﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾
[ سورة مريم ٍ]
أي ما دعوتك قط إلا أجبتني، ما دعوتك وشقيت بعدم الاستجابة ﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾
إذاً أحاديث اليوم نستفيد منها أن هذا الإنسان أي شيء يسمعه حوله يقربه إلى الله يأخذه ويتبناه، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام لما رجل رأى مناماً وذكره له فصلى النبي وقرأ السجدة وسجد ودعا بهذا الدعاء. من تذلل لله أعزه و من خضع له رفعه :
الشيء الثاني: المؤمن يشتهي أن يكون مع المتفوقين، فحينما رأى هذا النبي الكريم السيدة مريم قد أتاها الله رزقاً لم يؤته أحداً غيرها قال:
﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾
الشيء الثالث: ثناؤك على الله دعاء.
الشيء الرابع: أركان الدعاء أن تمجد الله: ﴿لا إله إلا الله سبحانك " وأن تفتقر إليه " إني كنت من الظالمين﴾
دققوا مرة ثانية: (( اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، وأنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف المضطر، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسمه، ورغم لك أنفه. اللهم لا تجعلني بدعائك شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين ))
بالمناسبة كلما تذللت إلى الله أعزك الله، كلما خضعت له رفعك الله، كلما مرغت جبهتك في أعتابه نصرك الله عز وجل، والذي يستنكف أن يعبد الله يذله الله، ويجعله بين يدي اللئام كاليتيم، يبالغون بإهانته وإذلاله، تواضع يرفعك الله عز وجل: انظر إلى الأكحال وهي حجارة لانت فصار مقرها في الأعين
***
والحمد لله رب العالمين


تبنى النبي دعاء أحد الصحابة، اللهم إنك ترى مكاني….لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي