السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أ‌- عوامل مهدت لظهور حركة الترجمة ( الترجمة قبل الإسلام ) :
أدت الفتوحات الاسكندر الأكبر إلى انتشار الحضارة اليونانية في غرب آسيا و مصر مما اكسب هذه المنطقة طابع خاص أطلق عليه بعض المؤرخين اسم الحضارة الهلينستية و هي ممتدة على الفترة من وفاة الاسكندر الأكبر يونيو 323 ق.م. إلى القرن السابع الميلادي عندما جاء الفتح العربي. و تعد اشهر مراكز الحضارة اليونانية:

- الإسكندرية - انطاكيا - نصيبين - جنديسابور

قبل ظهور الإسلام نهض السريان بدور كبير في ترجمة معارف اليونان و علومهم إلى اللغة السريانية، و الذي ساعد السريان على ذلك:
عندما استقر السريان في جنديسابور التابعة للفرس أقام كسرى انوشروان ( 531- 579 م) بيمارستان للطب. و تقع جنديسابور هذه في إقليم خوزستان و قد أسسها سابور الأول لتكون معسكرا و معقلا لأسرى الروم و لذلك كانت اللغة اليونانية معروفة فيها.

عندما استقر العلماء اليونان في جنديسابور اشتهروا بالدراسات الطبية و ذاعت شهرتهم و صار علماؤها يضعون قوانين العلاج و قد ظلت قائمة و مستمرة في ظل الإسلام، حتى أن الخليفة أبا جعفر المنصور ( 136- 158 ﻫ) عندما مرض احضروا له جرجيس بن بختيشوع رئيس أطباء جنديسابور و منذ ذلك الوقت اشتهر آل بختيشوع في بلاط الخلافة ببغداد.

في حين اشتهار مدرسة جنديسابور ظلت الإسكندرية بمصر ( تأسست 331 ق.م.) و مدرسة انطاكيا شمال الشام (تأسست 300 ق.م.) تمتلك قواعد ثابتة في الفلسفة و المعارف و العلوم اليونانية.

نجد أن الفلسفة و الفكر اليوناني اتخذ طابع مميز في الشرق في العصر الهلينستي لاصطباغه بصبغة شرقية واضحة و من ابرز ما يمثل هذا هو مذهب الافلاطونية المحدثة التي اشتهرت به مدرسة الإسكندرية و الذي أسسه أفلاطون المصري أو السكندري.

و عن المدارس الشرقية التي استوعبت الفكر اليوناني سرعان ما غدت مراكز إشعاع للحضارة اليونانية و اشتهرت بالفلسفة و الطب و التشريح و الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء و قد جاء نشاط هذه المدارس مصحوبا بنشاط في الترجمة، إذ حرص السريان على نقل الكثير من الكتب اليونانية التي ضاعت أصولها إلى السريانية، و هي احد اللغات الآرامية. و من اشهر مراكز السريان هو مركز مدينة الحران إلى الجنوب من الرها، و قد كانت السريانية بمثابة اللغة العالمية للمعرفة و العلم في منطقة الشرق الأدنى و ذلك قبل ظهور الإسلام. و كان يعيب على الترجمة السريانية أنها ترجمة حرفية مما سبب ضياع المعنى للنص المترجم في بعض الأحيان. و قد أسهم السريان كذلك في ترجمة بعض الكتب عن الفهلوية و هي اللغة الفارسية و منها: كتاب "كليلة و دمنة" و "السندباد".

عندما ظهر الإسلام و فتح المسلمون فارس و العراق و الشام و مصر في القرن 7م، رؤوا ما في هذه البلاد من مدارس تحتضن حضارة اليونان و فكرهم و لم يكونوا على جهل بهذه الثقافات جهلا تاما، لان بعض المؤثرات الثقافية من المدارس السابقة تسربت إليهم. و بفضل ما أثاره الإسلام من حماسة للعلم و حثهم على التسامح إزاء الديانات الأخرى أدى ذلك إلى تزود المسلمين بقسط نافع من الثقافات التي التقوا بها و لم يكن السبيل إلى معرفتها إلا بترجمتها.



ب. نشأة حركة الترجمة و ظهورها ( الترجمة بعد الإسلام) :

هناك رأيين مختلفين حول نشأة حركة الترجمة في الحضارة الإسلامية، الأول من الكتاب المقرر و الثاني يتعلق بالرأي الأصح في مسالة نشأة الترجمة في الإسلام:



- و يقول هذا الرأي أن الجذور الأولى لحركة الترجمة إلى العربية في أوائل العصر الأموي حيث ذكر في المصادر أن خالد بن يزيد بن معاوية و الملقب بحكيم آل مروان أرسل إلى الإسكندرية في طلب بعض الكتب في الطب و علم الصنعة (الكيمياء) لترجمتها إلى العربية و ذلك بعدما أقصى عن الخلافة طواعية و يقول عنه:

§ ابن النديم: و قد ذكر في "الفهرست" أن خالد كان يسمى حكيم آل مروان و كان فاضلا في نفسه و له محبة في العلوم، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان الذي نزلوا مصر و تفصحوا بالعربية و كان هذا أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة.

§ ابن خلكان: وصف خالد بن يزيد بقوله انه كان اعلم قريش بفنون العلم و له كلام في صنعة الكيمياء و الطب و كان متقنا لهذين العلمين.

§ الجاحظ: قال عنه انه كان أول من أعطى الترجمة و الفلاسفة و قرب أهل الحكمة و رؤساء كل صنعة.

- و يقال أن خالد بن يزيد استقدم من الإسكندرية راهبا بيزنطيا اسمه مريانس و طلب منه أن يعلمه علم الصنعة و لم يكتفي بذلك و إنما طلب من آخر اسمه اصطفن ترجمة ما أتى به مريانس إلى العربية.

- و قد اتجه بعض الباحثين الأوروبيين المحدثين أن يشككوا فيما نسب إلى خالد بن يزيد من جهود في الترجمة إلى العربية مستهدفين غمس الإسلام و طمس دوره في ظهور أعظم حضارة عرفتها البشرية في العصور الوسطى، و في ذلك شككوا أيضا في شخصية جابر بن حيان الكوفي ( القرن 2 ﻫ) الذي يعتبر أبا لعلم الكيمياء و أيضا شككوا في قسطنطين الأفريقي الذي ينسب إليه ترجمة مؤلفات العرب في الطب إلى اللاتينية مما مهد لظهور مدرسة سالرنو الطبية. و قد ذهب الكاتب لوتسيان كاسيموفتش إلى التشكيك في شخصية محمد في كتابه" لم يكن هناك محمد إطلاقا" .

- و من الخلفاء الأمويين الذين استكملوا جهود الترجمة بعد خالد بن يزيد، عمر بن عبدالعزيز( 99- 101 ﻫ) حيث اصطحب معه عند ذهابه إلى الخلافة في المدينة احد علماء مدرسة الإسكندرية بعد أن اسلم على يديه ابن ابجر واعتمد عليه في صناعة الطب. و قد قام الخليفة عمر بن عبدالعزيز أيضا بنقل علماء مدرسة الإسكندرية إلى مدرسة انطاكيا سنة 100 ﻫ لكن هذا لا يعني أن مدرسة الإسكندرية أغلقت بل ظلت قائمة في العصر العباسي و من اشهر أطبائها:





- و من المدارس التي ازدهرت بالعلوم و الترجمة:







- عبدالله محمد البتاني - أبو جعفر الخازن





- ترجع حركة الترجمة إلى صدر الإسلام في عهد الرسول الكريم (ص) و بتكليف منه، فنُقل عن الصحابة رضوان الله عليهم: "من عرف لغة قوم امن شرهم" . و من اشهر من تعلم السريانية في عهد الرسول هو زيد بن ثابت و قد تعلمها في ستين يوما و تعلم كذلك الفارسية و الرومية.

- أقدم بردة في الإسلام تعود إلى سنة 22 ﻫ و عليها نص باسم عمرو بن العاص و به ثلاثة اسطر باليونانية و الترجمة بالعربية تحتها، و بالتالي الترجمة ظهرت في صدر الإسلام و ليس منذ العصر الأموي.



ج. تطور حركة الترجمة و ازدهارها:

حركة الترجمة إلى العربية أخذت تتسع و تزداد قوة في العصر العباسي بفضل:





و في حين أن الترجمة في العصر الأموي اقتصرت على الكيمياء و الفلك و الطب، نجد انه في العصر العباسي صارت أوسع نطاقا بحيث شملت الفلسفة و المنطق و العلوم التجريبية و الكتب الأدبية.



من أمثلة اهتمام الخلفاء العباسيين بالعلماء و المترجمين:







من اشهر المترجمين في العصر العباسي:

- ثيوفيل بن توما الرهاوي - جورجيس بن جبرائيل - يوحنا بن ماسويه

- الحجاج بن يوسف الكوفي - ثابت بن قرة - حنين بن اسحق

- اسحق بن حنين.

و نخص بالذكر حنين بن اسحق الذي ترجم كتبا عديدة في المنطق و الفلسفة و الطبيعة لكن اغلب ما نقله كان في الطب و قد ترجم من اليونانية إلى السريانية و العربية فترجم لجالينوس 95 كتابا إلى السريانية نقل منهم إلى العربية 39 كتابا فقط.



د . تأثير الحضارات الأخرى في الحضارة الإسلامية:

أ‌- التأثير الفارسي:

كان التأثير الفارسي في الحضارة الإسلامية أقوى في مجال الأدب حيث كان الأدب الفارسي الشرقي اقرب إلى ذوق العرب و أحاسيسهم من الأدب اليوناني.

في العصر العباسي قام من يجيدون اللغتين الفارسية و العربية بترجمة الكتب الفارسية و من هؤلاء :

- عبدالله بن المقفع - أبناء خالد - الحسن بن سهل

و نخص بالذكر المقفع حيث ترجم تاريخ الفرس و قيمهم و عاداتهم و سير ملوكهم فضلا عن كتب أدبية منها:

- كليلة و دمنة - الأدب الكبير - الأدب الصغير - كتاب اليتيمة

لم تكن حضارة الفرس في مجال الأدب فقط فقد امتلكوا تراثا في العلوم الأخرى كالهندسة و الفلك و الجغرافيا، لكن تأثير اليونان في العلوم العقلية كان أقوى من تأثير الفرس.



ب‌-التأثير اليوناني:

التأثير اليوناني في الأدب كان محدودا و لا يزيد عن نقل بعض الكلمات مثل:

- القنطار - الدرهم - القسطاس - الفردوس - بالإضافة إلى بعض الحكم

كانت الحضارة اليونانية ذات تأثير قوي في العلوم العقلية و هذا نتج عن معتقدات اليونان أنفسهم و اهتمامهم بالعقل و ارتفاع شانه على حساب الأعمال اليدوية أو المجال الأدبي، فنقل العرب عنهم في مجال الفلسفة عن أفلاطون و أرسطو و في مجال الطب عن جالينوس و ابقراط.

لبرز مظاهر التأثير اليوناني كانت خلال العصر الهلينستي حيث امتزجت حضارة اليونان بالقسم الشرقي و اخذ المسلمون منهم ما يتوافق مع الإسلام و نبذوا ما يتعارض معه.



ت‌- لتأثير الهندي:

حركة الفتوح الإسلامية امتدت إلى الهند في أواخر القرن الأول الهجري، أي في خلافة الوليد بن عبدالملك( 86 -96 ﻫ) و استؤنفت في منتصف القرن الثاني الهجري في عهد أبي جعفر المنصور ( 136- 158 ﻫ) و نشطت مرة أخرى في القرن الخامس الهجري، و ذكر في ذلك بعض المؤرخين:

- الجاحظ:" اشتهر الهند بالحساب و علم النجوم و أسرار الطب".

- الاصفهاني: " الهند لهم معرفة بالحساب و الخط الهندي و أسرار الطب و علاج فاحش الداء....".

جزء كبير من ثقافة الهند و علومهم انتقل إلى فارس بحكم العلاقات التجارية بين الطرفين قبل الإسلام و من ذلك أن كسرى انوشروان أرسل طبيبه برزويه إلى الهند لاستحضار كتب و مؤلفات في الطب فعاد بالكثير منها و يقال أن قصة كليلة و دمنة انتقلت من الهند ضمن ما نقله برزويه من كتب بالإضافة إلى لعبة الشطرنج.

عندما عكف المسلمون على ترجمة كتب الفرس إلى العربية نقلوا بين ثناياها أجزاء من ثقافة الهنود و علومهم و أحيانا قام بعض المترجمين بنقل السنسكريتية و هي اللغة الهندية إلى العربية مباشرة و منهم:

- منكة الهندي - ابن دهن الهندي

و من العلوم التي اخذ فيها المسلمون عن الهنود: الرياضيات و الفلك و الطب:

أ‌- الرياضيات:

- الأرقام الحسابية المستخدمة في العالم حاليا عرفها المسلمون عن الهنود و عن المسلمين نقلت إلى الغرب، و قد عرف المسلمون هذه الأرقام باسم راشيكات الهند.

- نقل عن الهنود الكثير من المصطلحات الرياضية مثل مصطلح الجيب في حساب المثلثات.

و استفاد العالم الرياضي أبا جعفر بن موسى الخوارزمي من معارف الهنود في الرياضيات.



ب‌- الفلك:

- أمر أبو جعفر المنصور سنة 154 ﻫ بترجمة كتاب في الفلك ألفه احد علماء الهند و هو برهمكبت و قد كان باللغة السنسكريتية، كما أمر باستخراج زيجا من ازيجة هذا الكتاب يستخدمه العرب لدراسة حركة الكواكب، و قد قام بترجمة هذا الكتاب الفزاري و أنجز الزيج المشهور الذي ينسب إليه. كما اخذ المسلمون عن الهنود كتاب "السند هند" في الفلك.

ت‌- الطب:

- من الكتب التي ترجمت إلى العربية عن الهندية في مجال الطب :

§ كتاب " السيرك" و قد ترجم أولا إلى الفارسية ثم من الفارسية إلى العربية عن طريق عبدالله بن علي.

§ كتاب " سسرد" نقله منكة عن الفارسية ليحيى بن خالد البرمكي.

§ كتاب "أسماء عقاقير الهند" نقله منكة عن اسحق بن سليمان.

§ كتاب " استنكر الجامع" نقله ابن دهن الهندي.

- من المعروف أن أطباء الهند نبغوا في استخدام الأعشاب الطبية في مداواة الكثير من العلل و قد نقل المسلمين الكثير عن فوائد الأعشاب عن الهنود، و بعض هذه الأعشاب لم يعرفها اليونان حيث لا تنبت إلا في أقاليم الهند و شرق آسيا، و يقال أن خالد بن يحيى البرمكي جلب بعض أطباء الهند مثل:

- منكة - قلبرقل - سندباد

- و كان الاتصال بالحضارة الهندية مصحوبا بتعريب كثير من المصطلحات و الأسماء مثل: - زنجبيل - كافور - خيرزان - فلفل

فضلا عن ترجمة بعض القصص مثل كليلة و دمنة و السندباد كما سبقت الإشارة.

و إذا كان المسلمون اخذوا عن الحضارات السابقة فان هذا لا يقلل من شانها لان الترجمة كانت مرحلة من مراحل الابتكار العلمي الإسلامي