نارا عاصمة اليابان القديمة
أنشأت مدينة نارا عام /710م/ كعاصمة لليابان وذلك بعد نقل العاصمة من مدينة فوجيوارا إليها، وعلى مدى /74 عاماً/ تمتعت بالمدينة بالازدهار كمركز سياسي اقتصادي، وثقافي لليابان جعل المؤرخين يطلقوا على هذه الفترة من تاريخ اليابان " عصر نارا ".


عرفت العاصمة نارا بشكل أكبر بـ هيجو- كيو أو عاصمة هيجو، وتقع المدينة في حوض مفتوح للجنوب تحيط به الهضاب الجبلية من الجهات الشمالية، الغربية، والشرقية، وهذا الموقع تم اختياره كمكان مقدس للقصر الإمبراطوري حسب المعتقدات الصينية الحسابية فيما يخص الزمان والمكان.
على هذا الأساس تم تخطيط المدينة، وتم تنفيذ أعمال البنى التحتية، الطرقات، المباني، المعابد البوذية، مزارات الشنتو، والقصور والتي ازدهرت بشكل قوي إلى أن نقلت عاصمة اليابان إلى مدينة كيوتو عام / 784م /، وعلى الرغم من انتقال المركز السياسي إلى كيوتو فإن بقاء المعابد الدينية في المدينة ساعد في استمرار وجود المدينة ونموها حولهم، وعرفت المدينة باسم نانتو ( العاصمة الشمالية ) مقارنة بكيوتو العاصمة التي تقع جنوبي نارا، وقد تطورت المباني حول منطقة المعابد بشكل كبير أدى إلى وضع الأسس لمدينة نارا الحالية.


تتوزع المباني التاريخية في مدينة نارا والتي أدرجت على لائحة التراث العالمي في ثمانية أماكن بالغة الأهمية في تاريخ اليابان، وتزودنا بمعلومات مادية وغير مادية حول يابان القرن الثامن، وتطور العاصمة من القرن الثامن حتى الآن.
وحتى منتصف القرن السابع الميلادي، وفي كل مرة كان يتم فيها تغيير الإمبراطور كان مركز العاصمة ينقل إلى مكان جديد في منطقة اسوكا، وبالتأثير المتزايد لسلالة تانغ الصينية على النظام الإداري في اليابان تم تأسيس فوجيوارا كعاصمة أولى لليابان تتمتع بمركز إداري يديره القصر، وذلك في العام / 694م /، ولكنها لم تستمر طويلاً فقد قررت الإمبراطورة جيمي بناء عاصمة جديدة في نارا عام /708م/ ونقلت العاصمة لها العام /710م/، وقد استمرت العاصمة نارا لمدة /74 عام/ حتى قام الإمبراطور كامو بنقل العاصمة إلى ناغاوكا في مقاطعة كيوتو، وفي هذه الفترة من التاريخ الياباني تم وضع الإطار العام للحكومة الوطنية، وتم التقدم في مجال القوانين الإدارية والتشريعات التي أخذ الكثير منها من سلالة تانغ الصينية، وقد بنيت العاصمة نارا على مثال عاصمة سلالة تانغ الصينية، وبعض النماذج المشابهة في محاولة أكثر عظمة، وعلى مساحة /2500هكتار/، وكان يقدر عدد سكانها بـ /100.000/ مقيم، وقد نظمت المدينة بتنظيم متقاطع ( مربعات متعامدة )
لشوارع رئيسية وفرعية تتجه من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، وحيث تنتهي الجادة الرئيسية بالقصر الإمبراطوري المعروف بـ هيجو- كيوا الذي يشغل مساحة /120هكتار/، ويحوي قاعة عامة وقاعة للاجتماعات الرسمية حيث تعقد الاحتفالات السياسية والدينية، وكذلك توجد دار للإقامة الإمبراطور وجنائن، وقسم للمكاتب الإدارية، وعلى مدى السنوات الأولى لبناء المدينة بنبت مجموعة من المعابد كان أهمها توداي- جي.
تبنى أباطرة نارا الديانة البوذية وأمروا ببناء مجموعة من المعابد في تلك المناطق، وأحضروا الكهنة البوذيين من الصين لنشر البوذية، وبعد نقل العاصمة من نارا إلى تاجاكوا ثم إلى هيان في كيوتو بقيت المعابد في نارا كمراكز دينية رئيسية تحظى برعاية الأباطرة اليابانيين.
وقد كانت عائلات الكهنة الأرستقراطية مرتبطة عائلياً بالمصاهرة بالأباطرة بما مكن من الحصول على الهبات لترميم الأبنية والإبقاء عليها بوضع جيد، وخلال فترة حكم سلالة هيان / 794 - 1184م /، وفي العام / 841م / أصدر مرسوم إمبراطوري يمنع قص الخشب والصيد في جبل كاسيون ياما الذي يشرف على نارا، ويشكل حرماً لمعابدها، ولا يزال يعمل بهذا المرسوم حتى اليوم، وخلال العام / 1180م /، ومع نهاية فترة هيان عانت المدينة من اضطرابات أحرقت خلالها كامل المعابد.
عصر الساموراي ( فترة كاماكيورا 1185 – 1332 ):
بدأت هذه الفترة باضطرابات في النظام الاجتماعي، وكانت مرحلة انتقالية من فترة حكم الطبقات الارستقراطية إلى حكومة الساموراي العسكري، وخلال فترة الموروماشي (1333 – 1572) قل تأثير معابد نارا ولم تحظى بنفس المكانة لدى الإمبراطور أو اليابانيين، وبعد حريق شب خلال أعمال شغب في العام /1451م/ أتى على كثير من منشآتها ففقدت تأثيرها فلم تعتد تستطيع إيقاف اجتياح السكان لمحيط المعابد، وحتى معبد توداجي أكبر المباني الخشبية في العالم احترق برجه الغربي ثم قاعة محاضراته والحي السكني للكهنة البوذيين في العالم /1508م/ ونجا من الإهمال معبدان كانا يحظيان بحماية الأسرة المالكة السابقة من فوجيوارا ( العاصمة القديمة لقترة ما قبل نارا ).
استمر إهمال المدينة إلى الفترة المعروفة بفترة أدو /1615 – 1867م/ حين كان ( الشوغن ) يحكمون اليابان، وقد قام الشوغن بتمويل أعمال تجديد واسعة في مباني المدينة أعيد فيها ترميم وبناء قاعات المدينة، ومع فترة ميجي /1868م/، ومع دخول اليابان العصر الحديث أعطت اليابان المدينة مجموعة من القوانين لحمايتها وصيانتها فنجت المدينة من الدمار الذي عانت منه المدن الأخرى خلال الحرب العالمية الثانية، وتحتفظ اليوم المدينة بشهرتها كمدينة تاريخية من الدرجة الأولى، ومن الطبيعي جداً أن تشاهد مجموعة من الغزال الأحمر بشوارع المدينة كجزء من المشهد الطبيعي والتاريخي، ويحظى الغزال الأحمر بحماية أهل المدينة، وحين زيارتك لنارا ومرورك في الجزء التاريخي منها تجعلك شوارعها ومبانيها تشعر وكأنك انتقلت إلى عصر آخر.

جبل كاسيوغاما:
يشرق جبل كاسيوغاما على المدينة، ويعتبر كجبل مقدس وهو محمي بموجب القانون منذ العام / 841م / حيث تمنع كافة أشكال الصيد وقطع الأشجار، وخلال فترة ميجي صارت من ممتلكات الدولة وضم إلى منتزه نارا، وفي العام / 1955م / أعلن كنصب طبيعي وطني ليحظى بأعلى حماية، وعلى الرغم من تجهيز الجبل بممرات فقد تم المحافظة على وضعه الطبيعي بدون أي شكل من التدخل بوضع الغابة، وقيمة هذه الغابة لا تنحصر بأنها جزء من المشهد الثقافي التاريخي الذي يجمع مزارات دينية في وسط الطبيعة العذراء بل في صورة من الوحدة الروحية حيث تبدأ قصة الوجود الياباني عند طائفة الشنتومن الطبيعية.

معبد توداي
(أكبر مباني العالم الخشبية وأكبر تماثيل بوذا البرونزية في العالم) :
بني المعبد بأمر من الإمبراطور شومو الذي كان يأمل بتحقيق السلام، وقد كان مشروع بناء المعبد هدفاً قومياً آنذاك استخدمت فيه كافة الموارد البشرية والمادية، وفي العام / 752م / انتهت أعمال البناء في الموقع ووضع تمثال بوذا فيرونيكا.

تعرض البناء لمجموعة من الحرائق نتجت عن الحروب، والبناء في وضعه الحالي يعود للعام /1790م/، وداخل المعبد في قاعة الكوندو( قاعة بوذا الكبيرة )، ويوجد فيها تمثال برونزي ضخم لبوذا فيرونيكا الذي بدأ فيه عام /745م/ واستمر العمل بنحته عدة سنوات، ونتيجة للحروب الأهلية التي شغلت اليابان على مدى قرون، وإحراق مبنى المعبد تضرر التمثال البرونزي عدة مرات وذاب رأس التمثال وجزء من الجسد عام /1567م/، وأعيد إصلاحه في العام /1690م/، ويعتبر المبنى الحالي للمعبد من الجيل الثالث من المباني التي بناها أهل نارا في نفس الموقع، وحافظوا عليها باستمرار حتى اليوم الحالي، ويرتفع بناء التمثال إلى /14.98م/ وقد بقي جسم التمثال على وضعه الأصلي منذ بنائه عام /747م/، وهو من أكبر التماثيل البرونزية التي تمثل بوذا في العالم وإلى شرق المعبد يوجد جبلتغطيه الأعشاب يعرف باسم واكاكيو ساياما، ويتناغم مشهد سقف المعبد الكبير مع الجبل المحيط، والذي صار مشهداً بانورامياً رائعاً ميز مدينة نارا عبر تاريخها، والاحتفال السنوي الذي يقام في /15 كانون الثاني/ يجتذب الزائرين، ويزيد هذا الحدث من جاذبية المدينة في فصل الشتاء، وسنوياً يجذب الموقع عدداً أكبر من الزائرين للسياحة، ولكن يبقى للمعبد دوره الديني والذي يزداد مرتادوه في الاحتفال السنوي المسمى السوني أي.

القصر الإمبراطوري في نارا:
بني القصر الإمبراطوري في نارا على نهاية الجادة الرئيسية التي تقطع المدينة من الجنوب باتجاه الشمال، ويتألف مبناه الرئيسي من قاعة عامة للجمهور ومركز للإدارة ومجموعة من المكاتب الإدارية وحديقة كبيرة تحيط بالمباني، وعلى مدى الخمسين عاماً الماضية قام علماء الآثار اليابانيين بحفريات لاستكمال الموقع في واحدة من أكثر المشاريع الأثرية طموحاً في العالم، والمعلومات التي جمعتها الحفريات ليست فقط خريطة القصر، ولكن مواضيع تتراوح بين التنظيم البيروقراطي للدولة إلى العادات والثقافة في فترة نارا، وكان يحيط بالقصر سور بارتفاع خمسة أمتار وله /12 بوابة/ بينها البوابة الرئيسية المعروفة ببوابة سوزاكو، وكانت البوابة الرئيسية تؤدي إلى مقر الإدارة الرسمية، ومبانيها، وقد أشارت الكتابات على الألواح الخشبية التي عثر عليها إلى وجود مجلس أعلى للإدارة، ووزارة للشؤون العسكرية وأخرى للخدمات، وكانت قاعة الاحتفالات الرئيسية تتوسط القصر، ويتفرع منها طرقات للمباني الأخرى المبنية على منصات، وداخل حرم القصر كانت تتوزع الحدائق التي كشفت الحفريات عن مخططها الدقيق، وقد قامت إدارة الآثار بإعادة بناء الحديقة حتى يتمكن الزوار من مشاهدة الحدائق على الوضع الذي كانت عليه.

جامعة نارا وأهلها:
تعتبر نارا مثالاً عن المدن التي يؤمن أهلها بأهمية التراث والتاريخ كجزء من الحياة اليومية التي يعيشونها، وفي مؤتمر حول مدن التراث العالمي في جامعة نارا سُأِل مدير المؤتمر د. تاكورا ايزوي عن عدد الحضور المتوقع للمؤتمر فأجاب بأنه حوالي /1200/ شخص معظمهم من الناس العاديين.

كيف تحمي نارا نفسها:
مع العام / 1886م / بدأ اليابان عصر إصلاحات ميجي الذي مهد ليابان القرن العشرين، وقد صاحب ذلك افتتان بالعمارة الغربية القادمة مع الانفتاح، ويعتقد اليابانيون أنهم قللوا من أهمية تراثهم وقيمته في تلك الفترة، وانجرفوا مع الموجة الغربية التي دخلت البلاد.
وقد أدركت الحكومة اليابانية الخطر الذي يهدد المنشآت التاريخية وضرورة حمايتها فسارعت إلى إصدار قانون حماية المعابد والمزارات القديمة، وذلك في العام /1897م/، ومن ثم قامت بحملة لحماية قيمتها التاريخية، وفي العام /1929م/ راجعت الحكومة القانون وطورته، وصار اسمه قانون حماية الكنوز الوطنية ثم قانون الممتلكات الثقافية، والذي يشكل حماية واسعة للتراث الثقافي في اليابان، وقد تعدى القانون حماية المباني إلى حماية محيطها الطبيعي، وحتى حماية المشهد العام المرتبط بالأثر التاريخي، وتحت هذا القانون تتمتع نارا بالحماية، وإضافة إلى قانون الحماية المركزية أدركت حكومة مقاطعة نارا، وبلدية نارا أهمية حماية المشهد الطبيعي العام المحيط بالمنشآت التاريخية فأصدرت مجموعة من القرارات لتنظيم المحيط الطبيعي بحيث يتم الحفاظ على المواقع، ومنطقة حماية لها، وحماية لمشهدية الموقع.

تحياتي لكم جميعا