سيدنا الربيع بن زياد الحارثيلفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما مضمون هذه الآيات ؟
أيها الأخوة, مع الدرس الخمسين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابيُّ اليوم هو الربيع بن زياد الحارثي رضي الله عنه .
قبل أن نمضي في الحديث عن هذا الصحابي هناك مقدمة أرجو أن ينتفع بها الأخوة الكرام، وهي أن في القرآن الكريم آيات تزيد عن مئة آية أو أكثر مضمونها: الهدى لمن يطلبه, قال تعالى:
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
[سورة ق الآية: 37]
من هذه الآيات آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾
[سورة الرعد الآية: 27]
﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾
[سورة الشورى الآية: 13]
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
[سورة الأحقاف الآية: 10]
﴿وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾
[سورة غافر الآية: 28]
﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
[سورة المنافقون الآية: 6]
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾
[سورة الزمر الآية: 3]
﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾
[سورة النحل الآية: 37]
يبدو من هذه الآيات الكثيرة أن هناك شيئاً يسبق سماع الحق، هو الطلب، هذه الآيات ومثيلاتها، لاح لي مثلُ يمكن أن يعبّر أدق التعبير عن فحواها، إنسان بلا مأوى، يبحث عن بيت، بقي ستة أشهر ينام عند فلان، وعند فلان، وهو في أمس الحاجة إلى بيت، هذا الإنسان لو التقى إنساناً آخر، وقال له: أتريد بيتاً؟ ينفعل أشدَّ الانفعال، ويتعلق بهذا الإنسان أشدَّ التعلق ، ويتلهف أشدََّ اللهفة، ويقول له: إِي واللهِ، أين البيت؟ .
ترى هذا الإنسان الذي بحاجة ماسة لبيت، ويرى في طريقه من يعرض عليه بيتاً، آيباً، مطيعاً، يصبر، يتابع، يسأل، يستفهم, ينتظر من أجل أن يحقق حاجته التي هو في أمس الحاجة إليها .
فالإنسان يسكن بيتًا كما يريد، وإنسان قال له: هل تحتاج إلى بيت؟ إذا كان لا يحتاج إلى بيت, تراه يعرض، ولا يرد عليه، ولا يبالي به .
فالإنسان عندما يطلب الهدى، فأيُّ درس علم، أو تفسير آية، أو تفسير حديث، وأيُّ إنسان له صلة بالله، يتعلق به، يسأله، يحضر مجلسه، يصبر عليه، و يتودد له، فالقضية قضية حاجة سابقة، فإذا كان عندك رغبة، عندك طلب للحق، عندك رغبة في معرفة الله، عندك رغبة في طلب مرضاة الله عز وجل، يعنيك درس العلم، يعنيك كتاب الله، يعنيك أهل الحق، يعنيك العمل الصالح .
فهذا التفسير يبيِّن لك كيف أن الإنسان يتكلم بالحق؟ فإنسان يصغي, ويتأثر, وينفعل ويستجيب، وإنسان لا يبالي، ولا يهتم، ولا يتأثر، ولا يعلق كبير أهمية على هذا الدرس، فحين يلحظ الإنسان أنه ضعيف الاهتمام بالعلم، ضعيف الاهتمام بمرضاة الله عز وجل، ضعيف الاهتمام بمعرفة الله، فليتَّهمْ نفسه أنه ضعيف الصدق في طلب الحق, الحقيقة أحياناً أنّ العلة ليس في المتكلم، بل في المستمع, فالإنسان إذا نما صدقه, نما اهتمامه، ونمت معرفته، ونمت طاعته واستقامته .
الموت موعظة لك أيها المسلم :
قيل هذه مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تزال تكفكف الدموع لفَقْدِ الصديق, سيدنا الصديق مات، وكل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، وصدق القائل:
كل ابن أنثى و إن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمولُ
فإذا حملت إلى القبور جنــازة فاعلم بأنك بعدها محمــولُ
أيها الأخوة الكرام، أنا كنت قبل قليل في تعزية، فتكلمت كلمات هدفها: التفكر في الموت ، تصور نفسك أنّك تمشي على طريق، وعلى حافتيه واديان سحيقان؛ وادٍ عن يمينك، ووادٍ عن شمالك، واحتمال الانزلاق في الوادييْن كبير جداً، التفكر في الموت يقيم حول الطريق جداراً استنادياً يحميك من الزلل، ومن السقوط، والتفكر في الموت يبعث فيك دافعاً قوياً يدفعك إلى طاعة الله، فإذا أبطأت بك الهمّة، فالموت يحثك على طلب الحق، وإذا زلّتْ بك القدم فالموت يحميك من الزلل .
إذاً: أنتم ولو كنتم شباباً حينما نجعل من الموت عنصراً أساسياً في محاسبة أنفسنا، حينما نُدخِل الموت في حساباتنا اليومية، هذا الموقف، كيف ألقى الله به؟ لو جاءت منيتي بعد ساعة، ووقفت بين يدي الله عز وجل بماذا أجيب؟ لو أن إنسانًا اصطاد عصفوراً لغير مأكلة، جاء يوم القيامة وله دوي تحت العرش، يقول: يا رب, سله لمَ قتلني؟ .
مرة نصحت إنسانًا يعمل في وظيفة، وبإمكانه أن يوقع أشد الأذى بالناس، نظرًا لموقعه ، فقال لي: انصحني، قلت له: افعل ما تشاء، ولكنك إذا كنت بطلاً فهيِّئْ لخالق الكون جواباً عن كل تصرف تتصرفه .
يا أيها الأخوة، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، من حاسب نفسه حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً كان حسابُه يوم القيامة عسيراً, أمّا هذه الكلمات: لا تدقق، حُطَّ بالخرج، من هنا إلى يوم الله يفرجها الله، هذه كلها مِن وساوس الشيطان، كلمات شيطانية لا معنى لها، بل معناها مدمر وخطر .
ماذا كان ينتظر عمر من الوافدين عليه لمبايعته على كرسي الخلافة, ومن هو الصحابي الذي نصح عمر فتوسم فيه الخير ؟
سيدنا الصديق توفي, قيل: وها هي ذا وفود الأنصار، تقدم كل يوم إلى يثرب مبايِعةً خليفته الفاروق عمر بن الخطاب على السمع والطاعة، في المنشط والمكره .
المؤمنون لهم قيادة، ولهم رأس، المؤمن منضم إلى مجموع المؤمنين، يأتمر بما يُؤمر ، وينتهي عما يُنهى عنه .
ذات صباح قدم على أمير المؤمنين وفدٌ من البحرين مع طائفة أخرى من الوفود، وكان الفاروق رضوان الله تعالى عليه شديد الحرص على أن يسمع كلام الوافدين عليه .
فأنا أحياناً، أشعر كما أنتم بحاجة إلى أن تسمعوا، أنا أحياناً أشعر بحاجة إلى أن أسمع، عندما أسمع من أخٍ كلامًا منطقيًّا، كلامًا فيه وعي، ويَنُمُّ عن فهم، وبأدلة، فيه دقة، واللهِ هذا شيء يسعد كل إنسان يدعو إلى الله عز وجل، شيء مسعد حقًّا، شيء لا يُصدق أن ترى إنساناً قد اقتدى، واهتدى، واستفاد، ونفع الناس, وأينع عندهم الثمر, الحق ينبغـي أن ينتشر، ينبغـي أن يتوسع، الحق ينبغي أن يحاصِر الباطل، لا أن يحاصره الباطل .
قلت لأخ قبل أن آتي: ما أهدى رجل أخاً في الله، إلا أحدث الله له درجة في الجنة، وحجمك عند الله بحجم عملك الصالح, قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 132]
اسأل نفسك هذا السؤال المحرج: أنا ماذا قدمت ليوم اللقاء، ماذا قدمت لله عز وجل؟ يقول: عبدي جئتُ بك إلى الدنيا، وبقيت فيها عمراً طويلاً، فماذا قدَّمتَ لنفسك؟ قال تعالى:
﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾
[سورة فاطر الآية: 37]
الذي عاش أربعين سنة، شاهد أربعين ربيعًا، وأربعين خريفًا، وأربعين صيفا، وأربعين شتاءً، فتناوبتْ عليه الفواكه والخضراوات, والأمطار, والرياح, والحر, والقرّ، ومن الأزهار, ومن الطيور، ومن الأفراح, ومن الأحزان، قال تعالى:

﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾
[سورة فاطر الآية: 37]
فكان الفاروق رضوان الله تعالى عليه شديد الحرص على أن يسمع كلام الوافدين عليه، فلعله يجد فيما يقولونه موعظة بالغة، أو فكرة نافعة، أو نصيحة لله ولكتابه ولعامة المسلمين, هذا يدلّ على أنّ الإنسان كلما ارتقى بالعلم ازداد تواضعاً، والإنسان المؤمن يستفيد من كل إنسان، حتى من الطفل الصغير .
الإمام أبو حنيفة كان يماشي في الطريق، رأى غلاماً أمامه حفرة، فقال له:
((يا غلام إياك أن تسقط, فقال هذا الغلام كلمةً حاسمة مفحمة: بل أنت يا إمام, إياك أن تسقط, أنا إن سقطتُ سقطتُ وحدي، وإنك إن سقطتَ سقطَ معك العالم))
المؤمن لا يتأبى عن نصيحة، ولا عن موعظة، ولا عن كلمة حق، المؤمن يستشير، والمؤمن يستعير عقول الآخرين، والمؤمن يتقبل الملاحظات، صدره رحب .
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: ((اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ, فَأَذِنَ لِي, وَقَالَ: لَا تَنْسَنَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ, فَقَالَ كَلِمَةً مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا))
[أخرجه أبو داود في سننه عن عمر]
وفي غزوة بدر, قال له صحابي: ليس هذا المكان بموقع حرب مناسب، قال: دلني على الموقع المناسب، فدلّه، وأمر أصحابه أن ينتقلوا إليه، هكذا المؤمن كن بسيطًا، ولا تتكلف، ولا تتكبر .
فندب عمرُ عددًا من الحاضرين للكلام، فلم يقولوا شيئاً ذا بال، قال:
((إذا لم يكن لديك ما تقول فلا غَناء في القول .
-تسمع أحيانا كلامًا مدة ساعة، كله لا خير فيه، كلام فارغ، كلام مكرر ومعاد، لا جدوى منه، ولا فائدة، المؤمن كلامه مليء ودقيق، كلامه دسم، وكلامه حق، وكلامه خطير, قال تعالى:
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾
[سورة الأنعام الآية: 83]
فالتفت إلى رجل توسم فيه الخير، وأومأ إليه, وقال: هات ما عندك، فحمد الرجل الله، وأثنى عليه، ثم قال: إنك يا أمير المؤمنين، ما وليت أمر هذه الأمة إلا ابتلاء من الله عز وجل ابتلاك به، فاتَّقِ الله فيما وُلِّيتَ، واعلم أنه لو ضلّت شاة بشاطئ الفرات لسئلت عنها يوم القيامة ، فأجهش عمر بالبكاء، وقال: ما صدقني أحد منذ استخلفت كما صدقتني، فمن أنت؟ قال: أنا الربيع بن زياد الحارثي، أخو المهاجر بن زياد, قال: نعم .
فلما انفضّ المجلس، دعا عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري، وقال: تحَرَّ أمر الربيع بن زياد، فإن يك صادقاً، فإن فيه خيراً كثيراً، وعوناً لنا على هذا الأمر))
سيدنا عمر يحبّ الناصح، والمؤمن الصادق يستجيب للناصح، ويُسَرُّ به ولو كان في كلامه قسوة، أمّا الإنسان ضعيف الإيمان فإنّه يحب المديح، ويفرح بالمادحين، ويضيق ذرعًا بالناصحين .
فالإنسان إذا استمع إلى نصيحة الناصحين، وإلى انتقاد الناقدين، وإلى اعتراض المعترضين، فإنه يرقى سريعاً إلى الله، ويتخلص من أخطاء كثيرة، ومن عيوب وفيرة .
سيدنا عمر كان مع أصحابه مرةً، فقال له أحدهم متملقاً: ((والله ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله, ما كان من هذا الخليفة الراشد إلاّ أن أَحَدَّ النظر فيهم إلى درجة غير معقولة, فقال أحدهم: لا والله، لقد رأينا من هو خير منك, قال: من هو؟ قال: الصديق, فقال عمر رضي الله عنه: لقد كذبتم جميعاً, وصدق هذا, وعَدَّ سكوتهم كذباً, -كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تقرب أجلاً- لقد كذبتم جميعاً وصدق، واللهِ كنت أضل من بعيري، وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك))
قرأت منذ أيام أن امرأة تعاني مشكلة، فطلبها ليسألها، ومن شدة هيبته في الطريق أسقطت خوفاً منه، فلما جلس مع أصحابه, قال: أعليَّ شيء؟ نتيجة إسقاطها، فأكثرُ أصحابه قالوا: لا، وأنت أردت أن تؤدِّبها، ثم قال: قل يا أبا الحسن, قال: واللهِ عليك دية الجنين، لأنها خافت منك فأسقطت، فأثنى عليه ثناءً شديداً .
إذا أخذ الله بيدك، وجعلك بمنصب قيادي، جعلك داعية، جعلك مدير معمل، رئيسًا في دائرتك، إياك أن تلغي المعارضة، استمع للنقد، استمع للاعتراض، ودليل إيمانك وإخلاصك وصدقك أنْ تصغي للنصيحة وللنقد، ولو كان جارحاً، فهذا الذي يرفعك .
فالإنسان إذا انتقدته تحرك، وأصلح من نفسه، وقوَّم اعوجاجه، وَرَأَبَ مِن صدعه، فأنا مؤمن أن النقد ضروري، والمعارضة ضرورية، والنصيحة ضرورية، والأمة تستحق الهلاك إذا كفَّتْ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الفريضة السادسة، إن صحت هذه التسمية، والله سبحانه وتعالى أهلك بني إسرائيل لأنهم قالوا: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾
[سورة المائدة الآية: 79]
وقال في آية كريمة أخرى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾
[سورة هود الآية: 117]
لم يقل: صالحون، لو أنهم صالحون لأهلكهم الله، يجب أن يكونوا مصلحين، الصالح لذاته، أما المصلح لغيره .
قال له: فاتق الله فيما ولِّيت، واعلم أنه لو ضلت شاةٌ بشاطئ الفرات لسُئِلتَ عنها يوم القيامة، فأجهش عمر بالبكاء .
أحياناً تبحث عن معين لك مخلص، فطِن، صادق، لبيب، أريب، هذه قمة نجاح القائد، أن يختار معاونين مخلصين, قال تعالى:
﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾
[سورة القصص الآية: 26]
سيدنا عمر لما وَلَّى رجلاً، قال له:
((خذ عهدك، وانصرف إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأسَ سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك؛ إن وجدناك أميناً ضعيفًا استبدلناك لضعفك، وسلمتك من معرتنا أمانتك، وإن وجدناك خائناً قوياً، استهنا بقوتك، وأوجعنا ظهرك، وأحسنّا أدبك، وإن جمعت الجرمين جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أميناً وفِيًّا، زدناك في عملك، ورفعنا لك ذكرك، وأوطأنا لك عقبك))
نحن لا تصلح أمورنا إلا إذا كان الأشخاص الذين يعوَّل عليهم يتمتعون في وقت واحد بالكفاءة والإخلاص، الكفاءة قدرات، والإخلاص قيد للمبدأ، خلاص للمبدأ، القرآن سماه: القوي الأمين, قال تعالى: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾
[سورة القصص الآية:26]
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: ((خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ, فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ, قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ, فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ, فَلَمَّا أَدْرَكَهُ, قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ, قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ, قَالَ: لَا, قَالَ: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ, قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ, فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ, فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ, قَالَ: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ, قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ, فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ, قَالَ: نَعَمْ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَانْطَلِقْ))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن عائشة]
هذا مبدأ, المشرك قوي، ولكن ليس أمينًا .
إياك أن تستعين بكافر، إياك أن تستعين بمنافق، فلا يزيدك إلا خبالاً، فازهد بكفاءته، وازهد بقدراته، وازهد بكل ما يملك، إن لم يكن مخلصاً, وبالمقابل لا تعتمد على مخلص جاهل، يريد أن ينفعك فيؤذيك، لا على مخلص جاهل، ولا على قوي خائن .
البلاد الذي فتحها القائد العظيم الربيع بن زياد الحارثي :
1- مناذر :
فلم يمض على ذلك اليوم غير قليل حتى أعدَّ أبو موسى الأشعري جيشاً لفتح (مناذر)، من أرض الأهواز، بناءً على أمر الخليفة، وجعل في الجيش الربيع بن زياد، وأخاه المهاجر.
يعني إذا وفَّق الله عز وجل أحدًا فحظِي بإنسان مخلص وكفء, فيجب أنْ تعضّ عليه كما تعضّ على شيء نفيس، فهو أندر كما يقولون من الكبريت الأحمر، إنسان مخلص وكفء، فالواحد منا حتى في اختيار زوجته، حتى في اختيار معاونيه في عمله، حتى في اختيار من يليه في العمل, فعليه أنْ يبجث عن الكفء في العمل .
لكنْ ما الذي يحصل؟ إما أن تجد إنسانًا مخلصًا مؤمنًا طيبًا, يُقال: إنه درويش، درويش لا يفهم شيئًا، أو أن تجد إنسانًا حاذقًا في اختصاصه، لكنه خائن، زنديق، لئيم، لا هذا يملأ عينك، ولا ذاك يملأ عينك، لا يملأ عينك، إلا إنسان بقدر ما هو طيب، أنْ يكون أيضًا كفؤًا, ربنا عز وجل لما وصف نفسه, قال:
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾
[سورة الرحمن الآية: 78]
يعني عظيم، ولا حدود لعظمته، وكريم ولا حدود لكرمه، بقدر ما هو عظيم، هو كريم، بقدر ما هو كريم, فهو عظيم .
قد يكون للواحد والدة يحبها حباً لا حدود له، لكنها غير متعلمة، وهو دكتور، يحبها ولكنْ لا يعجب بها، وقد يعجبك عالم في الجامعة، لكنه قاس، أنت لا تحبه، ولكنه يعجبك، فالشخصية المتكاملة هي التي تشد الناس إليها، فالأنبياء أوتوا الفطانة، بقدر ما النبي ذكيًا وعاقلا وفطنًا، بقدر ما هو طيب ورحيم ومتواضع، فالصفات الأخلاقية مع الصفات العلمية إذا اجتمعتا, أعطت نموذجاً مدهشا ونموذجاً فذا .
أحياناً يفتقر هذا الأخلاقي إلى علم، فهو صغير في نظر الناس, وأحياناً يفتقر هذا العالم إلى أخلاق، فهو صغير في نظر الناس, فصعب أن تشد الناس إلى الدين إذا كان في علمك ضعف، صعب أن تشد الناس إلى الدين إذا كان في أخلاقك ضعف، فيجب أن تسعى، وأن تحيط بكل جوانب الدين، إن هذا الدين كما ورد في الحديث القدسي عن جابر بن عبد الله, قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((قال لي جبريل: قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الدِّينَ ارْتَضَيْتُهُ لِنَفْسِي، وَلاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ السَّخاءُ, وَحُسْنُ الْخُلُقِ، فَأَكْرِمُوهُ بِهِمَا مَا صَحِبْتُمُوهُ))
[ورد في الأثر]
حاصر أبو موسى الأشعري (مناذر)، وخاض مع أهلها معارك طاحنة، قلَّما شهدت لها الحروب نظيراً، فقد أبدى المشركون من شدّة البأس، وقوة الشكيمة ما لا يخطر على بال، وكثُر القتل في المسلمين كثرةً فاقتْ كلَّ تقدير، فلما رأى المهاجر بن ربيع بن زياد أن القتل قد كثر في صفوف المسلمين، عزم على أن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فتحنط وتكفن وأوصى أخاه .
الحقيقة أنّ الحديث عن الصحابة ممتع، والحديث عن الشهادة ممتع كذلك، لكن الحقيقة عندما يتعرَّض الإنسان للخطر يُعرف حجمُه الحقيقي من بين هؤلاء الأبطال، فالكلام سهل، لكن الإنسان عندما يشعر أنَّ أجله قد اقترب يختل توازنه، فهؤلاء الصحابة، باعوا أنفسهم في سبيل الله .
سيدنا إبراهيمُ فدى اللهَ بذبح ابنه إسماعيل، بذبح عظيم, فلما فداه بذِبحٍ عظيم ما كان يدري أنه سيفدى بذِبح عظيم، قال تعالى:
﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾
[سورة الصافات الآية: 106]
فهذا تحنط، وتكفن، وأوصى أخاه، فمضى الربيع إلى أبي موسى, وقال: إن المهاجر قد أزمع أن يشري نفسه وهو صائم، والمسلمون قد اجتمع عليهم من وطأة الحرب, وشدّة الصوم ما أوهن عزائمهم، وهم يأبون الإفطار، فافعل ما ترى .
سمعتم منذ يومين أنني ألقيت خطبة في جامع النابلسي حول صفات النبي عليه الصلاة والسلام، لكن ما لفتَ نظري أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه في غزوة في رمضان، فبعض أصحابه أفطر أخذاً بالرخصة، وبعضهم بقي صائمًا أخذاً بالعزيمة، ولكنَّ الصائمين أرهقهم الصومُ والحرُّ فسقطوا، لقد أصبحوا ضعافًا، جلسوا واستلقوا، والمفطرون أعدوا لهم الطعام، ونصبوا لهم الخيام، وقدموا لهم كل الخدمات، ماذا قال عليه الصلاة و السلام؟ كلام رائع فاسمعوه، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ:
((كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُنَا ظِلًّا الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ, وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا, وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ, وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن أنس]
رجَّح عليه الصلاة والسلام العمل على العبادة، هذا الإنسان خدم، ونصب الخيام، وذبح الذبائح، وطبخ لأخوانه .
كان سيدنا ابن عباس مرةً معتكفًا، بعد وفاة رسول الله، فدخل عليه رجل وطلب منه حاجة، يبدو أن عليه دينًا، والدائن شديد الضغط عليه، قال له:
((أرهقني فلان، قال: أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إن شئت, فخرج ابن عباس من معتكفه، فقال له أحدهم: يا ابن عباس, أنسيت أنك معتكف، قال: لا، ولكن سمعت صاحب هذا القبر، والعهدُ به قريبٌ، فدمعت عيناه، لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر, واعتكافه في مسجدي هذا))
هذا هو الإسلام، الإسلام معاونة، الإسلام عمل، الإسلام خدمة، الإسلام بذل، الإسلام تضحية .
فهنا لما اشتدَّتْ عليهم وطأة المعركة، واشتدت عليهم صعوبة الصيام وقف أبو موسى الأشعري، ونادى في الجيش: ((يا معشر المسلمين, عزمت على كل صائم أن يفطر، أو يكفوا عن القتال، وشرب من إبريق كان معه ليشرب الناس لشربه، فلما سمع المهاجر مقالته جرع جرعة من ماء، وقال: واللهِ ما شربتها من عطش، ولكني أبررت عزمة أميري .
-أحياناً نحتـاج إلى فقه، أحياناً خدمة أخيك المؤمن أفضل من صلاة النافلة، وأحياناً حضور مجلس علم أفضل من عبادة نافلة، فأنت بالعلم ترقى، أما بالعبادة فتتألق، يمكن للطاولة أنْ تتألق بالمسح، أما العلم فإنّه يضيف لك منزلةً جديدة، فأنت بالعلم ترقى، أما بالعبادة وحدها فإنّك تصفو .
فالصفاء ليس له مردود، أما العلم له مردود، والأولى أن تجمع بينهما، ولكن لو خُيِّرتُ بين مجلس علم، وبين الصلوات النافلة، فإنّي أحضر مجلس العلم، وأفضِّله على الصلوات النافلة، وهناك في السنة آثار كثيرة تؤكد ذلك- .
امتشق حسامه، وطفق يشق الصفوف، ويجندل الرجال، غير وجل ولا هيَّاب، فلما أوغل في جيش الأعداء أطبقوا عليه من كل جانب، وتعاورته سيوفهم من أمامه ومن خلفه، حتى خرَّ صريعاً، ثم إنهم احتزُّوا رأسه، ونصبوه على شرفة مطلة على ساحة القتال، إنّه أخو الربيع، فلما نظر إليه الربيع, قال: طوبى لك وحسن مآب، واللهِ لأنتقمنَّ لك ولِقتلى المسلمين إن شاء الله، فلما رأى أبو موسى ما نزل بالربيع من الجَزَع على أخيه، وأدرك ما ثار من الحفيظة في صدره على أعداء الله تخلَّى له عن قيادة الجيش، ومضى إلى السوس لفتحها .
هَبَّ الربيعُ وجندُه على المشركين هبوبَ الإعصار، وانصبوا على معاقلهم انصباب الصخور إذا حطها السيل، فمزقوا صفوفهم، وأوهنوا بأسهم، ففتح الله (مناذر) للربيع بن زياد عُنْوةً، فقتل المقاتلة، وسَبَى الذرية، وغنم ما شاء الله أن يغنم، ومنذ هذا التاريخ لمَع نجمُه، وذاع اسمه، وتألق صيته في كل مكان))
إنّ الله سبحانه وتعالى, قال: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾
[سورة الشرح الآية: 4]
دققوا؛ هذه الآية كما يتضح لنا هي للنبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لكل مؤمن منها نصيب، فما من مؤمن يلزم طريق الاستقامة، وما من مؤمن يعاهد الله على طاعته، وما من مؤمن يحضر مجالس العلم، وما من مؤمن يعاهد الله ورسوله على السير في طريق الإيمان، إلا رفع الله ذكره، وأعلى شانه، ويرفعه على أقرانه، ويجعله متألقاً لامعاً، هذا من عطاء الدنيا قبل عطاء الآخرة، هذا من قوله تعالى:
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾
[سورة الرحمن الآية: 46]
قال العلماء: جنَّة في الدنيا، وجنَّة في الآخرة .
إذا ذهب الإنسان إلى مقام النبي عليه الصلاة والسلام, فمِن المستحيل أنْ يعتقد أنَّ في الأرض كلها إنساناً واحداً ناله العزُّ والرفعةُ كما نالهما النبي صلى الله عليه وسلم, ولو أنك رأيت ملكاً في حرم النبي فإنّك لا تلتفت إليه أبداً .
مرةً قرأت لوحة رخامية في الحرم النبوي، أحد السلاطين العثمانيين وسَّع الحرم النبوي، كتب لوحة رخامية وذيلها بالكلمات التالية: الفقير إلى الله تعالى كثير الذنوب, السلطان فلان, غفر الله ذنبه, آمين .
ملك، سلطان، يحكم نصف الأرض، ومع ذلك ليس له وجود في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام .
النبي عليه الصلاة والسلام رفع الله شأنه رفعة لا توصف، وكل واحد منكم، على قدر استقامته، وعلى قدر إخلاصه، وعلى قدر التزامه، وعلى قدر خوفه من الله، يرفع الله له ذكره ، هذا ليس كبراً، لا، بل هذه مكافأة .
المؤمن إنسان عظيم، له هيبته، له شأنه، له مقامه عند الله، مرغوب الجانب، محبوب ، وهذه كلمة أرذل العمر نعوذ بالله منها، قال تعالى:
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾
[سورة النحل الآية: 70]
كل واحد منا إذا كان له أقرباء، وضيعوا في شبابهم دينَهم، فلما كبر سنهم، وضعف بصرهم، وانحنى ظهرهم، وشاب شعرهم، رُدُّوا إلى أرذل العمر، فإنْ لم يعتبرْ ويتعظْ فهو ذو عقل سخيف، تدخل حشري، والقصة تُعاد آلاف المرات فأهله يكرهونه، ويهربون منه، ويَدَعُونَه في غرفته وحده, فليعتبرْ كلُّ إنسان .
أما إذا رأيت عالماً جليلاً، أمضى حياته في طاعة الله، فانظر إليه، انظر إلى وضاءة وجهه، وانظر إلى فطانته، وانظر هيبته، وانظر إلى التفاف الناس حوله، ففي هذا أيضًا العبرة لمِن أراد أنْ يعتبر .
مرةً أحد اليهود رأى الإمام الجنيد في موكب يركب فرساً، وكان بهي المنظر، أزهر اللون متألقاً، وحولـه من أتباعه وأخوانه العدد الكبير، وكأنه ملك من الملوك، فارتاع اليهودي لهذا المنظر، وأخذته الدهشة، وصار يتساءل .
هذا سيدنا ابن عباس كما مرّ معنا في الدرس الماضي ذهب إلى الحج، يرافقه وفدٌ فاق وفدَ الخليفة، وليس هذا هو القصد، وإنّما القصدُ أنّ هذا اليهودي يعمل في المجاري، والمياه المالحة، فقير رثّ الهيئة، جائع مبتذل، لا شأن له،
يعني المصائب اصطلحت عليه، كما قال أحد الشعراء:
بلاني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبــالِ
فكنت إذا أصابتني سهـام تكسرت النصال على النصالِ
لم يعد في مجلسه محلات لرفع النصال والنبال, فقال هذا اليهودي لهذا العالم الجليل: ((الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ, وَجَنَّةُ الْكَافِرِ .
-فأيُّ سجن أنت فيه, وأية جنة أنا فيها، ما هذا الكلام؟- فقال له الجنيد: يا هذا, إذا قِسْتَ حالك بما ينتظرك من عذاب فأنت في جنة، وإذا قِسْتَ حالي بما وعدني الله من ثواب ونعيم فأنا في سجن))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ, وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ, وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ, فَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ, فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن أبي هريرة]
فإنسانٌ يَعِدُه اللهُ وعداً حسناً، هذا شيء عظيم .
2- سجستان :
أصبح سيدنا الربيع أحد القادة المرموقين الذي يُرجَوْن لجلائل الأعمال، فلما عزم المسلمون على فتح سجستان، عهدوا إليه بقيادة الجيش، وأمَّلوا على يديه النصر .
تسمعون بأذربيجان، مِن دول الاتحاد السوفيتي سابقًا، هذه البلاد في عهد عمر كانت تابعة لإمارة سيدنا عمر، تُحكم من المدينة المنورة، ألم يأتِه من أذربيجان رسولٌ بهدية ثمينة، وقد دخل هذا الرسولُ المسجدَ خشية أن يوقظه في الليل، فرأى رجلاً يصلي، ويبكي، ويقول : يا رب, هل قبلتَ توبتي فأهنئ نفسي، أم رددتها فأعزيها؟ .
قال له: من أنت يرحمك الله؟ .
قال له: أنا عمر .
قال: أمير المؤمنين؟ .
قال: نعم .
قال: يا أمير المؤمنين، ألا تنام الليل، فأنا لم آت بيتك خشية إزعاجك .
قال: أنا إن نمت ليلي كلَّه أضعتُ نفسي أمام ربي، وإن نمتُ نهاري أضعت رعيتي .
صلى معه الفجر، ثم أخذه إلى البيت، وقال: يا أم كلثوم, هات ما عندك من طعام، فجاءت له بخبز وملح، أكل وشرب، وحمد الله تعالى, وقال: الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا، وسقانا فأروانا .
قال له: ما الذي جاء بك إلينا؟ .
قال: هدية بعث بها عاملك على أذربيجان, وأذربيجان أصبحتْ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي دولةً مستقلةً، ولكن أين كانت في عهد عمر؟ كانت تابعة للمدينة .
قال: أيأكل عندكم عامة المسلمين هذا الطعام؟ .
قال: لا. هذا طعام الخاصة .
يقولون: إنّ سيدنا عمر كان قد أكل لقمة واحدة، أخرجها من فمه، وقال: هذا حرام على بطن عمر، أن يذوق طعامًا لا يطعمه فقراء المسلمين .
مضى الربيع بن زياد بجيشه الغازي في سبيل الله إلى سجستان، عبر مفازة طولها خمسة وسبعون فرسخاً، تعيا عن قطعها الوحوش الكاسرة من بنات الصحراء .
كأنّ جنس الإنسان بهذه العصور صار سريع العطب, يركب المرءُ الآن سيارة مكيفة ، سرعتها مئتا كيلو متر في الساعة، من مكة إلى المدينة، فيقول: يا أخي، الطريق طويل، أربع ساعات، شيء يحطم, فكيف بهذا الذي قطع المسافة على جمل في اثني عشر يوماً، من دون تكييف، ليس لدينا جمل مكيف, أليس كذلك؟ ما قوة الاحتمال هذه؟ وما هذا الجَلَد؟.
فمضى الربيع بن زياد بهذا الجيش الغازي، فكان أول ما عرض له حصن شامخ، محصن، وافر الخيرات، كثير الثمار، بثَّ القائد الأريب عيونَه قبل أن يصل إليه، فَعلِم أنّ القوم سيحتفلون قريباً بمهرجانٍ لهم، فتربَّص بهم حتى بَغَتَهُمْ في ليلة المهرجان على حين غرة , وفي الحديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الْحَرْبُ خَدْعَةٌ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن جابر بن عبد الله]
لأنه ليس القصد أن تبيد أعداءك، إنما القصد أن تأسرهم، لأن هذا إنسان، وأنت إنسان أيضاً، وأنت مؤمن أوسعُ منه رحمة، فإذا اتخذتَ الخدعةَ معه, وفَّرتَ عليك مشقَّةَ قتله، فأخذته أسيراً ، وعلَّمتَه حتى يسلم .
فتربص بهم حتى بغتهم، فسبى منهم عشرين ألفاً، ووقع دهقانهم بيده - أسير الدهقان زعيم- وكان بين السبي مملوك للدهقان، فوجدوه قد جمع ثلاثمئة ألف ليحملها إلى سيده، قال له الربيع: من أين هذه الأموال؟ قال: من إحدى قرى مولاي .
فقال له: وهل تعطيه قرية واحدة مثل هذا المال كل سنة؟ .
قال: نعم .
قال: وكيف؟ .
قال: بفؤوسنا ومناجلنا وعرقنا, نحن بالقوة نجني هذه الأموال, ولما وضعت المعركة أوزارها ، تقدم الدهقان إلى الربيع يعرض عليه افتداء نفسه وأهله .
فقال له: أفديك إذا أجزلت للمسلمين العطاء .
قال: كم تبغي؟ .
قال: أركز هذا الرمح في الأرض، ثم تصب عليه من الذهب والفضة حتى تغمره غمراً بأكوام الذهب .
قال: رضيت, واستخرج ما في كنوزه من الأصفر والأبيض, وطفق يصبها على الرمح حتى غطاه .
ذات مرة قبض أصحابُ رسول الله بالخطأ على إنسان، فإذا هو ثمامة، أحد زعماء القبائل، وقد وقع أسيراً، وكان قد قتل هذا الرجل عشرةً من أصحاب رسول الله، لكنهم ما عرفوا أنه ثمامة، جاؤوا به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وربطوه بسارية، وخرج النبي عليه الصلاة والسلام فلما رآه, قال:
((هذا ثمامة, ما وراءك يا ثمامة؟ فقال ثمامة: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تَعْفُ تَعْفُ عن شاكر، وإن تُرِدِ المال فاطلبْ منه ما تشاء, تركه النبي عليه الصلاة والسلام .
وفي اليوم التالي مرّ به النبي عليه الصلاة والسلام ثانيةً، وقال: ما وراءك يا ثمامة؟ قال: كما قلت بالأمس: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تَعْفُ تَعْفُ عن شاكر، وإن تُرِدِ المال فخذ منه ما تشاء, تركه ومر به في اليوم الثالث، لكنه أمرهم أن يأتوا له بطعام من بيت النبي، أطعموه وأكرموه .
في اليوم الثالث، قال له: ما وراءك يا ثمامة؟ قال: إنْ تَعْفُ تَعْفُ عن شاكر، وإنْ تُرِدِ المال فاطلب منه ما تشاء, قال: أطلقوا سراحه .
أطلق أصحاب النبي سراح ثمامة، فخرج بعيداً، وعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في جمع من أصحابه، وقال: يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله، واللهِ يا محمد، ما كان وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، والآن ما وجه أحَبّ إليَّ من وجهك, وما كان دين أبغض إليّ من دينك، والآن ما دين أحَبّ إليّ من دينك, وما كان قوم أبغض إليّ من قومك، والآن ما قوم أَحبّ إليّ من قومك، ثم أسلم))
كان عليه الصلاة والسلام عنده قوة تأثير، عنده حبٌّ للناس، حبٌّ للإنسان، حيث لو نظر إلى عدوه اللَّدُود لَقَلَبَهُ إنسانًا آخر محباً .
أمّا هذا الذي جاء النبيَّ، وقال له: ائذن لي بالزنا، فقام له الصحابة ليقتلوه، وقاحة ما بعدها وقاحة، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ, قَالَ: ((إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ, وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ))
[أخرجه أحمد في مسنده عن أبي أمامة]
فأنت كمؤمن يجب أن تحب الإنسان، فلا تكن حقوديًّا، ولا تكن متجافِيًا، هذا العاصي إنسان زلّتْ قدمُه، وهو الآن بحاجة إليك، كن معه كالطبيب، وأشفق عليه، ولا تحقد عليه .
توغل الربيع بن زياد بجيشه المنتصر في أرض سجستان، فطفقت تتساقط الحصون تحت سنابك خيله، كما تتساقط أوراق الشجر تحت رياح الخريف، وهبَّ أهلُ القرى والمدن يستقبلونه مستأمنين خاضعين، قبل أن يشهر في وجوههم السيف، حتى بلغ مدينة زرنج عاصمة سجستان، فإذا بالعدو قد أعد لحربه العدة، وكَتَّبَ للقائه الكتائب، واستقدم لمواجهته النجدات، وعقد العزم على أن يذوده عن المدينة الكبيرة، وأن يوقف زحفه .
دارت بين الربيع وأعدائه رحى حرب طحون، لم يضن بها أيٌّ من الفريقين بما تطلبه من ضحايا، فلما بدرت أولُ بادرة من بوادر النصر للمسلمين، رأى مرزبان القوم المدعو (برويز) أن يسعى لمُصالحة الربيع، وهو ما تزال فيه بقية من قوة، فلعله يحظى لنفسه ولقومه بشروط أفضل، فبعث إلى الربيع بن زياد رسولاً من عنده، يسأله أن يضرب له موعداً للقائه ليفاوضه على الصلح، فأجابه إلى طلبه .
استطاع هذا الصحابي الجليل بما أوتي من إخلاص وشجاعة أن يفتح بلاد سجستان، فكان فاتحها، وخلَّد التاريخُ اسمَه فاتحًا .
لذلك ذاتَ مرةٍ باع مسلمٌ أرضه لإنسان غير مسلم، فسأل عالمًا، قال له: أيجوز أن أبيعها لغير مسلم؟ قال له العالم: اسأل الذي فتحها؟ يعني سيدنا خالدًا، كم بذل من دماء حتى فتحها؟ .
فالإنسان يبيع أرضًا، أو يبيع بيتًا لإنسان غير مسلم، فهذا نوع من أنواع الخيانة للمسلمين، وعلى المسلم أنْ يحافظ على هذه الأرض التي فُتحت بدماء المسلمين، وليعلمْ أنه سيقف يومًا بين يدي الله سبحانه، ويُسأَل عن تفريطه .
والحمد لله رب العالمين