قرأت عن هذا الكتاب-من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن- ضمن مقالات العلامة الطناحي المنشورة في مجلدين -وهو كتاب نفيس جدير بالقراءة-، ومن حينها ظللت أبحث عنه فلم أجده، وأوصيت عدداً من الزملاء للبحث عنه في مكتبات مصر وغيرها؛ فلم يحالف التوفيق أحداً منهم؛ حتى زارني صديق مصري كريم هو الأستاذ ثامر صبحي- حفظه الله حيث كان- واستحلفني إن كنت أريد شيئاً من مصر الغالية، فذكرت له هذا الكتاب؛ وكم سررت حين أحضر لي نسختين منه سنة(1428)، وعندما قرأت الجزأين سألته أيوجد غير هاتين النسختين؟ فقال إنه وجد الكتاب (ملقى) في مستودع إحدى المكتبات؛ وبقي منه أربعة عشر نسخة! فطلبت منه إحضارها جميعها؛ وأهديتها لبعض الحفاظ والأئمة وأساتيذ اللغة في مكة والرياض والقصيم، ولأثنين من خاصة الأصدقاء؛ وبقيت نسخة واحدة أهديتها لإنسان مختلف؛ ولإهدائها حكاية لطيفة أسردها لاحقاً.

وكنت أحث الأصدقاء والحفاظ خاصة أن ينظروا في هذا الكتاب العجيب في بابه، وأعرت نسختي لمن طلبها، وقد أخبرني إمام مسجدنا-الشيخ فهد الشعيبي- بعد أن فرغ من قراءة نسختي أن الكتاب سوف يطبع من جديد في مكتبة سعودية، ففرحت لذلك كثيراً؛ لأن طبعة دار الهلال ليست جيدة في ورقها ولا في إخراجها، فضلاً عن وجود أخطاء طباعية فيها، وفوق ذلك كله غير موجودة في قوائم العرض لدى المكتبات، فكان هذا الكتاب كالجوهرة الثمينة التي وضعت في غير محلها، وبقيت أتتبع خبر نشره إلى أن صدر عن دار الميمان بالرياض عام(1432=2011م)، بطبعة أنيقة جميلة الإخراج، على ورق نباتي في جزءين، يقع الأول في(377)صفحة؛ والثاني في(477)صفحة؛ وكانت فرصة لأعيد قراءة الكتاب في حينه، مع علوق فكرة الكتابة عنه في الذهن؛ واهتبلت فرصة قرب دخول رمضان للتعريف به-طبعة الميمان-؛ عسى أن يكون معيناً لنا في فهم كلام ربنا، ومعرفة شيء من إعجازه.

واتخذ الكتاب في طبعتيه من مقالة د.محمود محمد الطناحي مقدمة يبدأ بها القارئ؛ وأحسنوا في ذلك كثيراً؛ فالطناحي قامة علمية ولغوية، وله قيمته عند أهل العلم واللغة، والمؤلف رجل غير معروف بالتأليف والكتابة-كما أشار بنفسه-، ولذلك اجتمع المحمودان-رحمهما الله- في هذا الكتاب السابق الناهل من معين القرآن العذب المعجز. وقد أثنى الطناحي على الموضوع الفريد، وعلى همة المؤلف وجديته وأمانته العلمية، وسبْقه إلى وجه لم يفطن له أحد، واستخدامه لغة عالية سلمت كثيراً من أوشاب الدخيل المعكر لجمال اللغة.

ومع أن عنوان الكتاب دال على موضوعه بصراحة ووضوح؛ إلا أن المؤلف استطرد إلى قضايا عقيدية ولغوية وتاريخية، وبعضها لم يقل بها أحد قبله، وغالب اجتهاداته سواءً في صلب الموضوع، أو في ماتفرع عنه؛ تدهش القارئ، وتجبره على تقدير اجتهاد المؤلف؛ وإن لم يوافقه على بعضها. وقد أشار المؤلف غير مرة إلى وجود مشروعات تآليف أخرى مؤجلة لديه بسبب انصرافه لهذا الكتاب؛ وقد سألت الناشر الميمان عنها فلم يعرف خبرها، ووعدني أحد موظفي الناشر برقم نجل المؤلف الذي يعمل في الرياض لسؤاله بعد السلام عليه، لكنه لم يفعل؛ مع أني أقسمت له أن غرضي من التواصل ثقافي اجتماعي وليس تجارياً البتة!

وألمح الطناحي إلى تواضع المؤلف وعدم إدلاله على القارئ بما يقدمه من علم غزير، بل أورد كلامه سهلاً رهواً، يتهادى في إهاب الكرامة والتواضع، وعليه بهاء العلم، وأمارات الجد، بأسلوب عذب مصفى؛ يحترم عقل قارئه، ويهدف لإمتاعه دون التعالي عليه، وأشاد الطناحي بردود المؤلف المحكمة على المستشرقين وطلابهم، وعلى التزامه بإحالة الاشتقاقات اللغوية إلى مصادرها؛ لتوثيق رأيه الذي لم يجازف به لأن لغات الأسماء الواردة في بحثه مندثرة أو قلما يوجد من يتقنها. وختم الطناحي مقالته ببعض الملحوظات العلمية على بعض اجتهادات المؤلف؛ ثم قال :"أوصيك أيها القارئ العزيز بتأمل هذا الكتاب ومدارسته، فخل له سَرْبَك، وشد عليه يد الضنانة، ثم أغر به من حولك".

ثم كتب المؤلف أ.محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة تصديراً ومقدمة لكتابه؛ قائلاً إنه قد فُتح عليه بوجه من الإعجاز القرآني غير المسبوق، وطلب من قارئه التسبيح إن كان مسلماً، والتأمل إن كان غير مسلم- وقد قرأت أن الكتاب سيترجم للغات أجنبية-، فسبحان الله ما أعظم كتابه، وما أغزر علومه وأجمل بيانه وأقوى إعجازه. ثم أسهب المؤلف في الفصل الأول والثاني والثالث عن مباحث لغوية صرفة، قد تصعب على القارئ غير المتخصص؛ بيد أنه ساقها بسلاسة، وهي فصول لامناص منها؛ قبل أن يأخذك أ.أبو سعدة لباقي مباحث الكتاب؛ لتذوق حلاوة الإعجاز، وتبصر نور الحق.

وذكر المؤلف أن العَلَم الأعجمي في القرآن يجيء على ثلاثة أنواع: علم الذات، وعلم الجنس، وعلم الموضع، فمن علم الذات ورد في القرآن أسماء خمسة من الملائكة عليهم السلام، وتسعة وعشرين اسماً للأنبياء والصديقين عليهم السلام؛ أحدها اسم شهرة؛ والآخر منسوب إليه عَلَم، واسمان للملوك، وخمسة أعلام من المقبوحين في الدنيا والآخرة، وضرب الكاتب صفحاً عن تسعة أسماء واردة للأصنام، لأنها عربية الأصل والاشتقاق بلا خلاف كما في بعض الأسماء التي عدها أعجمية على خلاف؛ ونبه إليها في مواضعها.

وأما علم الجنس فقد جاء منه في القرآن الكريم أربعة أسماء قبائل، وشعب واحد، وثلاثة كتب، وأهل ملل أربع، وأما علم الموضع فشمل أربعة بلدان، وموقعاً واحداً، وثلاثة منازل أخروية، وبالتالي فمجموع الأعلام الأعجمية أو المقول بعجمة أصلها بلغت في هذا الكتاب واحداً وستين اسماً علماً، وتعرض المؤلف في أثناء كتابه لأسماء لم ينص عليها في القرآن باسمها كحواء، وأم موسى عليه السلام وأخته والسامري.

واستظهر المؤلف بنعمة من الله ست طرق يفسر بها القرآن عَلَمَه الأعجمي؛ وهي:
1. التفسير بالتعريب ومثاله ميكال عليه السلام.
2. التفسير بالترجمة ومثاله ذو الكفل عليه السلام.
3. التفسير بالمرادف ومثاله موسى عليه السلام.
4. التفسير بالمشاكلة ومثاله زكريا عليه السلام.
5. التفسير بالمقابلة ومثاله عاد.
6. التفسير بالسياق العام ومثاله لوط عليه السلام.

ولا ينبغي لي إفساد جمال صنيع المؤلف باختصار شيء مما قاله؛ وإنما أدعوك أيها القارئ العزيز بدعوة الطناحي السالف إيرادها؛ فإن أعجبك الكتاب وراقك فهذا غاية المراد، وإن كانت الأخرى فانظر حولك؛ واهده لمن تحب من القراء المعتنين بعلوم القرآن أو اللغة، علماً أن المؤلف رتب الأعلام حسب اجتهاده التاريخي؛ وهذا الترتيب جزء من إبداعه الجميل.

وفي خاتمة البحث ذكر المؤلف أنه خط أول سطر منه في بداية شوال سنة(1409) =مايو(1989م)، وفرغ منه في أواخر رمضان سنة(1411)=أبريل عام(1991م)، وكان متوسط ساعات العمل اليومي نحواً من أربع ساعات، وعد هذه الفترة أجمل سني عمره، فالقلب يرجف في جلال كنف الله تسبيحاً وتحميداً، والدموع ملء المآقي؛ حتى قال:"ماذقت نعيماً في هذه الدنيا كالذي عشته وأنا أكتب".

وبيَّن المؤلف أن فكرة البحث قد لاحت له قبل عشر سنين من الشروع فيه؛ حين كان يعمل في الأمم المتحدة بجنيف، وكان القرآن وتفسيره شغله الشاغل خلال هذه السنوات العشر- وما أبركه من شغل-، وكلما كتب فصلاً عرضه على صحبة جنيف الذين أثنى على تعاونهم، وتشجيعهم وحماستهم للبحث؛ حتى أن بعضهم توسط لدى مكتبة يهودية ليبيعوا له معجماً بلغة التوراة، وأخبره آخر عن كتاب لمستشرق حول أعجمي القرآن؛ فلما قرأه المؤلف دفعه ذلك لرد أكاذيبه ودحضها ضمن فصول هذا الكتاب الماتع.
واعترف المؤلف بفضل الله عليه حيث افتتن منذ صباه باللغات؛ مما يسر له العلم بعدة لغات علم الباحث لا علم المتكلم، ثم أنهى خاتمته بحمد الله والثناء عليه على تطابق النتائج مع منهج الكتاب تطابقاً تاماً، ومن حسن نية المؤلف وصدقه أن أعلن أنه لم يخرج عن وضوح فرضية هذا البحث سوى علمين هما(المجوس وهامان)؛ وقد أبدع في تحليل الأخير منهما على وجه الخصوص.

وبما أننا ننتظر دخول شهر رمضان الكريم؛ والأمة بغالبها تلتصق بكتاب ربها تلاوة وتدبراً واستماعاً وتدارساً، فما أجمل أن نستشعر أهمية إنعام النظر في هذا الكتاب العزيز، وتدبر آياته ومعرفة أسراره وحكمه، فهو كتاب الله جل في عليائه، وخطاب الرب الكريم لأوليائه، وبيان العليم الخبير للناس عامة، ووعيد الجبار لأعدائه، وكم فيه من حرف وآية وسورة وحزب وجزء لاتخلو منفردة أو مجتمعة من سر وإعجاز؛ يفتح بها الله على من يشاء من عباده، فاللهم اجعل لنا من كتابك وفهمه وتطبيقه ونشره نصيباً مقبولاً عندك، ومرضياً به علينا.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض