السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ابن حزم شخصية إسلامية عربية أندلسية ثرية غنية رحبة واسعة، متعددة الجوانب متنوعة في اهتماماتها، تميزت بالوضوح والجرأة والشموخ والعظمة. حمل عدة فنون من حديث وفقه وجدل ونسب وتاريخ وأدب ومنطق وفلسفة. وقد ملأت مصنفاته في هذه العلوم والفنون آفاق الأندلس.
اسمه ومولده:
هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد ويكنى بأبي محمد. ويذكر المؤرخون أن أول من دخل من أسرته إلى الأندلس هو خلف بن معدان، وقد كان ذلك في زمن الخليفة عبد الرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بالداخل. وأول من سكن قرطبة من أسرته والده أحمد بن سعيد، وهي التي ولد فيها أبو محمد، وقد جاء هذا الخبر في رسالة كتبها أبو محمد إلى قاضي طليطلة صاعد بن أحمد يقول فيها:" ولدت بقرطبة في الجانب الشرقي من فحص منية المغيرة، وكانت هذه الولادة سنة 384هـ ".
مصـادر علمـه:
لم يعرف التاريخ قبل ابن حزم عالماً جمع بين ضروب العلم المختلفة ما جمعه ابن حزم الأندلسي. ولا بد ونحن نكتب في مصادر علمه من تناول عدة عناصر هي:
ـ الأول: نشأته.
ـ الثاني: مواهبه الشخصية وصفاته.
ـ الثالث: الشيوخ الموجهون له.
ـ الرابع: الخبرة العملية في الحياة.
ـ الخامس: البيئة العلمية التي عاش فيها.


نشــأتـه:
نشأ ابن حزم في بيت عز ورفاه، حيث المال والجاه والسلطان، فحفت به وسائل العيش الرغيدة من كل جانب، وتلقى العلم في صغره على أيدي النساء والجواري في بيته فتعلم منهن القراءة والكتابة وحفظ القرآن وعلومه مما كان له أكبر الأثر في صقل نفسيته ورهافة حسه، ولهذا فإنه يذكر أثر هذه التربية في تكوين شخصيته في كتابه " طوق الحمامة " ويبين مدى هذه العناية والرعاية التي أحيطت به واهتمام والده به ، وحرصه على تربيته وتعليمه ووضعه تحت المراقبة، كل ذلك يذكره ابن حزم بنفسه فيقول:" لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تفيل وجهي، وهن علمنني القرآن وروينني كثيراً من الأشعار، ودربنني في الخط، ولم يكن كدي وأعمال ذهني مذ أول فهمي، وأنا في سن الطفولة جداً، إلا تعرف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن وتحصيل ذلك، وأنا لا أنسى شيئاً في جهتهن فطرت به فأشرفت من أسبابهن على غير قليل".
وأما عن مراقبته فيقول:" إني كنت وقت تأجج نار الصبا وشره الحداثة وتمكن غرارة الفتوة مقصوراً محظراً علي بين رقباء ورقائب، فلما ملكت نفسي وعقلت صحبت أبا الحسن بن علي الفارسي في مجلس أبي القاسم عبد الرحمن بن الأزدي شيخنا وأستاذي رضي الله عنه، وكان أبو الحسن المذكور عاقلا عاملا عالما ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح في الزهد في الدنيا ".
مما سبق يمكن القول بأن ابن حزم قد أشرف على إعداده وتربيته منذ حداثة سنه داخل البيت وخارجه، وسلم إلى مربٍّ مستقيم كان له أكبر الأثر في عفته واستقامته واهتمامه بالعلم وأهله، وانصرافه عن الفساد ألا وهو الشيخ أبو الحسين الفارسي.
مواهبـه الشخصيـة وصفاتـه:
اجتمعت في ابن حزم مواهب وسجايا وأخلاق مميزة، من أهمها تميزه بحافظة قوية مستوعبة، وبديهة سريعة حاضرة تسعفه بالمعلومات الشاردة في وقت الحاجة إليها، وقوة ملاحظة، وقدرة استدلالية هائلة.
فقد حفظ الحديث الشريف ورتب مصادره، كما كان حافظاً لسير الأولين وكان هذا كافياً لأن يكون راوية أميناً، ومحققاً نزيهاً، ومؤرخاً واسع الأفق. وكذلك أوتي من الصفات الصدق والضبط وعمقاً في التفكير وغوصاً على الحقائق، وحدة في الذكاء لا يكتفي من الظواهر حتى يتعرف ما وراءها، ولا يترك المسببات حتى يعرف أسبابها، فهو لا يكتفي بالاستقراء والإحصاء، حتى يُعرف كل مسألة ليعرف أسرارها، ولا يكتفي بمعرفة الوقائع حتى يعرف بواعثها والدافع إليها، فمثلاً في رسالة " طوق الحمامة " يرد الظواهر إلى بواعثها النفسية محاولاً في ذلك الكشف عن النواميس النفسية التي تسير الإنسان في عواطفه نحو الجمال. وكذلك يوضح في رسالته " مداواة النفوس " علاجاً نفسياً لعيوب الأخلاق، فعندما يتكلم في الفضائل يلاحظ نظرته العميقة فيقول:" من العجائب أن الفضائل مستحسنة ومستثقلة والرذائل مستقبحة، ومستحبة ".
ومن صفاته انصرافه كلياً منذ صباه إلى طلب العلم وتحصيله، ولذلك جد فيه وصبر في طلبه، وهو فوق ذلك سبيل الله عز وجل فجعل همه طلب العلم والتقرب إلى الله ببيان الحق والنطق به فيقول:" لذة العالم بعلمه، ولذة الحكيم بحكمته، ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده أعظم من لذة الآكل يأكله والشارب بشربه والكاسب بكسبه واللاعب بلعبه والآمر بأمره، وقد نال لذة العليم والحكيم ".
وقد وهبه الله عز وجل صفة الإخلاص، ولذلك كان لفرط إخلاصه يباعد بين نفسه، وبين العجب بها، والاغترار بما وصل إليه من علم، وكان يعتبر العجب آفة الإخلاص، وآفة الرأي، وآفة الأخلاق الفاضلة، ويدعو كل امرئ إلى تعديل خطئه قبل تقدير صوابه، فيقول:"إن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك ".
وقد أجمع الذين أرخو لابن حزم أنه كان صريحاً في قوله الحق ولا يخاف في الحق لومة لائم، فيقول:" فأغضب الناس ونافرهم، ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق ".
ومن صفاته الخلقية الوفاء، فكان وفياً لأصدقائه، ولشيوخه، ولكل من اتصل به، كما كان معتزاً بنفسه من غير عجب، ولا خيلاء، معتمداً على الله في السراء والضراء، وكان مستقيم الرأي، سليم الفكرة، بريء الساحة، ذا ديانة وحشمة وسؤدد، وكان يؤمن بأن سلامة العقيدة والشرف فوق الحياة نفسها.
الشيوخ الموجهون له:
عُرف ابن حزم بكثرة سماعه، فأجمع أكثر المؤرخين له بأنه سمع سماعاً جماً سواء في قرطبة أو ألمرية، أو بلنسية، أو شاطبة …
وقد تلقى ابن حزم العلم على كثيرين من العلماء، فكان يخالط الكثير من ذوي الرأي والإحاطة من علماء عصره كابن عبد البر وغيره، ويذكر ابن حزم في رسائله أسماء بعض شيوخه مشيراً إليهم، وموضحاً فضلهم عليه، وخاصة في رسالته " طوق الحمامة ". وكان أول من تلقى عنه العلم من الرجال شيخه أحمد بن محمد بن الجسور وقد قرأ الفقه المالكي على أبي عبد الله بن دحون، وكان هذا الفقيه إماماً مشهوراً بالمذهب المالكي، كما أنه تلقى علم الحديث واللغة والنحو والصرف والفقه كذلك على أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي /ت 410هـ/ والهمذاني وابن إسحاق وتلقى الفقه والحديث على ابن الفرضي وأبي الخيار مسعود بن مفلت /ت 426هـ/، وتلقى الفلسفة والمنطق على أستاذه ابن الكتاني، وتلقى التاريخ على والده وابن الفرضي.
وعلى الرغم من أن هؤلاء الشيوخ الذين أخذ عنهم ابن حزم الفقه المالكي، وهو المذهب السائد في عصره، إلا أنهم لم يؤثروا فيه للاقتصار على هذا المذهب دون غيره، فقد درس ابن حزم الفقه الشافعي من بطون الكتب فتأثر به، وكان في بداية حياته العلمية شافعياً ثم ما لبث أن تحول عنه بتأثير شيخه أبي الخيار الذي كان ظاهري المذهب، فتنقل ابن حزم من فقيه يختار ما يراه صواباً إلى صاحب مذهب لا يتعداه ، وهو الأخذ بظاهر النص.
ومن المؤكد أن ابن حزم لم يقتصر على ما تلقاه من شيوخه، بل قرأ واجتهد وفحص، وكان يطلب العلم أنى وجده، وبذلك اجتمع له ذلك الاطلاع الواسع الذي دلت عليه كلُّ مؤلفاته التي خلفها للأجيال من بعده.
الخبرة العملية في الحياة، وانكبابه على العلم:
تيسر لابن حزم أن يتلقى العلم والأدب ـ كما ذكرنا ـ على أيدي علماء ومربين لم يحظ به غيره من العلماء مما جعل عقليته تستوعب كل علوم عصره، وقد دفعه شعوره بالتحدي وإثبات الذات إلى الكد المتواصل في التحصيل وتحمل المشاق في طلب العلم والمناظرات في مناطق متعددة، وفنّد مزاعم المخالفين بكل قوة وصراحة.
ويُروى في هذا الصدد أنه تناظر مع الفقيه الباجي الإمام المالكي المشهور، فقال له الباجي:" أنا أعظم منك همة في طلب العلم، لأنك طلبته وأنت مُعان عليه، فتسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق . فقال له ابن حزم: هذا الكلام عليك، لا لك: لأنك إنما طلبت العلم وأنت في هذه الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حال ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرجُ إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة ".
إن المطلع على مصنفات ابن حزم يؤكد أن الرجل استوعب فعلاً علوم عصره، إذ أنه تناول كل علم بالدراسة والتمحيص والاستدلال، فقد حفظ المؤرخون لابن حزم مساجلات علمية وفقهية وأدبية كانت تدور مع معاصريه من العلماء، وإن هذه المساجلات لتدل على أمرين:
الأول: انصراف ابن حزم للعلم فمن هجاه لا يهجوه إلا بكتبه التي ألفها، أي يهاجمه في العلم، ومن يواده يواده لأجل العلم الذي صفى نفسيهما.
الثاني: أن ابن حزم كان له أتباع وتلاميذ يناصرونه، ولم يكن الجميع له أعداء كما تصور بعض المؤرخين كابن حيان، فكان يعتز بالصداقة والعداوة معاً.
إذن كانت حياة ابن حزم الأندلسي نموذجاً لحياة العالم النزيه الذي يطلب العلم للعلم والعمل، لا للمال والجاه، أو للشهرة والمجد … فعاش للعلم .. وجاهد للعلم .. وخلده العلم بين الخالدين.
البيئة العلمية التي عاش فيها:
إن الباحث الذي يريد الإلمام بكل جوانب تفكير ابن حزم أن يجد نفسه مضطراً إلى الوقوف على الإطار الحضاري لهذا المفكر الموسوعي الكبير، خصوصاً وقد عاش ابن حزم في بيئة علمية تلاقى فيها الفكران الشرقي والغربي في رحاب بلاد الأندلس.
لقد كان من أبرز ما عني به بنو أمية في الأندلس نقل العلم والمعرفة فوفقوا في هذه النواحي توفيقاً يكاد يكون عجيباً، إذ لم يمض على إقامتهم هناك ثلاثة أرباع قرن من الزمان حتى نشأت أجيال من العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء وأصبحت الأندلس بهم قدوة ومثلاً يحتذى حتى ظن أن جماهير تلك البلاد قصرت جهودها على العلم والتعلم، والاشتغال بالأدب والفقه والتاريخ والشعر والفلسفة والواقع أن المؤلفات العديدة، والكتب الكثيرة التي سطرت في هذا العصر عن الحياة العلمية وحدها، وذكر رجالها لخير دليل على ما بلغته البيئة العلمية في الأندلس من تقدم وازدهار. ويمكننا أن نرجع ازدهار البيئة العلمية في هذا العصر إلى سياسة الأمراء والخلفاء الأمويين وعلى رأسهم عبد الرحمن الناصر وتلاه ابنه الحكم المستنصر الذي امتاز عصره بازدهار العلوم والآداب ازدهاراً عظيماً، فقد كان محباً للعلم شغوفاً بجمع الكتب وتشجيع العلماء ولهذا وفد في عهده كثير من العلماء من المشرق مثل أبي علي القالي، وغيره، وقد أغدق العطايا على العلماء والأدباء والفقهاء لكي يؤلفوا من أجل خزانته، ويضيفوا إلى ما فيها من الكتب والعلوم على اختلافها وكان من فلاسفة العرب الذي ألفوا له الكندي حتى لقد امتلأت خزائنه بكتب الحكمة والفلسفة والطب وأقبل الناس على قراءة علوم الأوائل.
يقول المؤرخ الحجاري في كتابه المسهب:" كانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام، ومجتمع أعلام الأنام، بها استقر سرير الخلافة المروانية وفيها تمخضت خلاصة القبائل المغربية، واليها كانت الرحلة في الرواية، إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء".
وقد استمر الازدهار العلمي في عصر ملوك الطوائف بالرغم من الاضطرابات السياسية وفساد الحياة الاجتماعية والدينية التي حفل بها فقد شهد نهضة أدبية كبرى نتيجة التنافس الشديد بين الدويلات. حتى أنه اعتبر من أزهى العصور الأدبية قاطبة في الأندلس. وخاصة أن هؤلاء الملوك كانوا على جانب كبير من الثقافة وحب العلم، مما شجع العلماء على الوفود إلى قرطبة التي كانت تزخر بالمنتديات والمكتبات التي تضم آلاف المخطوطات في مختلف فروع العلم والأدب والفن، التي بلغ عددها سبعين عداً.
وقد ذكر المقري عن ابن حزم أنه قال:" اخبرني تليد الحصين الذي كان على خزانة العلوم والكتب بدار مروان أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة وفي كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين لاغير ".
وقد خصص ابن حزم رسالته " فضل علماء الأندلس " للكلام على البيئة العلمية في عصره وبين فيها مدى إسهام الأندلس ورجالها في بناء الحضارة الإسلامية بها، وقال عن قرطبة:" كان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات أو حفظ كثير من الفقه والبصر والنحو، والشعر، واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء، واسع الفطن متنائي الأقطار فسيح المجال ". وكذلك حدثنا ابن حزم عن العلوم المتبعة في عصره فقال:" أما الاشتغال برواية القراء المشهورين السبعة، وقراءة الحديث، وطلب علم النحو واللغة، فان طلب هذه العلوم فرض واجب على المسلمين كافة، وأما النحو واللغة ففرض أيضاً على الكافة وأن طلب العلم إجمالاً لابد أن يكون لوجه الله ".
مما سبق يتبين أن البيئة العلمية بالأندلس كانت مزدهرة منتعشة وأن ابن حزم وجد فيها التربة الخصبة والمكان الرحب الواسع الثراء بالعلوم والآداب فنهل من كل علم وتذوق كل فن فجاء بثقافة واسعة وحمل علوماً نافعة.
وأخيراً يمكن القول: أن ابن حزم كان ابن عصره ووليد بيئته فكان سياسياً مع السياسة، وكان رجل دين متحمساً لدينه، وكان اجتماعياً منتبها لمجتمعه ولظروفه وأحواله الاجتماعية المتنوعة المختلفة، وأخيراً كان عالماً في مجال العلم والأدب أي أنه كان منفعلاً ومتفاعلاً مع ظروف مجتمعه.
وإن رجلاً بلغ من سعة العلم واستقلال الفكر هذا الحد لجدير أن يعرف ويعرف ويدرس ويتدارس فهو شخصية فريدة متميزة لا تنعقد له مقارنة وقد صرف كل همه واهتمامه نحو مطلبين جليلين، أولهما تصحيح التفكير وثانيهما تقويم الأخلاق وكانت وسيلته لتحقيق ذلك ثلاثاً:
1ـ تأليف الكتب والرسائل في فنون العلم المختلفة.
2ـ الدعوة ولذا طاف معظم أنحاء الأندلس ومدنها يدعو إلى ما يراه صواباً ويشدد النكير
على مايراه خطأ وضلالاً.
3- المناظرة مع الفقهاء والعلماء والباحثين من كل جنس ولون وملة ودين.
4 ـ مؤلفـات ابن حزم:
عرفنا فيما سبق أن ابن حزم قد نهل من مختلف العلوم على أيدي علماء كبار، وقرأ علوم السابقين له فظهرت نتيجة ذلك في كثرة مصنفاته التي ما تركت جانباً من جوانب العلم
التي اطلع عليها إلا أسهمت فيه، ولكن معظم هذه المصنفات فقد، ولعل سبب ذلك يعود إلى:
1ـ مذهبه الذي خالف فيه أهل الأندلس، وهو المذهب الظاهري.
2ـ حدة لسانه ونقده اللاذع لمن خالفه مهما كانت مكانته العلمية.
3ـ مناظرته للنصارى واليهود وكتاباته عنهم ورده على المذاهب الأخرى المرفوضة في الإسلام.
هذه هي الأسباب التي أدت إلى فقدان كثير من مؤلفات هذا العالم الكبير، ومع ذلك فقد بقي من مصنفاته ما كان له الأثر الكبير في حفظ تراث الفقه الإسلامي، وثمة إجماع بين المؤرخين على أن ابن حزم من أكثر أهل الإسلام تصنيفاً، ويؤكد هذه الحقيقة التاريخية تلميذ ابن حزم صاعد ـ وابنه الفضل أبو رافع فيما يرويه الأول عن الثاني من أنه أخبره أن أباه ابن حزم قد بلغت مؤلفاته في الفقه والحديث والأصول والملل والنحل والتاريخ والنسب والأدب والشعر والطب والرد على المعارضين وغيرها نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. ويتحدث ابن حزم عن مصنفاته فيقول:" ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة، منها ما قد تم، ومنها ما شارف التمام ومنها ما قد مضى منه صدر ويعين الله على باقيه ". وعن سبب كثرة تآليفه يقول:" لكل شيء فائدة، لقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمى فكري وتهيج نشاطي فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمة المنفعة، لولا استثارتهم ساكني واقتداحهم كامني، ما انبثقت تلك التواليف ".
وقد تم حصر كتب ابن حزم المطبوعة، وكتبه التي لا تزال مخطوطة، وكتبه المفقودة، وكتباً مات ولم يتمها، وكتباً لا يوجد إلا بعضها، وكتباً وعد بتأليفها ومات قبل أن يؤلفها.
وفيما يلي قائمة حصرية بأسماء مؤلفات ابن حزم الأندلسي التي توفي في سنة /456 هـ/ عن عمر يناهز اثنين وسبعين عاماً:
1- الآثار التي ظاهرها التعارض ونفي التناقض عنها . ق
2- إبطال القياس ، والرأي والاستحسان والتقاليد والتعليل . ط
3- الاتصال . ق
4- إجازته للحسين بن عبد الرحيم . ق
5- إجازته لتلميذه شريح . ق
6- الإجماع . ط
7- الإجماع ومسائله على أبواب الفقه . ق
8- أجوبة على صحيح البخاري . ق
9- الإحكام في أصول الأحكام . ط
10- اختصار كلام جالينوس في الأمراض الحادة . ق
11- اختلاف الفقهاء الخمسة : مالك ، وأبي حنفية ، والشافعي ، وأحمد . وداود . ق
12- الأخلاق والسير في مداواة النفوس ، أو رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل . ط
13- أخلاق النفس . ق
14- الأدوية المفردة . ق
15- الاستجلاب . ق
16- الاستقصاء . ق
17- أسماء الخلفاء والولاة وذكر مددهم إلى زماننا . ط
18- أسماء الصحابة الرواة وما لكل واحد من العدد . ط
19- أسماء الله الحسنى . ق
20- أسواق العرب . ق
21- أصحاب الفتيا من الصحابة. ط
22- أصول الفقه . ط
23- الأصول والفروع . ط
24- إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل . ط
25- الإظهار لما شنع به على الظاهرية . ق
26- الاعتقاد . ق
27- الإعراب عن الحيرة والالتباس الواقعين في مذهب أهل الرأي والقياس . ق
28- ألم الموت وإبطاله . ط
29- رسالة الألوان . ط
30- رسالة الإمامة . ط
31- الإملاء في شرح الموطأ . ق
32- الإمامة والسياسة في قسم سير الخلفاء ومراتبها والندب والواجب منها . ق
33- الإملاء في قواعد الفقه . ق
34- أمهات الخلفاء . ط
35- الإنصاف . ق
36- أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس . ق
37- أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس . ط
38- أوهام الصحيحين . ق
39- الإيصال إلى فهم كتاب الخصال . ق
40- الإيمان في الرد على عطاف بن دوناس القيرواني . ق
41- بلغة الحكيم . ق
42- البلقاء في الرد على عبد الحق بن محمد الصقلي . ق
43- البيان عن حقيقة الإيمان . ط
44- بيان غلط عثمان بن سعيد الأعور في المسند والمرسل . ق
45- بيان الفصاحة والبلاغة . ق
46- تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها لا قضاء عليه فيما قد خرج من وقته . ق
47- التأكيد . ق
48- التبيين في هل علم المصطفى صلى الله عليه وسلم أعيان المنافقين . ق
49- التحقيق في نقد كتاب العلم الإلهي لمحمد بن زكريا الرازي . ق
50- ترتيب سؤالات عثمان الدارمي لابن معين . ق
51- الترشيد في الرد على كتاب الفريد لابن الراوندي في اعتراضه على النبوات . ق
52- تسمية الشعراء الوافدين على ابن أبي عامر . ق
53- تسمية شيوخ مالك . ق
54- التصفح في الفقه . ق
55- التعقب على الإفليلي في شرحه لديوان المتنبي . ق
56- في تفسير الجلالين للقرآن العظيم . ط
57- تفسير قوله تعالى : " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا " . ق
58- التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية . ط
59- التلخيص لوجوه التخليص . ط
60- تنوير المقياس من تفسير ابن عباس . ط
61- تواريخ أعمامه ، وأبيه ، وأخواته ، وبنيه ، وبناته ، ومواليدهم ، وتاريخ من مات منهم في حياته . ق
62- التوفيق على شارع النجاة باختصار الطريق . ط
63- الجامع . ق
64- الجامع في صحيح الحديث باختصار الأسانيد . ق
65- ُجمّل فتوح الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ط
66- جمهرة أنساب العرب . ط
67- جواب على رسالتين فيهما سؤال وتعنيف . ط
68- جوامع السيرة . ط
69- حجة الوداع . ط
70- حد الطب . ق
71- الحدود . ق
72- الحد والرسم . ق
73- حديثان أحدهما في صحيح البخاري ، والآخر في صحيح مسلم زعم أنهما موضوعان رواية أبي عبد الله محمد بن نصر الحميدي . ق
74- حكم من قال : إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين . ط
75- خلاصة في أصول الإسلام وتاريخه . ط
76- الخلفاء بعده عليه السلام . ط
77- الدرة في تحقيق الكلام فيما يلزم الإنسان اعتقاده والقول به في الملة والنحلة باختصار وبيان . ط
78- الدرة فيما يجب اعتقاده . ط
79- ديوان شعر ابن حزم . ط
80- ذو القواعد . ق
81- رد على إسماعيل بن إسحاق " في كتابه في الخمس " . ق
82- الرد على ابن التغريلة اليهودي . ط
83- الرد على أناجيل النصارى . ط
84- الرد على من اعترض على الفصل . ق
85- الرد على من كفر المتأولين من المسلمين . ق
86- الرد على الهاتف من بعد . ط
87- رسالتان أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال التعنيف . ق
88- الرسالة اللازمة لأولي الأمر . ق
89- زجر الغاوي . ق
90- السعادة في الطب . ق
91- السياسة . ط
92- السيرة النبوية . ق
93- شرح أحاديث الموطأ والكلام على مسائله . ق
94- شرح فصول بقراط . ق
95- شيء في الضد بالضد . ق
96- شيء في العروض . ق
97- الصادع في الرد على من قال بالمقياس والرأي ، والتقليد ، والاستحسان، والتعليل. ط
98- الصمادحية في الوعد والوعيد . ق
99- الضاد والظاء . ق
100- الطب النبوي . ق
101- طوق الحمامة في الألفة والألاف . ط
102- العتاب على أبي مروان الخولاني . ق
103- عدد ما لكل صاحب في مسند بقي بن مخلد . ق
104- غزوات المنصور بن أبي عامر . ق
105- الغناء الملهي أمباح هو أم محظور . ط
106- رسالة في آية " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك " . ق
107- مجموع فتاوى عبد الله بن عباس . ق
108- كتاب الفرائض . ق
109- الفصل في الملل والأهواء والنحل . ط
110- كتاب الفضائل . ق
111- فضائل الأندلس وأهلها . ط
112- فضل الأندلس وذكر رجالها . ط
113- فضل العلم وأهله . ق
114- فهرست شيوخ ابن حزم . ق
115- القراءات . ق
116- القراءات المشهورة في الأمصار الآتية مجيء التواتر . ط
117- قسمة الخمس في الرد على إسماعيل القاضي . ق
118- قصر الصلاة . ق
119- قصيدة في الرد على نقفور ملك الروم . ط
120- قلائد الذهب في جمهرة أنساب العرب . ط
121- كلمات في الأخلاق . ط
122- كشف الالتباس ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس . ق
123- ما خالف فيه أبو حنيفة ، مالك , والشافعي جمهور العلماء ، وما انفرد به كل واحد ولم يسبق إلى ما قاله . ق
124- المحلى بالاختصار . ق
125- المحلى بالآثار في شرح المجلى بالاختصار . ط
126- المحاكمة بين التمر والزبيب في الطب . ق
127- مختصر علل الحديث . ق
128- مختصر كتاب الساجي في الرجال . ق
129- مختصر الملل والنحل . ق
130- مختصر الموضح لأبي الحسن المغلس الظاهري . ق
131- مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات . ط
132- مراتب الديانة . ق
133- مراتب العلماء وتواليفهم . ق
134- مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض . ط
135- مراقبة أحوال الإمام . ق
136- المرطار في اللهو والدعابة . ق
137- مسألة الإيمان . ق
138- مسألة الروح . ق
139- مسألة الكلب . ق
140- مسألة هل السواد لون أو لا ؟ ق
141- مسائل أصول الفقه . ق
142- المعارضة . ق
143- معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها . ط
144- معنى الفقه والزهد . ق
145- المفاضلة بين الصحابة . ط
146- مقالة في النحل . ق
147- ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل . ط
148- إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل . ط
149- من ترك الصلاة عمداً . ق
150- منتقى الإجماع وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف . ق
151- منظومة ابن حزم . ط
152- مهم السنن . ق
153- الناسخ والمنسوخ . ط
154- النبذة الكافية في أصول أحكام الدين . ط
155- النبذ في أصول الفقه الظاهري . ط
156- نسب البربر . ق
157- النصائح المنجية من الفضائح المخزية والقبائح المردية . ط
158- نقط العروس في تواريخ الخلفاء . ط
159- نكت الإسلام . ق
160- هل للموت آلام أم لا ؟ ق
161- اليقين في النقض على الملحدين المحتجبين عن إبليس وسائرالكافرين. ق

5 ـ مزايا مؤلفـات ابن حزم:
تميزت مؤلفات ابن حزم ـ يصل بعضها إلى أربعين مجلداً، وبعضها رسائل صغيرة ـ على موسوعية ابن حزم وعبقريته، فلا عجب إن قال أحد أمراء الأندلس المتأخرين وقد مر على قبره، ووقف عليه بعد وفاته بمائة عام:" كل العلماء عيال على ابن حزم ".
ويمكن إيجاز المزايا التي تعطيها مؤلفات ابن حزم السالفة الذكر بالنقاط التالية:
1- تعدد مجالات المعرفة التي طرقها ابن حزم. حتى إن كتبه لتنتظم أكثر المعارف المتصلة بالعلوم الإنسانية ومع هذا التعدد في المجالات التي طرقها فإن من يقرأ له في أي مجال يظن
أنه لا يحسن غير هذا العلم لمهارته فيه فإذا هو ـ كذلك ـ يحسن كل علم تقريباً، فهو نابغة في الحديث وفي علم الكلام وفي التاريخ وفي أصول الفقه وفي الأدب وفي المنطق والفلسفة.
2- ابتكار ابن حزم لموضوعات جديدة في المعرفة لم يسبقه إليها أحد.
3- كثرة مصنفات ابن حزم.
4- تناول ابن حزم للموضوع الواحد في أكثر من مكان. وربما كان مرد ذلك لاكتشافه رأياً جديداً، أو أسلوباً جديداً في علاج الموضوع، أو ربما لأن أحداً قد طلب منه الكتابة فيه أو أثار شبهاً حوله.
5- تأليفه لمؤلفات مطولة ثم اختصارها.
6- جمعه عدة رسائل في مصنف واحد.
7- كثير من رسائله كتبت نتيجة الجدل الدائر حول الأصول والفروع في الأندلس.
8- كتب ابن حزم تتضمن كثيراً من سيرته الذاتية.
9- تعكس هذه الكتب ألواناً من الحياة الأندلسية، الاجتماعية والاقتصادية.
10- تعتبر هذه المؤلفات أكبر وثيقة مفصلة للحياة الثقافية والفكرية والعقائدية التي انتظمت العالم الإسلامي. والأندلس بخاصة ـ خلال القرون الثلاثة: الرابع والخامس والسادس للهجرة. فقد حرص ابن حزم على ذكر آراء مخالفيه وحججهم بإنصاف ثم يرد عليها.
11- يعتبر الصدق أبرز سمة لهذه المؤلفات، فابن حزم كتبها دفاعاً عن مبادئ يؤمن بها. وهو صادق مع نفسه في كل ما كتب، لأنه لم يكتب ملقاً لأحد أو بغية كسب دنيوي، بل إن كتبه لم يرض عنها أكثر الخاصة والعامة في الأندلس، وقد تسارعوا عليها وأحرقوها لمخالفتها لمعارفهم ومناهجهم.
12- يتجلى لقارئ كتبه إيمانه القوي المتين الصادق بالله وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وموافقتها لمقتضيات العقول السليمة، وبطلان جميع ما عداها من الملل والأهواء والنحل، إيماناً قائماً على الدرس العميق المقارن والاطلاع الواسع.
13- تمتاز مؤلفاته باستقلال فكري في نطاق النص القرآني والحديث النبوي الثابت وإجماع الصحابة، وعدم مبالاته بعد ذلك بمخالفة من خالف وموافقة من وافق كائناً من كان. وبالتالي فقد ضمت هذه المؤلفات آراء طريفة شاذة في بعض الأحايين.
14- وقد أثارت هذه المؤلفات اهتمام الدارسين قديماً وحديثاً عرباً ومسلمين، ونصارى ويهوداً، بين مدح وقدح ومتطرف ومعتدل.
15- وتدل هذه المؤلفات على إيغال ابن حزم في الاستكثار من علوم الشريعة حتى نال منها ـ كما يقول ابن حيان ـ ما لم ينله أحد قط بالأندلس قبله، وقد صنف فيها مصنفات كثيرة العدد شرعية المقصد معظمها في أصول الفقه وفروعه على مذهبه الذي ينتحله وطريقه الذي يسلكه.
16- تدل هذه المؤلفات على مقدرة عقلية عجيبة في الفهم الدقيق الشامل، وفي الاستنباط والاستنتاج، وفي نقد آراء الآخرين ومجادلتهم ومناظرتهم، وهي خاصة عقلية لا تفارقه، فلا نكاد نجده مرة نائم العقل أو مسترخي الذهن أو مستسلماً للنقل، فهو ليس ُجماعة من هنا ومن هنا، يحشد ما يحفظ ويقرأ، وإنما هو حاضر العقل يقظ الذهن ناقد بصير. فهو ـ بهذا ـ مرجع من المراجع العظيمة في تعلم الأسلوب العلمي في التفكير والتقدير ووزن الأمور وتربية الملكة النقدية.
17- ولا غرو أمام كل هذا ـ أن يعتبر عمر فروخ (ابن حزم الأندلسي) بداية المرحلة الأخيرة في تاريخ الفكر العربي وهي التي تمثل: " ذروة التفكير العقلي والاجتماعي " الذي يبدأ (بابن حزم) وينتهي (بابن خلدون) المتوفى سنة /808/ هـ.