كان الانتصار العظيم الذي حقَّقه صلاح الدين الأيوبي في معركة حطِّين أكبر كارثة حلَّت بالصليبيين منذ أن أقاموا إماراتهم الصليبية في الشام، حيث فقدوا زهرة فرسانهم، وقُتلت منهم أعداد هائلة، ووقع في الأسر مثلها، حتى قيل: إن من شاهد القتلى قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هناك قتيل.
وأصبح الصليبيون بعد هزيمتهم في حطِّين في قبضة صلاح الدين وتحت رحمته، يستطيع أن يفعل بهم ما يشاء لو أراد، ويعاملهم بما يستحقون على جرائمهم وخطاياهم، ولكنه كان كريم النفس، رفيع الخلق، ظاهر الرحمة، لم يسلم نفسه للتشفي والانتقام، وارتفع بسلوكه فوق شهوة الثأر، وهو ما جعله موضع الإجلال والتقدير.



الاتجاه إلى عكا

بعد حطِّين لم يتجه صلاح الدين إلى بيت المقدس لتحريره، وكان ذلك أمرًا ميسورًا، بل اتجه إلى عكا أولاً؛ ليحرم الصليبيين من قاعدة بحرية هامة تصلهم بأوروبا، ويقطع عنهم العون الذي يأتيهم منها، وكان في عزمه أن يستولي على المدن الصليبية التي تقع على ساحل البحر المتوسط، حتى يسهل عليه القضاء على الصليبيين في الداخل.
ولم يَكَد صلاح الدين يقترب من عكَّا حتى دَبَّ الفزع والهلع في نفوس الصليبيين، وسارع حاكمها إلى تسليم المدينة في مقابل تأمين أهلها على أرواحهم وممتلكاتهم، ودخل صلاح الدين المدينة في (2 من جمادى الأولى 583هـ = 10 من يوليو 1187م)، وعامل أهلها معاملة كريمة، وغنم المسلمون في عكا غنائم طائلة.

عكا قاعدة حربية

اتخذ "صلاح الدين" من عكَّا قاعدة حربية ومركزًا لعملياته العسكرية لتحرير المدن التي في قبضة الصليبيين، واستدعى أخاه الملك العادل من القاهرة؛ ليعاونه في استكمال الفتح، فقدم عليه ومعه عساكره، وقد نجحت جيوش صلاح الدين في استرداد الناصرة، وصفورية، والفولة في داخل فلسطين، وحيفا، وقيسارية، وأرسوف وهي المواقع التي تقع على الساحل.
ثم توجه صلاح الدين إلى "صيدا" فاستسلمت له دون مقاومة، ثم اتجه إلى بيروت وكانت مدينة حصينة، لكنها لم تُغْنِ عن أهلها شيئًا، وأدركوا عدم الجدوى من الدفاع والصمود، فاستسلمت هي الأخرى، في (29 من جمادى الأولى 583هـ = 6 من أغسطس 1187م)، ثم قصد صلاح الدين "جبيل"، وكان حاكمها "هيو الثالث" أسيرًا في دمشق منذ انتصار حطِّين، فعرض عليه صلاح الدين فكَّ أسره مقابل تسليم جبيل فأجابه إلى ذلك.
وقبل أن يتجه صلاح الدين لتحرير بيت المقدس قرَّر أن يستولي على عسقلان، وكانت مركزًا هامًّا يتخذه الصليبيون قاعدة لتهديد مصر، وقطع المواصلات بينها وبين الشام، واستمات الصليبيون في الدفاع عن عسقلان، ولم تفلح محاولاتهم في دفع الحصار، فطلبوا التسليم مقابل تأمينهم على أرواحهم فكان لهم ما طلبوا.


تحرير بين المقدس

استعدَّ صلاح الدين لاسترداد بيت المقدس، وجهَّز قواته لهذه المهمة الجليلة التي طال انتظار المدينة الأسيرة لها، وكان صلاح يرغب في أن تستسلم المدينة وفق الشروط التي استسلمت لها المدن الصليبية الأخرى من تأمين أهلها على أنفسهم وأموالهم، والسماح لمن شاء منهم بالخروج سالمًا، ولكن العزّة بالإثم أخذت بحاميتها، ورفضوا ما عرضه صلاح الدين عليهم، وظنوا أن حصونهم مانعتهم من ضربات صلاح الدين، ولم تُجْدِ محاولاتهم للصمود والثبات، فطلبوا الأمان وألحُّوا عليه، وكان صلاح الدين قد أقسم ليفتحنَّها بحد السيف بعد رفضهم عرضه العادل الرحيم، ولكن صلاح الدين استجاب لطلبهم بعد مشاورة أصحابه، ووافق على أن يغادر المسيحيون المدينة مقابل فداء قدره 10 دنانير للرجل، وخمسة للمرأة، ودرهم واحد للطفل.
ودخل صلاح الدين مدينة بيت المقدس - ردَّ الله غربتها وأعادها إلى المسلمين قريبًا - في ليلة الإسراء (27 من رجب 583هـ = 12 من أكتوبر 1187م)، وكان في صحبته أخوه الملك العادل، وقد أظهر صلاح الدين تسامحًا كبيرًا مع فقراء الصليبيين الذين عجزوا عن دفع الجزية، ورفض هدم كنيسة القيامة، ومعاملة الصليبيين بمثل ما عاملوا به المسلمين عند استيلائهم على المدينة.


الحملة الصليبية الثالثة



حصن المرقب
ثار الغرب الأوربي عندما جاءته الأنباء بفاجعة معركة حطين واسترداد صلاح الدين لبيت المقدس ولكثير من المدن والقلاع الصليبية، ولم يبق في يد الصليبيين سوى بعض المدن والقلاع مثل صور التي عجز صلاح الدين عن فتحها، وطرابلس، وقلعة أنطرسوس، وحصن الأكراد، وإنطاكية، وحصن المرقب، وبعض المدن الصغيرة.
وأسفرت استغاثة الصليبيين في الشرق بالبابوية وملوك الغرب الأوربي عن نتائج إيجابية، وثارت أوربا التي جهزت حملتها المعروفة بالحملة الصليبية الثالثة التي تزعمها "فردريك بربروسا" إمبراطور ألمانيا، و"فيليب أوغسطس" ملك فرنسا، و"ريتشارد قلب الأسد" ملك إنجلترا.
تحركت القوات الألمانية مبكرا في (23 من ربيع الأول 584هـ= 11 من مايو 1189م) قبل القوات الفرنسية والإنجليزية، وسلكت الطريق البري عبر آسيا الصغرى، غير أن الإمبراطور لقي حتفه غرقا أثناء عبوره أحد أنهار آسيا الصغرى، وسرعان ما تبدد جيشه الكبير.
أما القائدان الآخران فقد وصلا بقواتهما إلى صقلية، وإن كان كل منهما قد سلك طريقا غير الآخر، وأمضيا فترة في نزاع حول الأمور الداخلية في صقلية، ثم أبحر القائدان إلى الشام.


فلول الصليبيين تتجه إلى عكا

اتجهت فلول الصليبيين إلى عكا بقيادة "جاي لوزجنان" ملك بيت المقدس الذي أفرج عنه صلاح الدين وكان أسيرا عنده منذ هزيمة الصليبيين في حطين، وتعهد ألا يشهر سيفا في وجه صلاح الدين، غير أنه نكث بوعده، وكان يمكن للمسلمين أن يقضوا على تلك الجموع في أثناء سيرها قبل أن يستفحل خطرها، ولكن صلاح الدين كان مشغولا بمنازلة قلعة الشقيف أرنون، ولم يصدق ما فعله جاي لوزجنان، وظن أن في الأمر خدعة لحمله على ترك القلعة، ولم ينتبه لخطورة الموقف إلا بعد اقتراب الصليبيين من عكا، وحاول علاج الموقف؛ فأرسل حملة لمنع تقدم الصليبيين، ولكنها لم تصل إلا بعد أن احتل الصليبيون مراكزهم في مواجهة عكا.
أقام الملك الصليبي معسكره على مقربة من عكا، ولحق به صلاح الدين على الفور في (15 من رجب 585 هـ= 29 من أغسطس 1189م) وعسكر بجيشه على مقربة منه، وكان موقف الصليبيين حرجا بعد أن أصبحوا محاصرين بين جيوش صلاح الدين وحامية المدينة المسلمة، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان؛ فقد وصلت مقدمات الحملة الصليبية الثالثة، وحاصرت المدينة من البحر، وكان لذلك فعل السحر في نفوس الصليبيين الموجودين أمام عكا فارتفعت معنوياتهم وزادت ثقتهم، ثم لم يلبث أن جاءت قوات صليبية من صور التي صمدت أمام ضربات صلاح الدين، وكانت جموع الصليبيين قد احتشدت بها بعد سقوط مدنهم في يد صلاح الدين.


صمود المدينة

لم ينتظر صلاح الدين كثيرا بعد وصوله إلى عكا، وبدأ هجوما ضاريا على الصليبيين وأنزل بهم خسائر فادحة، ولم تنفعهم كثرتهم أمام إصرار صلاح الدين، وكاد الأمر ينتهي بفك حصارهم عن المدينة، ولكن حدث أن انتشرت الأوبئة في المنطقة لكثرة جيف القتلى من الفريقين، فابتعد صلاح الدين بقواته قليلا عن تلك المنطقة الموبوءة؛ فانتهز الصليبيون هذه الفرصة السانحة وأحاطوا المدينة بخندق يفصل بينهم وبين صلاح الدين، وانقطع طريق المسلمين بذلك إلى عكا، وإن كان ذلك لم يمنع صلاح الدين من الاتصال بحامية عكا عبر البحر أو الحمام الزاجل، وكانت الإمدادات تصل إلى المدينة عبر البحر حتى تساعدها على الصبر والثبات.


سقوط المدينة

ظل الوضع على ما هو عليه دون أن يحقق أحد الفريقين نصرا حاسما حتى وصلت قوات فيليب أوغسطس في (ربيع الأول 587 هـ= إبريل 1191م) فجمع شمل الصليبيين تحت زعامته، وكانت الخلافات بدأت تشتعل بينهم، ووحد جهودهم لمحاربة المسلمين، وبدأ على الفور في مهاجمة عكا، وإشعال الحماسة في نفوس الصليبيين، فأخذت آلات الحصار تقذف أسوار المدينة قذفا متصلا، ثم لم يلبث أن وصل ريتشارد قلب الأسد إلى عكا في (ربيع الآخر 587هـ= يونيو 1191م) فازداد به الصليبيون قوة إلى قوة.
وأظهرت الحامية الإسلامية في عكا ضروبا من الشجاعة والصبر والفداء والتضحية في مقاومة الحصار، ودفع هجمات الصليبيين المتوالية برا وبحرا، ولكن ذلك لم يكن كافيا للصمود، بعد أن اجتمعت أكبر قوتين في أوربا للاستيلاء على المدينة، وتوحدت أهدافهما، وأصبح لا مفر من سقوط المدينة المنكوبة، ودارت مفاوضات بين الفريقين لتسليم المدينة، واتفق الطرفان على أن يسمح الصليبيون لحامية عكا بالخروج سالمين، في مقابل فدية قدرها 200 ألف دينار، وأن يحرر المسلمون ألفين وخمسمائة من أسرى الصليبيين.
دخل الصليبيون عكا في (16 من جمادى الآخرة 587 هـ= 11 من يوليو 1191م) بعد أن حاصروها نحو عامين، غير أن ريتشارد قلب الأسد تجاهل بنود الاتفاق عندما دخل عكا، ونقض ما اتّفق عليه؛ حيث قبض على من بداخلها من المسلمين وكانوا نحو 3 آلاف مسلم وقام بقتلهم، ولم يقابل صلاح الدين الإساءة بالإساءة، ورفض أن يقتل من كان بحوزته من أسرى الصليبيين.
وظلت المدينة في قبضة الصليبيين حتى قام القائد المسلم "
الأشرف بن قلاوون" بتحرير المدينة بعد أكثر من 100 عام.

===========================