أدرك المسلمون منذ الخلافة الراشدة الأهمية الإستراتيجية لجزيرة قبرص تلك الجزيرة التي تقع في أقصى شرق البحر المتوسط وتعد من كبرى جزره، ومن الجزر التي تشكل خطرا على الوجود الإسلامي في منطقة البحر المتوسط سواء في الشام مصر وبلاد المغرب أو الأناضول بعد ذلك، فقد كانت الجزيرة من الناحية الإستراتيجية عقبة في طريق التجارة الإسلامية في البحر المتوسط، وخطرا على الوجود الإسلامي في شواطئ المتوسط، وخطرا على قوافل الحجيج، وخطرا على الدولة الإسلامية عند قيام أي حلف صليبي لمحاربة المسلمين، فهي لا تبعد عن الشواطئ التركية إلا أميالا قليلة، ولا تبعد عن سواحل الإسكندرية إلا بأقل من أربعمائة كيلو متر، كما أنها قريبة من سواحل الشام بحوالي مائة كيلو متر.ولذا كانت المحاولات الإسلامية متكررة لإخضاع قبرص، وكانت أول هذه المحاولات في عهد الخليفة الراشد "عثمان بن عفان" رضي الله عنه، حيث استأذنه والي الشام آنذاك "معاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنه في القيام بغزوة بحرية إلى قبرص، فوافق "عثمان" واشترط عليه ألا ينتخب للغزو في البحر أحدا من الناس وألا يجبر أحدا على الخروج، وأن من يخرج معه للغزو يكون برغبته الحرة، ولعل ذلك يرجع إلى قلق المسلمين من البحر والقتال فيه؛ لأنهم أهل بادية وصحراء ولم يكن لهم سابق خبرة بالبحر.
وفي عام (28هـ= 649م) -على اختلاف في الروايات التاريخية- تمكن الأسطول الإسلامي الذي انطلق من الشام بقيادة "عبد الله بن قيس"، والأسطول الذي انطلق من مصر بقيادة "عبد الله بن سعد" من فتح قبرص التي كانت تحت سيطرة البيزنطيين، وكان في هذه الغزوة عدد من كبار الصحابة منهم "عبادة بن الصامت" و "أم حرام بنت ملحان" رضي الله عنهما، وتوفيت أم حرام في تلك الجزيرة ودفنت بها، وعقد المسلمون مع أهل قبرص معاهدة كان من أهم بنودها: ألا يقوم أهل قبرص بغزو المسلمين، وأن يخبروا المسلمين إذا قام الروم بالسير لقتال أهل الإسلام، وأن يدفعوا جزية سنوية قدرها سبعة آلاف دينار.
وعندما وقعت الفتنة الكبرى بين المسلمين في عهد الإمام "على بن أبي طالب" رضي الله عنه، استغل القبارصة هذه الظروف السياسية التي تمر بها الدولة الإسلامية وامتنعوا عن دفع الجزية، فقام "معاوية" بغزوهم مرة أخرى واستولى على الجزيرة وأسكن فيها عدة آلاف من جند المسلمين، ونقل إليها عددا من سكان مدينة بعلبك، لكن الظروف السياسية التي عاصرت القتال بين
"عبد الله بن الزبير" و"عبد الملك بن مروان" شجعت البيزنطيين على السيطرة على الجزيرة.
وتكررت المحاولات الإسلامية لإعادة السيطرة على الجزيرة أعوام (130هـ= 748م) و(158هـ= 775م) و(184هـ= 800م) و(190هـ= 806م).
وقد لعبت قبرص دورا معاديا للمسلمين إبان الحروب الصليبية؛ فقد استولى عليها ملك بريطانيا
ريتشارد قلب الأسد سنة (587هـ= 1191م) وجعلها قاعدة حربية للإمداد والتموين، وبعد رحيل الصليبيين عند بلاد الشام كانت قبرص هي المكان التي تجمعت فيه تلك القوى والفلول الصليبية للإغارة على السفن والشواطئ الإسلامية، وكان من أشد تلك الغارات عملية القرصنة التي قاموا بها على مدينة الإسكندرية سنة (767هـ= 1366م) بقيادة بطرس الأكبر حيث احتلوا الإسكندرية 3 أيام وقتلوا الكثير من سكانها واغتصبوا الكثيرات، وحملوا معهم الكثير من الأسرى. وقد خلد المؤرخ السكندري "النويري" في كتابه "الإلمام" هذه الوقائع.
وأمام هذا القلق الإستراتيجي قام
السلطان المملوكي "الأشرف برسباي" بفتح قبرص وضمها إلى دولته سنة (829هـ=1426م)، لكن البنادقة قاموا بالسيطرة وإخضاعها لسيطرتهم في عام (895هـ= 1490م).



العثمانيون بعد القانوني


عندما توفي
السلطان العثماني "سليمان القانوني" في (13 من صفر 974 هـ= 7 من سبتمبر 1566م) أثناء حملته الهمايونية الثالثة عشرة عن عمر تجاوز الـ71 عاما بعد فترة من الحكم دامت أكثر من 46 عاما، خلفه في الحكم ابنه "سليم الثاني" وكان من أم روسية تسمى "روكسلان" ولم يكن ذلك الابن على مستوى أبيه من القوة والحزم والهيبة، ولم يكن مؤهلا لحفظ الفتوحات التي تركها والده.
وأغرى ضعف سليم الثاني الكثير من القوى العالمية للتحرش بالدولة العثمانية، لكن وجود بعض الرجال العظام في مراكز الدولة القيادية المختلفة مثل الصدر الأعظم صوقللو باشا منع الدولة من الضعف، كما أن روح الجهاد والقوة العسكرية كانت ما تزال كامنة في أوصال العثمانيين رغم غياب "سليمان القانوني".
واجه سليم الثاني تمردا في اليمن قام به الزيديون سنة (هـ= 1567م) أدى إلى انحصار العثمانيين في الشريط الساحلي، ولم يتمكن العثمانيون من استرداد سيادتهم على اليمن إلا بعد قرابة العامين.
ومن ناحية أخرى قام السلطان "سليم الثاني" بتجديد الهدنة مع شارل التاسع ملك فرنسا في عام (980هـ=1596م) وتم منح الفرنسيين عددا من الامتيازات التجارية في البحر المتوسط؛ بل إن فرنسا أرسلت بعض البعثات إلى المناطق التي يقطنها النصارى في بلاد الشام.



الفتح.. لعلاج الانكماش

وأمام حالة التراجع التي دخلت فيها الدولة العثمانية بعد رحيل القانوني فكر عدد من كبار رجال الدولة في التصدي لهذا التراجع ووقفه، ولذا ركزوا التفكير في قبرص باعتبارها العقبة الباقية في طريق التجارة البحرية المنتعشة بين مصر وإستانبول، حيث كانت تلك الجزيرة ذات الموقع الإستراتيجي المهم تخضع لسيطرة البنادقة في ذلك الوقت، وكان هؤلاء يعتدون على سفن الحج والتجارة في البحر المتوسط، كما أن العلاقات كانت قلقة بين العثمانيين والبنادقة في ذلك الوقت رغم وجود بعض الاتفاقيات، ويرجع ذلك إلى طبيعة التنافس التجاري بين الجانبين.
وكان البنادقة يسيطرون على قبرص رغم أن القبارصة ينتمون في غالبيتهم إلى الروم، ولذا تعرضوا لمعاملة قاسية من البنادقة.
وكانت خطورة قبرص الإستراتيجية على الدولة العثمانية إذا دخلت الدولة العثمانية في حرب ضد البندقية، فقرب قبرص من الأراضي والشواطئ العثمانية بدرجة كبيرة يجعلها رأس حربة ضد أماكن متعددة في الدولة العثمانية في الأناضول ومصر والشام وشمال إفريقيا، خاصة أن هناك تاريخا من العلاقات الدامية بين الدولة العثمانية والبندقية في البحر المتوسط.
وقد نشأت فكرة فتح قبرص عند السلطان سليم الثاني بمشورة عدد من كبار رجال الدولة، ورغم ذلك فإن بعض الشخصيات العثمانية الكبيرة كانت تخشى من فتح قبرص وترى أن الممالك النصرانية لن تمرر هذا الفتح بسهولة للدولة العثمانية، خاصة أن الدولة العثمانية كانت تعاني من حالة من التراجع بعد وفاة القانوني، وأن الحرب إذا قامت فلن تقتصر على الدولة العثمانية والبندقية فقط، بل لا بد أن تمتد لتصبح حربا بين أوربا والعثمانيين في وقت حرج بالنسبة للعثمانيين، وأن الحرب مع البندقية لا بد أن تقود إلى تكوين تحالف مسيحي ضخم ضد العثمانيين.
ولكن السلطان حزم الأمر في المسألة وتم استصدار فتوى شرعية تقول بأن قبرص كانت بلدا إسلاميا، وأن البنادقة استولوا عليها، وأن الواجب إخراجهم من تلك الأراضي التي كانت خاضعة في وقت سابق للمسلمين، وهو ما يعطي العثمانيين شرعية في الحرب.



الفتح.. وأحداثه

وقد رتب العثمانيون لعملية فتح قبرص استعدادات كبيرة خاصة في الجانب البحري نظرا لما يتمتع به البنادقة من شهرة في القتال البحري، وامتلاكهم لأسطول بحري قوي، والتوقعات العثمانية تؤكد أنهم لا بد أن يحصلوا على معونات وإمدادات من الممالك المسيحية، ولذا جمعت الدولة العثمانية أكبر عدد من السفن في تاريخها حتى ذلك الوقت، حيث خصصت حوالي 400 سفينة لهذه المهمة، وظهر أسطول الاستطلاع العثماني أمام سواحل قبرص في ( رمضان 977 هـ= مارس 1570م).



أما الأسطول السلطاني بقيادة "داماد بيالة باشا" فقد أقلع من إستانبول في (1 من ذي الحجة 977 هـ= 15 من مايو 1570)، وتولى قيادة الجيش البري الوزير "لالا مصطفى باشا"، وكان الجيش العثماني مكونا من 60 ألف مقاتل بري، والبقية من مقاتلي البحر العثمانيين، وشارك في هذا الفتح عدد من مشاهير القادة العثمانيين مثل
"خير الدين باربروسا باشا" و"عروج باشا" أكبر قادة البحر في ذلك الوقت.
وقد استطاع الأسطول العثماني أن يدخل ميناء "ليماسول" في (18 من المحرم 978 هـ=1 من يوليو 1570م) ولم تمض إلا أسابيع قليلة حتى بدأ العثمانيون في عملياتهم العسكرية والبحرية في قبرص التي استمرت ثلاثة عشر شهرا، وبدأ العثمانيون في محاصرة مدينة "لفكوشة" التي كان بداخلها عشرة آلاف جندي بندقي، وبها 15 مدفعا وتمكن العثمانيون من فتحها بعد حصار ومعارك استمرت 49 يوما في (29 من ربيع الأول 978 هـ= 9 من سبتمبر 1570م).
وبدأت المدن في قبرص تسقط تباعا، حيث انتقل العثمانيون إلى حصار مدينة "ماغوسا" الشديدة التحصين التي كان بها أكثر من 7 آلاف مقاتل و75 مدفعا و5 من كبار قادة البندقية الأكفاء، إضافة إلى أنها تسلمت كميات كبيرة من المؤن والذخائر، ودخلها 1600 جندي بندقي آخرون، وهو ما جعل عملية حصارها وقتال من فيها عملية مرهقة للغاية، خاصة أن العثمانيين علموا بالتحالف المسيحي الذي عقده بابا روما "بيوس الخامس" في (21 من ذي الحجة 978 هـ= 25 من مايو 1571م) وضم غالبية الممالك والكيانات المسيحية في أوربا.
وأمام هذا الموقف المتأزم من الناحية الإستراتيجية والعسكرية أرسلت إستانبول إلى المقاتلين العثمانيين في قبرص إمدادات أخرى، وأبحرت "عمارة" (مجموعة إمدادات بحرية) بحرية عثمانية كبيرة إلى إيطاليا بهدف الحيلولة دون تقديم أي مساعدات للبنادقة المُحاصرين في قبرص، ونجحت هذه العمارة التي كانت مكونة من 400 سفينة في القيام بمهمتها.
أما القائد العثماني "لالا مصطفى" فقد أبقى معه 40 سفينة فقط واستمر في حصار "ماغوسا" حتى سقطت في (10 من ربيع الأول 979هـ=1 من أغسطس 1571م) بعد 13 شهرا من القتال والحصار، وقام العثمانيون بإسكان عدد كبير من سكان الأناضول في قبرص، وهو ما أدى إلى زيادة سكان قبرص بنسبة كبيرة، فقد كان عدد سكانها عند الفتح العثماني حوالي 120 ألف نسمة فارتفع إلى حوالي 360 ألف نسمة، وكان العثمانيون يطلقون على قبرص "يشيل أدة" أي الجزيرة الخضراء.
واستمرت السيطرة العثمانية على قبرص حوالي 307 أعوام، حتى تنازلت عنها الدولة العثمانية لبريطانيا سنة (1296هـ=1878م) مقابل مبلغ مالي يُقدر بحوالي 92 ألف جنيه إسترليني.