سلطة القاضي أم سلطة الخليفة !
القضاء.. العدل.. الظلم.. حق الناس.. حق الله.. كلمات أخذ يرددها شريك بينه وبين نفسه عندما عرض عليه الخليفة أن يتولى قضاء (الكوفة) فما أعظمها من مسئولية!!
في مدينة (بُخارى) بجمهورية أوزبكستان الإسلامية الآن، وُلِدَ شريك بن عبد الله النخعي سنة خمس وتسعين للهجرة، ولمـَّا بلغ من العمر تسع سنوات أتم حفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه والحديث، وأصبح من حفـاظ أحاديث رسـول الـلـه صلى الله عليه وسلم.
وفي مدينة الكوفة اشتهر بعلمه وفضله، فأخذ يعلم الناس ويفتيهم في أموردينهم، وكان لا يبخل بعلمه على أحد، ولا يُفَرِقُ في مجلس علمه بين فقير وغني؛

فيحكى أن أحد أبناء الخليفة المهدي دخل عليه، فجلس يستمع إلى دروس العلم التي يلقيها شريك، وأراد أن يسأل سؤالاً؛ فسأله وهو مستند على الحائط، وكأنه لا يحترم مجلس العلم، فلم يلتفت إليه شريك، فأعاد الأميرُ السؤالَ مرة أخرى، لكنه لم يلتفت إليه وأعرض عنه؛ فقال له الحاضرون: كأنك تستخف بأولاد الخليفة، ولا تقدرهم حق قدرهم؟ فقال شريك: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن تضيِّعوه، فما كان من ابن الخليفة إلا أن جلس على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم.
وقد عُرِضَ عليه أن يتولى القضاء لكنه امتنع وأراد أن يهرب من هذه المسئولية العظيمة، خوفًا من أن يظلم صاحب حق، فعندما دعاه الخليفة المنصور، وقال له:

إني أريد أن أوليك القضاء، قال شريك: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لست أعفيك.. فقبل تولي القضاء، وأخذ شريك ينظر في المظالم ويحكم فيها بالعدل، ولا يخشى في الله لومة لائم، فيحكى أنه جلس ذات يوم في مجلس القضاء، وإذا بامرأة تدخل عليه وتقول له: أنا بالله ثم بك يا نصير المظلومين، فنظر إليها شريك وقال: مَنْ ظلمك؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، فقال لها: وكيف؟ قالت: كان عندي بستان على شاطئ الفرات وفيه نخل وزرع ورثته عن أبي وبنيت له حائطًا، وبالأمس بعث الأمير بخمسمائة غلام فاقتلعوا الحائط؛ فأصبحت لا أعرف حدود بستاني من بساتينه؛ فكتب القاضي إلى الأمير: "أما بعد.. أبقى الله الأمير وحفظه، وأتم نعمته عليه، فقد جاءتني امرأة فذكرت أن الأمير اغتصب بستانها أمس، فليحضر الأمير الحكم الساعة، والسلام".
فلما قرأ الأمير كتاب شريك غضب غضبًا شديدًا، ونادى على صاحب الشرطة، وقال له: اذهب إلى القاضي شريك، وقل له -بلساني- : يا سبحان الله!! ما رأيت أعجب من أمرك! كيف تنصف على الأمير امرأة حمقاء لم تصح دعواها؟ فقال صاحب الشرطة: لو تفضل الأمير فأعفاني من هذه المهمة، فالقاضي كما تعلم صارم، فقال الأمير غاضبًا: اذهب وإياك أن تتردد.

فخرج صاحب الشرطة من عند الأمير وهو لا يدري كيف يتصرف، ثم قال لغلمانه: اذهبوا واحملوا إلى الحبس فراشًا وطعامًا وما تدعو الحاجة إليه، ومضى صاحب الشرطة إلى شريك، فقال القاضي له: إنني طلبت من الأمير أن يحضر بنفسه، فبعثك تحمل رسالته التي لا تغني عنه شيئًا في مجلس القضاء!! ونادي على غلام المجلس وقال له: خذ بيده وضعه في الحبس، فقال صاحب الشرطة: والله لقد علمت أنك تحبسني فقدمت ما أحتاج إليه في الحبس.
وبعث الأمير موسى بن عيسى إليه بعض أصدقائه ليكلموه في الأمر فأمر
بحبسهم، فعلم الأمير بما حدث، ففتح باب السجن وأخرج مَنْ فيه، وفي اليوم
التالي، عرف القاضي شريك بما حدث، فقال لغلامه: هات متاعي والحقني
ببغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر (أي القضاء) من بني العباس، ولكن هم الذين أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحرارا.
فلما عرف الأمير موسى بذلك، أسرع ولحق بركب القاضي شريك، وقال له: يا
أبا عبد الله أتحبس إخواني بعد أن حبست رسولي؟ فقال شريك: نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه، وقبولهم هذه الوفادة تعطيل للقضاء، وعدوان على العدل، وعون على الاستهانة بحقوق الضعفاء، ولست براجع عن غايتي أو يردوا جميعًا إلى السجن، وإلاَّ مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء، فخاف الأمير وأسرع بردِّهم إلى الحبس، وجلس القاضي في مجلس القضاء، واستدعى المرأة المتظلمة وقال: هذا خصمك قد حضر.. فقال الأمير: أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين، فقال شريك: أما الآن فلك ذلك.
ثم سأل الأميرَ عما تَدَّعيه المرأة، فقال الأمير: صدقت.. فقال القاضي شريك: إذن ترد ما أخذت منها، وتبني حائطها كما كان.. قال الأمير: أفعل ذلك، فسأل شريك المرأة: أبقي لك عليه شيئًا؟ قالت: بارك الله فيك وجزاك خيرًا، وقام الأمير من المجلس وهو يقول: مَنْ عَظَّمَ أمرَ اللِه أذل الله له عظماء خلقه، ومات القاضي شريك سنة 177 هـ.
ولهذه القصة دلالات كثيرة وهي:
الأولى: خطورة وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتق القاضي، فالقضاة هم ورثة الأنبياء والرسل، يؤرقهم أن يناموا على ضيم ولهذا قال قاضي الكوفة وقد عزم على ترك ولاية القضاة «نحن مكرهون على هذا الأمر»، ولهذا كان علمـاء وفقهاء المسلمين يرفضون ولاية القضاء، وأن أبا حنيفة، حين دعاه أمير المؤمنين إليها ثلاث مرات أبى حتى ضرب في كل مرة ثلاثين سوطاً، لأنه كان يحس بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتق القاضي.

الثانية: أن هيبة القضاء من هيبة الدولة، وفي هذا السياق يقول القاضي شريك «وضمنوا لنا الإعزاز فيه إذا تقلدناه»... ولهذا نصت المادة 163 من الدستور على أن «شرف القضاء ونزاهة القضاة وعدلهم، أساس الملك».

الثالثـة: استقلال القاضي عن سلطة الحكم، وأنه لا تأثير لهذه السلطة عليه، فالقاضي يأمر بحبس رئيس الشرطة، ويرفض الرسالة التي بعث بها الأمير إليه، وفي هذا السياق تنص المادة (163) من الدستور الكويتي على أنـه «لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائـه ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالـة».

الرابعة: أن حق التقاضي، مكفول ولا يجوز أن يُحصَّن قرار أو فعل من حق الطعن عليه أمام القضاء،
مهما كانت علو مكانة مصدر القرار، ولهذا تنزل المراسيم التي يصدرها الأمير بعد موافقة مجلس الوزراء منزلة القرارات الإدارية وتتساوى معها في حق الطعن عليها بالإلغاء والتعويض عنها،
فالأمير يستخدم سلطاته- طبقاً للمادة 55 من الدستور- بواسطة وزرائـه.
وفي الشؤون الخاصة لصاحب السمو الأمير، فقد عهد المشرع إلى وكيل أو أكثر يعيِّنهم الأمير لإعلانهم بالأوراق القضائية ولقيامهم بإجراءات التقاضي عن سموه، «المادة 5 من القانون رقم 4 لسنة 1964 في شأن أحكام توارث الإمارة».
وحسناً فعل المشرع، فنظام الوكالة بالخصومة أمام جهات القضاء، قد أصبح أصلاً ثابتاً من أصول التقاضي، يتساوى فيه الكافـة.

الخامسة: المساواة أمام القضاء، فقد سوى القاضي بين المرأة الفقيرة وأمير الكوفة، ابن عم الخليفة أمير المؤمنين.
وفي رسـالة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري، والتي تعتبر دستور القضاء يقول له فيها القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فلا يطمع شريف في حيفه ولا ييأس ضعيف من عدله.
ويُستمد مبدأ المساواة أمام القضاء في الدستور الكويتي من مبدأ المساواة أمام القانون، الذي كفله الدستور الكويتي فيما تنص عليه المادة (29) من أن «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين».
السادسة: وتدل واقعه قيام القاضي من مجلسه ليجلس عليه الأمير بعد الفصل في الدعوى على أن الاختلاف في الرأي بين القضاء وبين سلطة الحكم، فيما يصدر من أحكام ضدها، هو أمر طبيعي مستمد من استقلال القضاء الذي كفله الدستور الكويتي للقاضي فيما نصت عليه المادة 163 من أنه لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائـه، إلا أن ذلك لا يُخلّ بمبدأ التعاون بين السلطات الذي جعلته المادة 50 من الدستور قرينا لمبدأ الفصل بين السلطات ولِحمته وسداه، فالاختلاف في الرأي لا يفسد للتعاون قضية.
******************************************