• العفو عند المقدرة


من عجائب القصص في هذا الموضوع هي قصةٌ جَرَتْ في منزل (الخيزران) زوجة الخليفة العباسي المهدي، وأم الخليفتين الهادي وهارون الرشيد، وقد روتها زينب بنت سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس زوجة المهدي الأولى فقالت:

كنت جالسة عند الخيزران،فدخلت علينا جارية فقالت: إنَّ بالباب امرأة لها جمال وخلقة حسنة وعليها من مظاهرالبؤس ما يحزن لها القلب، وهي تستأذن عليك، وقد سألتها عن اسمها فأبت أن تخبرني به،فقالت الخيزران: أدخليها، فدخلت امرأةٌ كأجمل ما ترى العين من النساء، فقعدت إلىجنب عضادة الباب متضائلة ثم قالت: أنا مارية بنت مروان بن محمد الأموي - آخر خلفاءبني أمية - قالت زينب بنت سليمان: فاستويت جالسة وقلت لها قبل أن تجيبها الخيزران: لا حياك الله ولا قرَّبك، و الحمد لله الذي أزال نعمتك وهتك سترك وأذلَّك، أتذكرينيا عدوَّة الله حين أتاك عجائز أهل بيتي يسألنك أن تكلمي صاحبك في الإذن بدفنإبراهيم بن محمد، فأسمعتهنَّ أسوأ الكلام، وأخرجتهن ذليلات حقيرات، قالت: فضحكتمارية بأحسن ثغر برغم بؤسها وقالت: أيْ ابنة عمي، أيّ شيء أعجبك من صنيع الله بيعلى فعلتي تلك السيئة، وعلى قسوتي وعقوقي، فوالله لو لم يكن من عقاب الله لي إلا ماترين من حالي لكفى، فهل تريدين الاقتداء بي حتى يصيبك ما أصابني، ثم قامت تهمُّبالخروج.

هنا غضبت الخيزران وقالت: ليس هذا لك يا زينب، فهذه المرأة قصدتنيفي داري، وطلبت عوني وجواري، ونادت مارية طالبة منها الجلوس معتذرةً إليها، فرجعتمارية بنت مروان قائلة: والله يا أخيَّة ما جاء بي إلا الضيق والجهد الذي لا يخفىعليك من حالي، فقامت إليها الخيزران فعانقتها، وأمرت جواريها أن يقمن برعايتهاوالعناية بها، ومنحتها من الملابس والطيب ما يليق بمثلها، ثم أجلستها بجوارها وأمرتلها بالطعام، وطلبت منها أن تقيم معها في بيتها، وأن تعد نفسها في مقام أختها،فاستبشرت مارية ودعت للخيزران بخير، ووافقت على البقاء معها لأنها قد


فقدت القريبوالصديق بعد زوال الخلافة عن بني أمية، وقتل والدها آخر خلفائهم (مروان بنمحمد).

قالت زينب: وكنت في غاية الضيق لما صنعت الخيزران بهذه المرأة التيقست علينا ذات يوم، فعزمت على إخبار الخليفة المهدي بالأمر، ورواية الحادثة له،فعله يؤيد موقفي ويؤنِّب الخيزران على ما فعلت، ويا ليتني لم أخبره، فقد ثار غضبهوقال: يا زينب! أهذا مقدار شكرك لله عز وجل على نعمته وقد أمكنك من هذه المرأة علىهذه الحالة التي وصفتها، فوالله لولا مكانك من قلبي لحلفت ألا أكلمكِ أبداً فما هذهبأخلاق الكرم يا زينب، والله لا يُرضيني منك إلا الاعتذار منها والإحسان إليها، ثمشكر الخيزران على موقفها الكريم، وامتدحها، ثم تحدَّث إلى مارية بنت محمد بن مروانقائلا: اطمئني فما أنت إلا في بيتك وبين أهلك، وما أنا إلا في موضع أخيك الذي يرعاكويحرص على راحتك.

قالت زينب: فتعلمت من الخيزران والخليفة المهدي دروسا فيالعفو عند المقدرة، وراجعت نفسي، وأعلنت توبتي إلىربي.
هكذا يكون العفو عند المقدرة صفة جليلة كريمة، تدلُّ على نقاء القلب،وصفاء النفس، وكرم الطباع، ولا يزيد بها صاحبها إلا عزة ومكانة في الدنيا والآخرة - أذا خلصت النيَّة، وصفت السريرة.