الحب العذري

اصل كلمة عذري

وهو نسبة إلي قبيلة عذرة في أيام بني أمية ونسب إليها، واشتهرت به وبكثرة عشاقها المتيمين الصادقين في حبهم، المخلصين لمحبوباتهم، الذين يستبد بهم الحب، ويشتد بهم الوجد، ويسيطر عليهم الحرمان، حتى يصل بهم إلى درجة من الضنى والهزال كانت تفضي بهم في أكثر الأحيان إلى الموت، دون أن يغير هذا كله من قوة عواطفهم وثباتها، أو يضعف من إخلاصهم ووفائهم، أو يدفعهم إلى السلو والنسيان.

تاريخنا ملئ بقصص الحب العذري التي تجعلك تشعر عند قرأتها أن ابطالها مختلفون و أحيانا تشعر أن ما كتبه التاريخ مبالغ فيه

*****************

عنترة و عبلة


ظل عنترة يثير خيالنا وأحاسيسنا ويرجف قلوبنا بقصته الأسطورية الجميلة، وبصفاته الأخلاقية الرفيعة، وبشعره العظيم المليء بصور جميلة أخاذة، وأوصاف دقيقة بديعة، وتعبيرات بليغة محكمة وبسيطة في الوقت نفسه. ومن يقرأ قصة عنترة لابد أن يتعاطف مع آلامه وصراعه العادل من أجل الحرية. يعتبر عنترة أحد الفرسان المشهورين..

هي أشهر قصص "المتيمين" الجاهليين هي قصة تستمد شهرتها من ناحيتين : من شهرة صاحبها الفارس الشاعر البطل، ثم من القصة الشعبية التي دارت حولها.

وعلى الرغم من شهرة هذه القصة، وعلى الرغم من ضخامة القصة الشعبية التي دارت حولها وكثرة التفاصيل والحواشي بها، فإن المصادر القديمة لا تمدنا بكثير من تفاصيلها، ولكنها في إطارها العام قصة ثابتة لا شك فيها بدلالة شعر عنترة الذي يفيض بأحاديث حبه وحرمانه.

نشأ عنترة العبسي من أب عربي هو عمرو بن شداد، وكان سيدا من سادات قبيلته، وأم أجنبية هي زبيبة الأمة السوداء الحبشية، وكان أبوه قد سباها في بعض غزواته.

وسرى السواد إلى عنترة من أمه، ورفض أبوه الاعتراف به، فاتخذ مكانه بين طبقة العبيد في القبيلة، خضوعا لتقاليد المجتمع الجاهلي التي تقضي بإقصاء أولاد الإماء عن سلسلة النسب الذهبية التي كان العرب يحرصون على أن يظل لها نقاؤها، وعلى أن يكون جميع أفرادها ممن يجمعون الشرف من كلا طرفيه : الآباء والأمهات، إلا إذا أبدى أحد هؤلاء الهجناء امتيازا أو نجابة فإن المجتمع الجاهلي لم يكن يرى في هذه الحالة ما يمنع من إلحاقه بأبيه.

أغار بعض العرب على عبس وأستاقوا إبلهم فقال له أبوه: كُرّ يا عنترة
فقال: العبدُ لا يحسن الكَرّ إنّما يحسنُ الحِلاب والصّر
فقال له أبوه: كُرّ وأنت حُر
فهب عنترة كالإعصار يدفعه حب للحرية إلى فعل المستحيل. فهزم الأعداء ورد الإبل فادّعاه أبوه وألحقه بنسبه. استطاع بشجاعته أن يحقق حريته التي طالما حلم بها .

كان الأبطال يخشون نزاله. وأصبحت شجاعته أسطورة يرددها العرب إلى يومنا هذا. أحب عنترة عبلة بنت عمه مالك بن قراد العبسي، وتقدم عنترة إلى عمه يخطب إليه ابنته، ولكن اللون والنسب وقفا مرة أخرى في طريقه، فقد رفض مالك أن يزوج ابنته من رجل يجري في عروقه دم غير عربي، وأبت كبرياؤه أن يرضى بعبد أسود مهما تكن شجاعته وفروسيته زوجاً لابنته العربية الحرة النقية الدم الخالصة النسب.

يقال إن عمه طلب منه تعجيزاً له وسدا للسبل في وجهه ألف ناقة من نوق الملك النعمان المعروفة بالعصافير مهراً لابنته، ويقال إن عنترة خرج في طلب عصافير النعمان حتى يظفر بعبلة، وأنه لقي في سبيلها أهوالا جساما، ووقع في الأسر، وأبدى في سبيل الخلاص منه بطولات خارقة، ثم تحقق له في النهاية حلمه، وعاد إلى قبيلته ومعه مهر عبلة ألفاً من عصافير الملك النعمان.

ولكن عمه عاد يماطله ويكلفه من أمره شططا، ثم فكر في أن يتخلص منه، فعرض ابنته على فرسان القبائل على أن يكون المهر رأس عنترة.

ثم تكون النهاية التي أغفلتها المصادر القديمة وتركت الباحثين عنها يختلفون حولها، فمنهم من يرى أن عنترة فاز بعبلة وتزوجها، ومنهم من يرى أنه لم يتزوجها، وإنما ظفر بها فارس آخر من فرسان العرب.

وفي أغلب الظن أن عنترة لم يتزوج عبلة، ولكنه قضى حياته راهبا متبتلا في محراب حبها، يغني لها ويتغنى بها، ويمزج بين بطولته وحبه مزاجا رائعاً جميلاً.

وهو يصرح في بعض شعره بأنها تزوجت، وأن زوجها فارس عربي ضخم أبيض اللون، يقول لها في إحدى قصائده الموثوق بها التي يرويها الأصمعي :

إما تريني قد نحلت ومن يكن ** غرضاً لأطراف الأٍنة ينحل
فلرب أبلج مثل بعلك بادن ** ضخم على ظهر الجواد مهبل
غادرته متعفرا أوصاله ** والقوم بين مجرح ومجدل

بعد المصادر تروي أنه ظفر بها فعلا و تزوجها و لم تنجب له أولادا اختلفت النهاية و لكن المؤكد أن عنترة قد تفرد بحبه لعبلة وكان هذا التفرد من خلال قصائده ومعلقاته التي لم تكد تخلو من ذكر محبوبته عبلة، وذكر اسم الحبيبة علنا في القصائد لم يكن أمرا مألوفا فيما مضى، وبذلك خرج عنترة عن المألوف وتحدى سلطة مجتمعه وقبيلته. وحب عبلة كان له تأثير عظيم في نفس عنترة وشعره، وهي التي صيرته بحبها، ذلك البطل المغامر في طلب المعالي، وجعلته يزدان بأجمل الصفات وأرفعها، وهي سبب تلك المرارة واللوعة اللتين ربما لم تكونا في شعره لولا حرمانه إياها، وأصبح الحبيب الصادق في حبه، وبذلك خلد أسطورة الحب الصادقة إلى يومنا هذا.

********************

عروة و العفراء

كان عروة يعيش في بيت عمه والد عفراء بعد وفاة أبيه، وتربيا مع بعض وأحبا بعضهما وهما صبيان.
فقد ربط الحب بين القلبين الصغيرين منذ طفولتهما المبكرة، وشب مع شبابهما.
فلما شب عروة تمنى عروة أن يتوج الزواج قصة حبهما الطاهرة، فأرسل إلى عمه يخطب إليه عفراء.

ووقف المال عقبة في طريق العاشقين، فقد غالت أسرة عفراء في المهر، وعجز عروة عن القيام به.
وألح عروة على عمه، وصارحه بحب عفراء، ولأنه كان فقيرا راح والدها يماطله ويمنيه الوعود، ثم طلب إليه أن يضرب في الأرض لعل الحياة تقبل عليه فيعود بمهر عفراء.
ولم يكذب عروة خبرا، وانطلق من غده بحثاً عن المال، وعاد وجيبه عامر بالمهر وما يزيد ، فقد تيسر له ما كان يسعى إليه، والأمل يداعب نفسه، ويرسم له مستقبلا سعيداً يجمع بينه وبين عفراء.

وفى أرض الوطن يخبره عمه أن عفراء قد ماتت، ويريه قبراً جديداً ويقول له إنه قبرها.
وتتحطم آمال عروة، وينهار كل ما كان يبنيه لأيامه المقبلة، وترتبط حياته بهذا القبر، يبثه آلامه، ويندب حظه، ويبكي حبه الضائع ومأساته الحزينة، ويذيب نفسه فوق أحجاره حسرات ودموعاً، فقد فقد حبيبته ورفيقة صباه.

ثم تكون مفاجأة لم يكن يتوقعها، لقد ترامت إليه أنباء بأن عفراء لم تمت، ولكنها تزوجت.
فقد قدم أموي غني من الشام في أثناء غيبته، فنزل بحي عفراء، ورآها فأعجبته، فخطبها من أبيها، ثم تم الزواج رغم معارضتها، ورحل بها إلى الشام حيث يقيم.وتثور ثائرة عروة، ويصب جام غضبه على عمه الذي خدعه مرتين:

خدعه حين مناه عفراء، ودفع به إلى آفاق الأرض البعيدة خلف مهرها، ثم خدعه حين لفق له قصة موتها، وتركه فريسة أحزانه ودموعه، فمضى يهجوه :



فيا عم يا ذا الغدر لازلت ** مبتلي حليفا لهم لازم وهوان
غدرت وكان الغدر منك سجية ** فألزمت قلبي دائم الخفقان
وأورثتني غما وكربا وحسرة ** وأورثت عيني دائم الهملان
فلازلت ذا شوق إلى من هويته ** وقلبك مقسوم بكل مكان

وانطلق عروة إلى الشام، ونزل ضيفاً على زوج عفراء والزوج يعرف أنه ابن عم زوجته ولا يعلم بحبهما بطبيعة الحال، ولأنه لم يلتقي بها بل بزوجها فقد راح هذا الأخير يماطل في إخبار زوجته بنبأ وصول ابن عمها.
ففكر عروة في حيلة عجيبة، فقد ألقى بخاتمه في إناء اللبن وبعث بالإناء إلى عفراء مع إحدى الجواري.
وأدركت عفراء على الفور أن ضيف زوجها هو حبيبها القديم قد عاد !
، ويتذكران ماضيهما السعيد فوق أرض الوطن البعيدة وما فعلت بهما الأيام و لا يعبر عن ذلك سوي الدموع.

صمم عروة على العودة إلى وطنه حرصا على سمعة عفراء وكرامتها، واحتراما لزوجها الذي أحسن وفادته وأكرم مثواه.ورحل عروة بعد أن زودته عفراء بخمار لها ذكرى حبيبة منها. وفي أرض عذرة التي شهدت رمالها السطور الأولى من قصة حبه، تكون الأدواء والأسقام في استقباله.

فقد ساءت حال عروة، واشتد عليه الضنى، واستبد به الهزال، وألح عليه الإغماء والخفقان، وأخذه مرض السل حتى لم يبقي منه شيئ، وعجز الطب عن علاجه.
ولم يجد عروة إلا شعره يفزع إليه ليبثه آلامه وأحزانه، ويصور فيه ما يلح على نفسه من أشواق وحنين، وما يضطرب في جوانحه من أسى ووجد. قضى عروة أيامه بين أمل عاش له ثم ضاع منه إلى الأبد، وألم عاش فيه وقد استقر في أعماقه إلى الأبد، وبينهما خيال عفراء الحبيبة لا يفارقه.

ظل عروة يهذي باسم عفراء ويحادث طيفها حتى وافته المنية.
بلغ النبأ عفراء، فاشتد جزعها عليه، وذابت نفسها حسرات وراءه، وظلت تندبه وتبكيه وامتنعت عن الطعام والشراب حتى لحقت به بعد فترة وجيزة، ودفن في قبر بجواره

يقول مرة:

تحملت من عفراء ما ليس لي به ** ولا للجبال الراسيات يدان
كأن قطاة علقت بجناحها ** على كبدي من شدة الخفقان
جعلت لعراف اليمامة حكمه ** وعراف نجد إن هما شفياني
فقالا: نعم نشفي من الداء كله ** وقاما مع العواد يبتدران
فما تركا من رقية يعلمانها ** ولا سلوة إلا وقد سقيانى
وما شفيا الداء الذي بي كله ** ولا ذخرا نصحا ولا ألواني
فقالا: شفاك الله، والله مالنا ** بما ضمنت منك الضلوع يدان
فويلي على عفراء ويلا كأنه ** على الصدر والأحشاء حد سنان

فوالله لا أنساك ما هبت الصبا ** وما عقبتها فى الرياح جنوب
وإنى لتعروني لذ هزة ** لها بين جلدي والعظام دبيب
وما هو إلا أن أراها فجأة ** فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتني ** وأنسى الذي أعددت حين تغيب
حلفت برب الراكعين لربهم ** خشوعاً، وفوق الراكعين قريب
لئن كان برد الماء حران صاديا ** إلى حبيب إنها لحبيب


ويأبى خيال القصاص إلا أن يجمع بينهما بعد الموت، فقد دفنت عفراء إلى جانب قبر عروة، ومن القبرين نبتت شجرتان غريبتان لم ير الناس مثلهما من قبل، ظلتا تنموان وتلتف إحداهما على الأخرى، تحقيقا لأمل قديم حالت الحياة دون تحقيقه، وأبى الموت إلا أن يحققه.

**********************

ليلى الأخيلية و توبة

هي....... من أهم شاعرات العرب المتقدمات في الإسلام ولا يتقدمها أحد من النساء سوى الخنساء هي ليلى بنت عبدالله بن الرحال، وآخر أجدادها كان يعرف بالأخيل. والأخيليون ينتسبون إلى قبيلة بني عامر، التي اشتهرت بالعديد من عشاق العرب،
كما كانت من أولى القبائل إسلاما، وجهاداً في سبيل نشر لواء الدين الجديد.
لم تكن ليلى شاعرة نكرة أو مجهولة بل كانت ذائعة الصيت ينشد الناس شعرها ويتغنى به أشهر المغنين

هو ....... توبه بن الحمير وكان يوصف بالفصاحة كان أقل منها شهرة بعض الكتب تؤكد أنه كان من لصوص العرب و مع ذلك كان شعره رقيقا فصيح الألفاظ سهل التراكيب وقوي العاطفة


كيف كان اللقاء ؟

كان اللقاء عند الكبر عندما كانت ليلى من النساء اللواتي ينتظرن الغزاة، وكان توبة مع الغزاة فرأى ليلى وافتتن بها، وهكذا توطدت علاقة حب عذري. ولكن رفض والد ليلى كان عائق زواجهما، لانتشار أمرهما، وقصة الحب بين الناس. وبعد ذلك

ذات يوم وفدت ليلى على معاوية بن أبي سفيان ولديها عدة قصائد مدحته فيها .وقصيدة لها وصفت فيها ناقتها التي كانت تجوب الأرض لتصل إلى معاوية فيجود عليها من كرمه، وسأل معاوية ذات يوم ليلى عن توبة العشيق

"ويحك ياليلى ! أكما يقول الناس كان توبة ؟"
. فقالت " يا أمير المؤمنين سبط البنان، حديد اللسان، شجى للأقران، كريم المختبر، عفيف المئزر، جميل المنظر، وهو كما قلت له أمير المؤمنين "
ثم قال معاوية وما قلت له ؟
قالت : "قلت ولم أتعد الحق وعلمي فنه
فأعجب من وصفها وأمر لها بجائزة عظيمة واستنشدها المزيد.
بعيد الثرى لا يبلغ القوم قعره ** ألد ملد يغلب الحق باطله
أذا حل ركب في ذراه وظله ** ليمنعهم مما تخاف نوازله
حماهم بنصل السيف من كل فادح ** يخافونه حتى تموت خصائله

وتمضي ليلى في مدح حبيبها توبة بأبيات أخرى حتى
يصيح بها معاوية : ويحك ليلى ! لقد جزت بتوبة قدره.
فقالت : والله يا أمير المؤمنين لو رأيته وخبرته لعرفت أني مقصرة في نعته، وأني لا أبلغ كنه ما هو أهله.
ويسألها معاوية : من أي الرجال كان ؟
فتقول :
أتته المنايا حين تم تمامه ** وأقصر عنه كل قرن يطاوله
وكان كليث الغاب يحمي عرينه ** وترضى به أشباله وحلائله
غضوب حليم حين يطلب حلمه ** وسم زعاف لا تصاب مقاتله

رفض والد ليلى تزويجها بتوبه بعض أن ذاع صيت العشق بينهم و لم يكن لديه أى سبب للرفض سوى الخوف من اللوم أو يعتبر هذا تصديق لما انتشر تزوجت ليلى أبي الأذلع ومن أهم صفات زوجها أنه كان غيوراً جداً، وبعض القصص تقول أنه طلقها لغيرته الشديدة من توبة، وقصص أخرى أنه مات عنها.

. لم يمنع توبة من زيارتها وكثرت زياراته لها، من بعد ذلك تظلم بنو الأذلع إلى السلطان الذي أهدر دم توبة، إذا عاود زيارة ليلى،فأخذوا يترصدون له في المكان المعتاد، وذات يوم علمت ليلى بمجيء توبة وخرجت للقائه سافرة وجلست في طريقه واستغرب خروجها سافرة، ولكنه فطن أنها أرادت أن تعلمه عن كمين نصب له فأخذ فرسه وركض، وكانت ليلى هي السبب في :نجاته. وفي هذا الحدث يقول توبة

وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت **** فقد رابني منها الغداة سفورها
ويتعذب توبة
من الحرمان من رؤية المحبوبة
أرى اليوم يمر دون ليلى كأنما أتت حـجج من دونها وشهوراً
حمامـة بطن الواديين، ترنمي سقاك من الغر الغوادي مطيرها

قتل توبة

كان شابا طائشا متهوراً، هناك بعض الأقاويل أنه قتل في عهد الخليفة الأموي معاوية سنة «55 هجري»، حيث غشيه القوم في إحدى غاراته من ورائه فضربوه حتى قتلوه، ثم جاء بعض من قومه فدفنوه في الصحراء، وعندما استقبلت خبر مقتل حبيبها توبة بكته بالدمع الثخين ورثته في قصيدة مطولة تدافع عنه، وفيها تقول :
وتوبة أحيا من فتاة حيــة ** وأجرأ من ليث بخفان خادر
ونعم الفتى إن كان توبة فاجرا ** وفوق الفتى إن كان ليس بفاجر

كانت تراه أفضل الرجال وأكملهم خلقا وحسنا، وظلت تحكي حكايتها معه وتفيض في مدحه حتى شعر الحجاج بالغيظ وكاد يأمر بقطع لسانها

وقيل إن الحجاج بن يوسف الثقفي قد سألها ذات يوم : أن شبابك قد ذهب، واضمحل أمرك وأمر توبة، فأقسم عليك ألا صدقتني، هل كانت بينكما ريبة قط ؟ أو خاطبك في ذلك قط ؟
وأقسمت ليلى للحجاج أن حب توبة لها كان عفيفا شريفا على الرغم من أنهما يخلوان إلى بعضهما
وأنه أنشدها ذات ليلة :
وذي حاجة قلنا له لا تحب بها ** فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ** وأنت لأخر فارغ وحليل

وقد ظلت على حبها لتوبة إلى آخر يوم في حياتها، حتى كانت ذات يوم على سفر، فمرت بقبر توبة ومعها زوجها، فأصرت على أن تزور القبر لتسلم على توبة، وحاول زوجها (الثانى ) أن يمنعها ولكنها أصرت فتركها.
واقتربت من قبر توبة، ثم قالت: السلام عليك ياتوبة، ثم حولت وجهها إلى القوم وقالت : "ما عرفت له كذبة قط قبل هذا …. أليس القائل :
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ** علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ** إليها صدى من جانب القبر صائح
وأغبط من ليلى بما لا أنا له ** ألا كل ما قرت به العين صالح
فما باله لم يسلم على كما قال !
وفي تلك اللحظة فزعت بومة كانت تكمن بجوار القبر، فنفر الجمل ورمى ليلى على رأسها فماتت من ساعتها، ودفنوها إلى جانب توبة

*********************

جميل بثينة أمير العاشقين

فى هذه القصة نتحدث عن عاشق أحب من طرف واحد، عشق فذاب عشقا فهو رجل عاش لقلبه، وعاشق أخلص لهواه وحبه، وشاعر صادق في عواطفه، فاستحق عن جدارة زعامة الحب العذري، وفاز عند الأدباء بالمكانة الأسمى بين الشعراء. من غزلي البادية وممن اتسم غزلهم بالصدق وبالعفة وبالبعد عن المادية فلا يكاد يظهر فيه اثر النوازع الحسية التي نجدها في الغزل الحضري الصريح ، كما أننا لا نلمس في شعره الميل إلى شهوات اللقاء بين الجنسين ، فهو غزل عاطفي وجداني يحرص فيه المتحابان على العفة ووحدانية الحب، والقناعة بالمحبوب الواحد ولذته في التضحية وتحمل الألم ولوعة الفراق وتحمل العاذلين والوشاة ؛ لذا يتقبل العذري الرفض والخيبة ويقتنع تماما بالنظرة السريعة الخاطفة العاجلة وكل ذلك أحب إلى نفسه من انقطاع حبل الود.

إنه جميل بثينة، وهو جميل بن عبدالله بن معمر العذري القضاعي, نسبة إلى عُذرة وهي بطن من قضاعة، وُلد بالحجاز سنة 40هـ (660 ميلادي)

كان جميل من أسرة على جانب مرموق من الجاه والثروة، وقد كان غض الشباب وسيم الطلعة ، فنشأ موفور العيش ، يزهو بشبابه، ينعم بالرخاء، راعيا يرعى أغنام قومه

وذات يوم لقي بثينة فكان ذلك اليوم يوما مشهورا في حياته، وبداية الحب العذري القوي الذي انشد فيه شعره وافنى عمره وشبابه وكان سبب بؤسه وموته غريبا عن أهله ووطنه

افتتن جميل ببثينة بنت حيان بن ثعلبة العذرية, وقال فيها شعرا يذوب رقة فتناقل الناس أخبارهما، وعرف بجميل بثينة، وقد خطبها إلى أهلها ولكنهم رفضوه وذلك بسبب ما ذكره عنها في شعره ولكثرة ما ردد اسمها على لسانه، أما بثينة فيقال أنها أحبت رجلا يدعى حجنة الهلالي وتقول رواية أخرى بان أهلها أرغموها على الزواج من رجل لا تحبه يدعى نبيه بن الأسود ، وفي سائر الأحوال ظل جميل على وفائه يلوم بثينة تارة، ويعاتبها تارة ، وقد واستحكم العداء بينه وبين قومها وراح يهجوهم ويمعن في إثارة حقدهم ، و أكد عزمه على الالتقاء بها سرا أو جهرا ... شكوا أمرهم إلى مروان ابن الحكم حاكم المدينة فأهدر دمه ولم يجد جميل وسيلة للنجاة إلا الهرب فسارع بالفرار إلى مصر ، فنزل على عبد العزيز بن مروان، فأكرمه عبد العزيز وأمر له بمنزل, فأقام قليلا ومات ودفن في مصر, فى سنة 82 هـ وهو فى الثانية والأربعين من عمره

ويقول جميل عند سمعه نبأ إهدار مروان دمه:
أتانيَ عـن مَـروانَ، بالغَيـبِ أنّـه مُقيِّدٌ دمِـي، أو قاطِـعٌ مـن لِسانيـا
ففي العِيسِ منجاة ٌ وفي الأرضِ مذهَبٌ إذا نحـنُ رفعنـا لـهـنّ المثانـيـا
وردّ الهوى اثنانُ، حتـى استفزنـي، من الحبِّ، مَعطوفُ الهوى من بلاديا
أقولُ لداعي الحبّ ، والحجـرُ بيننـا ، ووادي القُرى : لَبّيك! لمّـا دعانيـا
وعاودتُ من خِـلّ قديـمٍ صبابتـي، وأظهرتُ من وجْدي الذي كان خافيـا
وقالـوا: بـهِ داءٌ عَـيـاءٌ أصـابـه ، وقد علمتْ نفسـي مكـانَ دوائيـا

ويقول عن بثينة فى نفس القصيدة :
هي السّحـرُ، إلاّ أنّ للسحـرِ رُقْيـة ً ،*** وإنيَ لا ألفي لها، الدهـرَ، راقيـا
أُحِـبّ الأيامَـى ، إذ بُثينـة ُ أيّــمٌ، ***وأحببتُ، لمـا أن غنيـتِ ، الغوانيـا
أُحِبّ من الأسماءِ مـا وافَـقَ اسمَهـا ،*** وأشبهـهُ، أو كـانَ منـه مدانـيـا
وددتُ ، على حبِّ الحياة ِ، لـو أنهـا*** يزاد لها، في عمرها ، مـن حياتنـا

**********************

أبو دهبل و عاتكة

هو أبو دهبل وهب بن ربيعة ، وقيل زمعة ، وقيل وهب بن أُسيد بن أميمة ، وقيل أُحيحة بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي ، القرشي ، المكِّي .

من مشاهير شعراء مكَّة المكرمة ، ومن الشعراء العُشَّاق المعروفين ، وأحد أشراف بني جمح .
كان عفيفاً ، كريماً ، جميل المنظر
أما هى فغنية عن التعريف بنت معاوية بنت أبى سفيان و جدتها هند بنت عتبة
ففي أثناء رحلة عاتكة إلى مكة للحج، انقطع بها الطريق في وادي طوى.
كانت الشمس تصب نيرانها في يوم قائظ الحرارة، فأمرت عاتكة جواريها بأن يرفعن الستائر،وأطلت برأسها تتطلع إلى الطريق،وقد تخففت في ثيابها
وتصادف أن مر أبو دهبل بذلك المكان فاستوقفه منظر عاتكة وراح يرقبها عن بعد معجبا بجمالها، وهي لا تشعر بوجوده.
وعندما أحست بنظراته تثقب وجهها التفتت إليه، فالتقت نظراتهما، وأسرعت تستر وجهها، وأمرت الجواري أن يعدن الستائر لمكانها، وراحت تسب أبا دهبل .


أَيا كَبِدي طارَت صُدوعاً نَوافِـذاً *** وَيا حَسرَتي ماذا تَغَلغَلَ في القَلبِ
فَأُقسِمُ ما غُمشُ العُيونِ شَـوارِفٌ *** رَوائِمُ بَوٍّ جاثِماتٌ عَلـى سَقـبِ
يُشَمِّمنَهُ لَـو يَستَطِعـنَ اِرتَشَفنَـهُ *** إِذا سُفنَهُ يَردُدنَ نَكباً عَلى نَكـبِ
بِأَوجَدَ مِنّي يَومَ زالَـت حُمولُهُـم *** وَقَد طَلَعَت أولى الرِكابِ مِنَ النَقبِ
كُـلُّ مُلِمّـاتِ الأُمـورِ وَجَدتُّهـا *** سِوى فُرقَةِ الأَحبابِ هَيِّنَةَ الخَطبِ

وأدرك أبو دهبل بأن سهام الحب قد أصابته، فأنشد تلك الأبيات، التي سمعها بعض رفاقه فرددوها، وشاعت بين الناس في مكة، حتى وصلت إلى المغنين فلحنوها وتغنوا بها، والناس جميعا يعلمون من هي التي سلبت الشاعر قلبه، سمعت عاتكة الأبيات فطربت لها، وضحكت وعبرت عن إعجابها، بالشعر وبالشاعر نفسه، بأن أرسلت إليه هدية ثمينة وكانت عبارة عن كسوة يرتديها ويختال بها.
وجرت بينهما الرسائل، والرسل .
ونمت علاقة الحب حتى أن أبا دهبل تبع عاتكة إلى دمشق بعد انتهاء زيارتها إلى مكة .

وصل الخبر إلى الأب، فشدد الحراسة على ابنته، ولم تستطع أن تبر بوعدها للعاشق الولهان .
وطال انتظار أبي دهبل، واستبد به الشوق فراح يمطرها بأشعار الحب والغزل العفيف .
ثم مرض مرضا طويلا.
وقال في ذلك شعرا منه :
طال ليلي وبت كالمحزون ** ومللت الثواء في جيرون
وأطلت المقام بالشام حتى ** ظن أهلي مرجمات الظنون
فبكيت خشية التفرق جمل ** كبكاء القرين إثر القرين
وهى زهرة مثل لؤلؤة الغواص ** ميزت من جوهر مكنون
وإذا ما نسبتها لم تجدها ** في سناء من المكارم دون
ثم خاصرتها في القبة الخصـ ـراء ** تمشي في مرمر مسنون
وشاع هذا الشعر حتى بلغ معاوية فغضب منه،

في يوم الجمعة دخل عليه الناس وفيهم أبو دهبل، فأمر حاجبه بأن يحتجزه بعد انتهاء الخطبة، وأخذ الناس يسلمون وينصرفون، فقام أبو دهبل لينصرف، ولكن معاوية نادى عليه، وأجلسه إلى جواره حتى خلا المكان من الناس، فقال معاوية لأبي دهبل: ما كنت أظن أن في قريش أشعر منك حيث تقول:

ولقد قلت إذ تطاول سقمي ** وتقلبت ليلتي في فنون
ليت شعري أمن هوى طار نومي ** أم براني البارى قصير الجفون
وهي بقية القصيدة التي قالها في عاتكة بالشام.
ثم أضاف الخليفة معاوية : غير أنك قلت :

وهى زهرة مثل لؤلؤة الغواص ** ميزت من جوهر مكنون
وإذا ما نسبتها لم تجدها ** في سناء من المكارم دون

ووالله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت، وأي شيء زدت في قدرها؟! لكنك أسأت عندما قلت :
ثم خاصرتها في القبة الخصـ ـراء** تمشي في مرمر مسنون
قال أبو دهبل: والله يا أمير المؤمنين ما قلت هذا، وإنما قيل على لساني .

فقال له معاوية: أما من جهتي فلا خوف عليك، لأنى أعلم صيانة ابنتي لنفسها، وأعرف أن فتيان الشعر، لم يتركوا أن يقولوا النسيب في كل من جاز أن يقولوه فيه وكل من لم يجز، وإنما أكره لك جوار يزيد، وأخاف عليك وثباته، فإن له ثورة الشباب وأنفة الملوك.

أدرك أبودهبل جسامة موقفه، فتقبل تحذير أمير المؤمنين وأسرع بالهرب من دمشق عائدًا إلى موطنه في مكة .
إلا أنه استمر يكاتب عاتكة.
وذات يوم وقعت إحدى رسائله في يد خادم لمعاوية، فاحتال حتى سرقها من عاتكة وسلمها إلى معاوية، ووصف له حالها عندما استلمتها، وكيف أنها أصيبت بالحزن والاكتئاب ثم خبأتها تحت سجادة صلاتها.
قرأ معاوية الخطاب فوجد فيها أبيات شعر منها:

أعاتك هلا إذ نجلت فلا تري ** لذي صبوة زلفى لديك ولاحقا
رددت فؤادا قد تولى به الهوى ** وسكنت عينا لا تمل ولا ترقا
ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى ** ولم أر يوما منك جودا ولا صدقا
أتنسين أيامي بربعك مدنفا ** صريعا بأرض الشام ذا سقم ملقى
وليس صديق يرتضي لوصية ** وأدعو لدائي بالشراب فلا أسقى
وأكبر همي أن أرى لك مرسلا ** فطول نهاري جالس أرقب الطرقا
فواكبدي إذ ليس لي منك مجلس ** فأشكو الذي بي من هواك ومن ألقى
رأيتك تزدادين للحب غلظة ** ويزداد قلبي كل يوم لكم عشقا

قرأ معاوية ابن أبى سفيان هذا الشعر، وأدرك أن موضوع ابنته مع أبي دهبل لم ينته فماذا فعل ؟ لقد خرج أبو دهبل على القانون الاجتماعي .
فذلك الفتى العربي جميل الطلعة، حسن السمعة، الذي وقع في حب بنت الخليفة من النظرة الأولى خالف قانون الفوارق الاجتماعية .
ولكن أبا دهبل الجمحي لم يكن يسعى لخرق القوانين الاجتماعية الثابتة ، إنه ببساطة عاشق أحب فعبر عن عاطفته في أشعار جميلة، وترك لقلبه العنان ، يشتاق ويحلم بالوصل ويمني نفسه بلقاء الحبيب.
ولعله لم يكن يتوقع أن يصل الأمر إلى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان نفسه .
لذلك ذهب إلى الجامع الذي يخطب فيه كل يوم جمعة، وحضر الصلاة واستمع للخطبة ثم تأهب للخروج مع كل الخارجين .
وعندما ناداه الخليفة وتحدث معه بشأن الشعر الذي تشبب فيه بابنته عاتكة، وحذره من مغبة الوقوع في يد ابنه وأخيها يزيد، استمع للنصح ولم يعتبره وعيدا، وأسرع يغادر الشام إلى الحجاز.
وهناك، وسط الأتربة، وفي ربوع المدينة التي ولد ونشأ بها، عاد الحنين ينمو شوكاً في قلبه، وغلبه الحب على أمره، فراح يبعث الخطابات والمراسيل إلى حبيبته عاتكة، وكأنه على يقين من أن أمرهما لن يفتضح .

فتلصص عليها الخدم ورآها أحدهم تتسلم رسالة من حبيبها أبي دهبل فأسرع يبلغ أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان .
هذا الرجل الذي وصف بأنه كان سياسيا داهية، وكان رجل دولة من طراز فريد ما إن قرأ الشعر الذي أرسله أبو دهبل إلى ابنته عاتكة حتى بعث إلى ابنه يزيد فأتاه، فدخل عليه فوجده مطرقا.
فقال :يا أمير المؤمنين … ما هذا الأمر الذي شجاك.
قال معاوية : أمر أقلقني منذ اليوم، وما أدري ما أعمل في شأنه.
قال يزيد: وما هو يا أمير المؤمنين؟
قال: هذا الفاسق أبو دهبل كتب بهذه الأبيات إلى أختك عاتكة، فلم تزل باكية منذ اليوم، وقد أفسدها، فما ترى فيه ؟
لم يهتم يزيد بن معاوية بأن يسأل أباه هل بكت عاتكة أخته غضبا وثورة على الشعر أم لوعة وحزنا على الشاعر؟!
فقد قرر بسرعة كيف يتصرف.. قال لأبيه :والله إن الرأي لهين.
قال : وما هو ؟
قال : عبد من عبيدك يكمن له ( أي لأبى دهبل ) في أزقة مكة فيريحنا منه.
هذا هو الحل الأيسر.
أما معاوية رجل السياسة المحنك فيقول لابنه على الفور : أف لك ! والله إن امرؤ يريد بك ما يريد، ويسمو بك إلى ما يسمو كغير ذي رأي، وأنت قد ضاق ذرعك بكلمة وقصر فيها باعك، حتى أردت أن تقتل رجلا من قريش ! أو ما تعلم أنك إذا فعلت ذلك صدقت قوله وجعلتنا أحدوثة أبداً !
قال يزيد : يا أمير المؤمنين، إنه قال قصيدة أخرى تناشدها أهل مكة، وسارت حتى بلغتني وأوجعتني، وحملتني على ما أشرت به ثم أنشده قول أبي دهبل :

ألا لا تقل مهلا فقد ذهب المهل ** وما كان من يلحي محبا له عقل
لقد كان في حولين حالا ولم أزر ** هواي وإن خوفت عن حبها شغل
حمى الملك الجبار عني لقاءها ** فمن دونها تخشى المتالف والقتل
فلا خير في حب يخاف وباله ** ولا في حبيب لا يكون له وصل
فواكبدي أني شهرت بحبها ** ولم يك فيما بيننا ساعة بذل
وياعجبا أني أكاتم حبها ** وقد شاع حتى قطعت دونها السبل

فقال معاوية : قد والله رفهت عني، فما كنت آمن أنه قد وصل إليها، فأما الآن وهو يشكو أنه لم يكن بينهما وصل ولابذل فالخطب فيه يسير، قم عني، فقام يزيد فانصرف .
وهكذا أنقذ الشعر أبا دهبل من مصير محتوم

تعمد معاوية أن يحج في تلك السنة ليذهب إلى مكة ويلتقي مرة أخرى بأبي دهبل .
فما إن انقضت أيام الحج حتى كتب أسماء وجوه قريش وأشرافهم وشعرائهم ومن بينهم أبو دهبل .
ثم دعاهم إليه وفرق عليهم هباته وعطاياه.
فلما تسلم أبو دهبل هديته قام لينصرف ولكن معاوية دعا به، فرجع إليه.
فقال له: يا أبا دهبل، إن يزيد ابن أمير المؤمنين ساخط عليك لشعر قلته فينا .
ألم أحذرك من أبى خالد .. ؟!
وراح أبو دهبل للمرة الثانية يعتذر لأمير المؤمنين ويقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يقل ذلك الشعر وأنه مدسوس عليه .
قال معاوية : لابأس عليك، وما يضرك ذلك عندنا، فهل تأهلت ؟ قال أبو دهبل: لا .
سأله معاوية : فأي بنات عمك أحب إليك ؟
فأجاب : فلانة، فقال أمير المؤمنين : قد زوجتكما وأصدقتها ألفي دينار وأمرت لك بألف دينار .
هكذا تصرف الخليفة الحكيم.
فهو لم يكف عاشق ابنته والمتشبب بها شر نفسه وشر ابنه فقط، وإنما عامل أبي دهبل بحنان غريب.
وتكون النتيجة المنطقية لسعة صدر الحاكم وحكمته أن يعده أبو دهبل وعد شرف بألا يتعرض لابنته مرة أخرى ويصدق في وعده .
لقد عاش أبو دهبل طويلا، فعاصر خلافة يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان، واشتغل مع عبد الله بن الزبير الذي كان يطالب بالخلافة من بني أمية فولاه بعض أعمال اليمن، وعرف عنه الصلاح والعفة.

**********************

كثير عزة

الاسم : كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن مليح من خزاعة
اسم الأم : جمعة بنت الأشيم الخزاعية
تاريخ الميلاد : ولد في آخر خلافة يزيد بن عبد الملك
محل الإقامة : أكثر إقامته بمصر

من هى ؟؟؟؟؟؟
عزة بنت حُميل بن حفص ، من بني حاجب بن غفار ، كنانية النسب ك، ناها كثير في شعره بأم عمرو ، ويسميها تارة الضميريّة وابنة الضمري نسبة إلى بني ضمرة.

وقد كان وصفة أنه قصير شديد القصر . ومن هنا كانت تسميته بكثير على سبيل التصغير : ويا ليت كثير يطوف بالبيت فمن حدثك انه يزيد عن ثلاثه أشبار فلا تصدقه .
وكان كثير إذ ادخل على عبد الملك بن مروان – الخليفة الأموي يقول : طأطي راسك حتى لا يصيبه السيف
ويصرخ كثير نفسه بهذا القصر في شعره فيقول

أن أراك قصيرا في الرجال فإنني إذا حل أمر ساحتي لطويل
ويضيفون انه كثير الاعتداد بنفسه ، كثير العجب والزهو والخيلاء

وتوفي والده وهو صغير السن ، وكان منذ صغره سليط اللسان . وكفله عمه بعد موت أبيه وكلفه رعي قطيع له من الإبل حتى يحميه من طيشه وملازمته سفهاء المدينة. وقد قيل عن كثير انه اشهر شعراء الآلام في زمانه

مر كثير ذات يوم بنسوة من بني حمزة ومعه قطيع أغنام فأرسلن إليه عزة وهي بعد صغيرة
فقالت له : تقول لك النسوة بعنا كبشا من هذه الغنم ، أنسئنا بثمنه إلى أن ترجع – أي أمهلنا في دفع ثمنه حتى تعود –فأعطاها كثير كبشا ، ووقعت هي في قلبه موقعا عظيما ، فلما رجع جاءته امرأة منهن بدرهمه
فقال لها : أين الصبية التي أخذت مني الكبش ؟
قالت : وما تصنع بها ؟ هذا درهمك.
فقال : لا اخذ درهمي إلا ممن دفعت إليه : وانصرفت وهو ينشد

قضي كل ذي دين فوفى غريمه**** وعزة ممطول معني غريمها

وكما يحدث لكل العشاق، فكر كثير في الاقتران بحبيبة القلب، ولكن المحظور كان قد وقع.
لقد وصل أمر تشببه بها إلى أهلها، فرفضوه على عادة العرب أن يزوجوها له . و يقال أنه رفض لقصر قامته و منهم من يقول رفض كثير لكثرة مغامراته و عدم إخلاصه لعزة ..

وعلى هذا الجانب يروى أنه سار ذات يوم خلف امرأة منقبة تميل في مشيتها، وظل يطاردها ويطالبها أن تتوقف وتتحدث معه وتعرفه بنفسها .
إلى أن توقفت المرأة المنقبة وقالت له : ويحك ! هل تركت عزة فيك بقية لأحد ؟!
فأجاب كثير : بأبي أنت، والله لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك .
عندئذ أسفرت المرأة عن وجهها، وكانت المفاجأة مذهلة.
إنها هي نفسها عزة بدمها ولحمها !

ويقول كثير : إنه ندم أشد الندم وراح ينشد :


ألا ليتنى قبل الذي قلت شيب لي ** عن السم خضخاض بماء الذراح
أقسمت ولم تعلم علي خيـــــــانة ** وكم طــــــــالب للربح ليس برابح

ومـا كـنت أدري قـبـل عـزّة مالبكـــا ****ولاموجعـات الفلب حتى تـولتِ

فــقـلت لهـا يــا عـزّ كل مصـيـبة ****.إذا وطّنت يـوما ًلها الـنفسُ ذلـّتِ

هنيئــاً مريئـاً غير داء مـخـامــر **** لعزّة مـن أعراضـنـا ما استحلّتِ

فـإن تكن العُـتـْبَى فأهـلاً ومــرحباً**** وحـقـت لها العُتْبَى لـديـنا وقلـّتِ

وإن تـكن الأخرى فإن وراءنـــــا**** مناويح لـو ســارت بـها الرِّئم كلّتِ

ووالله ثم الله مــا حـلّ قـــبــلهـا****ولا بـــعـدها من خلـّةٍ حـيـث حـلّتِ

فوا عجـباً للـقـلب كـيـف اعترافـه**** وللـنـفـس لـمـا وُطـّنت كيف ذلت!

وإني وتهـيـامي بعـــزّة بـعدمـــــا****تـخلـيــت ممـا بـينـنا وتــخلّتِ

لـكمالمرتجي ظلّ الغمـــامة كلّمـا**** تــبـوّا منهـا للمـقيـل اضـمحـلّتِ

اناديك ماحج الحجيج وكبرت **** بفبفا غزال اشعرت واستهلت

تمنيتها حتى اذا مارأيتها **** رأيت المنايا شرعا قد اظلت

فلا يحسب الواشون ان صبابتي **** بعزّة كانت غمرة فتجلت

أصعب ما مر به

يروى ان عبد الملك ابن مروان سأل كثير عزّة عن اعجب خبر له مع عزّة
فقال : يا امير المؤمنين حججت ذات سنة وحج زوج عزّة معها ولم يعلم
احدنا بصاحبه . فلما كنا ببعض الطريق امرها زوجها بابتياع سمن تصلح
به طعاما لرفقته . فجعلت تدور الخيام خيمة خيمه حتى دخلت اليّ وهي
لا تعلم انها خيمتي . وكنتُ ابري سهما فلما رأيتها جعلت ابري لحمي
وانظر اليها حتى بريت ذراعي وانا لا اعلم به والدم يجري .
وكان عندي نجيء سمن ( وعاء سمن ) فحلفت لتأخذه فأخذته وجاء
زوجها فلما رأى الدم سألها عن خبره فكاتمته حتى حلف عليه لتصدقنه
فصدقته فضربها وحلف عليها لتشتمني في وجهه .
فوقفت عليّ وقالت لي وهي تبكي : يا ابن (......) فأنشدت

ومسا ترابا كان قد مس جلدها ** وبيتا وظلا حيث باتت وظلت

ولاتيأسا ان يمحو الله عنكما ** ذنوبا اذا صليتما حيث صلت

رُهـبانُ مَديَنَ وَالَّذينَ iiعَهِدتُهُم يَبكونَ مِن حَذَرِ العَذابِ قُعودا
لو يَسمَعونَ كَما سَمِعتُ كَلامَها خَـرُّوا لِـعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجودا

وبسبب هذين البيتين امتنع عمر بن عبد العزيز عن الإذن لكثيّر بالدخول عليه لما ولي الخلافة،

وسافر إلى مصر حيث دار عزة بعد زواجها وفيها صديقه عبد العزيز بن مروان الذي وجد عنده المكانة ويسر العيش. وتوفي في سنة (105هـ) بالحجاز هو وعكرمة مولى ابن عباس في نفس اليوم فقيل:
مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس.
وهو صاحب الكلمة السائرة: (ضحى بنو حرب بالدين يوم الطف وضحى بنو مروان بالكرم يوم العقر).

********************

ابن زيدون و ولادة

ينتمي "ابن زيدون" إلى قبيلة "بني مخزوم" العربية، التي كانت لها مكانة عظيمة في الجاهلية والإسلام، وعرفت بالفروسية والشجاعة.

وكان والده من فقهاء "قرطبة" وأعلامها المعدودين، كما كان ضليعًا في علوم اللغة العربية، بصيرًا بفنون الأدب، على قدر وافر من الثقافة والعلم.

أما جده لأمه "محمد بن محمد بن إبراهيم بن سعيد القيسي" فكان من العلماء البارزين في عصره، وكان شديد العناية بالعلوم، وقد تولى القضاء بمدينة "سالم"، ثم تولى أحكام الشرطة في "قرطبة".

هي ... أميرة أندلسية شاعرة عاشقة حالمة مفرطة الرومانسية ولادة بنت المستكفى بالله محمد بن عبد الرحمن المرواني.

وكانت شاعرة أديبة جميلة الشكل شريفة الأصل عريقة الحسب،وقد وصفت بأنها نادرة زمانها ظرفًا وحسنًا وأدبًا زهرة من زهرات البيت الأموي.

وأثنى عليها كثير من معاصريها من الأدباء والشعراء وأجمعوا على فصاحتها ونباهتها وسرعة بديهتها.

ولد الشاعر "أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أحمد بن غالب بن زيد المخزومي" سنة [394هـ= 1003م] بالرصافة من ضواحي قرطبة، وهي الضاحية التي أنشأها "عبد الرحمن الداخل" بقرطبة، واتخذها متنزهًا له ومقرًا لحكمه، ونقل إليها النباتات والأشجار النادرة، وشق فيها الجداول البديعة حتى صارت مضرب الأمثال في الروعة والجمال، وتغنّى بها الكثير من الشعراء.

وفي هذا الجو الرائع والطبيعة البديعة الخلابة نشأ ابن زيدون؛ فتفتحت عيناه على تلك المناظر الساحرة والطبيعة الجميلة، وتشربت روحه بذلك الجمال الساحر، وتفتحت مشاعره، ونمت ملكاته الشاعرية والأدبية في هذا الجو الرائع البديع. وتهيأت لابن زيدون -منذ الصغر- عوامل التفوق والنبوغ، فقد كان ينتمي إلى أسرة واسعة الثراء، ويتمتع بالرعاية الواعية من جده (بعد وفاة والده) وأصدقاء أبيه، ويعيش في مستوى اجتماعي وثقافي رفيع، فضلا عما حباه الله به من ذكاء ونبوغ، وما فطره عليه من حب للعلم والشعر وفنون الأدب.

هو أشهر صوت شعري انطلق في ربوع الأندلس، مغردًا، مردّدًا أحلى القصائد والمقطوعات، شاعرًا ووزيرًا وعاشقًا مستلهمًا، وسجينًا وهاربًا ومطاردًا، وساعيًا من بلدة إلى بلدة ومن حاكم إلى حاكم.وأتيح لشعره من الذيوع ما لم يتح لغيره من شعراء الأندلس.

ابن زيدون وزيرا

كان "ابن زيدون" من الصفوة المرموقة من شباب قرطبة؛ ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن يشارك في سير الأحداث التي تمر بها.

وقد ساهم "ابن زيدون" بدور رئيسي في إلغاء الخلافة الأموية بقرطبة، كما شارك في تأسيس حكومة جَهْوَرِيّة بزعامة "ابن جهور"، وإن كان لم يشارك في ذلك بالسيف والقتال، وإنما كان له دور رئيسي في توجيه السياسة وتحريك الجماهير، وذلك باعتباره شاعرًا ذائع الصيت، وأحد أعلام "قرطبة" ومن أبرز أدبائها المعروفين، فسخر جاهه وثراءه وبيانه في التأثير في الجماهير، وتوجيه الرأي العام وتحريك الناس نحو الوجهة التي يريدها.

وحظي "ابن زيدون" بمنصب الوزارة في دولة "ابن جهور"، واعتمد عليه الحاكم الجديد في السفارة بينه وبين الملوك المجاورين، إلا أن "ابن زيدون" لم يقنع بأن يكون ظلا للحاكم، واستغل أعداء الشاعر ومنافسوه هذا الغرور منه وميله إلى التحرر والتهور فأوغروا عليه صدر صديقه القديم، ونجحوا في الوقيعة بينهما، حتى انتهت العلاقة بين الشاعر والأمير إلى مصيرها المحتوم.

إنها أديبة شاعرة جزلة القول، مطبوعة الشعر، تساجل الأدباء، وتفوق البرعاء".

وبعد سقوط الخلافة الأموية في "الأندلس" فتحت ولادة أبواب قصرها للأدباء والشعراء والعظماء، وجعلت منه منتديًا أدبيًا، وصالونًا ثقافيًا، فتهافت على ندوتها الشعراء والوزراء مأخوذين ببيانها الساحر وعلمها الغزير. ووقع الشاعر و الوزير فى الحب .

تقول ولادة فى حب زيدون


أغار عليك من نفسي وعيني ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أنى خبأتك في عيونـــي إلى يوم القيامة ما كفاني
و يقول هو

إني ذكرتك بالزهرة مشتاقا والأفق طلق ووجه الأرض قد راها
وللنسيم اعتلال في أصائله كأنما رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الغضي مبتسم كما حللت عن اللبات أطواقاً
يوم كأيام لذات لنا انصرمت بتنا لها حين نام الدهر سراقاً
نلهو بما يستميل العين من زهر جال الندى فيه حتى مال أعناقاً
كأن اعينه إذا عاينت أرقي بكت لما بي فجال الدمع رقراقاً
ورد تألف في ضاحي منابته فازداد منه الضحي في العين إشراقاً
سرى ينافحة نيلو فر عبق وسنان نبه منه الصبح احداقاً
كان يهبج لنا ذكرى تشوقنا إليك ، لم يعد عنها العدر أن طاقا
لو كان وفي المنى في حمغا بكم لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكن الله قلباً عن ذكركم فلم يطر بجناح الشوق خفاقاً
لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا وافاكم بفتى أضناه مالا قي

و لم يكن ابن زيدون هو المحب الأوحد و لكن كان لديه من المنافسين من لهم شراسة مخيفة

وكان هناك الكثير من الأدباء و الشعراء الذين ارتادوا ندوتها، وتنافسوا في التودد إليها، ومنهم "أبو عبد الله بن القلاس"، و"أبو عامر بن عبدوس" اللذان كانا من أشد منافسي ابن زيدون في حبها، وقد هجاهما "ابن زيدون" بقصائد لاذعة، فانسحب "ابن القلاسي"، ولكن "ابن عبدوس" غالى في التودد إليها، وأرسل لها برسالة يستميلها إليه، فلما علم "ابن زيدون" كتب إليه رسالة على لسان "ولادة" وهي المعروفة بالرسالة الهزلية، التي سخر منه فيها، وجعله أضحوكة على كل لسان، وهو ما أثار حفيظته على "ابن زيدون"؛ فصرف جهده إلى تأليب الأمير عليه حتى سجنه، وأصبح الطريق خاليًا أمام "ابن عبدوس" ليسترد مودة "ولادة".

وكتب ابن زيدون قصيدته ( النونية ) إلى حبيبته ولادة بنت المستكفى
وكان هو في اشبيلية وهى في قرطبة وهى من اشهر أشعاره قائلاً

أضحى التنائي بديلا ً عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ألاّ وقد حان صُبحُ البين صبّحنا حَينٌ فقامَ بنا للحَين ناعينا

من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا أنساً بقربهم قد عاد يُبكينا

غِيظَ العِدا من تساقينا الهوى فدعوا بأن نَغَصّ فقال الدهر آمينا
فانحلّ ما كان معقوداً بأنفسنا وانبتّ ما كان موصولاً بأيدينا

وقد نكون وما يُخشى تفرّقنا فاليوم نحن وما يُرجى تلاقينا
يا ليتَ شِعري ولم نُعتِب أعاديَكم هل نالَ حظـّاً من العُتبى أعادينا

وفشلت توسلات "ابن زيدون" ورسائله في استعطاف الأمير حتى تمكن من الفرار من سجنه إلى "إشبيلية" ، وما لبث الأمير أن عفا عنه، فعاد إلى "قرطبة" وبالغ في التودد إلى "ولادة"، ولكن العلاقة بينهما لم تعد أبدًا إلى سالف ما كانت عليه من قبل، وإن ظل ابن زيدون يذكرها في أشعاره، ويردد اسمها طوال حياته في قصائده.

ولم تمض بضعة أشهر حتى توفي الأمير، وتولى ابنه "أبو الوليد بن جمهور" صديق الشاعر الحميم، فبدأت صفحة جديدة من حياة الشاعر، ينعم فيها بالحرية والحظوة والمكانة الرفعية.

واستطاع "ابن زيدون" بما حباه الله من ذكاء ونبوغ أن يأخذ مكانة بارزة في بلاط "المعتضد"، حتى أصبح المستشار الأول للأمير، وعهد إليه "المعتضد"، بالسفارة بينه وبين أمراء الطوائف في الأمور الجليلة والسفارات المهمة، ثم جعله كبيرًا لوزرائه، ولكن "ابن زيدون" كان يتطلع إلى أن يتقلد الكتابة وهي من أهم مناصب الدولة وأخطرها، وظل يسعى للفوز بهذا المنصب ولا يألوا جهدًا في إزاحة كل من يعترض طريقه إليه حتى استطاع أن يظفر بهذا المنصب الجليل، وأصبح بذلك يجمع في يديه أهم مناصب الدولة وأخطرها وأصبحت معظم مقاليد الأمور في يده.

وقضى "ابن زيدون" عشرين عامًا في بلاط المعتضد، بلغ فيها أعلى مكانة، وجمع بين أهم المناصب وأخطرها.
فلما توفي "المعتضد" تولى الحكم من بعده ابنه "المعتمد بن عباد"، وكانت تربطه بابن زيدون أوثق صلات المودة والألفة والصداقة، وكان مفتونًا به متتلمذًا عليه طوال عشرين عامًا، وكان بينهما كثير من المطارحات الشعرية العذبة التي تكشف عن ود غامر وصداقة وطيدة.

وحاول أعداء الشاعر ومنافسيه أن يوقعوا بينه وبين الأمير الجديد، وظنوا أن الفرصة قد سنحت لهم بعدما تولى "المعتمد" العرش خلفًا لأبيه، فدسوا إليه قصائد يغرونه بالفتك بالشاعر، ويدعون أنه فرح بموت "المعتضد"، ولكن الأمير أدرك المؤامرة، فزجرهم وعنفهم،

وكان الشاعر عند ظن أميره به، فبذل جهده في خدمته، وأخلص له، فكان خير عون له في فتح "قرطبة"، ثم أرسله المعتمد إلى "إشبيلية" على رأس جيشه لإخماد الفتنة التي ثارت بها، وكان "ابن زيدون" قد أصابه المرض وأوهنته الشيخوخة، فما لبث أن توفي بعد أن أتمّ مهمته في [ أول رجب 463هـ= 4 من إبريل 1071م] عن عمر بلغ نحو ثمانية وستين عامًا.

****************

قيس وليلى

حكاية ليلى والمجنون هي من أغلب قصص الحب المشهورة على الإطلاق.
بل أغلبها شهرة ومعرفة عند العام والخاص.
ولا بأس من إعادة ذكرها لمن لا يعرف تفاصيلها بشكل جيد.
المجنون هو قيس بن الملوح العامرى ابن عم ليلى.
حدثت هذه القصة في صدر الإسلام ، في القرن الأول الهجرى، في وقت كانت البادية العربية تعيش في عزلة نسبية .
بدأت قصتهما كما تبدأ أكثر قصص الحب فى البادية في المرعى، وهما صبيان يلعبان ويرعيان ماشية أهلهما.
وكبر العاشقان، وكبر معهما حبهما، وحجبت ليلى عن قيس، فازداد حبه لها، واشتد حنينه إلى أيامهما الصغيرة أيام أن كان الحب طفلا يرعاهما دون رقيب أو حجاب.
يقول قيس :
تعلقت بليلى وهي ذات ذؤابة ** ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم، ياليت أننا ** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
ولكن عجلة الزمن لا ترجع إلى الوراء، وطفل الحب الذي رعاهما في صباهما الصغير يكبر وينمو، ويشتد ساعده، ويقوى عدوه، وسهامه الصغيرة الرقيقة التي ضمت قلبيهما صبيين في المرعى أصبحت بعد أيام الصبا حادة نافذة.
لقد جاء الإسلام فرفع منزلة المرأة العربية فلم تعد واحدة من أساليب اللهو التي اعتاد عليها البدوي ليحقق وجوده الضائع في الصحراء المترامية الأطراف إلى جانب الخمر والميسر.
إن الدين الجديد يحرم عليه الخمر ويحرم عليه الميسر، ويفرض عليه قيودا دينية واجتماعية وخلقية.
وكان الشاب ينظر حوله، فلا يرى إلا بنات أعمامه، إنهن رفيقات اللعب في الصبا، وأول من يتعرف إليهن من نوع الأنثى فيختار الشاب إحداهن ، تسحره نظرة منها أو التفاتة أو كلمة عابرة ، ويميل القلب نحوها ولكن فجأة تختفي بنت العم تماما ، فالتقاليد تحجبها داخل خيمتها، لا تخرج منها إلا بصحبة حارسة، وللضرورة .
هذه الظروف ما هي إلا تربة خصبة لنمو العاطفة واشتعالها ، فيستبد الوجد والشوق إلى المحبوبة ويزداد التعلق بها، وتسيطر صورتها على خيال الحبيب ولا يفكر إلا فيها ، إن حياته كلها أحلامه وأشواقه تتركز في نقطة واحدة ، أن يراها .
ويتحول الشاب الذي كان يزهو بفتوته بين أقرانه، إلى شبح هزيل يجبو الصحراء، تتقاذفه العلل والأوهام، يردد أبيات شعر رائعة عن حبه وعن ذكريات طفولته ويذكر فيها محبوبته كثيراً.
هذه إجمالا ملخص القصة والكثير من القصص المشابهة لها.
اشتد هيام قيس، ولم يجد إلا شعره متنفسا له ينفس فيه عن نفسه ما تنوء به من وجد وشوق وحنين.
واشتهر أمره في الحي، وتداولت الألسنة قصة حبه.
تقدم قيس إلى عمه طالباً الزواج من ابنته ليلى ، وبدلا من أن يفرح العم ويرحب، إذا به يرفض، ويصر على الرفض .. لماذا ؟
لأن التقاليد تمنع العرب من الموافقة على زواج ابنته من رجل تشبب بها أي تغزل فيها في شعره !
وفي نفس الوقت تقدم فتى من ثقيف يخطبها أيضا، ويكرهها أهلها على قبول الثقفي ورفض قيس خوفاً من العار وقبح الأحدوثة، وقطعاً لألسنة الشائعات وقالة السوء والإفك.
ومضى الثقفي بليلى إلى الطائف، ولعل ذلك الحل كان بوحي من أبيها الذي شاء أن يبعدها عن مسرح الأحداث .
وازدادت حيرة قيس واضطرابه، وثقلت على نفسه الهموم والأحزان، وصار يحس أنه بين شقي رحى طاحنة : حب لا يملك منه فكاكا، ويأس لا يرى معه بصيصاً من أمل.
ولا يجد سوى شعره مرة أخرى ينفس فيه ما تفيض به نفسه من حزن وشجن، وحيرة واضطراب، وضيق وسخط.
يقول :
فأنت التي إن شئت أشقيت عيشتي ** وإن شئت بعد الله أنعمت باليا
وأنت التي ما من صديق ولا عدا ** يرى نضو ما أبقيت إلا رثى ليا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني ** أصانع رحلي أن يميل حياليا
يمينا إذا كانت يمينا، وإن تكن ** شمالا يناز عني الهوى عن شماليا
أعد الليالي ليلة بعد ليلة ** وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
أرانى إذا صليت يممت نحوها ** بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراك، ولكن حبها ** كمثل الشجا أعيا الطبيب المداويا
أحب من الأسماء ما وافق اسمها ** وأشبهه أو كان منه مدانيا
هي السحر إلا أن للسحر رقية ** وأني لا ألفي لها الدهر راقيا
ويقول أيضا مصورا الصراع بين اليأس الذي يميته، والأمل الذي يحييه:
ألقى من اليأس تارات فتقتلني ** وللرجاء بشاشات فتحييني
ويقول مصورا السخط الذي تنوء به نفسه الحزينة المتمردة:
خليلي، لا والله لا أملك الذي ** قضى الله في ليلي ولا ما قضى ليا
قضاها لغيرى، وابتلاني بحبها ** فهلا بشئ غير ليلى ابتلانيا

وانهار أعصاب قيس تحت وطأة هذه الرحى الطاحنة، وجن جنونه ، بعد أن ترك وحيدا، وعصفت بعقله العواصف ، فخرج إلى الصحراء هائماً على وجهه لا يكاد يدري من أمره شيئاً، يناجي خيالها البعيد، ويصور فى شعره محنته القاسية، ومصابه الفاجع في أعز ما يملك فى الحياة : قلبه وعقله اللذين ذهبت بهما ليلى إلى غير رجعة.

ولا شك أن عقله عجز تماما عن فهم أو تقبل ذلك المنطق الذي خضع له عمه، وكل القبيلة، التي لم يحاول أحد فيها أن يلين من صلابة رأس ذلك الرجل، أو يوفق بين الرأسين في الحلال.
ولا شك أن ذلك العم كانت لديه أسباب عديدة .. لكن أحدا لم يخبرنا عنها .
إننا نعرف فقط أن التقاليد العربية في ذلك الوقت هي التي أملت عليه كلمة لا، وأن هذه الكلمة تعلقت بلسانه، وسدت أذنيه وأغمضت عينيه فلم ير ابن اخيه يهيم في الصحراء، ولم يرق قلبه وهو يستمع لأرقى الشعر يردده كل الناس بعد قيس، يصور فيه لوعته ويذيب شبابه الغض قطرة قطرة على رمال الصحراء التي لا ترتوي .
وتمر الأيام، وقيس لا يزداد إلا سوءا، لقد غزته حقا كما يقول "جنود الحب من كل جانب"، بل لقد غزته جنود الجنون حتى ذهبت بعقله، وهو جنون بالغ فيه الرواة وتخبطوا في تصويره، ولعب خيال القصاص في ذلك دوراً كبيراً، حتى تحولت حياة العاشق المسكين على أيديهم إلى حياة يصعب - بل يستحيل - تصورها.
والمسألة أبسط مما تصوروا، لقد سيطر الحب على عقل قيس، واستبد به، حتى أذهله عن كل ما عداه، وتركه تائهاً في أوهامه، هائماً في خيالاته، لا يكاد يصحو منها إلا إذا ذكرت له ليلى.
وهو يصور فى شعره حاله تصويراً دقيقاً لا صلة له بمبالغات الرواة وأخيلة القصاص.
يقول مرة :
أيا ويح من أمسى تخلس عقله ** فأصبح مذهوباً به كل مذهب
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت ** عوازب قلبي من هوى متشعب
ويقول أخرى :
وإنى لمجنون بليلى موكل ** ولست عزوفا عن هواها ولا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكيت صبابة ** لتذكارها حتى يبل البكا الخدا
ويقول أيضأ :
وشغلت عن فهم الحديث سوى ** ماكان فيك فإنه شغلي
وأديم لحظ محدثي ليرى ** أن قد فهمت وعندكم عقلي
وبذل أهله كل ما في وسعهم لينقذوه مما آلت إليه حاله، ولكن محاولاتهم ذهبت جميعا أدراج الرياح.
يقول قيس بن الملوح مصوراً اضطرابه والحيرة التي به أدق تصوير وأروعه:
فوالله ثم والله إني لدائب ** أفكر ما ذنبي إليك وأعجب ؟
ووالله ما أدري علام قتلتني ؟ ** وأي أموري فيك يا ليل أركب ؟
أأقطع حبل الوصل فالموت دونه ؟ ** أم أشرب رنقا منكم ليس يشرب ؟
أم أهرب حتى لا أرى لي مجاورا ؟ ** أم أصنع ماذا أم أبوح فأغلب ؟
فأيهما يا ليل ما ترتضينه؟ ** فإني لمظلوم ، وإني لمعتب
إنها الحيرة والاضطراب والقلق النفسي عبر عنهما قيس هذا التعبير الرائع، معتمدا على هذا الأسلوب الاستفهامى الحائر، وهذه التقسيمات المضطربة القلقة لوجوه المشكلة التي يعانيها كما يعانيها غيره من أصحابه العذريين.

وظل قيس في صحرائه غريباً مستوحشاً مشردا لم تبق منه إلا بقية من جسد هزيل، وبقية من عقل شارد كلما ثبت إليه فزع إلى شعره يبثه ما يلقاه في حب ليلى من عناء وشقاء، وما يقاسيه بسببه من كرب وتباريح، حتى لقي منيته في واد مهجور خشن كثير الحجارة ، بعيداً عن أهله، وليلى التي عذبه حبها ، وبعيداً عنها بعد ما وهب لها حياته وفنه، بعيداً عن أبيها الذي كان سبب شقائه وبلواه، ولكنه لم ينسى أن يوجه إليه قبل أن يودع الحياة أبياتا وجدت بعد موته مكتوبة إلى جواره، والتي صور فيها ما تفيض به نفسه من حقد عليه، كما صور فيها مأساته الحزينة تصويراً دقيقاً مؤثراً :
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى ** شقيت ولا هنيت من عيشك الغضا
شقيت كما أشقيتني وتركتني ** أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا
كأن فؤادي في مخالب طائر ** إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم ** علي فما تزداد طولا ولا عرضا
إنها النتيجة الطبيعية لهذا الصراع الدائب المتصل الذي لا يهدأ ولا يستقر.
أسقام وأدواء وأوجاع وعلل تهجم على العاشق المسكين، فينوء تحت وطأتها جسده الذي أهزله الضنى، وأضناه الهزال، وتنهار معها أعصابه التي أرهقها الصراع النفسي الذي لا ينتهي إلى نهاية مريحة، والتي أجهدها التفكير في مشكلات معقدة لا حل لها.
فالموت فعلا راحة لكل حي.

ولاشك أنه كان شخصية فريدة من نوعها .. أو لعلها المبالغات التي يولع بها الناس فيزينون بها قصص الحب تعبيراً عما تختزنه قلوبهم من كبت وحرمان.
يقولون : إن قيساً كان يغمى عليه كلما ذكر اسم ليلى، سواء كان الحديث عنها بمكروه أو بخير فهو يغشى عليه بمجرد سماعه اسمها !
ويقولون إنه وقف ذات يوم يتحدث إلى ليلى وفي يده جمرة من نار فأخذت النار تحرق رداءه حتى أتت عليه ووصلت إلى جسمه وقيس لا يشعر !
وفي أواخر أيامه حكي عن قيس أنه عاش مع الوحش فأنس إليه وفضله على بني الإنسان، وأن الوحوش أيضاً صارت تأنس إليه ! فقلوبهم رقت لحاله، بينما ظلت قلوب أهله كالحجر الذي لم يتفتت ولم يذب لسماع أشعار قيس الرائعة.

وأسدل الستار على مأساة أخرى من مآسي الحب العذري.

******************

قيس ولبنى


من هذه القصص الشهيرة حكاية قيس آخر، هو قيس بن ذريح الذي عشق لبنى في زمن معاوية.
في نفس الوقت الذي شهدت نجد فيه مأساة مجنون ليلى شهد الحجاز مأساة أخرى من مآسي الحب العذري بطلاها قيس بن ذريح وصاحبته لبنى.
هو مضري من كنانة، وهي يمنية من خزاعة، تجمع بينهما صلة نسب من جهة الأم، فقد كانت أم قيس خزاعية.
وكانت منازل كنانة في ظاهر المدينة، ومنازل خزاعة في ضواحي مكة.
كان قيس ابن أحد أثرياء البادية، وكان أخا من الرضاعة للحسين بن علي.
وذات يوم حار كان قيس في إحدى زياراته لأخواله الخزاعيين وهو يسير في الصحراء شعر بالعطش الشديد، فاقترب من إحدى الخيام طالبا ماء للشرب ، فخرجت له فتاة طويلة القامة رائعة الجمال ذات حديث حلو هي لبنى بنت الحباب .
استسقاها فسقته ، فلما استدار ليمضي إلى حال سبيله دعته لأن يرتاح في خيمتهم قليلاً ويستبرد ، فقبل دعوتها وهو يتأملها بإعجاب شديد .
وتقول الحكاية أن أباها الحباب جاء فوجد قيسا يستريح عندهم فرحب به وأمر بنحر الذبائح من أجله واستبقاه يوما كاملاً.
ثم تردد عليها وشكا لها حبه فأحبته.
وعندما عاد قيس ، مضى إلى أبيه يسأله أن يخطبها له فأبى.
فالأب ذا الثراء العريض كان يريد أن يزوجه واحدة من بنات أعمامه ليحفظ ثروة العائلة .
لقد كان أبوه غنيا كثير المال، وكان قيس وحيده، فأحب أن لا يخرج ماله إلى غريبة، وقال له : بنات عمك أحق بك.
فمضى إلى أمه يسألها أن تذلل له العقبة عند أبيه، فوجد عندها ما وجد عنده.
لم يجد قيس أذنا صاغية ، ومع ذلك لم ييأس ولجأ إلى الحسين بن علي وكان أخاه في الرضاع، فقد أرضعته أم قيس معه ووسطه في الأمر.
وشاء الله أن تكلل وساطة الحسين بالنجاح.
فلقد مضى الحسن إلى الحباب والد لبنى، ثم مضى إلى ذريح والد قيس، واستطاع أن يجمع بين العاشقين برباط الزوجية المقدس.
وتحقق لقيس أمله وتزوج من لبناه، لكن القدر أبى عليهما سعادتهما ولم يشأ للعاشقين أن يتحولا إلى زوجين عاديين ممن يقتلهما السأم.
وظل الزوجان معا، لعدة سنوات دون أن ينجبا، ودون تردد أشاعت الأسرة أن لبنى عاقر .
وخشي أبواه أن يصير مالهما إلى غير ابنهما ، فأرادا له أن يتزوج غيرها لعلها تنجب له من يحفظ عليهما مالهما.
ولما كان أبو قيس تواقا لذرية تتوارث ثروته الطائلة، فقد ألح على ابنه أن يتزوج من أخرى لتنجب له البنين والبنات.
لكن قيسا أبى .. لقد أشفق على لبنى من ضرة تشقيها وتعذبها .
كما رفض أيضا أن يطلق زوجه الحبيبة، وتحرجت الأمور بينه وبين أبويه، إنهما مصممان على طلاقها، وهو مصمم على إمساكها.
وظل الأب يلح ويسوق عليه كبار القوم، دون جدوى وإمعانا في الضغط عليه أقسم الأب ألا يظله سقف بيت طالما ظل ابنه مبقيا على زواجه من لبنى .
فكان يخرج فيقف في حر الشمس، ويأتي قيس فيقف إلى جانبه ويظله بردائه ويصلي هو بالحر حتى يفيء الظل فينصرف عنه، ويدخل إلى لبنى ويبكى وتبكى معه، ويتعاهدان على الوفاء. وتأزمت المشكلة، وساءت العلاقات بين طرفيها، واجتمع على قيس قومه يلومونه ويحذرونه غضب الله في الوالدين، وما زالوا به حتى طلق زوجه.
كان قيس شديد البر بوالده فلم يشأ أن يتركه يتعذب في الهجير، واضطر اضطرارا لأن يطلق لبنى.
رحلت لبنى إلى قومها بمكة، وجزع قيس جزعاً شديداً، وبلغ به الندم أقصى مداه، وتحولت حياته إلى أسف لا ينتهي، وندم لا ينقطع، ودموع لا تتوقف، وحسرات لا تقف عند حد، ولم يجد أمامه سوى شعره يبثه أسفه وندمه ودموعه وحسراته.
يقول مرة :
يقولون: لبنى فتنة كنت قبلها ** بخير، فلا تندم عليها وطلق
فطاوعت أعدائي، وعصيت ناصحي ** وأقررت عين الشامت المتخلق
وددت، وبيت الله، أني عصيتهم ** وحملت في رضوانها كل موبق
وكلفت خوض البحر، والبحر زاخر ** أبيت على أثباج موج مغرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها ** عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عيني بعدها كل منظر ** ويكره سمعي بعدها كل منطق

لم يتوقف قيس عن ملاحقة لبنى بعد الطلاق .
فلم يطق عن لبنى صبرا، واشتد حنينه لها، وشوقه إليها، فعاود زيارتها، وشكاه أبوها للسلطان معاوية، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم يهدر دم قيس إن هو تعرض للبنى ، وحيل بينه وبينها مرة أخرى.
ومرة أخرى لا يجد أمامه سوى شعره يبثه أحزانه وآلامه :
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها ** مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ** ولن يذهبوا ما قد أجن ضمير
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ** ومن كرب تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشى ** وليل طويل الحزن غير قصير
سأبكي على نفسي بعين غزيرة ** بكاء حزين في الوثاق أسير
وكنا جميعاً قبل أن يظهر الهوى ** بأنعم حال وغبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لهم ** بطون الهوى مقلوبة لظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام ** وصلنا ولكن ما الدنيا متاع غرور
ومع ذلك فقد كانت تتاح للعاشقين من حين إلى حين فرصة لقاء يائس حزين تزداد معه حرق الحب تأججاً واشتعالا، ويتجسم بعده الشعور بالحرمان، والإحساس بالحسرة والندم.
وساءت حال قيس، واعتلت صحته، وأصابه هزال وذهول شديدان، وأشار قومه على أبيه أن يزوجه عله ينسى حبه القديم.
وتزوج قيس كارها زواجاً لا سعادة فيه، وبلغ الخبر لبنى فتزوجت هي أيضاً زواجا لا سعادة فيه،
وتقول الروايات أن لبنى لما سمعت بإهدار دم قيس قبلت الزواج من رجل آخر وهو خالد بن حلزة، لكي تجبر قيسا على الابتعاد عنها وتحميه من القتل ، وأن قيسا تزوج بعد سماعه بزواج لبنى.
أيا كانت الروايات فلبنى فعلت ذلك وهي ما تزال تكن كل الحب لزوجها السابق قيس ، وقيس كان يعلم بذلك.
كان قيس يعرف أن لبنى تحبه بمقدار ما أحبها، فركب راحلته وذهب إلى خيام أهلها وهناك راح ينشد الشعر.
يقول قيس بن ذريح مصورا كيف يروض نفسه على الرضا بالحرمان الذي فرض عليه، والتشبث بالآمال الضائعة التي أفلتت منه :
إن تك لبنى قد أتى دون قربها ** حجاب منيع ما إليه سبيل
فإن نسيم الليل يجمع بيننا **ونبصر قرن الشمس حين تزول
وأرواحنا بالليل في الحي تلتقي ** ونعلم أنا بالنهار نقيل
وتجمعنا الأرض القرار، وفوقنا ** سماء نرى فيها النجوم تجول
إلى أن يعود الدهر سلما ** ترات بغاها عندنا وذحول
ويقول قيس بن ذريح مصورا عجزه عن نسيان لبنى، وكيف يخونه الصبر كلمامرت به ذكراها:
أريد سلوا عن لبنى وذكرها ** فيأبى فؤادي المستهام المتيم
إذا قلت أسلوها تعرض ذكرها ** وعاودني من ذاك ما الله أعلم
صحا كل ذي ود علمت مكانه ** سواي فإني ذاهب العقل مغرم
ويقول أيضا مصوراً محاولاته السلوان، وكيف ترده عنها نفسه الوالهة ودموعه المهراقة، حتى لتصبح هذه المحاولات تكليفا لنفسه فوق ما تطيق.
ففي أعماقه نار لا تكف عن التأجج والتوهج :
وحدثتنى يا قلب أنك صابر ** على البين من لبنى فسوف تذوق
قمت كمدا أو عش سقيما فإنما ** تكلفني ما لا أراك تطيق
إذا أنا عزيت الهوى أو تركته ** أنت عبرات بالدموع تسوق
كأن الهوى بين الحيازيم والحشا ** وبين التراقي واللهاة حريق
أريد سلوا عنكم فيردنى ** عليك من النفس الشعاع فريق

ورحل بها زوجها إلى المدينة، وكأنما شاءت الأقدار أن تقرب لبنى من قيس لتزيد من ندمه وأسفه وحسراته.
واشتد جزع قيس، ولم يلبث أن استطار عقله ولحقه مثل الجنون ، وضاقت السبل فى وجهه، ثم خطر له أن يلجأ إلى يزيد بن معاوية ليتوسط له عند أبيه حتى يلغي أمره السابق بإهدار دمه. ونجحت وساطة يزيد، وعفا معاوية عن قيس، فعاود زيارة لبنى.
وانتشر أمر قيس في المدينة، وغنى في شعره مغنوها ومغنياتها، فلم يبق شريف ولا وضيع إلا سمع بذلك فأطربه وحزن لقيس مما ألم به.
وقد روى الأصفهاني في كتابه "الأغانى" أن أشعار قيس لحنها الملحنون وغناها المطربون فاشتهرت وذاع صيتها حتى سمع بها زوج لبنى وساءت العلاقات بينهما ، فثار عليها، لكنها لم تعبأ بثورته وطالبته أن يطلقها إن شاء .
ولكن الزوج أدرك ألا خطأ لها ولا ذنب، فهدأت ثائرته، ويقال أنه أراد أن يصلحها فأحضر الجواري من المدينة ليغنين لها أشعار قيس !
وعادت الأمور تتعقد في وجه قيس مرة أخرى، وازدادت همومه وأعباؤه، وأخذت صحته في الانهيار، والأسقام تلح عليه إلحاحاً عنيفاً.
حكاية لبنى تختلف كثيراً عن صاحبتيها ليلى وبثينة، فالقدر هو الذي فرق بينها وبين قيس بن ذريح، ولم يكن بوسعها أن تفعل شيئا وليومنا هذا مازال الاتهام يحاصر الزوجة أولا إذا لم تنجب، فإذا ثبت أن الزوج هو السبب نصحت بأن تضحي من أجله وتبقى معه، أما إذا ثبت أن الزوجة هى العاقر فلا أحد يطالب الزوج بأي تضحية، ويصبح من حقه أن يتزوج عليها أو أن يطلقها .
وحكاية الأصفهاني تدل على أن لبنى لم تسلم قلبها للزوج الثاني الذي فرض عليها فرضاً، وظلت حزينة مجروحة الفؤاد تبكي بحرقة كلما تذكرت قيسا، أو كلما سمعت أشعاره الحزينة ترددها الجواري في مجالس الغناء .

ثم تكون النهاية التي اختلف الرواة حولها، فمن قائل إن زوجها طلقها فأعادها قيس إلى عصمته ولم تزل معه حتى ماتا، ومن قائل إنهما ماتا على افتراقهما، وعلى ذلك أكثر الرواة.
ثم يختلفون بعد ذلك، فمنهم من يقول إنه مات قبلها وبلغها نعيه فماتت أسفا عليه، ومنهم من يقول إنها ماتت قبله، فخرج ومعه جماعة من أهله، فوقف على قبرها،ثم أكب عليه وظل يبكي حتى أعمى عليه، فحملوه إلى بيته وهو لا يعي شيئاً، ولم يزل عليلا لا يفيق ولا يجيب حتى مات بعد ثلاثة أيام، ويقال أنه فقد عقله، وظل طريح الفراش حتى لحق بها، فدفن إلى جوارها .
وهي أكثر الروايات وأرجحها فقد بكاها قيس وأنشد على قبرها هاته الأبيات التي نسبت إليه :
ماتت لبنى فموتها موتي هل ** تنفعن حسرتي على الفوت
وسوف أبكي بكاء مكتئب ** قضى حياة وجدا على موت

وبهذه النهاية أسدل الستار على مأساة أخرى من مآسي الحب العذري.