ومضة عن الاعجاز البلاغي للقران الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يأت نص بأن آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تسمّى معجزات، ولكنها في الحقيقة معجزة؛
فلا برهان لمن نفى ذلك،
وأصرّ على تسميتها آية: فكلا المعنيين صحيح..
ومن آيات عبدالله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- القرآن، وهو معجز؛ لأن الله تحدّى به تعجيزاً أن يأتي أحد بسورة مثله(1).. وإذا كان القرآن بلسان العرب فلا ينفي ذلك تميّز أسلوبه،
لأن كلام المخلوقين من العرب عربي بمفردته ورابطته وصيغته ونحوه وصرفه، ولكن لكل متكلم ميزته البلاغية في الأسلوب؛
ولهذا كانت المفردة والنحو نقلاً لغوياً، وكان تركيب الكلام عملاً عقلياً وإحساساً جمالياً لا يتوقف على النقل عن العرب إلا من جهة النحو..
وكتاب إعجاز القرآن لأبي بكر محمد بن الطيب (- 403هـ) -رحمه الله تعالى-
أرى أنه مشروع كتاب عن الإعجاز، لأنه أجمل كثيراً، واستطرد، ولم يحفظ لنا الغربال من كلامه إلا قليلاً من التقعيد والتأصيل،
ولكنه مفيد في الدراسات الأدبية الجمالية. وحَصْرُ وجوه البلاغة، وميزة أسلوب القرآن متعذر على الفرد؛ لأن القارئ يبدو له بعد مئة قراءة مثلاً ما لم يبد له بعد عشر قراءات؛ لهذا ينبغي أن يكون الاستقصاء من قبل المؤلفين في التفسير، وأن يُبدي كل دارس للقرآن -إن لم يتعنَّ لتفسيره- جهده الفردي..
ومن تذوقي رأيت الحذف وعدم الحذف في قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون) (سورة يس/ 45)،
وقوله سبحانه: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين) (سورة يس/ 47).
ومن المعلوم أن الإيجاز بمثل الحذف مطلب بلاغي إذ لم يوجد لبْس.. ولقد جاء الحذف في الآية الأولى لسببين: أولهما أنه لا احتمال ألبتة للمحذوف إلا هذا المقدَّر،: (لم يتقوا ما بين أيديهم)؛ فالمحذوف معروف بداهة..
وثانيهما أنه جعل على المحذوف دلالة بالآية التي بعدها مباشرة، وهي قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) (يس/ 46)؛ فهم إذن لم يتقوا..
ولم يحذف في الآيةالثانية؛ لأنه لو حذف لتعيّن أن المحذوف بداهة (لم ينفقوا)، وليس هذا هو المراد، بل المراد شيء لا يُعرف بداهة؛ لأنه ليس في الكلام دلالة عليه، فتعين البيان دون حذف، والمُبيّن هنا هو قولهم (أنطعم... إلخ)...

ومن ذلك توظيف المفردة الغريبة توظيفاً معنوياً تفسيره أنه لا يقوم مقام هذه المفردة غيرها، وتوظيفاً جمالياً أيضاً مثل كلمة (ضيزى) فهي ذات معان مجتمعة يُراعى فيها النقص والجور والتحقير، ولا شيء يُعبّر عن هذه المعاني مجتمعة غيرها(2) إلا بإطناب بعدد من المفردات، ولهذا قال ربنا -سبحانه وتعالى عن الكفار -لمّا جعلوا أوثانهم المؤنثة كاللات والعزّى بنات الله، وهم يستاؤون إذا بُشروا بالأنثى-: (تلك إذا قسمة ضيزى) (سورة النجم/ 22).

وأما الناحية الجمالية فهي مراعاة الفواصل؛ لأن القرآن بلسان العرب، وعلى ذوقهم الجمالي، وكل الآيات على وزن (ضيزى) بفتح الحرف الأخير ومده بالقصر..

وهذا نموذج من استعراض الباقلاني -رحمه الله- حول الحذف وُفّق في بعضه، وضلّ في بعضه.. قال: «فالحذف الإسقاط للتخفيف.. وحذف الجواب كقوله -سبحانه وتعالى: (ولو أن قرآناً سُيّرت به الجبال أو قُطعت به الأرض أو كُلّم به الموتى) (سورة الرعد/ 31) كأنه قيل: لكان هذا القرآن..
والحذف أبلغ من الذكر؛ لأن النفس تذهب كل مذهب في القصد بالجواب»(3).
قال أبو عبدالرحمن: الجواب كما ذكره الباقلاني، والحذف أبلغ بلا ريب، ولكن ليس لأن النفس تذهب مذاهب؛ فهذا في الآيات التي تحتمل أموراً؛ ليميز الله أهل العلم بالاستنباط، ويرفع درجة بعضهم على بعض، ويمتحن إيمان من قصُر استنباطه؛


وإنما الحذف لوضوح المحذوف وتعيُّنه من جهتين: أن السياق عن القرآن الذي أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- في الآية التي قبلها مباشرة.. وأخراهما: المعهود الشرعي كما في قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) (سورة الحشر/ 21)، وفي كلا الآيتين (لو). وعن بيان القرآن قال الباقلاني: «تأمل قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين) (سورة الزخرف/ 5) في شدة التنبيه على تركهم الحق والإعراض عنه، وموضع امتنانه بالذكر والتحذير»(4).

قال أبو عبدالرحمن: المحاسن ههنا قد يتجدّد استنباطها لدى القارئ، والملحوظ هنا أن التعبير غير مباشر بل إيحائي، والإيحاء قمة الإحسان الجمالي؛ فلم يقل (أنترك تذكيركم)؛
لأن ذلك أسلوب مباشر، والسياق يحيل إلى قرآن مبين في أم الكتاب، فأوجز الإحالة إليه بالذكر، وذكر أن الذكر -وهو تبشير وتحذير- قائم؛ بدليل الضرب والصفح؛ فلا يكون ذلك إلا لشيء قائم مستمر حتى تقوم الحجة، ويعمى عن ذكر الله من حادّ الله فيُطبعُ على قلبه،

وأشار النص الكريم بالإيحاء إلى أنهم على إسرافهم منذ جاءهم الذكر؛ لأن الله -سبحانه- بالسؤال الإنكاري التوبيخي لم يصرف الذكر عنهم وهم في حال أنهم مسرفون.. ومن الحذف البليغ قوله -سبحانه: (وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعَلاَ بعضهم على بعض) (سورة المؤمنون/ 91)،

فالجواب المقدّر (لو كان معه إله) هذا معروف بداهة، ومعروف بالتعدّد في السياق، وهو (كل إله)، ولو ذكر الجوب لكان إطناباً بلا حاجة، ثم تأتي قوة الاحتجاج بهذه الآية الكريمة التي هي من نصوص برهان التمانع بلا معاياة فلسفية، بل بوضوح يُخرس الأميّ الساذج، ويخرس المتمنطق المتكلّف بجملتي الانقسام في الخلق، والتصادم بين الخالقين..
وورود البليغ والأبلغ في المقارنة بين الآيات من القرآن الكريم قد جاء على ذائقة العرب في تأنيسهم بالبليغ فلا يملّون، ثم مفاجأتهم بالأبلغ فيطربون ويشتاقون إلى المزيد.. وقال الباقلاني أيضاً عن القرآن الكريم: «فكان كما وصفه الله -جل ذكره- من أنه نور؛ فقال: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) (سورة الشورى/ 52)،

فانظر إن شئت إلى شريف هذا النظم، وبديع هذا التأليف، وعظيم هذا الرّصف.. كل كلمة من هذه الآية تامة، وكل لفظ بديع واقع.. قوله: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) يدل على صدوره من الربوبية، ويبين عن وروده عن الإلهية..

وهذه الكلمة بمنفردها وأخواتها كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير تميّز عن جميعه، وكان واسطة عِقده، وفاتحة عَقده، وغرة شَهره، وعين دهره.. وكذلك قوله: (ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا)، فجعله روحاً؛

لأنه يحيي الخلق فله فضل الأرواح في الأجساد، وجعله نوراً؛ لأنه يضيء ضياء الشمس في الآفاق، ثم أضاف وقوع الهداية به إلى مشيئته، ووقف وقوف الاسترشاد به على إرادته،

وبيّن أنه لم يكن ليهتدي إليه لولا توفيقه، ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الإيمان لولا تعليمه، وأنه لم يكن ليهتدي؛
فكيف كان يهدي لولاه فقد صار يهدي ولم يكن من قبل ذلك ليهتدي فقال: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) (سورة الشورى/ 52-53).
فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث فالكلمتان الأوليان مؤتلفتان؛ وقوله: (ألا إلى الله تصير الأمور) كلمة منفصلة مباينة للأولى قد صيّرهما شريف النظم أشد ائتلافاً من الكلام المؤالِف، وألطف انتظاماً من الحديث الملائم وبهذا يبين فضل الكلام، وتظهر فصاحته وبلاغته»(5).
قال أبو عبدالرحمن: منطلق الباقلاني ههنا من قواعد البلاغة بعد تأصيلها؛ فهو يريد استقلال كل جملة ووفاءها بمعناها.. ولا ريب أن كلام الله لا يقارن ببلاغة البشر لو ورد نصّ منه خلال كلامهم؛ فمأخذه هنا من الإيجاز مع البيان مع جمال الأسلوب.. ثم لاحظ الإيحاء بمعان كثيرة كالنور والروح.. ومن معاني النور التبصير بحججه الواضحات وإزالة الشبه، والكشف عن بعض المعارف التي يجهلها البشر، وإيضاح ما به من قوام دينهم ودنياهم..
وأخذ من تأصيل البلاغيين للوصل والفصل فضيلة الفصل بين المؤتلفين والمتباينين..
والواقع أن الائتلاف في المقارنة بين الآيات من ناحية العلاقة بينهما، وأن الفصل جاء من استئناف الجملة، والله المستعان.
وكتبها لكم : أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري ـ عفا الله عنه ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال أبو عبدالرحمن: الله سبحانه قادر على أن يصرف الناس عن محاولة الإتيان بمثل القرآن، وقادر على أن يصرفهم إن حاولوا بإماتة البلاغة عليهم فيعجزوا، ويكون هذا الصرف إعجازاً.. ولا يُنكر هذا المعنى على المعتزلة بدعوى أنه غير مُتصوّر؛ وإنما ينكر عليهم لأنهم دخلهم الشكّ في تميّز كلام الله بما فيه من إعجاز بلاغي وغيره فلجؤوا إلى الصّرفة.
(2) انظر تاج العروس 87/8/ دار الفكر.
(3) إعجاز القرآن ص268/ مؤسسة الكتب الثقافية.
(4) إعجاز القران ص272.
(5) إعجاز القرآن ص200-199.