ليلة مشاعرية
مشعل بن عبدالعزيز الفلاحي

هذه أول ليلة في رمضان 1431هـ ، وها أنا أقف فيها بقلبي ومشاعري وروحي وهي تذهب بي كل مكان ، ليلة تأخذ بالوجدان والمشاعر والروح وتهبني كل معنى ضائعاً من حياتي .. ها أنا على بوابة بيتي هذه اللحظة ، ليلة مختلفة في كل شيء ليلة تدق لحظاتها الروح ، وتُطرب دقائقها المشاعر ، وأجد في لحظتها كل معنى.. أخبرني أيها الليل ما الذي تغيّر فيك ؟ إنه موعدك من كل ليلة ، ولونك في كل ليلة ، وساعاتك في كل ليلة فما الجديد الذي تحمله إلى عيني فتراك جديداً في كل شيء ؟!

أما إن عيني هذه الساعة تقطر دمعاً ، وتسكب عبرات الحنين والأشواق ، وتذرف لحظات الحب واللقاء ، وهل ستجد عيني لحظة في عمرها كله كلحظة رمضان في أناقته وجدته وروحانيته؟! لله ما أروع هذه اللحظات التي يعيشها إنسان فيلقى بها رحمة الله تعالى !

أي نعمة هذه التي تُلبس قلبي أفراحه هذه اللحظة ؟ وأي معنى هذا الذي يطوف بالروح هذه اللحظة ؟ وأي وقت هذا الذي أجد عبقه ونسيمه البارد وروحه الزكية هذه اللحظة ؟ ولما لا تبكي عيني وقد سقتها اللحظة أمنيتها الكبرى ، وأروتها حتى الثمالة بلقاء من تحب ؟!

هذه قريتي الصغيرة يلفها ليل رمضان ، هذه بيوتها تُعلّق قناديلها في استقبال ضيفها الميمون هذه أبوابها تُفتح على مصراعيها لاستقبال المهنئين بحبيبها المنتظر .. هذه قريتي تستقبل أول ليلة في عرس حبيبها فتبدو عروساً بكراً في لحظات عريسها الوضيء رمضان ، فأي لحظة تسعها من الأفراح ؟

هؤلاء هم صغار الحي ، وأطفال القرية ، ولبنات المجتمع يُهيّج رمضان في قلوبهم الأفراح .. وهاهم هذه اللحظة في وسط القرية يعبرون عن فرحتهم ، ويكتبون بعض مشاهد الفرح بلقاء رمضان ، وما أذا أكتب عن ضحكهم وابتساماتهم وإشراق وجوههم وعبثهم في شوارع تلك القرية .. وقد أدركت وأنا أشاهدهم هذه اللحظة أنه ليس للفرح في حياة الصغار حد ، ولا للحظة مدى ، ولا للحب قانون ! وتنقلني اللحظة دون وعي لأيام زمان ، أيام الطفولة ، وتهيّج في قلبي ذكريات الصبا ! وها أنذا أستعيد كل لحظة عبث ، ولحظة هوى ، ولحظة طفولة في ساعتي هذه فتدمع عيني من جديد لتلك الذكريات الغابرة من حياتي .

ويمتد بي الليل وأنا في عميق تلك الذكريات ، وتجرني لحظات أنس الأطفال برمضان إلى معانٍ كبيرة على النفس ، عريضة في الوجدان ، وأجد لكل خطوة ينقلها الصغار في شوارع قريتهم خطوة تنقلني لأيام مضت ، وأزمان تصرمت في حياة إنسان .

وأحاول جاهداً في لي عنق هذه الذكريات من الفضاء الرحب ، فضاء الصبية ، إلى فضاء البيت والأسرة ، وأرى في هذه اللحظة أسرتي ، وأرى في فناء البيت ابني الصغير يجري في فناء بيته ، ويكتب في مدارج أسرته روحي من جديد ، وهاهو يضحك مسروراً ، ويجري مغبوطاً ويلهث فرحاً سعيداً يشعر أن جديداً في الأرض وهو لا يدري عن معناه .. وهكذا هي اللحظات الممتعة تكتب معناها حتى على الصغار ، وتهبهم بعض معانيها ، وتجود عليهم بالفرح والألق في لحظاتها .. وها أنذا أشعر معه بكل لحظة فرح ، وأجد في لحظات سروره كل معنى للحياة وأراه يجري في فناء بيته فتجري السعادة في كل شريان من جسدي ، ويعود الحب يتوهج في قلبي من جديد .. وتدثرني اللحظة بمتعها وأشواقها ولحظاتها وتكتب كأني صغيراً أخطو في الأرض من جديد

ويمتد بي النظر في فضاء البيت فأرى في الفناء أمي لا تسعها الفرحة بلقيا رمضان ، تهبه بعض وجدانها ، وتهبني معه بعض لحظات أفراحها ، هاهي في فناء البيت ترفل في ثوب العافية وتعيش لحظاتها كأجمل ما تكون .. هاهي في حنانها وجديتها وحدبها على أبنائها كما كانت ، كنت أحسب أن الزمن يكبر فيسطو على بعض هذه المعاني فيسرقها منها وهي لا تشعر فأدركت أن الزمن يكبر فيكبر معه كل جميل .. والله ما فقدت شيئاً من معاني الحب ، بل تعرفت عليه في صور جديدة ممتعة .. وها أنذا أفيق من رحلة التأمل في رحلة هذه الأم وأنا أراها تبادلنا الأفراح بلقاء رمضان وتشعر بالغبطة فيه كغبطة الصغار ، وتجد من معانيه ما أعرف في وجهها من أنس ، وما ألمح في قلبها من زكاء .

وتسوقني اللحظة إلى أبي وهو يستقبل الفرحة ذاتها ، ويسعد باللحظة وكأنها ميلاد إنسان ، ويمضي يردد الحمد لربه والشكر لخالقه أن مد في عمره حتى عاش لحظته ، وها أنا أراه يبكي من فرط النعمة ، ومن روح اللحظة ، وهو كذلك كثيراً ما تدعوه هذه اللحظات للبكاء لا يملك أن يستعصي دمعه في حضور هذه اللحظات ، وما تزال بي هذه الذكريات فتعرض لي كل فرد في أسرتي أراهم وأنا مغبوط بجمع الشمل ، وألفة القلب .

وتعيدني هذه اللحظات إلى نفسي وأتذكّر رحلة عام من حياتي فأجد فيه بحمد الله تعالى رحلة المشروع وقد استوثقت من صاحبها ، وبنت فيه رحلة إنسان يشعر لأول وهلة أنه جزء من بناء أمته ، ولبنة من تاريخها العريض ، يتأمل في المسافة الممتدة بين العامين فيجد فيها روعة الهدف ، وأثره في حياة إنسان ، ويجد فيها تجربته خلال عام في مشروع حياته ، ويجد في رحلة المشروع مشروعه \" في ظلال السيرة النبوية \" وقد صار له بضعة أشهر ، وصار يخطو في عالم الحياة ، ويجد فيها مشروعه \" مشروع العمر \" وقد ولد صغيراً وقريباً يمشي بين الناس ، ويجد فيها مشروعه الكبير ، مشروع \" رحلة مع القرآن \" وما زال حبيس البيت يتعهده والده بالتربية والعناية والرعاية وقريبا يرى النور بإذن الله تعالى ، وبين طيات تلك المشاريع مشاعر إنسان ، وعلمتني الحياة ، ورحلة إنسان ، وبداية الفقيه ، وكفاية الفقيه ، وأفكاري التي عشت بها في حياتي ، ومن معين القرآن ، ورسالة الدكتوراة .. ومشاريع كبرى ضخمة تنتظر أيامها القادمة ـــ إن فسح الله في العمر ـــ لتلد من جديد ، وتخطو كغيرها في رحلة الحياة الكبرى في حياة صاحبها .. فكيف لي بشكر من هيأ هذه النعمة ، ويسر لي هذه الأوقات ، ومد لي في العمر وأعطاني من نعمه وفضله وكرمه ما لو عشت ساجداً بين يديه ما أوفيته بعض حقه ؟! أما إني ما كنت لأستدعي كل ذلك لولا هذه الليلة المشاعرية في رمضان ، أول ليلة منه ، وأجمل ليلة فيه ، وأروع لحظة في حياتي .. وهكذا هي اللحظات تهب للعاشقين من لذاتها وأفراحها فيتحدثون بكل ما في القلب ليقرأه كل من أراد في لحظته التي كُتب فيها .. وما أنا هنا إلا رسول أشواقي .

29/8/1431هـ