معركة حطين


هيأت الأقدار لصلاح الدين الأيوبي أن يسطع في القرن السادس الهجري سطوعا باهرًا، وأن تبرز مواهبه وملكاته على النحو الذي يثير الإعجاب والتقدير، وأن يتبوأ بأعماله العظيمة مكانا بارزًا بين قادة العالم، وصانعي التاريخ.
وكانت وفاة نور الدين محمود سنة (569هـ = 1174م) نقطة تحوّل في حياة صلاح الدين؛ إذ أصبحت الوحدة الإسلامية التي بناها نور الدين محمود هذا البطل العظيم- معرّضة للضياع، ولم يكن هناك من يملأ الفراغ الذي خلا بوفاته، فتقدم صلاح الدين ليكمل المسيرة، ويقوّي البناء، ويعيد الوحدة، وكان الطريق شاقا لتحقيق هذا الهدف وإعادة الأمل.
بناء الوحدة الإسلامية
توفي نور الدين محمود، وترك ولدا صغيرا لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، فشب نزاع بين الأمراء على من يقوم بالوصاية على الأمير الصغير، وانفرط عقد الدولة النورية، وكان صلاح الدين في مصر يراقب ما يحدث في الشام عن كثب، ينتظر الفرصة المواتية لتوحيد الجبهة الإسلامية، ولم يطل انتظاره حيث جاءته دعوة من أمراء دمشق لتسلّمها، فهب إليها على الفور، واستقبله أهلها استقبالا حسنا، وتسلم المدينة وقلعتها في سنة (570هـ = 1174م) ثم اتجه إلى حمص فاستولى عليها، ثم عرج على حماة فضمها أيضا إلى دولته، وأصبح على مشارف حلب نفسها، وحاول أن يفتحها لكنها استعصت عليه، بعد أن استنجد قادتها بالصليبيين؛ فتركها وفي أعماقه أنه سيأتي إليها مرة أخرى، ولكن تأخرت عودته ثماني سنوات، حتى تمكن من فتحها وضمها في (18 من صفر 579هـ = 12 من يونيه 1183م) وكان استيلاء صلاح الدين على حلب وما حولها خطوة هائلة في بناء الجبهة الإسلامية المتحدة، التي امتدت تحت زعامته من جبال طوروس شمالا حتى بلاد النوبة جنوبا.
لم يعد أمام صلاح الدين لاستكمال الوحدة سوى مدينة الموصل، فحاصرها أكثر من مرة، إلى أن تم الصلح، بعد أن سعى إليه والي الموصل "عز الدين مسعود"، قبل أن يكون تابعا لصلاح الدين، واتفق على ذلك في صفر سنة (582هـ = 1186م).



جبهة الصليبيين
في أثناء الفترة التي عمل فيها صلاح الدين على إحياء الدولة الإسلامية المتحدة؛ استعدادا لخطة الجهاد التي رسمها لطرد الصليبيين، ارتبط بعقد هدنة مع هؤلاء الصليبيين مدتها أربع سنوات؛ حتى يتفرغ تماما لتنظيم دولته وترتيب أوضاعها الداخلية.
غير أن أرناط حاكم الكرك شاء بحماقته ألا يترك الصليبيين ينعمون بتلك الهدنة؛ حيث أقدم على عمل طائش نقض الهدنة وأشعل الحرب، فاستولى على قافلة تجارية متجهة من مصر إلى دمشق، وأسر حاميتها ورجالها، وألقى بهم أسرى في حصن الكرك.
حاول صلاح الدين أن يتذرع بالصبر فبعث إلى أرناط مقبحًا فعله، وتهدده إذا لم يرد أموال القافلة ويطلق سراح الأسرى. وبدلا من أن يستجيب أرناط أساء الرد، واغتر بقوته، ورد على رسل صلاح الدين بقوله: "قولوا لمحمد يخلصكم".
ولما حاول ملك بيت المقدس أن يتدارك الموقف أصرّ أرناط على رأيه، ورفض إعادة أموال القافلة وإطلاق الأسرى، فزاد الأمر تعقيدا، ولم يبق أمام صلاح الدين سوى الحرب والقصاص.



مقدمات حطين
عبّأ صلاح الدين قواه واستعد لمنازلة الصليبيين وخوض معركة الجهاد الكبرى التي ظل يعد لها عشر سنوات منتظرا الفرصة المواتية لإقدامه على مثل هذا العمل، ولم تكن سياسة أرناط الرعناء سوى سبب ظاهري لإشعال حماس صلاح الدين، وإعلان الحرب على الصليبيين.
غادرت قوات صلاح الدين التي تجمعت من مصر وحلب والجزيرة وديار بكر مدينة دمشق في المحرم (583هـ = مارس 1187م) واتجهت إلى حصن الكرك فحاصرته ودمرت زروعه، ثم اتجهت إلى الشوبك، ففعلت به مثل ذلك، ثم قصدت بانياس بالقرب من طبرية لمراقبة الموقف.
وفي أثناء ذلك تجمعت القوات الصليبية تحت قيادة ملك بيت المقدس في مدينة صفورية، وانضمت إليها قوات ريموند الثالث أمير طرابلس، ناقضا الهدنة التي كانت تربطه بصلاح الدين، مفضلا مناصرة قومه، على الرغم من الخصومة المتأججة بينه وبين ملك بيت المقدس.
كان صلاح الدين يرغب في إجبار الصليبيين على المسير إليه، ليلقاهم وهم متعبون في الوقت الذي يكون هو فيه مدخرًا قواه، وجهد رجاله، ولم يكن من وسيلة لتحقيق هذا سوى مهاجمة طبرية، حيث كانت تحتمي بقلعتها زوجة ريموند الثالث، فثارت ثائرة الصليبيين وعقدوا مجلسًا لبحث الأمر، وافترق الحاضرون إلى فريقين: أحدهما يرى ضرورة الزحف إلى طبرية لضرب صلاح الدين، على حين يرى الفريق الآخر خطورة هذا العمل لصعوبة الطريق وقلة الماء، وكان يتزعم هذا الرأي ريموند الثالث الذي كانت زوجته تحت الحصار، لكن أرناط اتهم ريموند بالجبن والخوف من لقاء المسلمين، وحمل الملك على الاقتناع بضرورة الزحف على طبرية.


موقعة حطين
بدأت القوات الصليبية الزحف في ظروف بالغة الصعوبة في (21 من ربيع الآخر 583هـ = 1 من يوليو 1187م) تلفح وجوهها حرارة الشمس، وتعاني قلة الماء ووعورة الطريق الذي يبلغ طوله نحو 27 كيلومترا، في الوقت الذي كان ينعم فيه صلاح الدين وجنوده بالماء الوفير والظل المديد، مدخرين قواهم لساعة الفصل، وعندما سمع صلاح الدين بشروع الصليبيين في الزحف، تقدم بجنده نحو تسعة كيلومترات، ورابط غربي طبرية عند قرية حطين.
أدرك الصليبيون سطح جبل طبرية المشرف على سهل حطين في (23 من ربيع الآخر 583هـ = 3 من يوليو 1187م) وهي منطقة على شكل هضبة ترتفع عن سطح البحر أكثر من 300 متر، ولها قمتان تشبهان القرنين، وهو ما جعل العرب يطلقون عليها اسم "قرون حطين".
وقد حرص صلاح الدين على أن يحول بين الصليبيين والوصول إلى الماء في الوقت الذي اشتد فيه ظمؤهم، كما أشعل المسلمون النار في الأعشاب والأشواك التي تغطي الهضبة، وكانت الريح على الصليبيين فحملت حر النار والدخان إليهم، فقضى الصليبيون ليلة سيئة يعانون العطش والإنهاك، وهم يسمعون تكبيرات المسلمين وتهليلهم الذي يقطع سكون الليل، ويهز أرجاء المكان، ويثير الفزع في قلوبهم.



صباح المعركة
وعندما أشرقت شمس يوم السبت الموافق (24 من ربيع الآخر 583هـ = 4 من يوليو 1187م) اكتشف الصليبيون أن صلاح الدين استغل ستر الليل ليضرب نطاقا حولهم، وبدأ صلاح الدين هجومه الكاسح، وعملت سيوف جنوده في الصليبيين، فاختلت صفوفهم، وحاولت البقية الباقية أن تحتمي بجبل حطين، فأحاط بهم المسلمون، وكلما تراجعوا إلى قمة الجبل، شدد المسلمون عليهم، حتى بقي منهم ملك بيت المقدس ومعه مائة وخمسون من الفرسان، فسيق إلى خيمة صلاح الدين، ومعه أرناط صاحب حصن الكرك وغيره من أكابر الصليبيين، فاستقبلهم صلاح الدين أحسن استقبال، وأمر لهم بالماء المثلّج، ولم يعط أرناط، فلما شرب ملك بيت المقدس أعطى ما تبقّى منه إلى أرناط، فغضب صلاح الدين وقال: "إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني"، ثم كلمه وذكّره بجرائمه وقرّعه بذنوبه، ثم قام إليه فضرب عنقه، وقال: "كنت نذرت مرتين أن أقتله إن ظفرت به: إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة، والأخرى لما نهب القافلة واستولى عليها غدرًا".


نتائج حطين
لم تكن هزيمة الصليبين في حطين هزيمة طبيعية، وإنما كانت كارثة حلت بهم؛ حيث فقدوا زهرة فرسانهم، وقُتلت منهم أعداد هائلة، ووقع في الأسر مثلها، حتى قيل: إن من شاهد القتلى قال: ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال: ما هناك قتيل.
وغدت فلسطين عقب حطين في متناول قبضة صلاح الدين، فشرع يفتح البلاد والمدن والثغور الصليبية واحدة بعد الأخرى، حتى توج جهوده بتحرير بيت المقدس في (27 من رجب 583هـ = 12 من أكتوبر 1187م) ولهذا الفتح العظيم حديث آخر.