التشفير الكمّي
فعلاً، يمكن أن يحفظ السر

عندما قرأتَ عن الميكانيك الكمّي (quantum mechanics) لأول مرة في الكتب الجامعية، لا بد وأنك قد وجدته سخيفاً إلى حد ما. فالإلكترونات يمكنها أن تدور في اتجاهين مختلفين في نفس الوقت. وتقف عن الدوران في الاتجاهين عندما تنظر إليها. ويبدو الأمر مثل الشخصية الخيالية Snuffleupaus، وهي شخصية لا تظهر سوى في حال عدم وجود أشخاص بالغين. إن خصوصية الإلكترونات والفوتونات والجزيئات الأخرى الصغيرة جداً، تعتبر مختلفة جداً عن سلوكية الكائنات التي تستطيع أن تراها وتلمسها.
لكن الميكانيك الكمّي ليس ضرباً من الخيال. إنه علم حقيقي يمكن أن يؤثر في القريب العاجل على حياتنا الماكروسكوبية. بعد عشرين عاماً من الأبحاث الأكاديمية، قامت شركتان باستخدام مبادئ الميكانيك الكمّي لإنشاء أكثر أشكال الترميز الحاسوبي (computer encryption) أمناً في تاريخ العالم بأجمعه.
طرحت شركة id Quantique نظاماً للتشفير الكمّي (quantum cryptography) في الصيف الماضي، ومن المتوقع أن تلحق بها شركة MagiQ Technologies نهاية هذا العام. وتستخدم هذه الأنظمة الفوتونات لإرسال مفاتيح التشفير السرية، وتقوم بإخفاء كل مفتاح باستخدام أكثر المبادئ شهرة في الميكانيك الكمّي، وهو مبدأ هايزنبرغ للشك (Heisenberg Uncertainty Principle). وعند تبادل المفاتيح الكمّية مع شخص ما، يمكنك أن تكون واثقاً بأنه لا أحد على الإطلاق يستطيع معرفة هذه المفاتيح. وجميع رسائل البريد الإلكتروني أو المكالمات الهاتفية أو التبادلات المالية، المشفرة باستخدام هذه المفاتيح ستكون في أمان تام.
يقول Burt Kaliski رئيس العلماء في شركة RSA Security، وهي أشهر شركة تشفير كمّي في العالم: "إذا كان هناك أشياء تود حمايتها لمدة 10 إلى 30 سنة قادمة، فإنك تحتاج إلى التشفير الكمّي".
إن تقنية التشفير RSA هي سيدة طرق التشفير الحالية، والتي تمكّن أي شخصين من إرسال رسائل شخصية إلى بعضهما عبر شبكة إنترنت باستخدام مفتاح عام ومفتاح خاص. وتعتبر تقنية RSA صعبة الاختراق جداً، لكن يمكن للحواسيب الفائقة (supercomputers) الموجودة في هذه الأيام، أن تخترق هذا التشفير، إذا عملت على تفكيكه لعدة سنوات.
تستمر تقنية RSA في التحسّن مع زيادة سرعة الحواسيب، لكنها ستكون بدون فائدة على الإطلاق إذا تمكّن العلماء من تطوير الحاسوب الكمّي في يوم ما. وبينما يكون الترانزستور السيليكوني إما في وضعية التشغيل (on) أو عدم التشغيل (off)، ويحمل إما القيمة 1 أو 0، فإن الإلكترون في الحاسوب الكمّي يمكنه أن يقوم بنوعين من الدوران في نفس الوقت، ويحمل كلا القيمتين في نفس الوقت. ويعتبر الحاسوب المصمّم على مبدأ التنضّد (superposition) هذا، أسرع بشكل أسي من أي حاسوب فائق في الوقت الحالي.
كيف يمكن حماية البيانات من الحاسوب الكمّي؟ لا يفل الحديد إلا الحديد، وعليك استخدام ترميز مبني على الميكانيك الكمّي.
حسب مبدأ هايزنبرغ للشك، إذا أردت قياس سلوك جزيء كمّي، فإنك بذلك تحذره بطريقة تصبح فيها قياساتك غير دقيقة بشكل كامل. وهذا يعني أنه إذا أرسلت مفاتيح التشفير باستخدام الفوتونات، التي تتبع قوانين الميكانيك الكمّي، فلا يستطيع أحد أن يسرقها. ويوضح المخطط المرفق هذه العملية. ترسل أمل سلسلة من الفوتونات المستقلة إلى أنس، مستخدمة قطبية كل فوتون للدلالة على الرقم الثنائي. وإذا أرادت ياسمين أن تعترض طريق الفوتونات وتقرأها، فإنها لا تستطيع منع نفسها من تغيير قطبية هذه الفوتونات في بعض الحالات، تاركة آثاراً تدل على أنها حاولت التجسس.
عندما تصل الفوتونات إلى أنس، ويحاول قراءتها، فإنه سيغيّر القطبية أيضاً. لكنه لن يغيّر قطبية جميع الفوتونات، ويمكنه بمساعدة خوارزمية ذكية، أن يتشاور إلكترونياً مع أمل ويتأكد من الفوتونات التي قام هو بتغييرها والفوتونات التي لم يغيرها. ويمكنهما بعد ذلك تحديد فيما إذا كانت ياسمين تتجسس عليهما، وفي حالة النفي، يمكنهما بناء مفتاح ترميز لا يمكن لأي شخص أن يخترقه.
المشكلة الوحيدة في هذه التقنية هي أن الفوتونات يجب أن تنتقل عبر وسط لا يغيّر من قطبيتها. ويجب إرسال الفوتونات عبر ليف بصري مخصص لذلك، وحسب التقنية الحالية فإن الخط لا يستطيع أن يمتد أكثر من بضع عشرات من الكيلومترات.
تعمل شركة MagiQ Technologies على تقنية تقضي على هذه المحدودية، ويقول البعض بأن أنظمة التشفير الكمّي موجودة وتستخدم في مدينة واشنطن. ويقول Chris Fuch الباحث في مختبرات Bell Labs: "أنا متأكد بأن الحكومة الأمريكية تستخدم أنظمة التشفير الكمّي في تطبيقات فعلية".