فتح بلجراد..
صفحة عثمانية مشرقة




كانت مدينة بلجراد التابعة للإمبراطورية المجرية (في القرن العاشر الهجري) هي مفتاح أوربا الوسطى، وكانت قلعتها الشهيرة من أحصن القلاع في أوربا، وأشدها منعة، وكانت تبعد عن الأراضي العثمانية حوالي 20 كيلومترا فقط، وكان المجريون يكنون الكثير من العداء للعثمانيين، ويسعون لطردهم من أوربا بأسرها ومن منطقة البلقان على وجه الخصوص، ولعل هذا ما جعل العثمانيين يوجهون جهدهم لفتح بلجراد والقضاء على خطرها، وإزالتها كعقبة تعترض طريقهم نحو الانسياب إلى قلب أوربا وفتح فيينا وبودابست.


محاولات عثمانية لفتح بلجراد


حاول العثمانيون فتح بلجراد 3 مرات، ولم يتمكنوا من ذلك إلا في المرة الرابعة بعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان على محاولتهم الأولى، ويذكر التاريخ أن المحاولة الأولى لفتح بلجراد جرت في عهد السلطان العثماني مراد الثاني سنة (845 هـ= 1441م)، ففي عام (843 هـ= 1439م) أعلن البابا "أوجينيوس الرابع" حملة صليبية ضد الأتراك لطردهم من أوربا، وشكل النصارى الكاثوليك كتلة مسيحية كبيرة لقتال العثمانيين، وكان هونيادي جونوس Jonos Hunydi ابن قائد المجر -الذي كان من أكبر العسكريين في عصره- كاثوليكيا متعصبا، هدفه الوحيد إخراج الأتراك من البلقان وأوربا، فقام بدراسة تكتيك الحرب العثمانية بعناية شديدة واستطاع أن يقف على أهم ما يميز العسكرية العثمانية من حيث نقاط الضعف والقوة، ونتيجة لهذه الخبرة العسكرية الواسعة استطاع أن ينتصر على عدة جيوش عثمانية؛ وهو ما اضطر السلطان العثماني مراد الثاني أن يسير بنفسه لفتح بلجراد، بعدما لم يتمكن القائد العثماني "أفرنوس أوغلو علي بك" من فتحها بعد حصار استمر 6 أشهر.

وشاءت الأقدار أن يتوفى ابن السلطان مراد الثاني وولي عهده وهو في الثامنة عشرة من عمره؛ وهو ما أصاب السلطان بصدمة كبيرة، جعلته يجري مفاوضات للصلح مع المجر في هذه الظروف الصعبة في (مايو 1444م) وتم إبرام معاهدة سيديان Segedin في (20 من ربيع الآخر 851 هـ= 12 يوليو 1447م).
أما المحاولة الثانية لفتحها فكانت في عهد السلطان محمد الفاتح، عندما قام بحملته الهمايونية (السلطانية) السادسة، والتي تسمى حملة بلاد الصرب سنة (860 هـ= 1456م) وكان جيشه يتكون من 150 ألف مقاتل، وحوالي 300 مدفع، و200 قطعة أسطول، ووصل الفاتح إلى قلعة بلجراد وحاصرها حصارا شديدا، ولم يتمكن من فتحها، وأصيب الفاتح أثناء الحصار، وتم رفع الحصار.
أما المحاولة الثالثة فجرت في عهد السلطان بايزيد الثاني، عندما قام بحملته الهمايونية الثالثة، وكان الهدف بلجراد، فحاصرها سنة (897 هـ= 1492م) لكنه لم يتمكن من فتحها.



القانوني وبلجراد.. السياسة قبل القتال

صعد السلطان سليمان بن سليم الشهير بـ"سليمان القانوني" إلى الحكم بعد وفاة والده، ولم تمض إلا 8 أشهر على توليه الحكم حتى قام بحملته الهمايونية الأولى والتي أراد أن تكون وجهتها بلجراد، وأن تكون حملة تبث الرهبة في قلوب الأوربيين المعادين للدولة العثمانية.
وبنى القانوني موقفه من بلجراد وتصميمه على فتحها على عدة اعتبارات سياسية وإستراتيجية؛ فالمملكة المجرية هي الخصم الأكبر للعثمانيين في أوربا الشرقية بعد زوال مملكتي الصرب والبلغار وزوال الإمبراطورية البيزنطية، كما أن المملكة المجرية تمثل سدا منيعا دون انتشار الإسلام في أوربا الشرقية خاصة في عهد "هونيادي" وابنه "ماتياس كورفين" اللذين تبنيا مشروعا صليبيا لطرد العثمانيين من أوربا.
ورأى القانوني أن الإمبراطورين المجريين "لادسلاس جاجلون" و"لويس الثاني" لم يستغلا عجز الدولة العثمانية أثناء قتال الصفويين والمماليك للتهيؤ لحرب العثمانيين؛ وهو ما جعل المجر في حالة ضعف نسبي مقارنة بالعثمانية.
كانت العلاقات بين الجانبين تنظمها معاهدة موقعة بينهما، لكنها لم تمنع من المناوشات بين العثمانيين والمجريين على الحدود، وهو ما تسبب في نوع من الإجهاد النسبي للمجريين.
ومن الناحية الأخرى استطاع "القانوني" بحنكته السياسية الكبيرة أن يحيد القوى الأوربية عن التدخل لإنقاذ بلجراد؛ فالبندقية كانت تناقش في ذلك الوقت عقد معاهدة تجارية مع العثمانيين، ولم يكن من مصلحتها أن تدخل في حرب ضد العثمانية تأييدا للمجريين. أما الفاتيكان وملك بولندا فلم يجدا مبررا للتدخل لمساندة بلجراد، كما أن أوربا كانت على وشك حالة من الانقسام الديني بسبب دعوة "مارتن لوثر" الدينية الجديدة التي تزامنت مع بدايات تحرك السلطان القانوني نحو بلجراد. والفرنسيون نصحوا الملك المجري "لويس" بإبرام هدنة مع القانوني كسبا للوقت، أما الألمان فكانوا مشغولين عن مساندة بلجراد ببعض العوامل الداخلية، ومن ثم تلكأت أوربا عن نصرة بلجراد.
كانت الظروف الداخلية والأوربية مهيأة لأن يقوم السلطان القانوني بفتح بلجراد، وتحقيق ما عجز ثلاثة من أكابر السلاطين العثمانيين عن تحقيقه؛ ومنهم محمد الفاتح، وانتظر القانوني الذريعة التي تمكنه من شن الحرب على المجريين، وأسعفه القدر عندما قام المجريون بقتل الرسول الذي أرسلته الدولة العثمانية إلى المجر ليطالبهم بدفع الجزية السنوية المقترحة من سليمان في مقابل تجديد الصلح معهم، ووجد في تلك الجريمة سببا كافيا لإعلان الحرب على مملكة المجر.



الفتح وقائع ونتائج

أخذ سليمان في الترتيب لفتح بلجراد طوال شتاء (926 هـ= 1520م)، فجمع قوات النخبة العثمانية المسماة "السباهية" من عدد من الولايات، وزاد في عدد القوات النظامية، وأصدر الأوامر لأصحاب الصنائع في الجهات المختلفة في الطريق إلى بلجراد بالاستعداد وأن ينفذوا ما يطلب منهم، وأمر بتخزين المؤن والحيوانات على طول الطريق إلى بلجراد، وتم تعهد الطرق والجسور على طول الطريق بالإصلاح والترميم.
وأصر القانوني أن يكون خروجه يوما مشهودا يشهده سفراء الدول الأجنبية في الدولة العثمانية، وكان يهدف من وراء ذلك إلى القيام بحرب نفسية ضد المجر، وحرب نفسية أخرى ضد الأوربيين حتى لا يفكروا في تقديم يد العون لبلجراد، لعلمه أن هؤلاء السفراء سيرسلون إلى دولهم بحجم هذه الاستعدادات، ومن ثم فإن ما قام به كان استعراضا مدروسا للقوة.
وكان في مقدمة هذا الجيش البديع التنسيق، 6 آلاف من فرسان الحرس الإمبراطوري بأزيائهم الرائعة، وخيولهم الأصيلة، وأسلحتهم الحديثة، وكان في الحملة 3 آلاف جمل محملة بالذخيرة والبارود، و30 ألف جمل محملة بالمهمات، وسفينة محملة بالخيول كانت تسير في نهر ألطونة (الدانوب)، و50 سفينة حربية، و10 آلاف عجلة محملة بالطحين والشعير، وعدد من الأفيال المدرعة، والمدافع.
وكان الجيش يسير وفق نظام دقيق محكم، فكان الجنود يرحلون من معسكر إلى آخر مع أول ضوء من النهار، ثم يحطون رحالهم مع الظهيرة ليستريحوا، في مكان تم اختياره من قبل، وتم تجهيزه قبل أن ينزل فيه الجيش، فكان النظام هو السمة الرئيسية في التحرك، أما السمة الثانية فكانت العدل، فكان الجيش يتحمل تكاليف كل عطب تسبب فيه أثناء سيره إذا لم يقم بإصلاحه، وكان كل شيء يُشترى لا بد أن يدفع ثمنه في الحال، وكان كل من يقوم بأعمال اللصوصية يُعدم في الحال.
وفي أثناء سير الجيش الهمايوني لحق به الوزير فرحات باشا ومعه عدة آلاف من الإبل محملة بالذخيرة والمدافع، والقمح والشعير، أما الصدر الأعظم بير باشا فسبق جيش القانوني وعسكر تحت أسوار قلعة بلجراد الحصينة، وعندما جاء سليمان وجنوده نصبوا المدافع فوق الجزيرة في ملتقى نهر الدانوب، وبدأت المدافع تقصف القلعة بدون انقطاع حسب الخطة الموضوعة، وتوالت الهجمات تلو الهجمات طيلة 3 أسابيع، لكنها كانت دون جدوى.
وفي هذه الأثناء قدم أحد الأوربيين نصيحة للقانوني بأن ينسف أكبر برج في التحصينات في القلعة لأن انهياره سوف يؤدي إلى انهيار معنويات المدافعين عن القلعة.
وبالفعل تم نسف البرج وانهارت معنويات المجريين والصرب المدافعين عن القلعة رغم ما أبدوه من بسالة في القتال، ثم ضرب القانوني ضربته الثانية للتفريق بين الصرب والمجريين، حيث وعد الصرب بالحفاظ على حياتهم إذا تركوا المجريين في القتال، واستطاعت هذه الخطة أن تبقي المجريين وحدهم في الميدان، فقتل أغلبهم وفتحت القلعة في (4 من رمضان 927هـ = 8 من أغسطس 1521م) أما بلجراد المدينة فتم فتحها في (25 من رمضان 927هـ = 29 أغسطس 1521م)، وسرعان ما انتشرت أخبار الانتصار في العالم، وأرسل الأوربيون في البندقية وروسيا وفودا للتهنئة بالفتح.
وقد تسبب فتح بلجراد في وضع مأساوي لمملكة المجر، فقد توفي ملكها لويس بعد سماع نبأ سقوط بلجراد حصن المسيحية في أوربا الشرقية، ولم تلبث هذه المملكة أن انهارت على يد القانوني بعد معركة صحراء موهاكس الشهيرة، وتدفق العثمانيون على أوربا كالسيل الجارف الذي لا تزيده الأمطار إلا قوة وعنفوانا.
وبقي سليمان في المدينة 19 يوما، ثم تركها بعدما ترك فيها حامية من 3 آلاف جندي و200 مدفع، وعاد من حملته بعد حوالي 5 أشهر.

================================================