كان أبرز زعيم لحزب إسلامي ببلدي على جانب لا محدود من التفاؤل بحيث كان يعلن في أكثر من مناسبة أن الدولة الاسلامية المنشودة ستقام في فصل الشتاء وحينما سئل من قِبَل أحد رجال الاعلام عن سرّ يقينه علل بقوله تعالى :
{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } [محمد:7]
وبغض النظر عن شكل الدولة المستقبلية الموقّعة عن رب العالمين قلت في نفسي يا له من رجل مغامر!
وانتظرنا فصل الشتاء وتلاه غيره ولم يتحقق المأمول
قلت شتان بين الخيال المدغدغ للعواطف وبين واقع مرّ لا حصاد وراءه الا الهباء المنثور
فالنصر ثمرة انتصارنا للحق بنص الآية ومن رام غاية حث الشرع على تحقيقها دون سلوك أسبابها المشروعة
_ولو بدا من القانتين أو ممن تجهر حناجرهم بما أُثِر من الأدعية المفجرة لكمائن القلوب ومجاري العيون_
فهو كمن طلب الولد وهو عن الزواج من العازفين
كم دعونا على إسرائيل فما نال منها دعاء ولا عويل بينما يرفع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يديه في أرض المعركة وهو يردد: " يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الارض أبدا ".
فيلي سيل ضراعته الانتصار الحاسم
معلوم أن الدعاء النبوي لم ينطلق من فراغ بل جاء تتويجا لعمل جاد تجسد في تحويل منهج الله الى واقع ملموس في المدينة المنورة وقبله في مكة المكرمة
ومن تمام النعمة أن يبسط الله تعالى منهجا مكيًّا للفئة المضطهدة سمته العلم والعمل والإخلاص الى جانب ضبط المشاعر تماشيا مع الاستراتيجية البعيدة المدى
فالدعاء بالنصر يعقب الاسباب ولا يسبقها
ولك أن تتساءل عن سرّ امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التوجه الى ربه انتصارا للصحبة المضطهدة وهو مستجاب الدعوة
فعن ابن إسحاق قال : كان عمار بن ياسر وأبوه وأمه أهل بيت إسلام ، وكان بنو مخزوم يعذبونهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صبرا يا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة » رواه الحاكم في المستدرك
وفي صحيح البخاري:حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا بَيَانٌ وَإِسْمَاعِيلُ قَالَا سَمِعْنَا قَيْسًا يَقُولُ سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ:
أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ
زَادَ بَيَانٌ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ"
ربط عجيب بين المرحلة المبكرة التي هي مرحلة الصبر على تثبيت القاعدة وبين النصر الذي هو عنوان تمام البناء
إن الأَوْلى بالمزارع أن يضع البذرة بعد تهيئة التربة وريّها ورفع العوائق ثم له أن يسأل ربه أن ينبت ما زرع
فإذا استوت الشجرة على ساقها بعد تعهدها ورعايتها جاز له أن يسأله الثمرة وأن يبارك له فيها
أما أن يسأله الثمرة قبل أن يحرث أرضا أو يغرسا غرسا أو يزرع زرعا
فتضرعه قصور بل ومهزلة وإهانة لتدينه وهو قرة عين المتربصين والساخرين
وا حسرتاه على أمة قدمت ما وجب تأخيره وأخرت ما وجب تقديمه
في زمن المسخ الذي ليس وراءه الا القذف والخسف؟
أين العقل العملاق المتغلغل في سنن الكون المتلمس للطائف الخلق
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190، 191]
وأين المشاعر المنضبطة بالهدي النبوي وأين القلوب الحنونة الرحيمة المتضامنة التي تجمع ولا تفرق تصل ولا تقطع؟
أخطّ هذه الكلمات وبين يدي خبر محزن نقلته جريدة الشروق الجزائرية وهي تصف المؤشر المتدني لكرامة عجوز في التسعينيات من عمرها رفقة ابنتيها المعوقتنين حيث يقضين أول يوم من شهر رمضان شهر الرحمة والغفران داخل زريبة فراشهن التبن و"كرطونا" تتقاسمه مع الجرذان !
قد تنتصر أمة _ وكرامة شريحة منها مهدرة _ في معركة أو معارك لكن من سابع المستحيلات أن يتحول نصرها الى فتح
فالفتح ثمرة للرحمة والعدل والمساواة تحت مظلة العبودية الحقة
ولا عبودية دون محبة العبد لربه, ونفع الخلق برهان صدق المحبة فالأولى بالقرب من الحضرة العلية أقرب الناس الى تحسس نبضات القلوب.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ , وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ , أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً , أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا , أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا , وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا , وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ , وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ. المعجم الكبير للطبراني
ألا ترى _ إذن _ أن تثبيت علاقتك بربك وفوزك بعد مماتك يمر على نفع الناس الى جانب التحكم في الانفعالات السلبية التي تهدم ولا تبني؟ فكذلك النصر والفتح
وما الدعاء بعد إتيان البيوت من أبوابها وذلك بتجسيد مراد الله الا تعبير بعد كل ما بذل عن الحاجة الى الله وأن النصر نصره
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [ آل عمران:12]
وهو نظير قوله تعالى سورة الواقعة:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)}...... {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} .......{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69} .......{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)}
بل ان التعبير عما يختلج النفوس المؤمنة أن يستمر التضرع الى المحبوب الى فترة ما بعد اقتطاف الثمرة
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) [سورة النصر]
وإذا كان يقينا أن النصر من عند الله وأن النصر وليد مقدمات وأسباب قد بُثّت عناصرها في الكتاب والسنة فاعلم ألا حاجز بينك وبينها إن فاتك إدراكها الا الكفر أو شُعَبه أو كلاهما معا
اقرأ على سبيل المثال لا الحصر سورة الاسراء قراءة واعية وتحسس اسباب النصر الموعود على بني اسرائيل الذين توعدهم الله بالدمار
فصدر السورة سياحة ليلية أشرقت لها أركان الأقصى بنور إمامة المصطفى صلى الله عليه وسلم والأمة المقتفية لأثر أسوتها الوجه الثاني لاجتياح أرض المسرى المدنسة
فالأمة الاسرائيلية التى أمرها الله بدخول الارض المقدسة حينما كانت أقرب الناس الى عقيدة التوحيد فعتت عن أمر ربها فسلط الله عليها الامم وفرق شملها هي مثل ضرب لكل أمة تقمصت شخصيتها فينالها من الخزي والدمار بقدر السير على دربها
ولا نصر لهذه الامة الضائعة التائهة الا بالعودة الى منبع العزة وهو ما تشير اليه سورة الاسراء , فالأمة بين خيارين
أولهما :{وَإِذَاأَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الاسراء:16]
وثانيهما: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الاسراء:9]
فإما طبقية متمردة مخزية مهلكة أو عقيدة موحدة تقوم عليها شريعة تنتظم على أساسها علاقات اجتماعية طاهرة ظاهرها وباطنها الرحمة والعدل والمساواة بعيدا عن كل حيف وجور
ومما هو جدير بالذكر في سورة الاسراء أن الاحكام المنظمة لعلاقة الفرد بربه وبمجتمعه يتخللها ذكر القرآن ويحيط بها في أكثر من عشر مواضع
فهل عقلت عن ربك أن الانتصار الحاسم والفتح الأعظم لا يتم الا على أساس قرآن يدبّ على الأرض؟
فما نصيبك في هذا المشروع العظيم؟
وهل أنت من المستعجلين للثمرة قبل الغرس؟
وهل تريد غرسا دون دراية بفنون الزراعة وشروط النماء؟
إذن فطموحك أمنية وأمنيتك حلم ودعاؤك لا رصيد له في عالم الأحياء
ولا حول ولا قوة الا بالله