دعاء هطول المطر، من نزل منزلاً ثم قال …..لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
ذكر الله عز وجل يدور مع الإنسان في كل أوقاته و أحواله :
أيها الأخوة الكرام: لا زلنا في الدعاء ولا زلنا في دعاء السفر، والسفر أحد نشاطات الإنسان في حياته الدنيا.
أيها الأخوة كمقدمة المؤمن يكثر من ذكر الله، والمنافق لا يذكر الله إلا قليلاً، وعلامة الإيمان كثرة ذكر الله، وذكر الله عز وجل يدور مع الإنسان في كل أوقاته، وفي كل أحواله، وفي كل مكان، وفي كل زمان، المفهوم غير الصحيح أنه ساعة لله وساعة لك، المؤمن مع الله في كل أحواله، إذا سافر جعل من سفره عبادة، أينما حل وأينما جلس يذكر الله عز وجل.
(( يَا مُوسَى، أَمَا عَلِمْتَ أَنِّي جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي، وَحَيْثُ مَا الْتَمَسَنِي عَبْدِي وَجَدَنِي))
[ رواه ابن شاهين في الترغيب في الذكر عن جابر]

فقد كان عليه الصلاة والسلام ما سافر على ثنية إلا كبر، ولا هبط وادياً إلا سبح، في الثنية يكبر، وفي الوادي يسبح، أرأيت إلى هذا الذوق؟ في الثنية ؛ في المرتفع، المرتفع له هيبته، يكبر: الله أكبر، وفي الوادي يسبح وفي التسبيح أن تنزه الله عز وجل عن كل نقص، لو توسعنا في هذا قليلاً المؤمن حتى ولو جلس في عقد شراء يذكر الله، يذكر بالله حتى لو جلس في قاعة تدريس، والدرس رياضيات هناك مداخل كثيرة لتعريف الطلاب بالله عز وجل، أي ذكر الله ديدنه، فالسفر قطعة من العذاب جعله النبي عليه الصلاة والسلام قطعة من الجنة، لأنك إن كنت مع الله فأنت في جنة، وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة إنها جنة القرب، الإنسان إذا أكثر من ذكر الله ينشأ عنده ما يسمى بحاسة سادسة تذكره بالله دائماً، أية آية تلفت النظر يذكر الله فيها، وينتفع بها ويستنبط منها معاني كثيرة.
((فعن خولة بنت الحكيم قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك))
[ رواه مسلم في صحيحه عن خولة بنت الحكيم]
كلمات الله التامات كما قال بعضهم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أولاً: تسبحه تنزهه عن كل نقص، والحمد لله تحمده على نعمه الظاهرة والباطنة، وتوحده لا إله إلا الله، وتكبره سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك".القرآن كله أخباره صادقة وأمره عادل :

الحياة كلها مفاجآت، وكلما تقدم العلم أصبحت الحياة أكثر تعقيداً، الإنسان قد يفاجأ بفخ لم يخطر له على بال، قد يفاجأ بمصيبة لم تخطر على باله إطلاقاً، فتعقد الحياة يستوجب تعقد الأمور، الله عز وجل يذكر عن كلماته التامات:
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
[سورة الأنعام ]
القرآن كله لا يزيد عن أن يكون أمراً أو خبراً، فأخباره صادقة وأمره عادل، كل أخباره صادقة وكل أوامره محض عدل، بل إن الله سبحانه وتعالى يعلمنا كيف نستقبل أخباره:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾
[ سورة الفيل]
ما أحد منا رأى ذلك، ولكن ينبغي أن تستقبل خبر الله عز وجل وكأنه مشهد تراه بعينيك:
(( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: يا أرض ربي وربكِ الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيكِ، وشر ما خلق فيكِ، وشر ما يدب عليكِ))
[رواه أبي داود وعن عبد الله بن عمر]
النبي الكريم يعلمنا كيف نحتاط من شرّ الأرض بالاستعاذة برب الأرض :
إذاً: هو يعلمنا كيف نحتاط من شر الأرض بالاستعاذة برب الأرض، "ربي وربكِ الله"، والإنسان حينما يستعيذ بالله هو في حصن حصين، طبعاً البيئة في الجزيرة العربية صحراوية والصحراء فيها مخلوقات قاتلة، من عقرب وحية ووحش مفترس، يقول: "أعوذ بك من عقرب وحية ووحش وساكن بلد ومن والد وما ولد".

كل مكان فيه أخطار، الإنسان أحياناً يسافر فيربت أحدهم على كتفه، فيلتفت فيأخذ منه محفظته فيها جواز سفره، وفيها كل أمواله، وفيها بطاقة السفر، يذوق من ألوان العذاب ومن ألوان الوصول إلى السفارة ما لا يحتمل، لم يعد معه شيء، في كل سفر مطبات كبيرة جداً، فحينما تستعيذ بالله عز وجل يقيك الله هذه المطبات، أحياناً تصل ولا تجد حقائبك، والمعاناة من دون حقائب لا توصف، أنا أذكر لكم متاعب السفر المعاصرة، فإن ذكر النبي الحية والعقرب فهناك آلاف الأشياء التي يواجهها المسافر اليوم تشبه الحية والعقرب بل وأشد، علمنا النبي عليه الصلاة والسلام أنك إن عدت من سفرك سالماً غانماً أي تحقق الهدف في السفر، وسلمك الله وعدت إلى بيتك وإلى أهلك وأولادك، فكان عليه الصلاة والسلام إذا آبى من سفره يقول: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات".

شعور المسافر حينما تهبط الطائرة على أرض المطار ويصل سالماً لا يوصف، لأنه لو حدث خلل في الجو يموت جميع ركابها، فحينما تهبط الطائرة على أرض المطار هناك من يصفق في رحلات كثيرة الركاب يصفقون، والأولى أن يحمدوا الله عز وجل، التصفيق ليس له معنى، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
سمعنا عن حوادث الطائرات كثيراً، طائرة أقلعت من القاهرة إلى البحرين، طبعاً تحطمت، كل راكب في هذه الطائرة كان يفكر أنه سيصل وسيلتقي بأقاربه، ويمضي معه أسبوعين بغاية المتعة، انتهى به إلى الموت، مرة رأيت مركبة على طريق حلب قد تدهورت ومات معظم ركابها، فرأيت على كل مقعد قماشاً أبيض مكتوب عليه: نتمنى لكم سفراً سعيداً، أي سفر سعيد هذا الذي انتهى إلى الموت وإلى الإصابة، فالإنسان بقبضة الله عز وجل، فإذا عاد من سفره سالماً غانماً ينبغي أن يقول: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات".
الزوجة حينما ترتقي في سلم الإيمان تبدأ بمشاركة زوجها همومه ومتاعبه :
وعلمنا أيضاً أنه إذا دخل المسافر إلى بيت أهله ينبغي أن يحمدوا له سلامته ونجاحه في سفره، قال وينبغي أن يقول له أهل بيته: "الحمد لله الذي جمع الشمل بك" أو "الحمد لله الذي سلمك" أو "الحمد لله الذي ردك إلينا".
الحالات كثيرة، يسافر ولا يعود، الإنسان أحياناً ينام فلا يستيقظ، أو يستيقظ فلا ينام، ينام في القبر، أحياناً يخرج فلا يرجع، أحياناً يرجع فلا يخرج، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما يقفل من غزو ويدخل بيته تستقبله السيدة عائشة فتأخذ بيده وتقول: "الحمد لله الذي نصرك وأعزك وأكرمك".
هناك زوجات بعيدات جداً عن هموم أزواجهن، تستقبله بالشكوى، تستقبله الآلة معطلة، تستقبله أنها متعبة، وتنسى أنه كان في سفر، وكان في مهمة عظيمة، وأن الله وفقه، هذه المشاركة من الزوجة لهموم زوجها هو ما يمتن العلاقة بين الزوجين، أحياناً تجد الزوجة الجاهلة هي في واد وزوجها في واد آخر، لا تجد قاسماً مشترك بينهما إطلاقاً، همومها محدودة جداً، سخيفة جداً، وهمومه كبيرة جداً، فحينما ترتقي الزوجة في سلم الإيمان تبدأ بمشاركة زوجها همومه ومتاعبه، تقول: "الحمد لله الذي نصرك وأعزك وأكرمك".
والنبي عليه الصلاة والسلام شكا إليه أصحابه يوماً قحوط المطر فأمر بمنبر له وضع في المصلى في العراء، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام حينما بدا حاجب الشمس وقعد على المنبر فكبر وحمد الله عز وجل ثم قال:
(( إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيارِكُمْ، وَاسْتِئْخارَ المَطَرِ عَنْ إبَّانِ زَمانِه عَنْكُمْ، وَقَدْ أمَرَكُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ ))
[ رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنهما ]
تقنين الله عز وجل تقنين تأديب لا تقنين عجز :

قبل أن نتابع الدعاء، تشهد بعض القارات، وبعض البلاد، جفاف قاتل، جفاف مهلك، والبلاد إسلامية، تشتهي أن يحيوا هذه السِّنة، أن يجتمعوا في العراء وأن يصلوا صلاة الاستسقاء، وأنا موقن والله أيها الأخوة أنه ما من مكان في بلد إسلامي يصيبه الجفاف وتحيا سنة صلاة الاستسقاء إلا استجاب الله لهؤلاء وقوى عقيدتهم، لأن التقنين الذي يفعله الله عز وجل إنما هو تقنين تأديب، فإذا رجع العباد إلى الله عز وجل أزال عنهم هذا التقنين، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( الْحَمْدُ لله رَبّ الْعَالَمِينَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدّيْنِ، لا إِلهَ إِلاّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللّهُمّ أَنْتَ الله لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الْغَنِيّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ. أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوّةً وَبَلاَغَاً إِلَى حِينٍ، ثُمّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فلَمْ يَزَلْ في الرّفْعِ حتّى بَدَا بَيْاضُ إِبْطَيْهِ، ثُمّ حَوّلَ إِلَى النّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلّبَ أَوْ حَوّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُم أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ وَنَزَلَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، فأَنْشأَ الله سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ ثُمّ أَمْطَرَتْ بإِذْنِ الله، فلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حتّى سَالَتِ السّيُولُ، فَلمّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلَى الْكِنّ ضَحِكَ صلى الله عليه وسلم حتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فقال: أَشْهَدُ أَنّ الله عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنّي عَبْدُ الله وَرَسُوَلُهُ ))
[أبو داود عن عائشة]
الله عز وجل يعرف بالدليل العقلي ويعرف بالدليل الفطري :
الحقيقة هناك ملمح لطيف أن إنساناً سأل: ما الدليل على أن الله بيده كل شيء والمطر والرزق والخيرات والأحداث الكبرى؟ أنت حينما تكون موحداً توقن أن الله على كل شيء قدير.

هناك إجابة لطيفة لفتت نظري أن الطفل اللقيط لم ير أباه إطلاقاً ولن يراه، لكن حينما يجد أن كل الناس لهم آباء، وأنه لا بد له من أب لماذا لم يره؟ يبحث، فالطفل اللقيط يحتاج إلى دليل عقلي على أن له أباً، لكن الطفل الذي يعيش في كنف أمه وأبيه هل يحتاج إلى دليل؟ أي أنت حينما تغمر في مياه البحر الدافئة فكل خلية في جلدك تشعر بماء البحر، وترى البحر بعينيك، وتسمع موجه بأذنيك، وتحس بمائه بجلدك، هل تحتاج أنت إلى دليل على أنك في البحر؟ المعايشة أقوى من الدليل، فالله عز وجل يعرف بالدليل العقلي، ويعرف بالدليل الفطري، فالدليل الفطري أقوى بكثير، الذي أقوله دائماً: إن الذي يثبتك في الدين ليس لأن في الدين تصورات صحيحة مقنعة شاملة متناسقة، بل الذي يثبتك بالدين أنك تتلقى من الله معاملة كل يوم، تحس أنه معك، يسمعك، يستجيب لك، يكرمك، يحفظك، يقويك، يدعمك، يوفقك، ينجيك، هذا الشعور اليومي أقوى دليل على أن الله معك، لذلك قالوا: الدعاء يقوي العقيدة، أنت أحياناً تسأل الله أموراً لا يقدر عليها إلا الله، وتراها قد تيسرت، إذاً الله موجود معك، سمعك، واستجاب لك، وأكرمك.
وقال أحد أصحاب رسول الله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية إثر مطر سقط علينا، فلما انصرف أقبل على الناس فقال:
(( هَلْ تَدْرُونَ ماذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالوا: اللّه ورسولُه أعلم، قال: قالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبادِي مُؤْمِنٌ بِي وكافِرٌ، فأمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْنا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كافرٌ بالكَوْكَبِ ؛ وأمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْننا بِنَوءِ كَذَا وكَذّا فَذَلِكَ كافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ))
[ رواه البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني ]
الدعاء من صفات المؤمن وهو استعطاف و استغفار و عهد :

أيها الأخوة الكرام: قال أحد زعماء الغرب: الله عز وجل غير موجود في بلادنا لكنه موجود في بلاد المسلمين، ماذا يقصد؟ الإنسان في بلاد المسلمين يسأل الله، يتوكل على الله، يرضى بقضاء الله، يتصل بالله، يصبر على حكم الله، الله في حياته، بينما في الغرب الإنسان كافر، لا يوجد عنده جهة قوية يعتمد عليها، يشتكي، ويقع إنسان بحادث لا يجيبه أحد، أي ليس هناك مفهوم الإله بشكل كما هو في بلاد المسلمين، فعبر عن هذه الفكرة، فلذلك الدعاء من صفات المؤمن، الدعاء صلة بالله، الدعاء استعطاف، الدعاء استغفار، الدعاء عهد، الدعاء وعد.
فأرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون الدعاء ديدن المؤمن.
لكن كتعليق أخير: قد تكون في موقف حرج، وقد تكون أمام عدو كافر وأنت مضطر إلى أن تدعوه، ولكن لا يمكن أن تحرك شفتيك، فكيف تدعوه؟ يمكن أن تدعوه بقلبك.
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾
[سورة مريم ]
أنت أحياناً قد تدعو الله بقلبك وقد تطبق شفتيك، وتقول: يا رب نجني، يا رب أكرمني، يا رب ألهمني رشدي، يا رب أعني على عدوي، ليس شرطاً أن تكون فصيحاً ومتكلماً وأن تدعو بالأدعية المأثورة، أو الأدعية المسبوكة، لا، ناجه بقلبك، من دون تفاصح، ولا فقهية، ولا تقعر، قل يا رب أنقذني " إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا " لأن الله معك، ومعك أينما كنت.
والحمد لله رب العالمين