التربية بين العلم والإيمان

د . عبد الله بن راضي المعيدي الشمري
لا يخفى على عاقلٍ فضلُ العلم المقرونِ بالتربية الصالحة، فبه يعبد المسلم ربَّه على بصيرة، وبه يعامِل الناسَ بالحسنى، وبه يسعَى في مناكبِ الأرض يبتغي عند الله الرزقَ، وبالعلم تُبنى الحضارات وتُبلغُ الأمجاد ويحصُل النماءُ والبناء.

ولهذا فقد كانت عنايةُ الإسلام فائقةً في هذا المضمار من أوّل حرفٍ نزل به الوحيُ من القرآن على رسول الأنام : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " ، كما توافرتِ النصوصُ عن إمام المربّين قولاً وتطبيقًا في بيان أهمية العلم، إذ به تغيَّرت حياةُ الأعراب الجفاة عبدَةِ الأوثان في سنواتٍ قليلة، فأصبحوا قُدوةَ الدنيا وقادةَ العالم، وخلَّدوا سِيَرًا لا زال شذا عِطرِها يفوح ونورُ هُداها يُقتَبَس إلى يومِنا هذا.


ولكن السؤال الأهم ما العلم الذي قاد هؤلاء لسيادة الأرض، وعمارة الكون ؟!


إنه العلم بالله، إنه العلم الذي يبنى على التربية الإيمانية، على الخوف من الله تعالى ولو كان العلم من العلوم الدنيوية ؟!


إذ إن المقصود الأعظم من العلم هو الخوف من الله وخشيته، والمقصود من العلم هو تعلم الأخلاق، والسلوك والتربية على فضائل الأمور، وعمارة الأرض بطاعة الله، ولهذا نجد أن في القرآنِ العظيم آياتٌ تتلَى إلى يوم الدين فيها أدَبُ الحديث وأصولُ العلاقات الاجتماعية وبِرّ الوالدين والعِشرة الزوجية والعلاقات الدولية في السِّلم والحرب، بل فيه أدبُ الاستئذان وأدبُ النظر، واقرؤوا إن شئتم سورةَ النساء والأنفال والحجُرات والنور. أما السنّة والسيرة فعالَمٌ مشرِق بالمُثُل والتربية، ويكفينا مثالاً حديث ابنِ عباس رضي الله عنه قال: كنت رديفَ رسولِ الله يومًا فقال: " يا غلام، إني أعلِّمك كلمات، احفَظ الله يحفَظك، احفَظ الله تجِده تجاهَك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلم أنَّ الأمةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمَعوا على أن يضرّوك لم يضرّوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّت الصحف: رواه أحمد والترمذي بسند صحيح، وتأمل قوله : " إني أعلمك .. نعم أعلمك التوحيد والخلق والأدب .


ولهذا فإذا كان العلم مجرَّدًا من التربيّة خواءً من المبادِئ الإيمانية صار وبالاً ونقمة على صاحبه !!


والأمم لا تتقدَّم بحشو المعلومات في الرؤوس، ومحفوظات تلوكها الأفواه ثم تفرّغ في قاعات الامتحان، دون أن يكون لها رصيد من الواقع، وأثر يُتحلَّى بها في السلوك. وإنما تتقدَّم بتربية تعمل على غرس القيم وبناء المبادئ، لتجعل منها واقعاً عملياً، فما قيمة العلم إذا كان صاحبه كذوبا خؤونًا، يتمرّغ في الرذيلة، وينقض مبادئَ التربية عروةً عروة بسلوكه وأخلاقه؟! ما قيمة التعليم إذا لم يظهر أثره على طالب العلم في أدبه مع العلم، وفي أدبه مع أساتذته، وفي أدبه مع إخوانه وكتبه؟!


"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ"
.

ولهذا فلما خلى العلم في عصرنا من التربية والإيمان
وخشية الله صار التعليم ضررُه أكثر من نفعِه، فالتقدّم التقنيّ في الأطباق الفضائيّة مثلاً سُخِّر للعُريِ الماجن والمُجون الفاضح وقتلِ الحياء ووأدِ الفضيلة وتلويثِ العقول بالأفكار المنحرِفة، وكذا التقدّم العلميّ في الحضارةِ المادّية المعاصرة ولّدَ قوى عُظمى، لكنّها قوى همجيّة، لا أخلاقَ تردَعُها، ولا قيَم تهذِّبها، قوَى سيطرةٍ واستبدادٍ وامتصاصِ ثرواتِ الضعفاء وسَحق الأبرياء. هذه الحضارة المادّيّة ولّد عِلمُها الذي لم يهذِّبه دينٌ ولم يقوِّمه خُلقٌ جيوشًا جرّارة، ترتكِب المذابح، وتنحَر السلام، وتغتصِب الفتيات، ونَشأت في أحضانِ هذا العِلم عصاباتُ الاتِّجار بأعضاءِ البشر باعتبارها قِطَع غيارٍ عالميّة. إنّه علمٌ يجعلُ المنتمين له سَكرى، لا وازعَ لهم ولا حيَاء.

ومن هنا فالوصية لحملة العلم، ومعلمي الناس الخير، أن يحرصوا على كشف الحقائق الصحيحة لهذا الدين، وأن يربطوا طلابهم بقضايا الأمة الكبار، وأن يوجهوا الناشئة إلى الالتزام بالأخلاق الإسلامية والآداب المرعية والتمثل بالمكارم والفضائل في المدرسة والبيت، في الشارع والسوق وفي ميادين الحياة كلها .


ثمة أمر آخر يجب
أن ننبه عليه إذ إنّ عدم الاهتمام به سيقودنا إلي تناقض صريح وصارخ كماهي حالنا اليوم، فلا بد أنّ نعلم أنّ العملية العلمية التربوية عملية مستمرة تتكامل وتشترك فيها العديد من المؤسسات في المجتمع، كالمؤسسات الإعلامية والثقافية والاجتماعية وغيرها للقيام بالوظيفة التعليمية والتربوية، وأدنى درجات التكامل الذي يتوقعه التعليم من المؤسسات الأخرى عدم المناقضة، فلا يصلح أن يتعلم الطالب في النهار بعض الأحكام الشرعية في مادة الفقه مثلاً وفي الليل يرى ما يناقضه في الشاشة الملونة عبر المؤسّسات الإعلامية، أو يسمع كلامًا حسنًا من موجِّه أو مدرس ويرى ما يناقضه من المدرس نفسه ؟! أو والده ؟! أو مجتمعه ؟!

فكم هو مؤلم أن تتضارب المؤسسات داخل المجتمع الواحد، والضحية الطلاب والطالبات. وكم هو مؤلم أن نطالب الطلاب والطالبات والمجتمع عبر المناهج بالبعد عما حرم الله، ثم نناقضه عبر الإعلام والصحف والقنوات بل الأماكن العامة والقرارات والتي تخالف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه سلم، وأمر ولي الأمر والذي يأمر بما أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام .


فإذا أردنا أن ينشأ ناشئ الفتيان منا على الصدق فيجب أن لا تقع عينه على غش وتسمع أذنه كذباً، وإذا أردنا أن نتعلم الفضيلة يجب أن لا تتلوَّث بيئته بالرذيلة، وإذا أردنا أن نتعلّم الرحمة فيجب أن لا نعامله بغلظة وقسوة، ويتربى على الأمانة إذا قطع المجتمع دابرَ الخيانة .

فإنّ المنهج يظلّ حبرًا على ورق ما لم يتحوّل إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره مبادئَ المنهج ومعانيَه، وهذا ابن عباس رضي الله عنهما شاهد أمامه من يقوم الليل فسارع لذلك ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.


ولهذا يجب أن نعلم التربية والتعليم
هي وظيفة صناعة الرجال وصياغة العقول وصيانة السلوك وتحقيق أهداف كل العلوم؛ [ حتى العلوم الدنيوية ] ليكون الإنسان قادرًا على حسن المسيرة في هذه الحياة، وفق أهدافه النبيلة وغاياته السامية. فالتربية والتعليم تجسد أهداف الأمة التي تعيش من أجلها وتموت في سبيلها، تجسد العقيدة المستقرة في قلوبها، واللغة التي تنسج بها حضارتها، والمثل الأعلى الذي تتطلع إليه، والتاريخ الذي تغار عليه.