هناك حقيقة إجتماعية تقول: "المرء توّاق إلى ما لم يَنَل".

فما دمتَ قد حصلت على الشيء، فإنّ جذوة الحصول عليه تكون

قد انطفأت، ولكي تستمر الحياة وتتجدّد لابدّ من البحث عن أشياء

لم نحصل عليها، وهكذا فالحياة هي رحلة البحث عن (الجديد)

و(الممنوع) وما قد يتصوّر البعض أنّه (مستحيل) وهو ممكن إذا

ذلّلته الإرادة الصادقة والجهد العنيد.

وحينما قال الشاعر التركي (ناظم حكمت)

أنّ أجمل الأيّام التي لم نعشها بعد، فإنّه كان ينظر إلى المسألة

من هذه الزاوية وبهذا المنظار.

وأمّا البحث عن (الممنوع)، فليس هو البحث عن المحرّم شرعاً

وقانوناً وعُرْفاً، فهو ليس ممّا يجب البحث عنه طالما أنّ الله

حرّمه لعلمه بضرره، وأنّ القانون أوقفه لتقديره أنّه مُسيء،

وأنّ العُرف استنكره لتجربته معه أنّه فاسد، بل هو السّعي لكسر

الحواجز التي تمنع من الوصول إلى المرتبة الأعلى،

وذلك هو قول الشاعر أبو العتاهية:

رأيتُ النّفسَ تحقرُ ما لديها **** وتطلبُ كُلَّ ممتنعٍ عليها

وبالتالي فكلّ ممنوع مرغوب أو متبوع، أو أنّ ابن آدم حريص

عليه، هو في الفهم الصحيح (الممتنع) في مقابل (الممكن)..

أي الشيء الذي يمكن الحصول عليه بسهولة في مقابل الشيء

الذي يحتاج إلى جهود مضاعفة لكسبه أو نيله.

إنّ للمستقبل شروطاً لابدّ من تحقيقها لمَن يريد

أن يدخل إلى رحابه، وهي: (الأمل) و(الإرادة) و(الكَدْح).

المستقبل .. أمل ..

لا يمكنك أن تفكِّر بالمستقبل دون أن تنظر إليه بعين التفاؤل والأمل،

فالترابط بين الإثنين وثيق، ذلك أنّ الإنسان بطبيعته يحاول أن

يخرج من الإطار الضيِّق لحياته ليتّجه نحو الأفق الواسع الرَّحب،

حتّى ولو كان ذلك بالتحليق على بساط الأماني وأجنحة الخيال.

فحتّى السجين الذي لا يملك حرِّيته، والذي ينظر فيجد الأبواب

والمنافذ من حوله مغلقة، وإذا حدّق في مصيره رآه مجهولاً،

أو مخيفاً مرعباً، لكنّه رغم ذلك كلّه لا يعدم نفحة الأمل.

يقول سجين كان يعيش في ظروف خانقة لا توحي إلّا باليأس

والتشاؤم والانغلاق التام لدرجة أنّ زملاءه السجناء كانوا يتمنّون

أن يكون الحكم عليهم بالسجن المؤبّد، لأنّ الحكم الغالب حينئذ

هو الإعدام خاطبهم بروح ملؤها التفاؤل والثقة برحمة الله تعالى،

فقال: لماذا تطلبون من الله ذلك؟ لماذا لا تطلبون الفرج؟! أنا حتّى

لو وضعوا الحبل في عنقي فإنّني أعتقد بقدرة الله على تغيير

الوضع في أيّة لحظة!!

الأمل والمستقبل إذاً متلازمان، كحصانين في عربة واحدة، فلا

مستقبل بلا أمل يحدوه ويقود إليه، ويخفف وطأة المعاناة في بلوغه.

لكنّنا في العادة نقلق على المستقبل، أما جرّبت ذلك في حياتك الدراسية

وفي عملك وفي تفكيرك بمشاريع الإعمار والإنتاج والزواج وغيرها؟

وهذا القلق إيجابيّ لأنّه هو الذي يُحرِّك الهمم لخوض معاناة الوصول

إلى المستقبل، إنّه قلق عاناهُ كلّ المصلحين والمبدعين والأنبياء

والمرسلين، إنّه القلق الفعّال.. القلق المُبدع الذي يُحفِّز..

أما جرّبت أنّ طالب الثانوية قلقٌ على مستقبله الدراسيّ

في الجامعة التي ستحتضن آماله وتطلّعاته.. والجامعيّ قلقٌ

على مستقبله العملي والوظيفي، والشاب أو الشابّة قلقان

على شريك الحياة وعلى بيت الزوجية، والأبوان قلقان على

مستقبل أطفالهما، والقائد الحريص المخلص الغيور قلق

على مستقبل بلاده وأمّته... وهكذا..

فهل هذا النوع من القلق مخيف؟

هل هو قلق من النوع الذي يكون كالعقبة في الطريق؟

كلّا.. إنّه قلق محبّب أو مستحب، أو لنقل إنّه قلق لا خوف منه،

فهو قلق إيجابي يدفع إلى النشاط والحيويّة والسعي لتحقيق

الأهداف المرجوّة. إنّه قلق البحث عمّا يرفع من شأن الذات

وينمِّي الشخصيّة، فإنّ "قيمةُ كلّ امرئ ما يُحسِنه".

حتّى جهاد الإنسان المؤمن وتضحياته من أجل غيره،

أو من أجل صناعة مستقبل أفضل لأمّته يصبّ في النهاية

في مجرى طمأنينته النفسية.

ألا ترى إلى والديك يتفانيان ويضحِّيان ويبذلان كلّ ما في وسعهما،

بل ويسخِّران حاضرهما من أجل مستقبلك ومستقبل إخوانك وأخواتك؟

وغاية السعادة بالنسبة لهما أن تكونوا جميعاً سعداء،

فإذا كانا لم يوفّقا لتحقيق بعض آمالهما في المستقبل،

فأنتم مستقبلهما الذي يريان فيه وجه سعادتهما.

إذاً، هو قلق الأمل..

وقلق النظر بعين الرَّجاء إلى المستقبل الأكمل والأجمل.

ذلك أنّ فقدان الأمل يعني فقدان الحياة لكلّ ما يطرّيها ويلوّنها

وينعشها ويخفِّف من وطأة المعاناة فيها.

تقول مصابة بسرطان العظام: "سأعيش في كلّ يوم يمنحه الله

لي وكأنّه يومي الأخير في هذه الحياة، وإلى يوم مماتي

سأعيش حياتي حتّى الامتلاء"!

إنّها لا تنظر إلى السرطان – هذا المرض الخبيث – كمعولٍ

يهدم بناء حياتها، بل تقاومه بما حفلت به نفسها من الإيمان

أنّ كلّ يوم حدث جديد، ومَن يدري فلعلّ الله – الذي بيده كلّ شيء –

يغيِّر أموراً كثيرة لم تكن في الحسبان: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأنٍ)

(الرّحمن/ 29).

جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له:

لقد أمضيت ليلة ليلاء (ثقيلة مؤلمة قاسية) يا رسول الله.

فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: الحمد لله، فتعجّب

الرجل قائلاً: أقول ليلة ليلاء وتقول الحمد لله!

فقال له صلى الله عليه وسلم: الحمد لله لأنّها انقضت!!

إنّ (الأمل) لا يعني (أمنية فارغة) أو (حلم يقظة)

أو شروداً في الخيال والأوهام، هو (ثقة) أنّ ما نحلُم به يمكن

أن يرى النور، سواء من خلال وعد الله الصادق فيه،

أو من خلال سعينا الجادّ لتحقيقه، أو من إجتماع الاثنين معاً.

إنّ الأماني التي تحقّقت، والآمال التي أُدركت،

هي تلك التي لم تبق في دائرة التمنِّي أو الخيال، بل حرّكت

العزم الحاضر لاقتناص المستقبل الواعد..

يقول الشاعر:

لا تسعَ للأمْرِ حتّى تستعدّ له **** سعيٌ بلا عُدّةٍ قوسٌ بلا وَترِ(1)

لم ينج نوحٌ ولم يَغرق مُكذِّبهُ **** حتّى بنى الفُلكَ بالألواح والدُّسُرِ(2)

يتبع ..~