تُعد مارجريت تاتشر، أكثر رؤساء وزراء بريطانيا تأثيراً في بلدها في وقت السلم
خلال القرن العشرين. وقد فازت في ثلاثة انتخابات
وظلت في
السلطة مدة أحد عشر عاماً، من 1979 إلى 1991.
وتعد تاتشر أول امرأة في تاريخ
بريطانيا ترأس حزب سياسي، هو حزب المحافظين.

ويُعدّ ميراث (مذهب) تاتشر السياسي فلسفة شخصية، تُعرف بالتاتشرية
(Thatcherism)
التي تُبنى على الفردية المتشددة والخصوصية ـ فقد جاء في أحد
تعليقاتها:
"لا يوجد ما يسمى بالمجتمع"
ـ و اقتصاد السوق الحر (كما روج له
خبراء الاقتصاد
أمثال ميلتون فريدمان Milton Friedman وفريدريش فون هايك
(Friedrich von Hayek)
والإصرار على تنفيذ سياستها الأساسية، على الرغم من
عدم قبولها شعبياً
غير آبهة بما يواجهها من خلافات. لقد كانت السباحة ضد
التيارواحدة من أهم سمات النظرية التاتشرية.
وقد عبرت تاتشر عن مذهبها، في شهر فبراير من عام 1979
قبل أن تصبح رئيسة
للوزراء بفترة وجيزة، قائلة":
"إنني لست من سياسيّ الإجماع ولا سياسيّ
المصالح، إنني من سياسيّ المبادئ والقيم"
وقد تركت شخصيتها القوية، أثناء
وجودها في السلطة، انطباعاً، لدى الصديق والعدو
بأنها "المرأة الحديدية"
للسياسة البريطانية. وكما وضّحت ذلك بقولها:
"إن صبري غير عادي، شريطة أن
أحقق ما أريد"

وقد تعهدت مارجريت تاتشر باستعادة عظمة بريطانية. فقد كانت وطنية مخلصة
لبلدها
لا تمل الحديث عنه. وقد وصل التأييد الشعبي لها أوجه
أثناء حرب
فوكلاند Falklands، عام 1982
عندما أرسلت بريطانيا حملة بحرية لطرد القوات
الأرجنتينية من الجزر البريطانية في جنوب المحيط الأطلسي.
تميزت سياسة تاتشر الخارجية بثلاثة مظاهر رئيسية:
الالتزام الشديد بالمصالح
الوطنية البريطانية والحرص عليها
والارتباط الطبيعي بـ "الأطلسي"، أي وجود
علاقة خاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية
والشك العميق في
القارة الأوروبية، خاصة الألمان .
وكان العنصر الأول من العناصر الثلاثة، يستحوذ على جُلّ اهتمامها.
ففي
تعاملها مع القوى الأجنبية، سواء شركاء بريطانيا في أوروبا، أو الاتحاد
السوفيتي السابق
كانت دائما تعلن على الملأ أن مصالح بريطانيا في المقدمة
إلى درجة أنها كانت أحيانا تنسى مصالح الدول الأخرى.

ومن الناحية السياسية، تُعد تاتشر قومية، على الصعيد الخارجي
واقتصادية تؤمن
بالتحرر الاقتصادي على الصعيد الداخلي.
وكانت تعتقد أن هيمنة الحكومة على
الاقتصاد، منذ الحرب العالمية الثانية
قد أوقفت النمو وعطلت الابتكار في
بريطانيا، وأن السوق الحر هو أفضل السبل لتحديث البلاد
وقد عبّرت عن رفضها
لانشغال حزب العمال بالعمالة الكاملة (أي لا وجود للبطالة)
والالتزامات التي
يؤديها القطاع العام، وتدخل الحكومة في الاقتصاد
فأعلنت برنامجاً موسعأً
للخصخصة، يهدف إلى كبح
بل القضاء على، قوى الشركات الكبرى التابعة للدولة.
احتفظت تاتشر بعداء خاص للشركات الاحتكارية في كل الميادين، بسبب ممارساتها
القمعية في كل مجال
خاصة تجاه نقابات العمال في بريطانيا، فعملت على شل
حركتها وإضعاف أهميتها
وقد عزمت رفع القبضة الحديدية، التي تفرضها الأجهزة
الحكومية على الحياة الاجتماعية
فأشركت قوى السوق في تمويل الخدمات العامة،
مثل الصحة والتعليم.
وهكذا اكتسبت تاتشر سمعة كمُصلِحة راديكالية، بل كثورية

تنأى بحزب المحافظين عن الوسط إلى اليمين، في المجال السياسي.
وخلال سنوات
عملها رئيسة للحكومة، ساعد ضُعف حزب العمال
في إقناع الناخبين بعدم وجود بديل
لقيادتها.
أرادت تاتشر تقسيم الاتجاهات السياسية المعاصرة لها، على الصعيد
الداخلي والخارجي
إلى "من معنا"، و"من ضدنا"
وقد سُجّلت لمحة مختصرة عن حياتها
أَعَدَّها البرلمان البريطاني، ما تحبه
وما تكرهه:
ـ "كانت تفضل خلق الثروة؛ والمغامرات؛ ووجود منافسة أكثر فاعلية مع مستويات
أدنى من الأجور
والقوة النووية؛ ومساواة المرأة بالرجل في المعاملة وحكم
الإعدام كذلك
والحركة الديجولية de Gaullism؛ وحلف شمال الأطلسي؛
والأمريكيين.
ـ كانت تكره المضربين عن العمل؛ ومناصري الاتحادات المهنية
والمجالس المحلية
ذات الإنفاق المرتفع؛ والفيدرالية الأوروبية والروس
عدا جوروف".
وقد علّق الرئيس الفرنسي السابق، ميتران
بأنها "تمتلك عيني كاليجولا
Caligula، إمبراطور روماني
وفم مارلين مونرو Marilyn Monroe"
وقال عنها
هارولد ويلسون Harold Wilson، رئيس الوزراء السابق لحزب العمال:
"إنها أفضل
الرجال في حزب المحافظين".
وقال السير آين جيلمور Ian Gilmor، من المحافظين
الأحرار، وكانت قد أسقطته من حكومتها:
"إنها قوية وتصمم على تحقيق ما تريده
حتى لو كان خطأً".
كانت تاتشر لا تمل من العمل، فكانت، نادراً، أثناء عملها رئيسة للوزراء
ما
تتناول إفطارها ولم يزد نومها عن خمس ساعات في اليوم
وقد مزحت ذات مرة
بقولها: "يجب أن يكون لدي أفضل مصنع أدرينالين[1] في المملكة المتحدة".
كانت
حادة الذكاء، ولكنه ذكاء غير منصف. فما أن تقرر رأيها، فنادراً ما تعدل عنه

وقد استشهدت بقول شكسبير Shakespear، في إحدى مسرحياته:
" The Lady is not
for turning "
أي ليس من السهولة تغيير رأيي، فأنا أعرف طريقي ومصممة على
تحقيق هدفي"
للتعبير عن صلابتها وعنادها. وعلى الرغم مما كانت تتمتع به من
رغبة حديدية
فقد كانت دوما تنكر أنها قاسية، معللة ذلك بقولها:
"إن صاحب
الهدف دائما يُتهم بأنه متسلط".

حياتها المبكرة (1925ـ1959)

ولدت مارجريت هيلدا روبرتس Margaret Hilda Roberts
في جرانثام Grantham،
لينكولنشاير Lincholnshire
في الثالث عشر من أكتوبر لعام 1925م.
كان والدها
بقالا، وقد نشأت في بيت ديني ورع. فوالدها
إلى جانب عمله في محل البقالة،
كان يعمل مبشراً ميثوديا
('أحد أتباع الحركة الدينية الإصلاحية، التي قادها في
أُكسفورد (عام 1729)
تشارلز وجون ويزلي محاولين فيها إحياء كنيسة
إنجلترا.') Methodist.
وكانت عائلتها مواظبة على الذهاب إلى الكنيسة
أسبوعيا
ولم يسمح لها باتخاذ رفيق أو الذهاب للمراقص، كما كان الكحول محرماً
على البيت.
في أحد مجلدات مذكراتها، التي كتبتها بعد تنحيها عن السلطة، تقول
السيدة تاتشر:
"لقد نشأت نشأة ميثودية صارمة. لم يكن لدينا مال كثير، وكنا
دائما ننفق بحرص ومن دون إسراف.
لذا، فقد تعودت أن أكون اقتصادية إلى حد
بعيد، وكنا نَعُدّ البطالة والكسل والإهمال من الخطايا."

كان والدها شديد الاهتمام بالسياسة، وكان يشجعها بقوة على قراءة الكتب
الموجودة في مكتبته.
وفي الثلاثينيات، عندما كانت تسيطر على عناوين الصحف
أخبار صعود نجم هتلر وحزبه النازي
تكوَّن لديها ريبة عميقة تجاه ألمانيا،
وقد لازمها هذا الشعور طيلة حياتها
وأثّر في سياستها خلال عملها رئيسة
للوزراء.
بعد انتهائها من الدراسة في مدرسة الفتيات في جرانثام Grantham
حصلت مارجريت
على منحة من جامعة أُكسفورد، عام 1943، لدراسة الكيمياء.
وأثناء دراستها
بالجامعة، اُنتخبت رئيسة لاتحاد طلاب الجامعة، من المحافظين.
فكانت أول امرأة
تشغل ذلك المنصب. وكانت لا تزال في جامعة أُكسفورد
عندما هُزم ونستون تشرشل
Winston Churchill
بطل الحرب البريطاني في الحرب العالمية الثانية، في
الانتخابات التي جرت في يونيه 1945
على يد منافسه، العمالي، كليمين آتلي
Clement Atley.
وبطبيعة إنتمائها لحزب المحافظين، وصفت هزيمة تشرشل فيما بعد
بأنها
"صدمة من أقسى الصدمات في حياتي".
وعندما صممت أن تقتحم مجال السياسة، وراودها حلم أن تكون أول امرأة تشغل منصب
وزير المالية
كانت لا تزال في ريعان شبابها، وتعمل باحثة كيميائية.
لم تنجح
في أول محاولتين لها لدخول البرلمان، في 1950 ثم في 1951.
فحوّلت مسار
دراستها من الكيمياء إلى القانون - وهي مهنة تتناسب أكثر مع السياسي الناشئ -
وأصبحت محامية في 1954.
وفي النهاية اختيرت، من بين 100 متقدم للترشيح عن حزب
المحافظين
لدخول الانتخابات عن دائرة فينشلي Finchleey بشمال لندن.
ونجحت في
دخول البرلمان، في 1959.
وفي تلك الأثناء، تزوجت من دينيس تاتشر DennisTatcher
في 1951
الذي أصبح حينئذ رجل أعمال ناجح، ورُزقا توأمين، هما مارك
Mark وكارول Carol.

التدريب السياسي


قبل أن تبرز تاتشر على الساحة السياسية، كان عليها أن تمر بمرحلة التدريب
السياسي.
فبدأت التلمذة السياسية من المقاعد الخلفية للبرلمان من 1959 إلى
1961
ثم تدرجت في وظائف وزارية صغيرة أو وظائف "الظل" الوزارية[2].
وخلال
الفترة من 196 إلى 1964
عملت سكرتيرة برلمانية لوزير المعاشات والتأمينات
القومية، وعُينت، فيما بعد
عندما كان حزب العمال في الحكم، ناطقاً رسمياً
للمعارضة للشئون البيئية
والخزانة، والشئون الاقتصادية، والتعليم.

وأثناء مؤتمر حزب المحافظين، الذي عُقد عام 1966
جذبت الانتباه بهجومها
القاسي على الضرائب، التي فرضها حزب العمال
والتي وصفتها بأنها خطوات "ليس
فقط نحو الاشتراكية ولكن نحو الشيوعية".
وفي مؤتمر الحزب عام 1969، جذبت
الانتباه مرة أخرى
وأثارت الجدل عندما ادعت أن المرأة لا تستطيع أن تأمل في
رئاسة الوزراء
نتيجة العقبات التي تواجهها من تمتهن السياسة.
تدرجت تاتشر في المناصب
حتى شغلت منصب وزيرة دولة للتعليم، في حكومة إدوارد
هيث Edward Heath ـ 1974 - 1970
ولكنها أثارت الغضب ـ واُتهمت بأنها " سارقة
الحليب"
- عندما اقترحت ألاَّ يحصل طلاب المدارس، الذين تعدَوا الثامنة، على
الحليب المجاني.
عقب هذه الحادثة الأليمة، قيل أن زوجها، دنيس تاتشر، نصحها
باعتزال السياسة والسياسيين
ولكنها ردّت عليه بغضب قائلة: "عندما أراهم في
جهنم أولاً".
برزت تاتشر على الصعيدين، الداخلي والخارجي، في عام 1975
عندما هزمت إدوارد
هيث في الانتخابات، التي جرت على قيادة حزب المحافظين
فقد فازت بـ130 مقعداً
مقابل 119 لمنافسها
وهكذا أصبحت أول امرأة تقود حزباً سياسياً في تاريخ
بريطانيا.
وكزعيمة للحزب
أعلنت بوضوح، ميولها السياسية، وكيفية إدارتها لسياسات
الحكومة
إذا فازت في أي انتخابات. وقد ذكرت لصحيفة الأوبزيرفرThe Observer،
أنها كرئيسة وزراء، لن تضم في حكومتها إلا
"من لديه الاستعداد للسير في
الاتجاه نفسه الذي تسير فيه رئيسة الوزراء".
ولكن هذا الزعم ثبت أنه لم يكن
سوى تنبؤ بعيد المنال.
وقد ظهرت على شاشات التلفزيون لتعبر عن قلقها تجاه
المهاجرين،
"الذين يغمرون بريطانيا"، كاشفةً النقاب عن موقفها شبه العنصري
إزاء الملونين في بريطانيا
ومن ناحية أخرى، عملت على تراجع المحافظين عن
تعهدهم، بنقل السلطة الذاتية لاسكتلندا
كما عارضت مخططاً إنجليزياً أمريكياً
بالنسبة إلى روديسيا
لأنه كان سيقضي على الجيش الروديسي الذي يقوده البيض.

رئيسة الوزراء ( 1979ـ1991)


في شهر مايو 1979، فازت مارجريت تاتشر في الانتخابات العامة
وأصبحت أول
امرأة رئيسة للوزراء في تاريخ بريطانيا. وتجسيداً لإصرارها
على الحد من دور
الدولة في الاقتصاد، خفضت النفقات العامة
وشرعت في برنامج يتضمن تخفيض
النفقات في المجال الحربي.
وبدأت ما يعرف بـ"ثورة تاتشر".

لم تكن سياسات تاتشر متناقضة فقط مع سياسات حزب العمال المعارض
بل متناقضة
مع سياسات إدارات حزب المحافظين السابقة.
ولكن سياسات تاتشر، الرامية إلى خفض
التضخم
سرعان ما أدت إلى بعض النتائج غير المرغوبة
فقد انخفض الإنتاج
الصناعي بمقدار الخُمس
وازداد عدد العاطلين إلى أكثر من ثلاثة ملايين
وهو
أسوأ مستوى بطالة تصل إليه البلاد، خلال نصف قرن.
وجدت بريطانيا نفسها في
حالة كساد عميقة، وبدأ ضعاف النفوس " Wets"
داخل حزب المحافظين، يشككون في
سياسة تاتشر، لكنها ردعتهم بحسم
و فصلت من الحزب أولئك الذين دأبوا على
نقدها.

بحلول عام 1981م، أصبحت تاتشر أقل رؤساء وزراء بريطانيا شعبية
منذ أن عُرفت
استطلاعات الرأي العام، ولم ينقذها إلاّ حرب فوكلاند
فعندما غزت الأرجنتين
جزر فوكلاند في جنوب المحيط الأطلسي
أرسلت السيدة تاتشر قوات بحرية خاصة
لطرد الغزاة، واسترجاع الجزر.
ونجحت الحملة، التي كانت تحفها الأخطار، إذ
تبعد الجزيرة آلاف الأميال من إنجلترا.
وارتفعت شعبية تاتشر السياسية، في خضم
الحماسة الوطنية الملتهبة.
سعدت تاتشر بالنصر، وحضرت استعراض القوات المنتصرة في فوكلاند
في مدينة
لندن، الذي لم يحضره أي من أعضاء الأسرة المالكة.
وعلق المؤرخ البريطاني
"دافيز" (AJ Davies)، قائلا:
"إن تاتشر أصبحت واجهة عصرية لبريطانيا".
ومن جانبها، ادعت تاتشر في مذكراتها
"أن حرب فوكلاند كانت علامة على نهاية
مرحلة الضعف
التي مّرت بها بريطانيا، بعد الحرب العالمية الثانية".
وفي
الوقت نفسه كانت سياستها الاقتصادية الراديكالية تبعث الحياة في اقتصاد
بريطانيا الراكد.
رفعت حرب فوكلاند تاتشر إلى ذروة شعبيتها، مؤمّنَةً لها فوزاً كاسحاً في
انتخابات يونيه 1983
واستمرت في هجومها على تدخل الدولة والبيروقراطية
الحكومية.
وكانت إحدى خطواتها في هذا الصدد، إلغاء مجلس لندن العظمى، وحكومة
العاصمة
إضافة إلى مجالس مدنية أخرى. ولكن التناقض في سياستها كان حاداً
فبينما هي تقلص في سلطات المجالس المحلية المنتخبة
كانت تعطي سلطات أكبر
للبرلمان البريطاني في وستمنيستر Westminster
والإدارة البريطانية المركزية
في وايتهول Whitehall.
اقتنعت مارجريت تاتشر أن قبضة نقابات العمال الخانقة على الصناعة في
بريطانيا
وراء الأداء السيئ لاقتصاد البلاد. فقد تسببت النقابات ـ كما كانت
تعتقد
ـ في ركود الحياة البريطانية تماماً، إبان حكم حزب العمال
في الفترة
من 1974 إلى 1979. و لذلك عمدت تاتشر إلى القضاء على سلطة هذه النقابات
واجهت تاتشر في فترة حكمها الثانية، إضراب عمال المناجم
في عامي 1984 و
1985، الذي قاده رئيس اتحاد العمال المتشدد
ارثر سكارجيل Arthur Scargill.

وكان ذلك الإضراب يمثل التحدي الأكبر لزعامتها
وللقضاء على الإضراب، شَيَّدت
السيدة تاتشر مخازنَ حكوميةً كبيرةً للفحم
وعملت على استصدار تشريعات، من
خلال البرلمان
ضد نقابات العمال لتضعها في موقف الدفاع، وبذلك قلبت ميزان
القوة
من النقابات المنظَّمة إلى صالح الشركات الخاصة.
وقد كان علاجُها للأزمة مستمد من إدراكها أن نقابات العُمّال
تستمدُ سطوتها
مما تملكهُ مِن موارد مالية، وصلاحيات قانونية
تجعلها قادرة على شل
اقتصادياتِ الدولة لمدةٍ طويلة.
لذلك، ظلت الحكومات المتعاقبة ترضخ لمطالب
هذه النقابات.
أمَّا هي، فقد رفضت أن تستجيبَ لضغوطِ النقابات، وفي الوقت
نفسه، لم تلجأ إلى القوةِ والتحدي
في مهاجمة العمال ونقاباتِهم، وإنما أدارت
الأزمةَ
من خلالِ دراسةِ أهم عنصر من عناصر القوة لدى النقابات
وهو الأرصدة
المالية التي تمتلكها، والتي تمكنها من الإنفاق على العمال المضربين.
فنجحت
في استصدار حكمٍ قضائي بتجميدِ هذه الأرصدة
مما أفقد النقابات قدرتها على
الإنفاق على عمالِها، واختفت الظاهرةُ لفترة طويلة.

حققت تاتشر فوزها الثالث في انتخابات 1987، إلاّ أن الاقتصاد كان في حالة
ركود شامل.
وكان أكبر خطأٍ ارتكبته هو فرْضها ضريبة على المجالس المحلية،
للمساعدة في تغطية نفقات الحكومة المحلية
على الرغم من تحذيرات المستشار

نيجل لاوسون (Chancellor Nigel Lawson)
وزير المالية من "الحماقة الكبرى"
التي تتمثل في هذا الإجراء
وقد كان لموجات الاحتجاج، التي أعقبت هذا القرار،
النصيب الأكبر في سقوط السيدة تاتشر
تخضع مارجريت تاتشر البالغة من العمر 77 عاما، منذ عام 2004، لعلاج طويل
الأمد من مرض نفسي، أصابها بعد وفاة زوجها السير دينيس تاتشر
عن عمر يناهز
88 عاماً.

سياسة تاتشر الخارجية

رأت السيدة تاتشر أن مهمتها الأساسية، وضع حد لفترة التدهور الطويلة
التي
عانت منها بريطانيا، منذ نهاية الإمبراطورية البريطانية
عقب الحرب العالمية
الثانية. وكان هدفها إنعاش بريطانيا، داخلياً وخارجياً.
كانت سياسة تاتشر الخارجية، تجمع بين عناصرَ متناقضة
تتضمن التمسكُ بعلاقة
وطيدة مع الولايات المتحدة، والعداءُ الحادُ للشيوعية
وعدمُ الثقة في
أوروبا، والإيمانُ بقدرة دفاعية وطنية.
كان الهدف من هذه العناصر كلها هو
تأكيد اهتمامها بالمصالح البريطانية.
وقد علق مستشارها للسياسة الخارجية
السير بيرسي كرادوك (Sir Percy Cradock ) قائلاً:
"إنها كانت ترى السياسة
الخارجية مثل سلسلة من ألعاب الربح والخسارة وينبغي لبريطانيا أن تكسَبها".
وكان من وجهة نظر تاتشر أن "العلاقة الخاصة" مع الولايات المتحدة
تعد أفضل
السُبُل لتحقيق هذا الغرض. وقد ظلت اللغة الواحدة والتاريخ المشترك
أدوات
ربط قوية بين رؤساء الوزراء البريطانيين والرؤساء الأمريكيين
وقد تعززت هذه
العلاقة أثناء الحرب العالمية الثانية
عندما قاد ونستون تشرشيل وفرانكلين
روزفلت Franklin Roosevelt الحلفاء إلى النصر.
وبالنسبة إلى السيدة تاتشر،
كان التعاون الإنجليزي الأمريكي أمراً مقدساً
لا يُضحى به بأي ثمن. وكان هذا
هو الدرس الذي استفادته من الفشل الذريع،
في حرب السويس، سنة 1956
عندما أجبر
الضغط الأمريكي بريطانيا وحلفاءها، الفرنسيين والإسرائيليين
على التخلي عن
عدوانهم على مصر، في عهد الرئيس عبد الناصر.
وقد صرحت تاتشر قائلة: "يجب ألا
نضع أنفسنا، مرة أخرى، في مواجهة الولايات المتحدة
في أي أزمة دولية تؤثر في
المصالح البريطانية".

كان وراء ارتباط تاتشر بالولايات المتحدة، إلى حدٍّ كبير
اتفاقها الشديد مع
الرئيس رونالد ريجان على المستوى الشخصي
وعلى الرغم من اختلاف خلفيتهما، في
الاعتقاد وتباينهما، أصبحت ابنة البقال الإنجليزي
ونجم هوليود السينمائي
السابق، الأمريكي من أصل ايرلندي
ثنائي يوحدهما فكر واحد، تجاه السوق الحر
وعدائها الشديد للشيوعية.
ومن ثم أصبح ريجان وتاتشر رفيقا أيديولوجية،
وصديقين شخصيين
وقد قالت تاتشر للشعب الأمريكي في واشنطن في 1985:

"إننا نرى أشياءً كثيرة بطريقة واحدة… يمكنكم التحدث عن وجود اتفاق حقيقي بين
العقول..
إنني لا أشعر أن هناك ما يمنع من وصف هذه العلاقة بأنها خاصة جداً
جداً".

وقد أعلنت مراراً وتكراراً، أثناء عملها رئيسة للوزراء، عن ولائها لحلف شمال
الأطلسي
والحاجة إلى تطوير علاقة أوثق مع الولايات المتحدة. وردت أمريكا
التحية بأحسن منها
عندما ساهمت في انتصار تاتشر في حرب فوكلاند، حينما
زودتها بصواريخ جوـ جو،
كما سمحت لها باستخدام إحدى القواعد الأمريكية في
جزيرة آسانسيون Ascension.
كذلك، زودت الولايات المتحدة بغواصات بريطانية
Trident
التي تدار بالطاقة النووية، وتُعد عنصر مهم من عناصر الدفاع
الإستراتيجي البريطاني
وأيضاً بصواريخ من طراز (D-5).

ولهذا، لم يكن مفاجئاً أن تتجنب تاتشر إدانة واشنطن على المستوى الرسمي
سواء
في البرلمان أو في مجلس الأمن،
عندما غزت الولايات المتحدة جرينادا Grenada،
وهي دولة مستقلة، وعضو بالكومنولث البريطاني
من دون استشارة بريطانيا، في
أكتوبر 1983
و مرة أخرى، عندما قصفت الولايات المتحدة ليبيا، في 14 أبريل
1986
رداً على ما زُعم أنه تورط العقيد القذافي في الإرهاب الدولي، وكانت
تاتشر هي الوحيدة
بين الزعماء الأوروبيين، التي عرضت على الرئيس ريجان
استخدام القواعد الجوية البريطانية
وقد رفضت كل من فرنسا وأسبانيا وألمانيا،
التورط في هذا الأمر
وعلى الرغم من أن تاتشر واجهت معارضة من داخل حزبها،
ومن العديد من حلفائها الغربيين
إلاّ أنها ساندت مبادرة الدفاع الإستراتيجي،
التي أطلقها الرئيس الأمريكي ريجان
والتي تُعرف شعبيا بـ"حرب النجوم". وهي
الخطة التي أثارت الجدل
وتهدف إلى اعتراض الصواريخ الباليستية السوفيتية في
الفضاء.
وعندما أُعلنت فضيحة إيران ـ كونترا، في نوفمبر 1987 ـ
وهي صفقة بيع أسلحة
أمريكية وإسرائيلية لإيران
وتوجيه أرباحها لمساعدة ثوار حركة كونترا Contra
التي كانت تقاتل آنذاك ضد حكومة ساندينستا Sandinista في نيكاراجوا -
ساندت
السيدة تاتشر الرئيس ريجان، معبرة عن ثقتها بأمانته الشخصية.

وأثناء غزو العراق للكويت، في أغسطس سنة 1990، كانت تاتشر، كذلك
هي التي
ساندت الرئيس بوش، في قراره، بمجابهة الزعيم العراقي صدام حسين
وشن حرب ضده
لإجباره على الخروج من الكويت. ويقال إنها قالت للرئيس الأمريكي حينئذ:

"تذكَّر يا جورج أنه لا وقت للتردد".
ومقابل دعم تاتشر المستمر لمواقف الولايات المتحدة
كان يُنظر إلى بريطانيا
على أنها أهم حلفاء الولايات المتحدة، وأشدّها تأثيراً
وقد مُنحت وزارة
الخارجية البريطانية حرية الاتصال المباشر
أو التشاور مع صنّاع القرار في
واشنطن، وكان يُرجع إليهم في القضايا المهمة
الخاصة بالأمن الدولي والعلاقات
مع الاتحاد السوفيتي
وهي القضايا التي كانت تحتل النصيب الأكبر في جدول
السياسة الخارجية البريطانية
أثناء الحرب الباردة.

وفي ظل حكومة السيدة تاتشر، لعبت بريطانيا دوراً مهماً في تشكيل العلاقات بين
الغرب والشرق
عندما كانت الحرب الباردة في أقل درجات برودتها
وما تبعها من
سخونة في العلاقة مع الاتحاد السوفيتي
عندما أقدم ميخائيل جوروف على
إصلاح النظام السوفيتي
وفي الواقع كانت تاتشر واحدة من أوائل زعماء العالم،

الذين أدركوا أن جوروف عامل مهم للتعجيل بالتغيير
وقد أعلنت تاتشر أنه

"مما لا شك فيه أن نجاح سياسة الانفتاح (الجلاسنوست - Glasnost)
وإعادة
البناء (البريسترويكا ـ Perestroika ) في صالح الغرب".
وكانت تاتشر - التي
كانت بمثابة الصلة بين موسكو وواشنطن -
هي التي أقنعت رونالد ريجان، بأن
جوروف زعيم يمكن للغرب أن يقيم علاقات معه.
وقد زارت تاتشر موسكو، للمرة الأولى، في ربيع 1987
فيما وصفته "بأنها أكثر
زيارة أقوم بها خارج البلاد،
خلال عملي رئيسة للوزراء، جمالاً وحيوية".

وبمساعدة عميل جهاز المخابرات السوفيتي - KGB - السابق،
اوليج جورديفسكي
Oleg Gordievsky

الذي لجأ إلى بريطانيا ـ خاطبت الشعب السوفيتي، على شاشات
التلفزيون
ونالت إعجاب المحاورين السوفيت، بروحها القتالية. وحققت الرحلة
نجاحاً غير متوقع.
أدركت تاتشر أن مفتاح انهيار الإمبراطورية السوفيتية، في يد دول أوروبا
الوسطي والشرقية
فعززت علاقات هذه المناطق التجارية والثقافية والسياسية مع
الغرب.
وزارت تشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا في الثمانينات
حيث شجعت الإصلاح
الاقتصادي والسياسي في تلك الدول
واغتنمت جميع الفرص التي أتيحت لها لإعلان
مزايا الديموقراطية والتجارة الحرة
كانت تلاقي ترحاباً وتصفيقاً حاراً أينما
حلت. ويميل كثير من المعلقين إلى الاعتقاد
بأن الفضل يرجع إلى تاتشر في
تحرير وسط أوروبا وأوروبا الشرقية من الشيوعية
وهو ما يعد واحداً من أعظم
التغيرات، التي شهدتها أوروبا والعالم، منذ عام 1954.
وعلى الرغم من أن تاتشر كانت تعارض في البداية مطالب الصين، باستعادة مستعمرة

هونج كونج Hong Kong البريطانية، إلاّ أنها سرعان ما أدركت أهمية الصين
كقوة
عظمى ناشئة. فاعترفت بحق الصين في تقرير استعادة سيادتها على ذلك الإقليم
وذلك في إعلان هونج كونج المشترك عام، 1984.
وفيما يتعلق بالعلاقات مع اليابان، ساعدت تاتشر على إقناع طوكيو
بفتح أسواق
اليابان أمام الصادرات البريطانية، وذلك بإزالة الحواجز التجارية
وفي الوقت
نفسه، شجعت اليابان على الاستثمار في المملكة المتحدة
وكان ذلك راجعا ـ
نسبيا ًـ إلى جهودها، التي كانت ترمي إلى
جعل اليابان واحدة من أكبر شركاء
بريطانيا التجاريين
في الوقت الذي كان يرى فيه اليابانيون بريطانيا
على أنها
الجسر الذي ستعبره تجارتهم إلى دول المجموعة الأوروبية.
وفي الشرق الأوسط، عملت تاتشر على ترويج الصادرات البريطانية
كما شاركت
الحكومات العربية المعتدلة، في محاولات لتعزيز السلام بين العرب وإسرائيل

وقد أُعجب كثير من العرب بشخصيتها القوية
والدور المهم الذي أدته عندما
ساندت القرار الأمريكي في أزمة الخليج ـ 1990ـ1991ـ
ولكنهم صدموا بانحيازها
إلى جانب إسرائيل، وعدم اكتراثها بطموحات الفلسطينيين.
وفي ايرلندا الشمالية، اتخذت تاتشر موقفاً صارماً ضد إرهابيي الجيش الجمهوري
الإيرلندي
الذي كان يسعى لإنهاء الحكم البريطاني في الإقليم، باستخدام
العنف.
وعندما نظم معتقلو الجيش الإيرلندي إضراباً عن الطعام، في سجن ماز
Maze الشهير
في بلفاست Belfast - في الأول من مارس 1981ـ احتجاجاً على سوء
أحوال السجن -
رفضت تاتشر الإذعان لهم، واستمرت في موقفها الصارم
حتى عندما
مات بوبي ساندز Bobby Sands ـ
وهو من الشخصيات الجمهورية المحبوبة ـ في
المعتقل - نتيجة الإضراب
مما آثار انتباه وسائل الإعلام في شتى أنحاء
العالم.
وفي أكتوبر 1984، فجّر الجيش الجمهوري الأيرلندي فندق جراند هوتيل
في برايتون Brighton، الذي كانت تقيم فيه أثناء انعقاد مؤتمر حزب المحافظين
وعلى الرغم من سقوط عدد من الضحايا
إلاّ أنها أفلتت بأعجوبة، من الإصابة أو
الموت
وقد أعربت عن عزمها على مواصلة الحرب قائلة:
"يجب أن يُمحى الجيش
الجمهوري من على وجه أرض العالم المتحضر".
وخلافاً لموقفها المتشدد، أبدت نوعاً من المرونة عند توقيعها على الاتفاقية
الإنجليزية ـ الإيرلندية
في 1985، التي أعطت حكومة دبلن Dublin نصيباً في
شئون أُلستر Ulster
وسمحت بمزيد من التعاون الأمني بين الحكومتين البريطانية
والإيرلندية.
ولعل تشبث تاتشر بآرائها، قد شوه قراراتها المتعلقة بالشئون الخارجية.
فبلوغها سن النضج، أثناء الحرب العالمية الثانية، جعل في نفسها كراهة متأصلة
لألمانيا.
وكانت الوحيدة من بين الزعماء الأوروبيين، التي عارضت إعادة الوحدة
الألمانية
بعد سقوط سور برلين في 1989. فبعد حربين عالميتين، حاربت فيهما
بريطانيا
لمنع السيطرة الألمانية على القارة الأوروبية
كانت تخشى إمكانية
ظهور ألمانيا كقوة متنامية.
وكانت تعتقد بوجوب الانتظار لمدة عشر أو خمس عشرة
سنة أخرى
حتى يسمح بظهور ألمانيا الموحدة في قلب أوروبا. وازدادت عدم ثقتها
في ألمانيا
لأن المستشار الألماني، هلموت كول Helmut Kohl - مهندس عملية
توحيد ألمانيا
كان وراء فكرة أوروبا الفيدرالية، وهي الفكرة التي كانت
تمقتها.
وعلى الرغم من أنها رحبت بانهيار الشيوعية في أوروبا ووصفته بأنه:

"التغير السياسي الذي لن تنساه ما حيت"
إلاّ أنها لم تكن على استعداد لقبول
أن تكون ألمانيا هي المستفيد الأكبر".
ويقول مستشارها السياسي السير بيرسي
كاردوك، إن فكرتها السوداء حول ألمانيا كانت
"أغرب قراراتها الخاطئة، كان
قراراً ينقصه سعة الأفق والواقعية".
وقد كشف عناد تاتشر، ونظرتها الأُحادية،
عن نفسه بجلاء، في تعاملاتها مع الاتحاد الأوروبي.
وهو ما أدى في النهاية
إلى سقوطها.
وعندما كانت في المعارضة، أثناء استفتاء 1975
أيّدت عضوية بريطانيا للمجموعة
الأوروبية، ولكن حماسها لأوروبا لم يدم طويلا.
كانت تاتشر ديجولية بالفطرة،
فكانت تؤمن بأن أوروبا لابد أن تكون دولاً
كل منها تسعى إلى تحقيق مصالحها
الخاصة
وكانت تنظر إلى محاولات الساسة في القارة لعقد "اتحاد أوثق" بين
الشعوب الأوروبية
نظرة شكٍ وريبة.

استخدمت تاتشر حق بريطانيا في الاعتراض (حق الفيتو)
في مجلس الوزراء
الأوروبي، لمنع الطلبات المقدمة لإنشاء
سياسات، اقتصادية، وخارجية، ودفاعية،
أوربية مشتركة.
وكان نهجها المخالف لتلك السياسات، لا يتماشى مع صناعة القرار
المجمع عليه
الذي تسعى المجموعة الأوروبية إلى الوصول إليه.

كان أول خلاف لها مع زملائها الأوروبيين، في نوفمبر 1979
حول مساهمة
بريطانيا في ميزانية المجموعة الأوروبية.
فقد كانت ترى أن إجمالي الدخل
القومي البريطاني هو الأقل بين الدول الأوروبية
لذلك لا يوجد سبب لان تدفع
بريطانيا ثاني أكبر حصة في ميزانية المجموعة
وعند مطالبتها بإعادة التفاوض
حول مساهمة بريطانيافاجأت الرئيس الفرنسي
فرانسوا ميتران Francois
Mitterrand
في إحدى مؤتمرات القمة الأوروبية بصراخها:
"أريد ما دفعناه من
أموال!"
وبعد معركة دبلوماسية طويلة، وصلت بتعنتها إلى ما أرادت
في قمة
فاونتينبلو Fontainebleau، في 1984
بوعد بإعادة مليار جنيه إسترليني إلى
بريطانيا.
ومع ذلك، ساعدت تاتشر، عام 1986، على تمرير القانون الأوروبي الموحد
الذي
يقضي بإنشاء منطقة خالية من التعريفة الجمركية
بين 12 دولة من الدول الأعضاء
في المجموعة الأوروبية
وكانت الخطة تتفق مع فلسفتها حول السوق الحر، لكنها
اشتكت، بعد ذلك
من أنها تعرضت للخداع، بالتنازل عن حق بريطانيا في الاعتراض
(الفيتو)
على بعض النقاط الرئيسية في هذه السياسة. وكانت تاتشر مترددة
حول
انضمام بريطانيا لآلية سعر الصرف الأوروبية،
وهي عبارة عن ترتيب اقتصادي
وُضع للحد من تذبذب أسعار العملات الأوروبية
لأنها شعرت أنه يعني التنازل عن
السيادة بسبب "شؤون مالية".
وقد عبّرت عن عدائها الشديد لفكرة التكامل الأوروبي،
في خطبة شهيرة ألقتها في
براغ Brauges، اشتكت فيها من خطر
"دولة عظمى أوربية تمارس سيطرتها من
بروكسل"
وقد سيطرت قسوة كلماتها على معظم عناوين الصحف في القارة الأوروبية.


سقوط المرأة الحديدية


كان سلوك مارجريت تاتشر نفسها، في القمة الأوروبية
التي عقدت في روما، في
1990، هو القشة التي قسمت ظهر البعير
وأدّت إلى إنهاء زعامتها.
في تلك القمة، أكد جاك ديلور Jacques Delors
رئيس اللجنة الأوروبية، وجود
مقترحات لإنشاء بنك مركزي أوربي واتحاد للنقد الأوروبي
تتخلى فيه الدول
الأعضاء عن عملاتها المحلية
وتستخدم عملة أوربية واحدة تسمى "اليورو" Euro.
وعندما سُئلت تاتشر عن الموقف البريطاني من تلك الاقتراحات
فاجأت رؤساء
حكومات الدول الأوروبية الأخرى عندما صاحت: "لا! لا! لا!"
كان ذلك الهيجان
خروجاً عن روح ونص بيان صدر حول سياسة بريطانيا الأوروبية
اعتمدته وزارتا
الخزانة والخارجية.

وسرعان ما ظهرت العواقب السلبية، لهذا الموقف العدائي الشديد نحو الشراكة
الأوروبية
على حكومتها.
فقد أدى إلى استقالة وزير خارجيتها، المؤيد للوحدة
الأوروبية -
السير جيفري هاو Geoffery Howe، في نوفمبر 1990
وهو ما عُدَّ
خسارة فادحة لتاتشر، وكان آخر العوامل المساعدة على سقوطها.
أجبر رحيل السير جيفري، سياسياً بارزاً آخر، من المحافظين
وهو مايكل هازلتين
Michael Haseltine، على تحدي تاتشر
في انتخابات قيادة الحزب السنوية. وقد
استطاعت أن تهزمه في الجولة الأولى
بفارق أربعة أصوات فقط. ومن دون الرجوع
إلى مستشاريها
اندفعت إلى كاميرات التلفزيون في باريس، التي تصادف وجودها في
ذلك الوقت
لتعلن أنها ستدخل جولة أخرى. ولكن زملاءها في الوزارة نصحوها
بانعدام فرصتها في الفوز
فاختارت في حزن، أن تتنحى، وألقت بثقلها وراء جون
ميجور John Major
وكان عضواً غيرُ معروفٍ في فريقها، كزعيم جديد للحزب.
وهكذا حُرم هازلتين Haseltine مما كان يستحقه، لأنه تجرأ ووقف ضدها.
في سيرتها الذاتية، "سنوات دوننج ستريت"، Dawning Street Years،
التي نُشرت
في 1993، قالت السيدة تاتشر أنها غير آسفة على موقفها المتشدد تجاه أوروبا
"فالدول ـ كما صرحت ـ كيانات سياسية، قائمة، ومن الحماقة، أن نسعى إلى
تجاهلها
من أجل إقامة كيان أكبر، مثل الكيان الأوروبي النظري".
وصرحت أن
المحافظين، كان من الممكن أن يكون موقفهم أفضل
في الانتخابات الأوروبية عام
1989
لو أعلنوا بجرأة أكبر عن عدم ثقتهم باليورو Euro-Sceptical.
ويظل هذا الصراع، بين السيادة الوطنية البريطانية وفكرة الاتحاد الأوروبي،

مخيماً بظلاله على السياسة البريطانية، في الوقت الذي كانت تستعد فيه العديد
من الدول الأوروبية
ليس من بينها بريطانيا بالتأكيد - لاستخدام عملة موحدة
في يناير 1999.

بعد داوننج ستريت


عند مغادرتها داوننج ستريت
مُنحت مارجريت تاتشر وسام الاستحقاق (Order of
Merit) من الملكة إليزابيث
على الرغم مما عُرف، على نطاق واسع، عن توتر وعدم
استقرار في العلاقة
بين تاتشر والملكة أثناء فترة حكمها. وقد أوصى رئيس
الوزراء الجديد - جون ميجور -
بمنح البارونية لدنيس تاتشر، حتى تصبح إبنة
البقال القادمة من جرانثام، البارونة تاتشر.
أسست "مؤسسة تاتشر"، لنشر أفكارها عن السوق الحرة
وألقت سلسلة من المحاضرات
المثيرة في الولايات المتحدة
حيث مُنحت هناك ميدالية الحرية (Medal of
Freedom).

وفي عام 1991، وبسبب إحباطها من أداء جون ميجور في دواننيج ستريت
زعمت أن
حزب المحافظين يحتاج إلى
"رجل دولة كبيرـ لا سيما وإن كان امرأة - للوقوف
وراء رئيس الوزراء
" ولكن عرضها لم يؤبه له. وكانت تختلف صراحة مع موقف ميجور
من أوروبا، حيث قالت:
"كنت أظن أنني أعرف ما يمثله (ميجور)، ولكن الآن تبين
أنني لا أعرف ذلك".
كان لديها اعتقاد عميق بأن سوء إدارة وزير الخزانة - نيجل لاوسون Nigel
Lawson -
للشئون الاقتصادية وجُبن أعضاء حزب المحافظين في البرلمان
هما وراء
سقوطها في مارس 1991
وليس ضريبة الاستفتاء المقيتة، التي فرضتها، أو رفضها
المتغطرس للتعاون مع أوروبا.

وفي شهر يونيه 1991، و أثناء خطاب قوي في مجلس العموم
ضد فكرة الفيدرالية
الأوروبية والعملة الموحدة
أعلنت عزمها على التخلي عن عضويتها في البرلمان،
نائبة عن دائرتها فينشلي، شمال لندن.
لقد بَعُدَت المرأة الحديدية عن مركز الأحداث السياسية في بريطانيا
ولكنها
كعضو في مجلس اللوردات، مازالت البارونة تاتشر
تمارس بعض التأثير على الحياة
العامة في بريطانيا
على الرغم من النظرة المتزايدة لها على أنها شخصية من
الماضي السحيق.
كانت السيدة تاتشر سياسية، تجمع بين تناقضات لا حد لها.
ادعت أنها خفضت حدود
الدولة ـ وذلك بتقليص ضريبة الدخل
وبيع منازل المجالس لمستأجيرها، وتحقيق
قدر أكبر من الحرية الفردية في مجالات
مثل الصحة والتعليم. ولكن كثيراً ما
كانت تلك المبادرات تأتي بنتائج عكسية
حتى أنها خلقت مركزية حكومية أوسع.
وفي ظل حكم تاتشر
أصبح المجتمع والسياسة البريطانية أكثر استقطاباَ من أي
وقت مضى
منذ الحرب العالمية الثانية. لقد استفادت كثيراً من كونها ابنة
بقال
ولكن سياستها الضريبية كانت في صالح الأغنياء، على حساب رجل الشارع
الذي ادعت أنها تمثله.
وفي تعاملها مع رؤساء الدول الأوروبية وزعمائها، أعلنت على الملأ
عزمها
الحفاظ على المصالح الوطنية البريطانية. وقد كان تعنتها
خصوصاً في الموقف من
أوروبا، وراء غضب الزعماء الآخرين وفقدانها لدعمهم
وكانت النتيجة ضعف موقف
بريطانيا، بدلاً من تعزيزه.
هل كانت تاتشر زعيمة ثورية كما زعمت؟
يشير بعض النقاد إلى أن وزير الخزانة في
حكومة حزب العمال
في الفترة من 1970 إلى 1974 - دينيس هيلي Denis Healey -
كان أول من أدخل المنهج النقدي في إدارة الاقتصاد البريطاني.
ويرى آخرون أن
فلسفة تاتشر لم تقدم أكثر من العودة إلى سياسات التحرر
التي تبنتها إدارات
المحافظين، بين الحربين العالميتين، ولم تأت بعصر ثوري جديد.
ومن الأدلة على تأثيرها المستمر، أن رئيس وزراء بريطانيا الجديد
الذي ينتمي
إلى حزب العمال، توني بلير Tony Blair
الذي حقق فوزاً كاسحاً في انتخابات
مايو 1997
قد تبنى العديد من عناصر النظرية الثاتشرية، مثل حكومة صغيرة
وكبح الإنفاق العام، والإيمان بالسوق الحرة، والرفض التام للاشتراكية.
ربما لم تكن تاتشر ثورية، فسياساتها لم ترق إلى قوة خطابها
ولكن على رؤساء
الوزراء البريطانيين _ في الحاضر والمستقبل
أن يتفاعلوا مع التغيرات، التي
أحدثتها، أثناء فترة حكمها، التي دامت أحد عشر عاماً.

الكتب التي ألفتها والمناصب الرئيسية في حياتها


ـ سنوات داوننج ستريت Dawning Street Years، 1993.

ـ الطريق إلى السلطة The Path to Power، 1995.

رئيس اتحاد طلاب جامعة أُكسفورد من المحافظين (عندما كانت طالبة).
رئيسة وزراء بريطانيا - من 1979 إلى 1990.
في عام 1992، مُنحت لقب بارونة كيستيفين Kesteven
وأصبحت عضواً في مجلس
اللوردات.