بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
مع آية الصيام:
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس رمضان، ومع آية الصيام:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾
( سورة البقرة )
1 – الشرع يخاطب الناس بأصول الدين:
أولاً: من عادة الله عز وجل أنه إذا خاطب الناس يخاطبهم بأصول الدين.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾
( سورة البقرة الآية: 21 )
2 – الشرع يخاطب المؤمنين بفروع الدين:
لكن إذا خاطب المؤمنين يخاطبهم بفروع الدين، السبب أن هذا المؤمن مؤمن أن الله سبحانه وتعالى خالق السماوات والأرض، وأنه رب العالمين، وأنه لا إله إلا الله، وأنه الغني، وأنه القوي، وأنه العليم، وأنه المقتدر، وأنه الحكيم، وأنه العدل، وأنه المعطي وأنه المانع، بعد أن آمن بالله رباً، وخالقاً، ومسيراً، بعد أن آمن بأن أسماءه حسنى وصفاته فضلى، بقي عليه أن يتوجه عليه، وأن يعبد، فتأتي الآية:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
3 – تطبيق عملي لخطاب الله المؤمنين بـ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:
لكن كتطبيق عملي: هل كلما قرأت في القرآن آية مفتتحة بـ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
تعني أو تفهم أنك معني بهذه الآية ؟.
حينما يقول أب: يا فلان، وفلان واقف أمامه، ألا ينبغي أن يستجيب له ؟ ألا يتعقد أنه معني بهذا الخطاب ؟.
حينما تقرأ القرآن، وتقرأ قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
ولا تشعر أنك معني بهذا الخطاب، فهناك مشكلة كبيرة في إيمانك، أنت معني بهذا الخطاب، لأنك آمنت بالله، طبعاً أنا لا أخاطب طلاب الجامعة وهم في الجامعة، أقول لهم: انتسبوا للجامعة، هذا كلام لا معنى له إطلاقاً، ولكن أخاطب الشباب عامة الذين لم يلتحقوا بالجامعات فأقول لهم: انتسبوا للجامعات، أما طالب الجامعة فأخاطبه بالدوام، تنظيم وقته، بزيارة المكتبة، بإنجاز أعماله يومياً، بمراجعة أستاذه، هناك آلاف الأوامر التفصيلية، أنا أخاطب الطلاب في الجامعة، بتفاصيل النظام والدراسة، والمطالعة، والبحث العلمي، أما أخاطب الطلاب الذين لم يلتحقوا بالجامعات أقول لهم: يا أيها الطلاب التحقوا بالجامعات.
4 – الاستجابة لنداء الله بالصيام:
فإذا خاطب الله عامة الناس يخاطبهم بأصول الدين: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ ﴾
هذا مؤمن، أقول له: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ﴾
ينبغي أن تصوم، لأنك آمنت بي، آمنت بعلمي، وحكمتي، وقدرتي، ورحمتي، وعدلي، وأنني ربك، وأنني إلهك، وأنني خالقك، لذلك الآية الكريمة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
الوقفة عند: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
وقفة مع قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
1 – العبادات معلَّلة بمصالح الخلق:
بينت لكم في درس سابق أن العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق، فالله عز وجل إله من حقه أن يأمر بلا تعليل، كما هي الحال في الجيش، نفذ فقط، افعل، ما مِن أمر عسكري معه تعليل، القوي من شأنه ألا يعلل، أما الرحيم فمن شأنه أن يعلل، فقد بيّن لك حكمة الصيام بقوله:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
2 – ماذا نتقي ؟
الوقفة عند: ﴿ تَتَّقُونَ ﴾
نتقي ماذا ؟ ما الذي يتقى ؟ هل يتقى الطعام الطيب ؟ لا هل يتقى بيت جميل مريح ؟ لا، هل تتقى زوجة مخلصة ؟ لا، ما الذي يتقى ؟ يتقى وحش يتقى مرض، يتقى إفلاس، يتقى سجن، كلمة التقوى تعني أن هناك خطراً ينبغي أن تتقيه، فما هو الخطر ؟ هنا يدخل في أعماق الصيام، ما الخطر الذي يتربص بنا ؟ وجاء الصيام من أجل أن تتقيه ؟
3 – مصيرك أيها الإنسان إلى حفرة فلا تغترّ، واعتبر !!!
الحقيقة أن الإنسان كائن متحرك، كل واحد منا له عمر، ولد من أبوان، ترعرع، وكبر، دخل الحضانة، والابتدائي، والإعدادي، والثانوي، نال الشهادة الثانوية، إما أنه دخل جامعة، أو التحق بوظيفة، الآن عمره أربعون سنة، الأمور ماشية، كل واحد له عمر عند الله، 40 ـ 45 ـ 50 ـ 55 ـ 60 ـ 67 ـ 72 ـ 81 ـ يأتي الأجل، إلى أين ؟ كان ساكنا في بيت، له زوجة، له أولاد، له مركبة، له محل تجاري، ومكتب هندسي، طبيب، أستاذ جامعي، تاجر، صانع، موظف، فلاح، له عمل، له بيت، فجأة يؤخذ يلف بالقماش، قد تكون مساحة بيته 400 م، قد يكون ثمن بيته 80 مليونا، قد يكون عنده مكاتب وشركات وفروع للشركات، وحجم مالي كبير، وأموال منقولة، وغير منقولة، مثلاً، من هذه المكانة الكبيرة، الثروة الطائلة، الهيمنة إلى حفرة لا تزيد على 60 سم، بطول متر و90، ملفوف بالقماش الأبيض، وأرخص أنواع الأقمشة، خام أسمر، ويوضع الحجر فوقه، ويهال عليه التراب، وانطوى، كان إنسانا واختفى، كان إنسانا فصار حديثا، والله فلان مات ـ رحمة الله عليه ـ صار خبرا، كنت إنسانا لك شأنك، لك مكانتك، لك هيمنتك، عندك أولاد، أمرك نافذ فيهم، مدير، وزير، صاحب معمل، صاحب متجر، عندك أتباع، عندك مريدون، شيخ لك أتباع، فجأة تصبح خبرا على الجدران، المرحوم، عميد أسرتهم، الطبيب، المحامي العام سابقاً، الوزير السابق، انتهى، ماذا بعد الموت ؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
4 – الموت نقلة مفاجئة من كل شيء إلى لا شيء:
لعلكم: ﴿ تَتَّقُونَ ﴾
هذا المصير، لأن الموت في القرآن مصيبة، بل هو أكبر مصيبة، لأنك بالموت تفقد كل شيء في ثانية واحدة، الآن هناك أغنياء عندهم أموال تقدر بمئات الملايين، بل بألوف الملايين، القلب وقف، انتهى، الألف مليون أصبحت إلى غيره، أنت هيمنتك، وحجمك المال، وسيطرتك، ومكانتك، ووظيفتك منوطة بدقات قلبك، يقول لك: سكتة قلبية مفاجئة، يأتي الطبيب فيأخذ مرآة، يضعها على أنفه، ما جاءها بخار ماء، يأتي بمصباح، يفتح عين هذا الإنسان، ويشعل المصباح، في بؤرة عينه، لم تصغر الحدقة، ما تحركت، يمسك يده، يضعها على نبضه، ليس هناك نبض، يقول لهم: عظم الله أجركم، انتهى، ملف وانطوى.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
هذه النقلة المفاجئة من الحياة إلى القبر، أول ليلة يوضع الإنسان في قبره ينادى: أن عبدي، رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت.
قد يكون ملكا، ملك بلد فيه أكبر احتياطي نفط في العالم، يحفر له في الرمل، يضعونه، ويضعون حجرا، وانتهى، أين القصر الذي له ؟ أين قصوره ؟ أين سياراته ؟ أين طائرته الخاصة ؟ أين القصر الذي تحت البحر، وفوق البحر، وبالساحل، وبأسبانيا قصر، أين هذا ؟.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
هذه النقلة المفاجئة من كل شيء إلى لا شيء.
أيها الإخوة، هذا الموت مصير كل حي، الخفير، والوزير، والملك والمليونير، والمديونير، أعني المديون، هذا مصير جميع البشر.
5 – لكن ماذا بعد الموت؟!!
ماذا بعد الموت ؟ إما جنة يدوم نعيمها، أو نار لا ينفذ عذابها.
الصيام: من أجل أن يكون الموت عرساً لك، من أجل أن يكون الموت تحفة لك، من أجل أن تكون عند الموت أسعد إنسان في الأرض، لو قرأتم تاريخ الصحابة لعلمتم أنهم كانوا في أسعد لحظات حياتهم عند مجيء أجلهم.
" وا كربتاه، يا أبتِ، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه ".
اقرؤوا تاريخ الصحابة، تجدون أن أسعد لحظات حياتهم حين لقاء ربهم، لأنهم اتقوا وهم أحياء أن يعصوه، فكان الموت عرساً لهم، فكان الموت تحفة لهم.
6 – لا بد من التفكر في الموت ؟!!
إخواننا الكرام، ليس من باب التشاؤم، ولا من باب السوداوية أن تفكر في الموت، يا ترى أين أموت في بيتي ؟ وأنا في الطريق ؟ في عملي ؟ وأنا مسافر ؟ أموت ليلاً أموت صباحاً ؟ أموت بين أهلي ؟ أموت وحدي، أين أُغسل ؟ في المطبخ ؟ في الحمام ؟ في الصالون ؟ أين أدفن ؟ ماذا بعد الموت ؟ ما مصير هذا البيت بعد موتي، ما مصير هذه الشركة بعد موتي ؟ يقول عليه الصلاة والسلام:
(( أكثروا ذكر هادم اللذات ))
[ رواه الديلمي عن أنس ]
مفرق الأحباب، مشتت الجماعات.
(( عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ))
[ أخرجه الشيرازي والبيهقي، عن سهل بن سعد البيهقي عن جابر ]
إخواننا الكرام، هذا الذي يضع هذا المصير، نصب عينيه لا ينام الليل، لا يرتكب معصية، هذا الصيام من أجل أن تتذكر هذا اليوم، ومن أجل أن تتقي هذا الخطر، الذي ينتظر كل إنسان، الخطر يحتاج إلى إعداد، لذلك الله عز وجل قال:
﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ﴾
( سورة العصر )
7 – كل إنسان خاسر إلا...
إله، خالق، رب العالمين، يقول لك في القرآن الكريم: ﴿ وَالْعَصْرِ ﴾
الله يقسم أنك خاسر، كيف يا رب، أنا خاسر ؟ العلماء قالوا: مضي الزمن يستهلك الإنسان، مضي الزمن فقط، كانون الثاني، شباط، آذار، نيسان، مايس، حزيران، تموز، آب، أيلول، الآن نحن بتشرين، تشرين الثاني، كانون أول 2007، كانون الثاني، شباط، آذار، نيسان مايس، حزيران، تشرين الأول، تشرين الثاني، كانون أول 2008، نمشي بعقد من صفر لتسعة، بعد ذلك 2010، 2011، في لحظة من هذه اللحظات وقت الوفاة، نحن نمر كل يوم نقرأ عشرات النعوات، في الشام كل يوم 150 متوفى، وثلاثون أو أربعون نعيا، كل يوم نقرأ نعيا، لازم أن نعلم علم اليقين في أحد الأيام سيقرأ الناس نعينا، هذا الكلام قاله سينا عمر، قال:
" واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا ".
كل يوم تتجه إلى المسجد، لكن في مرة واحدة تدخل المسجد وأنت في نعش، لا لتصلي ليصلى عليك، هل هذا الكلام صحيح ؟ كل يوم ندخل المسجد لنصلي، لكن في أحد الأيام ندخله في نعش ليصلى علينا، كل يوم تخرج من بيتك قائماً، في مرة ستخرج في هيئة المسطح في النعش، ولا ترجع، بوم يدفن الميت يجلس أهله الساعة الـ11، لا يقولون: تأخر والله، لم يرجع، انتهى، لا يتأخر، لا يرجع أبداً، نفتح الخزانة كل ثيابه تصدقوا بها، حتى لا يتذكروه، هكذا يفعلون، كل شيء متعلق به يتصدقون به، بعد جمعتين أو ثلاث ينسونه، كان إنسان صار خبرا، قال الله عز وجل:
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾
( سورة المؤمنون الآية: 44 )
كان إنسانا فصار خبرا، فهذا الصيام من أجل أن تجعل المصيبة الكبرى الموت عرساً لك، وأن تجعل المصيبة الكبرى الموت أحلى أيام الحياة.
" وا كربتاه يا أبتِ، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه ".
قصة وعبرة: هكذا تكون الخاتمة الحسنة:
كنت مرة في تركيا، وأعارني أحدهم كتاباً كتاب باللغة العربية، قرأت قصة عالم كبير من علماء تركيا الأجلاء المخلصين العاملين، ألّف كتيبا صغيرا عن حرمة تقليد الأجانب، ولا سيما وضع قبعة الغرب على الرؤوس، الغرب لهم قبعة معروفة، بعد عشر سنوات كمال أتاتورك منع الزي الإسلامي وألزم الناس بالزي الغربي، فجاء من يهمس في أذنه في كتاب يجعل هذا العمل كفراً، هاتوا المؤلف، وضعه بالسجن، يعني في كل الدساتير بالعالم لا يمكن أن يطيق القانون بمفعول رجعي، هذا العالم الجليل الوقور، المخلص أودع بالسجن، بدأ يكتب المذكرة، أنه أنا الكتاب ألفته لكني نلت موافقة المعارف، ولما نلت هذه الموافقة استحصلت على موافقة طبع، ولما طبع الكتاب استحصلت على موافقة تداول فالكتاب في موافقة على التأليف، وعلى الطبع، وعلى التداول، فما ذنبي ؟ القصة يرويها صديقه، يكتب كتب أكثر من ثمانين صفحة للدفاع عن نفسه، ما في ذنب إطلاقاً، هذا زميله في السجن يراقبه.
مرة استيقظ بحالة من السرور لا توصف، بحالة من البشر، من التفاؤل وجه متألق، عينان زئبقيتان، أمسك هذه المذكرة ومزقها، لمَ مزقتها ؟ ظللت تكتبها شهراً قال له: لا حاجة لي بها، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي: أنت غداً ضيفنا، ثاني يوم شُنق، لكن هو الشبكية شُنق، أما في الحقيقة انتقل إلى رحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
فالموت بين أن يكون مرعبا، وبين أن يكون الموت أكبر مصيبة، انتقال من كل شيء إلى لا شيء، بين أن يكون الموت انتقال من لا شيء إلى كل شيء.
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(170)﴾
( سورة آل عمران )
هكذا المؤمن مع الموت:
أيها الإخوة، الصيام من أجل أن تقلب مصيبة الموت إلى فرحة الموت، من أجل أن تقلب مصيبة الموت إلى عرس، من أجل أن تقلب مصيبة الموت إلى تحفة، سأوضح لكم ذلك:
لو أن إنسانا عرضنا عليه عرضا، هو ذكي جداً، لكنه فقير، لا يملك نقيرا، قلنا له: ائتِ بدكتوراه لتكون وزير صحة دائما، بمقاييس بلدنا، وزير، سيارة 600، بيت بالمالكي، فيلّا، شاليه على البحر، دخل فلكي، أناقة، مثلاً، للتقريب فقط، هذا فقير، لا نعرف، ائتِ بالدكتوراه، وتسلم هذا المنصب، وتمتع بكل الدخل الكبير، والبيت الواسع، والمكانة، والشأن، راح لفرنسا، اضطر أن يعمل بالمطعم في غسيل الصحون بالليل حارس، وبالنهار يداوم، ويقرأ أربع ساعات كل يوم، أمضى ثماني سنوات صبرا، ودواما، ودراسة، وتعلم لغة، وغسيل صحون، وحراسة، إلى أن نال الدكتوراه في ثماني سنوات قدر ثمانين سنة، تعب، هم، قلق، فحص في الغلة الفرنسية، أساتذة أشداء، مناهج صعبة، كتب كبيرة، والمطعم إدارته حازمة جداً، ويجب أن يكون يقظا، بعدما أنهى الدراسة، ونال الشهادة، وصدق الشهادة، وقطع بطاقة العودة، وجمع أمتعته، وركب المركبة، وتوجه إلى المطار، ودخل إلى بهو المطار، وأبرز جوازه، وأبرز البطاقة أعطوه بطاقة صعود إلى الطائرة، حينما يضع رجله على سلم الطائرة أليست هذه اللحظة أسعد لحظات حياته ؟ هذا يوم فاصل، انتهى الشقاء، وبدأ النعيم، انتهى التعب، وبدأت الوجاهة.
هكذا المؤمن عند الموت، " غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه ".
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
تقون هذه الحفرة، القبر، ظلمة القبر، ثعبان القبر، ضمة القبر، ماذا قال الله عزوجل:
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾
( سورة غافر )
الفراعنة من 6000 سنة كل يوم يعرضون على النار صبحاً ومساء إلى قيام الساعة، وبين أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، هذا الصيام فرصة لتحول أكبر مصيبة إلى أسعد لحظة، اتقوا القبر، وعذاب القبر، اتقوا عذاب النار، اتقوا عذاب الواحد الديان، اتقوا العقاب.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
إذاً هو دورة مكثفة لطاعة الله، والصلح معه، والائتمار بأمره، والانتهاء عما عنه نهى وجزر، والإقبال عليه، وأن تذوق طعم القرب.
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لـــما وليت عنا لغيرنا
ولــو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عند ثياب العجب وجئتنا
ولـــو لاح من أنوارنا لك لائح تركت جميع الــكائنات لأجلنا
فـــما حبنا سهل وكل من ادعى سهولته قلنا لــــه قد جهلتنا
***
أيها الإخوة الكرام، المؤمن في رمضان في أعلى حالات القرب، ولكن يستطيع أن يتلافى ما فاته في رمضان بعد رمضان.والحمد لله رب العالمين