الحج ركن من أركان الإسلام، ودعامة من دعامات الإيمان.
من أداه فاهما حق الربوبية، عارفا مقام العبودية، وأخلص لله النية، فأقبل عليه تائبا من ذنبه، شاكرا لأنعمه، وجلا من خشيته، طامعا في رحمته، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
ولما كانت أعمال الحج تؤدي مع عناء ومشقة، وفيه يفارق الحاج وطنه وولدانه، ويعطل أعماله من زراعة أو تجارة، فقد فرض الله تعالى الحج مرة واحدة على كل فرد بالغ، ذكرا أو أنثى متى استطاع أن يؤديه قال تعالى: ) ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا( وقال عليه الصلاة والسلام " الحج مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع".
إن في الحج مظهرا من مظاهر عز الإسلام، وتوحيد الكلمة بين المسلمين، وإنه لشرف أن يجهد الإنسان نفسه ويبذل ماله لخالقه ورازقه، بل هو الكسب الكبير، والربح المضاعف ( ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون).
إن الله تعالى شرع العبادات والمعاملات ليسير عليها الناس، وينظموا بها أنفسهم دينا ودنيا، ولم تشرع هذه الشرائع السماوية إلا لمصلحة العباد عاجلا وآجلا، ولم يأمر الله تعالى الإنسان بفعل شيء إلا لما فيه من خير ومصلحة، ولم ينه عن فعل شيء إلا لما اشتمل عليه من مفسدة ومضرة، وكثير من الأحكام لا يدرك العقل حكمة مشروعيتها، وحينئذ يذعن الإنسان لأمر تعبدى جعله الله ابتلاء، ليرتب عليه جزاءه وهو الحكيم العليم.
لكن العقل السليم أدرك أن الحج جمع من المزايا والفوائد، ما ليس في غيره من العبادات، ذلك لأن فعل ما أمر الله به: إما أن يكون حقا للعبودية، أو شكرا لنعم الله عليه.
وفي عبادة الحج إظهار العبودية، وشكر نعمة الله على عبده.
وإظهار العبودية يقتضي من العبد ترك الرفاهية، والتجرد من الزينة، ليعود العبد إلى الخضوع والذلة، كما يبدو ذلك في حالة الإحرام وغيره من العبادات البدنية.
وشكر الله على نعمه يتمثل في العبادات المالية، كأداء الزكاة والحج الذي يجمع بين العبادة البدنية والمالية، ومع ذلك فإن الحج لم يفرضه الله إلا على من توافر لديه المال الكافي وصحة البدن، ومن ثم كان في أداء الحج شكر لله على النعمتين، وفي ذلك تحقيق لرغبة إبراهيم عليه السلام، في أن يجعل الله قلوب الناس تحن وتهوى إلى قوم من ذريته تشرفوا بجوار البيت الحرام.
يقول الله تعالى: ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).
ومما لا شك فيه أن في الحج ابتلاء في النفس، فإن المفروض في الحاج أن يتعرض لأجواء مختلفة لا يألفها، وإلى تناول أطعمة لم يتعودها، كما أنه يهجر أحباءه وأوطانه من أجل زيارة بيت الله الحرام مهما بعد هذا البيت عن وطنه، ولا يخفي أن في مفارقة تلك المحاب على اختلاف أنواعها مع ما فيها من المشقة على النفس فيه عناء لان السفر مهما تيسر فهو قطعة من العذاب.
وإذا صبر العبد على الابتلاء في المال والنفس كان داخلا في قوله تعالى: ) إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب( وإذا أحسن أداء حجته نال من الثواب ما وعد على لسان خير البشر: " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
وكما جاء في الحديث الصحيح: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
ناهيك بتعارف المسلمين وتبادل المنافع بينهم، والتعارف سبب من أسباب المحبة، ومن هنا شرع الله صلاة الجماعة والعيدين، وأعظم من ذلك كله الوقوف بعرفة، الذي يعتبر بمثابة مؤتمر إسلامي يجتمع فيه المسلمون من المشارق والمغارب كل عام مرة ليتدارسوا أحوالهم، ويقرروا مصائرهم، ويوحدوا كلمتهم.
ولو أن المسلمين فطنوا لحكمة اجتماعهم في هذه البقعة المباركة لنبذوا أسباب اختلافهم، وحققوا وحدتهم، عملا بقول نبيهم صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد.
إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
ترى الناس في مشاهد الحج أجناسا مختلفة من البشر، تعددت لغاتهم، وتباينت السنتهم، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين الملوك والسوقة، ولا بين أرباب القصور، وسكان الأكواخ، فالحجاج أخوة متقاربون، ورفقة متماثلون متعاطفون انحسر عنهم كبرياء الألقاب، وعزة الأنساب.يلتقون في صعيد واحد من أمم متباينة، وشعوب متباعدة، فإذا قلوبهم متعارفة تنبض بتوحيد الله تعالى، وتهتف ألسنتهم ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك لبيك ).
ومعنى لبيك اللهم لبيك: إجابة منا لك يا ربنا بعد إجابة، لقد ناديتنا فأتيناك، وأمرتنا فأطعناك، وكل نعمة مصدرها منك.
فالحمد لك وحدك، لا رب سواك، ولا شريك لك في ملكك.
وهذا هو منتهى الإخلاص في العبودية.
هذا نزر يسير من فضائل الحج، وإذا رمنا حصرها رمنا المحال.
وإذا كان الحج هو خامس أركان الإسلام، فليس معنى هذا أن نأخذه بالتراخي والفتور، بل ينبغي على كل من استطاع إليه سبيلا أن يتعجل به، فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة" رواه أحمد وابن ماجة.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعجلوا الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" رواه أحمد.ومن هنا أخذ بعض الأئمة أن الحج مفروض على الفور، كما رأي مالك رحمه الله أن من استطاع التكسب في الطريق، وجب عليه الحج، فسئل في ذلك فقال (أرأيت إن كان الإنسان له ميراث بمكة.
ماذا يفعل؟ كان يحبو إليه حبوا ) وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار، فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية. ما هم بمسلمين ).
وإليك أهم ما يلزم معرفته من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة، من غير شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد هجرته سوى حجة واحدة.
هي حجة الوداع، ولا خلاف في أنها كانت سنة عشر من الهجرة.
أما حجه صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة فقد اختلف فيه.
روى الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال ( حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر. وحجة بعد ما هاجر معها عمرة ) والله أعلم.
أما اعتماره عليه الصلاة والسلام: فقد اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة.
1- الأولى: عمرة الحديبية سنة 6 من الهجرة فصده المشركون عن البيت فنحر البدن، حيث صد بالحديبية وحلق هو واصحابة وحلوا من احرامهم. وجرى صلح الحديبية ورجع من عامه إلى المدينة وكان عدد الصحابة 1400.
2- الثانية: عمرة القضية في عام 7 دخل مكة وأقام بها ثلاث ليال. وسميت بذلك لاعتبارها قضاء للسابقة التي لم تتم، ولكن تمت عند الله واحتسبت لأن الأعمال بالنيات.
3- الثالثة: عمرته من الجعرانة لما خرج إلى حنين ثم رجع إلى مكة فاعتمر عام الفتح أي سنة 8 من الهجرة.
4- الرابعة: عمرته التي قرنها مع حجة الوداع عام 10 من الهجرة.
وكانت عمره كلها في أشهر الحج، مخالفة لهدي المشركين فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج، ويقولون: هي من أفجر الفجور.
ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج أعلم الناس أنه حاج.
فتجهزوا للخروج معه، وسمع بذلك من حول المدينة ممن يريدون الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووافاه في الطريق كثير لا يحصى عددهم، وخرج من المدينة نهارا يوم 24 ذي القعدة بعد أن صلى الظهر أربع ركعات وكان خروجه يوم السبت، وكان قد خطبهم يوم الجمعة، وذكر في خطبته شأن الإحرام وعلمهم ما يحتاجون إليه.
صلى الرسول بالمدينة الظهر أربعا كما أسلفنا، ثم ترجل وادهن ولبس ازاره ورداءه ولم يهل بعد ( أي النية ) لان الإهلال يكون من الميقات، ثم خرج من المدينة بين الظهر والعصر فنزل بذي الحليفة ( آبار على حاليا ) على مسيرة أقل من نصف ساعة بالسيارة من المدينة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها وصلى المغرب ثلاث والعشاء ركعتين والصبح والظهر ركعتين، يعني صلى خمس أوقات، وكان نساؤه جميعا معه، وطاف عليهن تلك الليلة، ولما أراد الدخول في الإحرام اغتسل لإحرامه ثانيا غير غسل الجماع الأول، ثم طيبته عائشة بطيب فيه مسك، ثم لبس إزاره ورداءه وصلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمرة ( لبيك اللهم بحج وعمرة) ولم يقل نويت كما يفعل الناس الآن، وقلد قبل احرامه بدنه نعلين، وأشعرها حتى تعرف أنها مهداه إلى الله، لتنحر في مشاعر الله.
وهذا هو القران الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ساق الهدى من بلده فلا يحل له أن يتحلل حتى يبلغ الهدي محله.
ثم ركب ناقته وأهل أيضا وشرع في التلبية.
ثم أنه صلى الله عليه وسلم خير الصحابة عند الإحرام بين الانساك الثلاثة، عمرة، أو حج، أو قران لمن ساق معه الهدي، ثم ندبهم في الطريق إلى فسخ الحج إلى عمرة لمن لم يكن معه هدي.
ثم حتم عليهم ذلك عند المروة بعد الانتهاء من السعي بين الصفا والمروة.
وفي ذي الحليفة ولدت زوجة أبي بكر أسماء بنت عميس ولدا فسماه الرسول محمدا وكان أصغر الصحابة سنا.
وأمرها رسول الله أن تغتسل وتحرم فتلبى ولا تصلي، وتفعل ما يفعله الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر.
ثم سار رافعا صوته بالتلبية حتى إذا نزل بالعرج- وكان زاده وزاد أبي بكر على بعير واحد يحرسه غلام لأبي بكر- فجاء الغلام وليس معه البعير الذي يحمل التموين، فقال أبو بكر للغلام: أين البعير؟ فقال: أضللته البارحة - يعني : ضاع مني - فقال أبو بكر: بعير واحد تضله؟ وطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: " أنظروا إلى هذا المحرم ماذا يصنع؟" مشيرا إلى أبي بكر.
فخجل أبو بكر وكف عن ضرب الغلام.
وبعد فترة جاء البعير بحول الله وعليه زاد الرسول وصاحبه.
ولما جاء مكان يسمى ( سرف ) حاضت عائشة - وقد أهلت بعمرة- فدخل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال ما يبكيك؟ لعلك نفست؟ قالت: نعم فقال يسليها ويسري عنها: " هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعله الحاج غير أنك لا تطوفين بالبيت".
ووصل ركب النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم 5 ذي الحجة، فاغتسل النبي استعدادا لدخول البيت، ثم دخل مكة من أعلاها ولما وصل المسجد الحرام دخل برجله اليمنى وقال بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام.
ثم بدأ في الطواف مبتدئا من الحجر الأسود سبعة أشواط يسبح الله فيها ويحمده ويكبره ويدعو الله بما يشاء.
وليس للطواف أذكار أو أدعية مخصوصة، ولكن الوارد أن يبدأ الطواف بالتكبير عند محاذاة الحجر الأسود، ويقبله إن استطاع، وإلا فلا حرج، ويقول بعد أن يستلم الركن اليماني ليختم طوافه لكل شوط ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار).
وحسنة الدنيا تشمل الأولاد، والزوجة، والمال من أنعام وزراعة وتجارة إلى غير ذلك من الأمور، وحسنة الآخرة تشمل محنة الموت،وفتنة القبر، والموقف العظيم وما فيه من حساب، نسأل الله السلامة.
وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس يناجون ربهم، ويبعثون إليه شكاياتهم، ويطلبون منه سبحانه حاجات الدنيا والآخرة.
وبعد الطواف أتى إلى مقام إبراهيم، وصلى ركعتين والناس يمرون بين يديه فلا يمنعهم، ثم أتى الحجر الأسود واستلمه، وشرب من ماء زمزم، وتضلع منها، ثم خرج إلى الصفا، فلما رقى فيها قرأ )إن الصفا والمروة من شعائر الله ( وقال ابدءوا بما بدأ به الله، وقال: ( الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده ).
ثم دعا ونزل إلى المروة ومشى ( وهرول بين العمودين الأخضرين ) ثم مشى إلى المروة، وفعل عندها كما فعل بالصفا ثم اندفع إلى الصفا، وهكذا حتى بلغت الأشواط سبعة، ذاكرا الله تعالى أثناء سعيه، راجيا منه مغفرته ورحمته، وبعد أن انتهى من سعيه أمر كل من لم يسق الهدى أن يجعله عمرة، ومن كان حاجا أن يفسخ حجه إلى عمرة، ويتحللوا بالحلق أو التقصير، وجرى جدال بينه وبين الصحابة، وقالوا له ما بالك تأمرنا بالحل ولم تحل؟
فقال لهم قولة النادم الذي لا يعلم الغيب: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت".
ومن هذا الأمر الحتمي، كان الدخول إلى مكة في أيام الحج بالعمرة أفضل من الدخول بنية الحج، وذلك لأن التحلل من الحج إلى العمرة كان حتما بقضاء الله تعالى، ثم أقام صلوات الله وسلامه عليه بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة فيها ( الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء ) فلما كان يوم الخميس 8 ذي الحجة توجه بمن معه إلى منى، فأحرم بالحج من كان أحل من احرامه بفسخ الحج إلى عمرة.
ولم يدخلوا المسجد الحرام ليحرموا منه ولم يطوفوا ولم يسعوا، ونزل بمنى وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصرا لا جمعا، فلما أصبح يوم 9 وكان يوم جمعة صلى الصبح، ولما طلعت الشمس سار من مني إلى عرفة ملبيا للحج ومن معه، وكان أصحابه منهم الملبي، ومنهم المكبر، ويسمع أصواتهم ولا ينكر عليهم، حتى وصل إلى نمرة على حدود عرفة، وقد ضربت له بها قبة حتى إذا زالت الشمس توجه إلى عرفة، فخطب على ناقته خطبة عظيمة، قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها الشرك والوثنية، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع الربا وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيرا، كما أوصى الأمة بالاعتصام بالكتاب والسنة، وأنهم لن يضلوا أبدا ما داموا معتصمين بهما.
ولما أتم خطبته أذن بلال ثم أقام الصلاة فصلى الظهر ركعتين، وصلى العصر ركعتين جمع تقديم، وكانت قراءته سرية، ولما فرغ من الصلاة ركب إلى الموقف، وقال: " وقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف" وظل يدعو الله تعالى، حيث قال: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة".
ومرة يهلل وتارة يلبي، وذكر من دعائه: "اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك رب مآبي، ولك رب تراثي.
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء الريح" وفي موقفه هذا نزل قوله تعالى: ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
محمد على عبد الرحيم

الحــــــــــــــج

عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: " ياأيها الناس: إن اللَّه فرض عليكم الحج فحجوا"
فقال رجل: أكل عام يا رسول اللَّه؟.
فسكت حتى قالها ثلاثًا.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" رواه مسلم.
* المفردات:
فقال رجل = فهو الأقرع بن حابس رضي اللَّه عنه. لما أسلم كان من المؤلفة قلوبهم، وكان يغلب عليه طابع البداوة، فيقال إنه نادى النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات بقوله يا محمد، وحسن إسلامه وشهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنينًا والطائف.
أكل عام يا رسول اللَّه؟ = يعني فرض علينا كل سنة؟
ذروني = دعوني واتركوني. فأتوا منه ما استطعتم = أي افعلوا منه ما تستطيعون فعله وما دمتم تقدرون على ذلك.
دعوه = اتركوه أو تجنبوه. المعنى كان فرض الحج مسك الختام لأركان الإسلام الخمسة، ولما فرضه اللَّه على المسلمين خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن اللَّه فرض عليكم الحج فحجوا.
وكان الأقرع بن حابس التميمي الدارمي يتميز بجرأة أهل البداوة، وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام، ومات شهيدًا في موقعة اليرموك.
فلما خطب النبي صلى الله عليه وسلم سأله الأقرع هل الحج فرض علينا كل عام؟
فلم يجبه الرسول صلى الله عليه وسلم لعله ينتهي عن سؤاله، فأعاد الأقرع سؤاله للمرة الثانية: أكل عام يا رسول اللَّه؟
فسكت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما كرر السؤال للمرة الثالثة أجابه النبي صلى الله عليه وسلم في غضب: لو قلت نعم لوجبت، أي لوجب عليكم الحج كل عام، ولو وجب الحج كل عام لعجزتم عن أدائه لما فيه من مشقة وأسفار، وحين ذاك تقعون في مخالفة كبيرة، ومشاقة لله ورسوله، وهذا إثم كبير. ثم نصحهم صلى الله عليه وسلم بقوله: دعوني ما تركتكم ولا تكثروا من الأسئلة، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم.
ثم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ....} [المائدة: 101].
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيمًا بالأمة، وجه إليهم النصيحة بقوله: إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وانتهوا عنه، لأنه لا ينهى عن شيء إلا إذا كان فيه مضرة ومشقة، والدين يسر لا عسر.
والحج ركن من أركان الإسلام، به تطهر النفوس، وتزكو الأجساد، ومن أجله يترك المؤمنون أوطانهم ويفارقون ولدانهم لينالوا ما وعدوا به من عظيم الأجر والثواب، وتكفير الذنوب والآثام، على لسان خير البشر: " من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
يقف الحجاج على عرفات فتخلص قلوبهم مما ران عليها من الذنوب والأهواء، وتتجرد النفوس مما سيطر عليها من غل وكراهية، فلا ينفرون من عرفات إلا أرواحًا نقية، تمكنت منها المعاني السامية: من محبة وإخاء ومودة وصفاء.
ناهيك بحصول المغفرة من اللَّه تعالى، إن حسنت النية وصلح العمل، وكانت النفقة من الحلال الطيب، بالإضافة إلى الكسب المضاعف والربح العظيم الذي وعد به رب العالمين {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121].
لقد فرض اللَّه الحج على المستطيع مرة واحدة في العمر، وما زاد فهو تطوع، وليس للحج جزاء إلا الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم : " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
فأي إكرام أفضل من هذا الإكرام؟
وأي نوال أتم من هذا النوال؟
الجزاء في الدنيا: توفيق من اللَّه وبركة ورضوان، كما أن اللَّه يخلف عليه ما أنفقه لقوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}.
والجزاء في الآخرة: جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
ولم تكن الجزيرة العربية حينما فرض الحج، قد تم تطهيرها من المشركين، فكانوا يطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساء، الرجال بالنهار والنساء بالليل.
وكانت المرأة تقول:-
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فأنزل اللَّه قوله الكريم: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ولما فرض اللَّه الحج بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في السنة التاسعة ليحج بالناس فخرج في ثلاثمائة رجل، وبعد خروج أبي بكر للحج نزلت سورة براءة، وفيها: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا} فبعث بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب يقرؤها على الناس، وأمره أن يبلغهم ( ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ).
وإنما امتنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الحج في هذه السنة لما يعلم من أهل الجاهلية من إهلالهم بتعظيم أوليائهم من دون اللَّه، فيهتفون بغير اسم اللَّه، أو يرى منهم عاريًا عند البيت ويسكت على هذه المناظر المؤذية فلا بد أن يمنعهم، وقد يستغل شياطين الإنس والجن ذلك وينتهكون حرمة البيت والأشهر الحرم وتنشأ الحرب والضرب والقتال، فامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج في تلك السنة اتقاء ذلك، حتى أعلنهم ببلاغ علي رضي اللَّه عنه، فمن تعدى بعد ذلك فهو الجانى على نفسه. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في السنة العاشرة في أكثر من تسعين ألفًا من الصحابة.
وفي الحديث مشروعية وجوب الحج على القادر زادًا وراحلة، ولا يجوز التأجيل والتسويف ما دام العبد قد توفرت لديه القدرة البدنية والمالية، وإلا يعتبر آثمة إثمًا عظيمًا، لأن اللَّه يهدد من استطاع الحج ولم يحج بأنه قريب من الكفر، بقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
كما أن الحديث ينهى عن كثرة توجيه الأسئلة إلى العلماء لما يترتب عليها من عدم القدرة على الوفاء بها، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " إن اللَّه يرضى لكم ثلاثًا ويكره ثلاثًا........ ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" كما يجب العمل بكل ما أمرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها، كما يتعين الانتهاء عن عمل ما نهانا عنه نبينا الكريم لما فيه من مضرة لنا قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.
وفقنا اللَّه للعمل بدينه، ووفقنا للسير على منهج رسوله الكريم آمين.
محمد على عبد الرحيم

الحــــــج

عن أبي هريرة: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان باللَّه ورسوله". قيل ثم ماذا؟ قال: " الجهاد في سبيل اللَّه"؟ قيل ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور". متفق عليه.
المفردات :
أي الأعمال أفضل = أرفع درجة وأكثر ثوابًا عند اللَّه تعالى.
إيمان باللَّه ورسوله = الإيمان باللَّه تجريد التوحيد من كل شبهة تدعو إلى الشرك باللَّه.
وإن كان يقول لا إله إلا اللَّه: فلا بد أن يعمل بشروطها فاهمًا معناها، عاملاً بمقتضاها. فلا يترك صلاة، ولا يلجأ إلا إلى اللَّه في دعائه واستعانته وخشيته وجميع أنواع العبادة.
والإيمان برسوله والتصديق بكل ما جاء به، واتباعه في كل ما أمر ونهى.
الحج المبرور = هو الذي لا يرتكب صاحبه فيه معصية.
المعنى سأل سائل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال عند اللَّه تعالى، وأحبها إليه، ليكون حرصه عليها أشد، وعنايته بها أكبر.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أجاب في مواطن أخرى عن سؤال أفضل الأعمال بغير هذه الإجابة، لأنه كان يجيب كل سائل بما يناسب حاله، أو يلتئم مع رغبته وميوله، أو بما يحد من أخطاء وقع فيها
- ففي أوقات الحرب: يجيب بأن الجهاد أفضل الأعمال.
- وفي أوقات الشدة والمجاعات، يجيب بإطعام الطعام، وبذل الصدقات.
- وإن كان السائل كثير الكلام: قال له أمسك لسانك. وإن كان كثير الغضب. قال لا تغضب. وهكذا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم كالطبيب الحاذق يشخص الداء ويصف الدواء. وكان يعطي كل حال لبوسها، ويجيب بما يسايرها، وهو البليغ الحكيم صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا الحديث: بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان باللَّه ورسوله.
لأنه مفتاح الإسلام، وأساس الدين، وكل عمل لا يستند على التوحيد الصحيح فهو باطل.
كما أن الحديث يؤكد فرضية الجهاد في سبيل اللَّه، ليكون الدين كله لله، وإن الدين عند اللَّه الإسلام، لترفرف راية التوحيد التي تحمل معاني الأخوة والمساواة بين الناس، وكيلاً يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون اللَّه، فلا يعبد من دون اللَّه سواه.
ولئن كان الجهاد في سبيل اللَّه لم يرد ضمن أركان الإسلام الخمسة إلا أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، جعلت الجهاد فريضة على كل قادر. وجعلت من تخلف عنه بغير عذر مع زمرة المنافقين والعياذ باللَّه.
قال صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم تحدثه نفسه بغزو في سبيل اللَّه،مات على شعبة من النفاق" ومعلوم أن الدين لم يحتل مكانته، ولم يأخذ عزته إلا بالجهاد في سبيل اللَّه.
فإذا سكت المسلمون عنه تمكن منهم عدوهم، وكانوا غثاء كغثاء السيل، تداعى عليهم الأمم من كل جانب، وتخلى عنهم ربهم، فهانوا على اللَّه، ولله عاقبة الأمور.
والأمر الثالث في الحديث هو الحج المبرور إلى بيت اللَّه الحرام.
فالحج يذكر الحاج بالنشأة الأولى للإسلام، كما يرى أول بيت وضع للناس، ويقوم بأعمال كلها قربات إلى اللَّه تعالى: من صلاة وطواف وسعي ووقوف بعرفات، وتلبية وتهليل،وذكر وتكبير، وذبح القرابين وتصدق على الفقراء والمساكين، فتتهذب النفوس- ويجتمع المسلمون وقد أتوا من كل فج عميق، فيفكرون فيما يعيد للإسلام عزه ومجده، ويقفون على عرفات في خضوع وخشوع داعين رب الكائنات: أن يغفر لهم جميع الذنوب ويكفر عنهم السيئات.
ولا ينعقد الحج المبرور إلا إذا حسنته النية، وخلص العمل لله، دون شهرة ولا سمعة ولا رياء، كما يفعل البعض في هذا الزمان جريًا واء لقب ( حاج ).
أو لحن الأحدوثة بين الناس.
فإن اللَّه تعالى أغنى الشركاء عن الشرك، فمن أشرك في العمل غير اللَّه تركه وشركه، كما أن اللَّه تعالى لا يقبل العمل من مراءٍ ولا مسمعٍ ولا منان، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} أي متحنفين وبعيدين عن الشرك.
لأن كل عمل لا يراد به وجه اللَّه، يؤدي إلى الشرك باللَّه والعياذ به.
كما أن الحج المبرور لا يحصل إلا بالنفقة الطيبة والمال الحلال.
وقد أجاد من قال:-
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العيــر
ما يقبل اللَّه إلا كل صالحـــة ما كل من حج بيت اللَّه مبرور
وفي الأوسط للطبراني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا خرج الحاج حاجًا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك. زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور.
وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك: ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك. زادك حرام ونفقتك حرام. وحج مأزور غير مبرور".
ومعنى ذلك أنه يجب على العبد إذا أراد الحج أو أي عمل لله تعالى: أن تكون النفقة حلالاً ليقبل اللَّه عمله، وقد روى أحمد عن عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم وفيه درهم من حرام، لم يقبل اللَّه عز وجل له صلاة ما دام عليه".
ويترتب على الحج المبرور ما يلي:-
1- حصول المغفرة من اللَّه تعالى، إن حسنت النية وصلح العمل.
2- لما كان الحج نوعًا من الجهاد: منح اللَّه الحاج ما يمنح المجاهد في سبيل اللَّه، فعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت يا رسول اللَّه: نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الجهاد حج مبرور" رواه البخاري.
3- الكسب المضاعف والربح العظيم الذي وعد به رب العالمين: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121]- ويقول تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272].
فأي إنعام أفضل من هذا الإنعام؟ وأي إكرام أتم من هذا الإكرام؟
إن في الحج معاني جمة؟
فهو وسيلة للتعارف بين المسلمين في جميع المشارق والمغارب وفي يوم عرفة يلتقي الجمع الحاشد من أمم متباينة، وأجناس مختلفة، وإذا بهم قلوب مؤتلفة، وألسنة متفاهمة، كأنهم على قلب رجل واحد، ينبض بتوحيد اللَّه تعالى، ويهتفون بلسان واحد: ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) يقف الحجاج على عرفات، فتخلص القلوب مما ران عليها من الأهواء، وتتجرد الصدور مما سيطر عليها من غل وحقد، فلا ينفرون من عرفات إلا أرواحًا نقية تمكنت منها المعاني السامية إخاء ومحبة وصفاء.
ولو فطن المسلمون لمعاني الحج وحكمته السامية لأدركوا مقصد الرسول المعصوم من قوله الكريم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
واللَّه الموفق.
محمد على عبد الرحيم

الحــــــــــــج
قال اللَّه تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} وهي شوال وذو القعدة والعشر الأولى من ذى الحجة. ولمناسبة إقبال موسم الحج الكريم، وإعداد العدة لمن وفقه اللَّه تعالى لأداء هذا الركن من الدين، ناسب أن يكون لهذه الفريضة بسط من الكلام يتضمن حكمته، وأحكامه، في هذا العدد من مجلة التوحيد وعددي ذي القعدة وذي الحجة إن شاء اللَّه تعالى. عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان باللَّه ورسوله. قيل ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل اللَّه. قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور ) متفق عليه.
المفردات :
أي الأعمال أفضل = أرفع درجة وأكثر ثوابا عند اللَّه تعالى.
إيمان باللَّه = الإيمان باللَّه تجريد التوحيد من كل شبهة تدعو إلى الشرك باللَّه، وإن كان ينطق بـ ( لا إله إلا اللَّه ).
فلا بد أن يعمل بشروطها، فاهمًا معناها، عاملاً بمقتضاها، فلا يترك صلاة، ولا يلجأ إلا إلى اللَّه في دعائه واستعانته وفي جميع أنواع العبادة من خشوع وإنابة ونذر واستغاثة وغيرها.
والإيمان برسوله = يقتضي التصديق بكل ما جاء به، واتباعه في كل ما أمر ونهى.
الجهاد في سبيل اللَّه = لإعلاء كلمة الدين ورفع راية التوحيد.
الحج المبرور = هو الذي لا يرتكب صاحبه معصية حين أدائه وتحصل به المغفرة لصاحبه.
المعنى :
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم الإجابة على سؤال السائل بالإيمان باللَّه ورسوله لأنه مفتاح الإسلام وأساس الدين، وكل عمل لا يستند إلى التوحيد الصحيح فهو باطل ولن يقبل من صاحبه.
كما أن الحديث يؤكد فريضة الجهاد في سبيل اللَّه، ليكون الدين كله لله، وأن الدين عند اللَّه الإسلام، ولترفرف راية التوحيد التي تحمل معاني الأخوة والمساواة بين الناس، ولكي لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون اللَّه، فلا يعبد من دون اللَّه سواه.
ولئن كان الجهاد في سبيل اللَّه لم يتناوله حديث ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ) فإن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية جعلت الجهاد فريضة على كل قادر، بل جعل الإسلام كل من تخلف عن الجهاد مع القدرة في زمرة المنافقين والعياذ باللَّه.
قال صلى الله عليه وسلم: ( من مات ولم يغز ولم تحدثه نفسه بالغزو في سبيل اللَّه مات على شعبة من النفاق ) رواه مسلم عن أبي هريرة.
ذلك لأن الدين لم يأخذ عزته ولم تعل كلمته إلا بالجهاد.
فإذا نام المسلمون عنه تمكن منهم عدوهم، وكانوا غثاء كغثاء السيل، تداعى عليهم الأمم من كل جانب، ونزع اللَّه الرعب من قلوب أعدائهم.
والأمر الثالث في الحديث الشريف هو حج بيت اللَّه الحرام، الذي جعله اللَّه مسك الختام لأركان الإسلام الخمسة.
ولما فرضه اللَّه على المسلمين في السنة التاسعة للهجرة ( على أصح الأقوال ) خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن اللَّه فرض عليكم الحج فحجوا".
وكان الأقرع بن حابس التميمي الدارمي يتميز بجرأة أهل البداوة، وكان شريفًا في قومه.
فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته سأله الأقرع: هل الحج فرض علينا كل عام؟
فلم يجبه رسول اللَّه لعله ينتهي عن سؤاله.
فأعاد الأقرع سؤاله للمرة الثانية: أكل عام يا رسول اللَّه؟
فسكت النبي عليه الصلاة والسلام.
ولما كرر السؤال للمرة الثالثة أجابه النبي صلى الله عليه وسلم في غضب وقال: " لو قلت نعم لوجبت" أي لوجب عليكم الحج كل عام، " ولو وجبت ما استطعتم" أي لعجزتم عن أدائه كل عام لما فيه من مشقة وأسفار، وحينذاك تقعون في مخالفة كبيرة ومشاقة لله ورسوله، وهذا إثم كبير. ثم نصحهم صلى الله عليه وسلم بقوله: " دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" ونزل قول اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 101 المائدة.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيمًا بالأمة، وجه إليهم النصيحة بقوله: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه".
إن الحج تطهر به النفوس، وتزكو به الأبدان، وتمحى به الخطايا والآثام.
قال صلى الله عليه وسلم: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) رواه البخاري.
يقف الحجاج على عرفة، فتخلص قلوبهم مما ران عليها من الذنوب والأهواء، وتتجرد النفوس مما سيطر عليها من غل وكراهية، فلا ينفرون من موقفهم إلا أرواحا نقية، تمكنت منها المعاني السامية، من محبة وإخاء ومودة وصفاء.
هذا إلى حصول المغفرة من اللَّه تعالى إن صحت العقيدة، وحسنت النية وصلح العمل، وذلك بالإضافة إلى الربح العظيم في الدنيا والآخرة {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 121 سورة التوبة.
لقد فرض اللَّه الحج على المستطيع مرة واحدة في العمر، وما زاد فهو تطوع، وليس للحج جزاء إلا الجنة.
فأي إفضال أكرم من إفضال اللَّه بالمغفرة؟
قال صلى الله عليه وسلم: ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ).
إن للحاج جزاء عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة.
فجزاؤه العاجل: توفيق من اللَّه وبركة، وإقبال على العمل الصالح، واكتساب الفضائل من الأخلاق، كما أن اللَّه يخلف عليه ما أنفقه: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}.
والجزاء في الآخرة جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

* * *
لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة حينما فرض الحج؟
كانت الجزيرة العربية حينما فرض الحج، لم يتم تطهيرها من المشركين الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساءً: الرجال بالنهار والنساء بالليل. وكانت المرأة تكشف عورتها وتقول:اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحلهوكانت هذه المناظر التي تشمئز منها النفس يتأذى منها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وسبب ذلك أن الشيطان سول لهم أنهم إن طافوا بثياب تدنست بالمعاصي فلن يقبل لهم طواف، فتجردوا من ثيابهم، ثم اشتروا غيرها جديدة من مكة ليعودوا إلى ديارهم. وهذا شرك " بفتح الشين والراء بمعنى فخ" نصبته قريش للحجاج لتروج تجارها بالباطل أثناء الحج. فأنزل اللَّه تعالى: {‏يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال ابن عباس: الزينة اللباس " وهو ما يوراي السوأة وما سوى ذلك من جيد الثياب" وقال أيضا: نزلت الآية في المشركين الذين يطوفون بالبيت عراة.
فأمر اللَّه الناس جميعًا باللباس والزينة عند كل مسجد. ولما فرض الحج بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في السنة التاسعة من الهجرة ليحج بالناس، فخرج في ثلاثمائة رجل.
وبعد خروج أبي بكر للحج نزلت سورة براءة وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ} فبعث بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب يقرأها على الناس، وأمره أن يبلغهم: " أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان".
وإنما امتنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الحج في هذه السنة، لما يعلم من أهل الجاهلية من إهلالهم بتعظيم أوليائهم من دون اللَّه، فيهتفون بغير اسم اللَّه، أو يرى منهم عاريا عند البيت، ويسكت على هذه المناظر المؤذية، فلا بد أن يمنعهم، وقد يستغل شياطين الإنس والجن ذلك.
فينتهكون حرمة البيت في الأشهر الحرم، وتنشأ الحرب والضرب والقتال.
فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج في تلك السنة اتقاء ذلك، حتى أعلنهم ببلاغ علي رضي اللَّهُ عنه.
فمن تعدى بعد ذلك فهو الجاني على نفسه. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في السنة العاشرة في أكثر من تسعين ألفا من الصحابة مما سنفصله إن شاء اللَّه تعالى.
وفي الحديث مشروعية وجوب الحج على القادر زادًا وراحلة، ولا يجوز التأجيل والتسويف إذا توفرت القدرة البدنية والمالية، وإلا يعتبر آثما إثما عظيما لأن اللَّه يهدد من استطاع الحج ولم يحج بأنه قريب من الكفر، يقول تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
كما أن أفضل الأعمال عند اللَّه تعالى: الإيمان به وبرسوله مع تجريد التوحيد من كل ما يشوهه من دعاء غير اللَّه، والنذر للمقبورين والاستعانة بهم.
كما أن الجهاد فرض على القادر عليه لما فيه من عزة الإسلام والمسلمين.
محمد على عبد الرحيم


الحـــــــــــج 2

قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أكثر من مرة: ( خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في مقامي هذا ) وكان معه من الصحابة أكثر من 90 ألفا خرجوا من المدينة والقبائل التي حولها، وكان قد بعث في القبائل من يخبرهم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم حاجًا هذا العام ( في السنة العاشرة ) فانضم إليه في الطريق خلق كثير.
وكان يرشدهم ماذا يفعلون، ويعلمهم بالفعل والقول كيفية الحج.
ولما كان خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وجب أن نتأسى برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلكم في رسول اللَّه أسوة حسنة لمن كان يرجو اللَّه واليوم الآخر. يعتبر المسجد الحرام خير بيوت اللَّه، والصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه،كما أنه أول بيت وضع للناس لعبادة اللَّه تعالى، ومن دخله كان آمنا.
بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ليكون قبلة للناس ومثابة وأمنا. وكل الروايات التي تقول أن الملائكة قامت ببنائه قبل إبراهيم، أو أن آدم بناه بعد هبوطه من الجنة، فهي إما موضوعة أو ضعيفة لا تستند إلى قرآن أو إلى حديث صحيح. فالثابت بنص القرآن أن إبراهيم هو الذي بناه، ثم بنى المسجد الأقصى بعد البيت العتيق بأربعين عاما كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
ومن أجل مكانة البيت الحرام شرع اللَّه تعالى أن كل من وفد عليه حاجا أو معتمرا، أن يقبل عليه متجردا من الدنيا وزينتها، وأن يخلع وراءه مشاكل الدنيا، فيبدأ الإحرام من مكان معين يسمى الميقات، تعظيمًا وتكريمًا لبيت اللَّه الحرام، وفيما يلي المواقيت المكانية التي عينها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: ( وقت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة " وتسمى حاليًا آبار علي" ولأهل الشام الجحفة" ومحلها رابغ حاليًا وتعتبر ميقاتا لأهل مصر أيضا" ولمن أتى عليها من شمال أفريقية. ووقت لأهل نجد قرن المنازل " ومحلها حاليًا السيل بالقرب من الطائف" ووقت لأهل اليمن يلملم " على مرحلتين جنوب مكة" فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج أو العمرة، فما دونهن فمهله من أهله ( أي يحرم من مكانه ) وكذلك أهل مكة يهلون منها ) متفق عليه.
فعند وصول الحاج من أية جهة، ومر على أي ميقات منها وجب أن يحرم منه ويهل بأن يشرع في التلبية من هذا الميقات. الإحرام ومحظوراته يعتبر الإحرام أول ركن من أركان الحج أو العمرة، وكيفيته أن يغتسل إن أمكن أو يتوضأ، ويلبس ملابس الإحرام وهي رداء وإزار، ثم يتطيب ويصلي ركعتين إن تيسر له، ثم يبدأ النية بقوله: ( لبيك اللهم بحج ) إن أراد الحج، أو يقول: ( لبيك اللهم بعمرة ) إن نوى العمرة، أو يقول: ( لبيك اللهم بحج وعمرة ) إن كان قارنا وساق الهدى من وطنه.
ولا يتلفظ بقوله نويت كذا وكذا، فذلك بدعة. ويحرم عليه بعد دخوله في الإحرام أن يأخذ من شعره أو أظافره أو يتطيب سواء كان رجلاً أو امرأة ولا يجوز للرجل أن يلبس محيطا أو مخيطا كالقمصان والأثواب والسراويل، إلا أن لا يجد إزارًا جاز له لبس السروال. كما يحرم لبس الجوارب والقفازات، ولبس الأحذية التي تستر الكعبين، ويكتفي الرجال بالرداء والإزار- أما المرأة فلها أن تلبس ثيابها العادية من غير تعيين لون معين كالأبيض أو الأخضر، فذلك من صنع النساء، وليس من العبادة في شيء.
ولا يجوز للمرأة أن تتنقب ولا تلبس القفازين، إلا أن لها أن تسدل أستارًا على وجهها إذا رآها الرجال.
وعند الإحرام يحرم الجدال والمخاصمة والرفث، وهو كل كلام يستقبح ذكره، كالتحدث عن النساء وما يثير في النفس الشهوة اليهن، كما تحرم المعصية أيًا كانت، وقتل صيد البر، وعقد النكاح، والجماع، وخطبة النساء.
فإن جامع امرأته وهو محرم فسد الحج وعليهما الإتمام ثم الحج من قابل، وإن نسي وأخذ من شعره شيئا، أو غطى رأسه ناسيًا فلا شيء عليه، وإن اضطر إلى تغطية رأسه لمرض، أو لبس ثيابه لعلة فلا حرج بشرط أن يفدي، والفدية إما صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبيحة يتصدق بلحمها في الحرم ولا يأكل منها، وهذه الفدية على التخيير لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ويجوز للمحرم قتل الأشياء الضارة كالفأرة والعقرب والحية والغراب والكلب العقور، لورود النص في ذلك.
ولا يخرج من الإحرام إلا بعد الانتهاء من العمرة وذلك بالحلق أو التقصير. أما في الحج فيظل محرما حتى يرمي جمرة العقبة ثم يحلق أو يقصر.
أما التلبية فيظل مستمرًا عليها حتى ينتهي من أفعال العمرة.
وفي الحج تنتهي التلبية برمي جمرة العقبة.
والتلبية هي قوله: ( لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك ) يرددها بين آن وآخر، وعند تغيير حالته من نوم إلى يقظة، وعقب الصلوات، وكلما تذكر أنه محرم، ويرفع صوته بها، لأن ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى التلبية: ( إجابة بعد إجابة، ناديتنا يا ربنا فأتيناك، وأمرتنا فأطعناك، إن الحمد كله لك، لأنك مصدر النعم لا شريك لك )، والمعتمر يقطع التلبية بعد الحلق أو التقصير، لأن بالحلق انتهاء العمرة، أما الحاج فيستمر في التلبية حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر كما قدمنا.

إحرام الحائض والنفساء:
في ذي الحليفة " وهي ميقات أهل المدينة" ولدت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر، فأمرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتحرم فتلبي ولا تصلي، وتفعل ما يفعله الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر.
كما أن عائشة حاضت في الطريق وهي محرمة، في مكان يسمى " سرف"، فدخل عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهي تبكي.
فقال: ما يبكيك؟ لعلك نفست؟ قالت: نعم.
فقال: يسليها ويسري عنها: هذا شيء كتبه اللَّه على بنات آدم، افعلي ما يفعله الحاج غير أنك لا تطوفي بالبيت.

الطواف:
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام، دخل برجله اليمنى قائلا: باسم اللَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام.
ثم بدأ يطوف مبتدئا من الحجر الأسود سبعة أشواط يسبح الله فيها ويكبره ويدعو اللَّه بما شاء.
وليس للطواف أذكار أو أدعية مخصوصة، ولكن الوارد أن يبدأ الطواف بالتكبير عند محاذاة الحجر الأسود، ويقبله إن استطاع، وإلا فيشير إليه ويكبر، ثم يشرع في الطواف حتى إذا حاذى الركن اليماني يستلمه إن أمكن، ويختم طوافه ويقول بين الركنين: ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ).
وهذا الدعاء الذي أنزله اللَّه تعالى في كتابه يحب أن يسمعه من عباده، وهو دعاء جامع شامل لخيري الدنيا والآخرة، فحسنة الدنيا تشمل الأولاد والأموال والزوجات والتجارة والزراعة وغير ذلك من الأمور، وحسنة الآخرة تشمل محنة الموت وفتنة القبر والموقف العظيم وما فيه من أهوال وأخطار.
نسأل اللَّه العافية.
وبعد الطواف صلى رسول اللَّه صلوات اللَّه وسلامه عليه ركعتين عند مقام إبراهيم ثم شرب من ماء زمزم ثم خرج إلى الصفا للسعي.

السعي بين الصفا والمروة:
صعد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ابدأ بما بدأ به اللَّه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} وقال وهو متجه إلى الكعبة اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
لا إله إلا اللَّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
ثم دعا ونزل ومشي إلى المروة ولكنه هرول بين الميلين " العمودين الأخضرين" ولما وصل إلى المروة صعد عليها، وفعل عندها كما فعل بالصفا، ثم اندفع إلى الصفا، وهكذا حتى بلغت مرات السعي سبعا، يذكر اللَّه فيها ويرجو عفوه وغفرانه، ويصح الركوب في السعي لغير ضعف فقد سعى النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا ناقته ليراه الناس.

التحلل من العمرة:
بعد أن انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من السعي، ولا يزال عند العمرة، نزل الوحي من السماء، بأن من لم يسق الهدي عليه أن يجعل أفعاله الماضية كلها " من إحرام وطواف وسعي" عمرة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان حاجًا فليفسخ حجة إلى عمرة ) وحصل جدال كثير بينه وبين الصحابة لأنهم دخلو مكة بنية الحج، فكيف يتحولون إلى عمرة مع أن أيام منى قريبة منهم " حيث كانوا حينئذ يوم الخامس من ذي الحجة".
وقال سراقة بن مالك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما بالك تأمرنا بالحل ولم تحل؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم- مشعرا أنه لا يعلم الغيب، وأنه يود أن يكون مثلهم، إلا أنه ساق الهدي من المدينة- ( لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) فقال بعض الصحابة: أي الحل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ( الحل كله ) يعني مباشرة النساء. فقالوا: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: ( بل لأبد الأبد ) فانصاع الصحابة للأمر الذي تلقاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من رب الأرض والسماء، وتحلل من كان حاجا وفسخ حجة إلى عمرة.
أما النبي صلوات اللَّه وسلامه عليه فقد كان محرمًا بالحج والعمرة لأنه ساق الهدي معه، ويسمى ذلك الوضع عند الفقهاء " قرانا" بشرط سوق الهدي كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" أما من لم يسق الهدي من بلده فعليه أن يدخل مكة محرما بالعمرة- كما أمر الرسول أصحابه الكرام- ثم يتحلل من إحرامه حتى اليوم الثامن.

الإحرام للحج:

في اليوم الثامن أحرم بالحج الصحابة المعتمرون، بعد أن اغتسلوا واغتسل النبي صلى الله عليه وسلم، وخرجوا جميعًا إلى منى قبل الظهر، فصلى رسول اللَّه بهم خمسة أوقات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وصبح اليوم التاسع، وكانت صلاته قصرًا للرباعية، وقصر معه أهل مكة أيضا.
وبعد شروق شمس اليوم التاسع دفع إلى عرفة، فوصلها قبل الظهر، فخطب في الناس وهو على راحلته خطبة جامعة تضمنت قواعد الإسلام ووصاياه الأخيرة.
وسميت هذه الخطبة " خطبة الوداع" ونصها كما يلي:
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
من يهد اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
أوصيكم عباد اللَّه بتقوى اللَّه، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
أما بعد: أيها الناس: اسمعوا منى أبين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
فمن كانت عنده أمانة فليؤذها إلى الذي ائتمنه عليها.
وان ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب. وإن دماء الجاهلية موضوعة وأن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ( يلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ألغى ربا الجاهلية ودماء الجاهلية بدأ بربا ودماء أهله ليكون أسوة للناس ) وأن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية ( السدانة: القيام على مفتاح الكعبة ونظافتها- وهذا شرف كبير- فلم يخلع من السدنة من بني شيبة.
أما السقاية: فهي سقاية الحجيج من بئر زمزم، فأقرها الرسول وجعلها على وضعها ) والعمد ( بسكون الميم ) قود ( بفتح الواو ) أي فيه القصاص، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ففيه مائة بعير ( وهي الدية ) فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهن حق، ألا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلآ بإذنكم، فإن فعلن فإن اللَّه قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح.
فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه، فاتقوا اللَّه في النساء، واستوصوا بهن خيرا.
أيها الناس: إنما المؤمنون أخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب اللَّه وسنتي. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند اللَّه أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس: إن اللَّه قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية، والولد للفراش وللعاهر الحجر.
من ادعى لغير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللَّه منه صرفا ولا عدلا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
ثم أخبرهم أنهم مسئولون عنه، واستنطقهم بما يقولون، وبماذا يشهدون فقالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فرفع أصبعه إلى السماء وقال اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.
ولما زالت الشمس أمر بلالا أن يؤذن للظهر، فصلاه ركعتين، ثم أمر بلالا أن يقيم للعصر فصلاه أيضا ركعتين جمع تقديم ليتفرغ للدعاء، ثم دفع إلى الموقف وقال: وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف.
وظل يدعو اللَّه تعالى حيث قال: ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة ) ومرة يهلل ومرة يلبي ومرة يدعو، وقد عرف عنه قوله: ( اللهم لك الحمد كالذي تقول وخيرا مما نقول.
اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي. وإليك رب مآبي. ولك رب تراثي. اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر. اللهم إني أعوذ بك من شر ما يجئ به الريح... ) إلى غير ذلك من الدعوات. وفي موقفه بعرفة نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}.
وعند الغروب دفع إلى المزدلفة مسرعًا وصلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير مع قصر العشاء إلى ركعتين، وبات عند المشعر الحرام، ولما أصبح ذكر اللَّه عند المشعر الحرام وصلى الصبح ولبى وهلل وكبر، ثم اندفع إلى منى، فرمى جمرة العقبة بعد شروق الشمس، ولكنه دفع بنسائه إلى منى قبل الفجر فرمين الجمرة قبل الزحام وقبل الشروق.
وبينما هو في طريقه من مزدلفة إلى منى أمر بجمع سبع حصيات من الطريق ليرمي بها جمرة العقبة، ولم يجمعها من المزدلفة كما يفعل الناس. وبعد الرمي قطع التلبية ونحر هديه وكان مكونا من ثلاث وستين بدنة بعدد سنوات عمره، وأمر أصحابه أن يضعوا قطعة لحم من جميع ما نحر في قدر، وشرب من مرق جميعها وأكل من لحمها.
وبعد الذبح حلق رأسه الشريف، ودعا للمحلقين ثلاثا، فقال أحد الصحابة: والمقصرين يا رسول اللَّه. فقال والمقصرين. وفي هذا دليل على أن الحلق أفضل من التقصير.
ثم توجه إلى مكة وطاف طواف الإفاضة بغير إحرام، وعاد إلى منى للمبيت فيها وفي اليوم الحادي عشر من ذي الحجة رمى الجمرات الثلاث كلاً منها بسبع حصيات أخذها من منزله بمنى ولم يجمعها من مزدلفة، مبتدئا بالجمرة الصغرى ومنتهيا بالكبرى ولم يغسلها.
وبات في منى ثلاث ليال يؤدي الصلاة في جماعة قصرا، ويقول: أيام منى أكل وشرب.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اختار التأخير الذي أشارت إليه الآية الكريمة: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} وتمت أيام منى على أحسن حال، ثم طاف بالبيت طواف الوداع صباح يوم الخامس عشر من ذي الحجة، وعاد إلى المدينة.
وفي ذلك الوقت دخل على إحدى نسائه فوجدها قد حاضت، فقال: أحابستنا هي؟ فقالوا يا رسول اللَّه إنها أفاضت " طافت طواف الإفاضة" فأسقط عنها طواف الوداع لتنضم إلى الركب.
وفي هذا دليل على أن المرأة تحبس أهلها عن السفر حتى تطوف طواف الإفاضة.
هذه حجة النبي صلى الله عليه وسلم باختصار.
فاللهم اجعلنا ممن تأسى به واستمسك بشريعته ليحظى بالوعد الحق: ( من تمسك بسنتي وجبت له شفاعتي ) واللَّه ولي التوفيق.

منقول