الأُضحيةُ
هي شاةٌ تذبح بعد صلاة عيد الأضحى، تقرُّباً إلى الله تعالى، إذ يقول سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ صلاَتي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالَمِين لا شَرِيْكَ لَهُ) [الأنعام: 162] ، والنُّسُكُ هنا هو: الذبح تقرباً إليه جلَّ شأنه (1) .
واختلف العلماءُ في حكمها، والذي يترجّحُ من الأدلةِ المختلفةِ هو الوجوبُ، وإليك أخي المسلم الأحاديثَ التي استدل بها الموجبون:
الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَن كان له سَعَةٌ ولم يُضحِّ فلا يقربَنّ مُصلانا" (2) .
ووجه الاستدلال به: أنه لما نهى مَن كان ذا سعة عن قربان المُصَلى إذا لم يُضَحّ، دَلّ على أنه قد ترك واجباً، فكأنه لا فائدة مِن التقرّب إلى اللّه مع ترك هذا الواجب.
الثاني: عن جُنْدُب بن عبد اللّه البَجَلي، قال: شهدتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: "مَن ذبح قبل أن يصلي فليُعد مكانها أخرى، ومَن لم يذبح فليذبح " (3) .
والأمرُ ظاهر في الوجوبِ، ولم يَأتِ (4) ما يصرفُهُ عن ظاهره.
الثالث: عن مِخْنَف بنِ سُلَيم أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم عرفة، قال: "على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعَتيرة (5) ، أتدرون ما العَتيرة؟ هذه التي يقول عنها الناسً: رَجَبِيَّة" (6) .
وهذا فيه الأمر بالوجوب، أما العَتيرة فهي منسوخة، وَنَسْخها لا يستلزم نسخ الأضحية، فهي باقية على الأصل.
قال ابن الأثير: والعَتيرة منسوخة، وإنما كان ذلك في صدر الإسلام (7) .
أما المخالفون، فإنّ أكبَر شبهاتهم على أن الأضحية سنة هي قولُه صلى الله عليه وسلم :
"إذا دخل العشر، فأراد أحدكم أن يُضحي فلا يمسَّ من شعره، ولامن بشره شيئاً" (8) .
فقالوا (9) : فيه دليل على أنّ الأضحية غير واجبة، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا أراد أحدكم أن يضحي.. " ولو كانت واجبة لم يُفوِّض إلى إرادته.
وقد ردّ على هذه الشبهة شيخُ الِإسلام ابنُ تيمية رحمه اللّه بعد أن رجح الوجوب قائلًا (10) :
ونفاةُ الوجوب ليس معهم نصٌّ ، فإنَّ عمدتهم قولُه صلى الله عليه وسلم : ((من أراد أن يضحي.. " قالوا: والواجب لا يُعلَّق بالِإرادة! وهذا كلام مجمل، فإن الواجب لا يُوَكّل إلى إرادة العبد فيقال: إن شئت فافعله، بل قد يُعلّق الواجب بالشرط لبيان حكم من الأحكام، كقوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَلَاةِ فَاْغْسِلُوا) [المائدة: 6] ، وقد قدّروا فيه: إذا أردتم القيام، وقَدّروا: إذا أردت القراءةَ فاستعذ، والطهارة واجبة، والقراءة في الصلاة واجبة، وقد قال: إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقيمَ) [التكوير:27] ، ومشيئة الاستقامة واجبة.
ثم قال رحمه اللّه (11) :
وأيضاً فليس كل أحد يجب عليه أن يُضحي، وإنما تجب على القادر، فهو الذي يريد أن يُضحي، كما قال: "من أراد الحجّ فليتعجل، فإنه قد تضل الضالة، وتعرض الحاجة" (2) ، والحج فرض على المستطيع، فقوله: "مَن أراد أن يُضحي.." كقوله: "من أراد الحج.. "..
وقد أجاب على استدلالهم المذكور، الإمامُ العينيّ (12) رحمه اللّه شارحاً قولَ صاحب "الهداية" (14) وهو: "والمراد بالِإرادة فيما رُوي واللّه أعلم ما هو ضد السهو، لا التخيير" فقال العيني رحمه الله:
أي: ليس المراد التخيير بين الترك والِإباحة، فصار كأنه قال: مَن قَصَدَ أن يضحي منكم، وهذا لا يدل على نفي الوجوب، كما في قوله: "من أراد الصلاة فليتوضأ" (15) ، وقوله: "من أراد منكم الجمعة فليغتسل " (16) أي: مَن قَصدَ، ولم يُرد التخيير، فَكَذا هذا.
اما استدلالُ عدمِ الموُجبين بتضْحيةِ النبي صلى الله عليه وسلم عن أُمّته كما في "سنن أبي داود" (2810) و "سنن الترمذي" (1574) و "مسند أحمد" (3/356) بالسند الصحيح عن جابر فليس هو استدلالاً قائماً؛ إذ يُحمل هذا جَمْعاً بين الأدلة على غير القادِر مِن الأمّةِ.
ومَن كان غيرَ قادرٍ على التضحيةِ سَقَطَ عنه حُكْمُ الوجوب أصْلًا، واللّهُ أعلمُ.

__________
(1) وانظر "منهاج المسلم" (355 356) .
(2) رواه أحمد (1/ 321) وابن ماجه (3123) وا لدارقطني (4/277) والحاكم (2/349) و (4/231) وسنده حسن.
(3) رواه البخاري (5562) ومسلم (1960) والنسائي (7/224) وابن ماجه (3152) والطيالسي (936) وأحمد (4/312 و313) .
(4) سوف يأتي الرد على أهم ما استدل به القائلون بسنيّة الأضحية، فانتظرهُ.
(5) قال أبو عُبيد في "غريب الحديث" (1/195) : هي ذبيحة في رجب، يتقرب بها أهل الجاهلية، ثم جاء الإسلام فكان على ذلك، حتى نسخ بعد.
(6) رواه أحمد (4/215) وابن ماجه (3125) وأبو داود (2788) والبغوي (1128) والترمذي (1518) والنسائي (7/167) وفي سنده أبو رملة، وهو مجهول، وللحديث طريق أخرى عند أحمد (5/76) ، وسنده ضعيف، لهذا حَسَّنه الترمذي في "سننه" وقواه الحافظ في "الفتح" (10/ 4) وانظر "الإصابة" (9/151) .
(7) "جامع الأصول" (3/317) وانظر "الأدلة المطمئنة على ثبوت النسخ في الكتاب والسنة" (103 105) و"المغني " (8/650 651) .
(8) رواه مسلم (1977) وأبو داود (2791) والنسائي (7/211 و212) والبغوي (1127) وابن ماجه (3149) والبيهقي (9/266) وأحمد (6/289) و (6/301 و 311) والحاكم (4/220) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/181) من طرق عن أم سلمة رضي اللّه عنها.
و (العشر) : هي أوْلُ العشر الأوائل من ذي الحجّة.
(9) "المجموع" (8/301) و"مغني المحتاج" (4/282) و"شرح السنة" (4/348) و"المحلى" (8/3) .
(10) "مجموع الفتاوي " (23/162164) .
(11) المصدر السابق.
(12) رواه أحمد (1/214 و323 و355) وابن ماجه (3883) وأبو نعيم في "الحلية" (1/114) عن الفضل، وفي إسناده ضعف.
لكنه ورد من طريق أخرى عند أبي داود (1732) والدارمي (2/28) والحاكم (1/448) وأحمد (1/225) وفيه ضعف أيضاً، لكنه بطريقيه حسن إن شاء اللّه، وانظر "إرواء الغليل" لأستاذنا الألباني (4/168169) .
(13) في "البناية في شرح الهداية" (9/106 114) .
(14) هوكتاب "الهداية شرح البداية" في فقه الحنفية، وهو من الكتب السائرة في المذهب، كما في "كشف الظنون" (2/2031 2040) وهو من تصنيف الإمام علي بن أبي بكر المَرْغِينَاني المتوفى سنة (593 هـ) ترجمته في "الفواثد البهية" للّكنوي (141) .
(15) لم أجده بهذا اللفظ، وما بعده يغني من حيث الاستدلال، ولعلّه لم يورده على أنه حديثٌ!
(16) رواه بهذا اللفظ مسلم (844) عن ابن عمر، وقد رواه البخاري عنه بلفظ آخر برقم (877) و (894) و (919) .