الدارسين يحجمون عن وضع تعريف للخيال ، ذلك أنه من الصعوبة بمكان حد الخيال في تعريف جامع مانع ، لما لهذه الملكة من غموض في الكنه والماهية ، ولما لها من خفاء في كيفية النشاط ، وفي آلية العمل ، ولما لها أيضا من ارتباطات معقدة بقوى العقل والروح والنفس ، وبمدركات الواقع الخارجي التي لا تكاد تحصر ، غير أن معظم الدارسين متفقون على أن الخيال قوة خلاقة " قادرة على استقبال صور جميع الأشياء المحسوسة وعلى تخيلها عندما لا تعود على اتصال مع الحواس " ثم هي بعد ذلك تتصرف فيها " بالتركيب والتحليل والزيادة والنقص " حتى تشكلها " في نظام جديد ، وفي علاقات لم توجد من قبل " .

ويجمع نخبة من الفلاسفة والدارسين على أن الخيال إحدى قوى العقل الواعي ، فهو " القدرة التي يستطيع العقل بها أن يشكل صورا للأشياء أو يشاهد الوجود " كما أنهم " يقيدون مفهوم الخيال بأنه ما صدر عن وعي عقلي " وعليه فإن " العمل الفني ليس نتاج الحواس كما يظن البعض بل هو نتاج العقل " و ذهب هيجل إلى أن " العمل لا يكون عملا فنيا إلا بقدر ما يكون من نسل العقل ويواصل الانتماء إلى عالم العقل " لأن الفن " يبدع الأشكال الحسية منبجسة من أعماق الوعي " لكن ذلك الوعي " غير تام ولا يمكن له أن يكون تاما لأن صاحبه يتعامل مع حقائق كامنة وراء الظواهر والمحسوسات " وهناك أمر هام أود الإشارة إليه هو أن الخيال لا يمكنه أن يعمل إلا على مساحة الوجدان ، حتى إن المواد المشكلة لـ " تنتظم بتأثير قوته وقوة الانفعال داخل نسق متحد منسجم " وعلى هذا الأساس عرف الخيال بأنه " قوة ذات نشاط ذهني توحد بين القلب والعقل ، بين الوعي وأللاوعي ، تثار بحافز عميق ويصحبها انفعال منظم ، لتنتج صورا وأشكالا تعبر عن تجارب متجاذبة متنافرة لكنها منظمة منسجمة وتؤلف كلا موحدا " .

ويعتمد الخيال اعتمادا كليا على المحسوسات إذ إنه " لا يستطيع التعامل مع أي شيء لا يملك جزئيا أو طيا شكلا حسيا " وعناصره إنما يستمدها " من الوجود فيركبها تركيبا جديدا " وقد ذهب تندال " إلى الاقرار بأن العالم المرئي ليس سوى مخزن للصور والاشارات التي تظل بحاجة إلى من يكتشفها إلى أن يأتي الخيال ويهيئ لها مكانها ويضفي عليها قيمتها " ومن هنا فـ " الخيال الفني لا يستعين بالواقع الحسي لذاته بل لتجاوزه إلى قيمه ورمزياته ، فيصبح الواقع الحسي أفكارا ذاتية ، وتصبح الأفكار الذاتية واقعا حسيا " .

ويمكن القول بأن الخيال يكاد يكون اعتماده الكلي على الصور البصرية لأن " الإحساسات البصرية هي أهم مصدر للإدراك ، كما أنها هي الإحساسات التي يصح نعتها بالجمال ، حتى لقد عرف ديكارت الجمال بقوله : " هو ما يروق العين " " و" حتى إننا لنتخيل فكرة الجمال ذاتها في شكل بصري " وذهب إديسون إلى أننا " لا نستطيع أن نتخيل صورة ليست بصرية في أساسها " لأن " كل الأنشطة الحيوية المعقدة داخل العقل تحدث نتيجة لنشاط التفكير الفعال الذي يحدث في حالة الصور "

وبالمقابل فقد جعل بعضهم الصورة السمعية " من أكثر الأحداث الذهنية وضوحا " وعليه فإنها المعتمدة الأولى في النشاط التخيلي ، لما لحاسة السمع - أساسا - " من أهمية في إدراك الجمال فهي عماد كل نمو عقلي وأساس كل ثقافة ذهنية " .

وذهب آخرون إلى عدم التفرقة بين حاستي السمع والبصر في اعتماد النشاط التخيلي عليهما حيث إنهما " من أفضل الحواس الخمس وأشرفها التي وهب الباري جل ثناؤه " للإنسان ، واعتقد سانتيانا أن " حاستي البصر والسمع هما حاستي الجمال العلييين في مقابل الحواس الدنيا ( اللمس والذوق والشم ) التي لا تخدم الأغراض العقلية بمثل ما تفعل تانك الحاستان " وأما هيجل فقد قصر الفن عليهما لما لهما من ارتباط مباشر بالعقل .

وإذن فـ " الصورة ] البصرية والسمعية [ هي أداة الخيال ، ووسيلته ، ومادته الهامة التي يمارس بها ، ومن خلالها فاعليته ونشاطه " وهي جانبه الملموس الذي يمكن أن نتبين خلاله آثار العقل والوجدان ، وعلى هذا فقد عرفها باوند بأنها " تلك التي تقدم تركيبة عقلية وعاطفية في لحظة من الزمن "

يمر الخيال في أثناء العملية الإبداعية بثلاث مراحل أولاها مرحلة التصور الذهني وفي خلال هذه المرحلة يتم " استحضار صور المدركات الحسية ... من غير تصرف فيها بزيادة أو نقص أو تغيير أو تبديل " وتجتمع الصور في الخيال كما هي فالصور " البصرية ملونة ، وبحسب هيئاتها الهندسية الطبيعية والصناعية " والصور السمعية كذلك ، وما التصور البصري سوى استدعاء ما سبق أن شوهد فعلا ، وكذلك التصور السمعي ، هو استدعاء ما قد تم سماعه بالفعل .

ينقسم التصور بحسب " لوك " إلى " بسيط ( منشأه حس واحد ) ومركب ( منشأه عدة أحاسيس ) فتصور الحرارة بسيط بينما تصور الجسمية مركب لأنه إنما يأتي من تصور الحجم والوزن .. و .. " " ويقسم " لوك " التصور أيضا فقد يكون تصورا لذات شيء ، وقد يكون تصورا لحالة ، وقد يكون تصورا لعلاقة بسائر الأشياء " و" قد يكون مثبتا، يكشف عن وجود شيء، وقد يكون منفيا يكشف عن عدمه " " والتصور هو عبارة عن قدرة عقلية " واعية لأنه " علم النفس بما فيها من صور الحقائق الخارجية "

ويتم استدعاء الصور عن طريق الذاكرة من العقل الباطن بحسب علاقات أربع هي : (1) الوحدة (2) أو عدمها (3) المقارنة (4) إثبات شيء لشيء

" ويختلف الناس من حيث نوع الصور الذهنية التي تغلب على تفكيرهم ، فبعضهم يسهل عليه تصور المناظر وأشكال الأشياء ، وآخرون يسهل عليهم تصور الأصوات والأنغام .. وقد حدا هذا ببعض العلماء إلى تصنيف الناس حسب الصور الغالبة على تفكيرهم إلى طرز تصورية فهناك " البصريون " و " السمعيون " والشعراء بطبيعة الحال " يختلفون فيما بينهم من حيث قدراتهم على التخيل ، مما قد يؤدي ببعضهم إلى الإلحاح على نمط بعينه من أنماط الصورة "

وبطبيعة الحال فالتفكك الفني عادة يمثل طبيعة العلاقة بين الصور في مرحلة التصور ، لأن هذه المرحلة تسبق عمل الخيال ، وفيها يتم فقط جمع الصور ذات النمط الواحد تقريبا ، ووهم من ظن أنه بوصوله إلى هذه المرحلة قد أبدع نصا ، لذا فقد سميت هذه المرحلة بالوهم أو التوهم ، يقول الدكتور إحسان عباس : " الوهم هو القدرة على جلب صور متباينة لشبه ما فيما بينها ، وهذه الصور ثابتة محدودة وتبقى حين تجمع كما كانت وهي مفرقة ، وليس بينها علاقة طبيعية أو خلقية .. والفعالية التي تفسرها هي الاختيار وهو مظهر من مظاهر الإرادة " ويقول في موضع آخر : " الوهم هو القوة على الحشد والجمع "

وثاني المراحل التي يمر بها الخيال في أثناء العملية الإبداعية مرحلة التخمر . في هذه المرحلة تتجمع المحسوسات على سطح الوجدان ثم يشرع الخيال في فحصها حتى تتكون الآراء حول علاقة المحسوسات ببعضها أي حتى يتكون الفكر الناشئ من فحص الخيال للعالم في صورته الذهنية ، وتتميز هذه المرحلة بالكمون من ناحية الخيال ، فالحركة الحقيقية للذاكرة ، وأما الخيال فمهمته تنحصر في محاولة تفهم العلاقات الفكرية بين المحسوسات ، وكذا تبين الأثر الشعوري الممكن تكونه بعد عملية التشكيل التي ينتوي عملها لاحقا .

وثالث المراحل التي يمر بها الخيال في أثناء العملية الإبداعية مرحلة التشكيل . في هذه المرحلة يقوم الخيال " بتركيب وتأليف للمدركات الحسية على نحو يغاير ما كانت عليه إما لأنها في الأصل عرفت مفردة ، أو لارتباطها بمكان معين ، أو زمن خاص فهاهنا يتجاوز الخيال حدود المكان والزمان والعلاقات القائمة واقعيا " " فيضع الأشياء المألوفة في نظام جديد ، وفي علاقات لم توجد من قبل " ومثل هذه المرحلة تتطلب من المبدع ما يسمى بالذكاء الحيزي ، ذلك الذي عرفه العالم الإنكليزي " نايت " بأنه " القدرة على التفكير في العلاقات تفكيرا بنائيا موجها نحو هدف " والذي وصفه أيضا ريتشارد ليفيتون بأنه " قدرة على التفكير بشأن الصور ونقل العالم الحيزي – المرئي " وما ذلك الاحتياج إلا لأن " فكرة التشكيل في الفن تمتزج فيها التلقائية والمنطقية ... فعنصر التصميم لابد أن يوجد في الفن " .