اواصل عرض تفاسير لقصار السور، فبعد تفسير سورة الفلق هذه سورة الناس التي تليها مباشرة في ترتيب المصحف وهي آخر سورة فيه، تسمى السورتان معا بالمعوذتين وهما من أكثر السور حفظا لدى المسلمين بعد سورة الفاتحة...
اخترت اليوم تفسيرا لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي وهو عبارة عن محاضرة، وقد قمت بالتصرف فيها، لكن إن كان لدى القارئ متسع من الوقت فمن الأفضل أن يقرأ تفسير فضيلة الشيخ بكامله لأنه مليء بالفوائد العلمية...




تفسير سورة الناس:
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الإخوة المؤمنون، سورة اليوم هي سورة الناس، وهي آخر سورة في كتاب الله، وسورة الناس وسورة الفلق هما المُعَوّذتان اللتان حضّ النبي صلى الله عليه وسلّم على قِراءَتِهما مِراراً وتَكْراراً.

وفي الدرس الماضي، في سورة الفلق تَوَجَّهَتْ الآيات إلى أنَّ الإنسان إذا خاف عَدُوًّا، وخطراً قريباً، وشَبَحَ مُصيبةٍ، وأشْرار الناس فَلْيَسْتَعِذ بِرَبِّ الفلق، والفلق هو الكون، ويُمْكِنُ أنْ تُوَجَّه آيات اليوم توْجيهاً آخرَ إضافَةً إلى ما تحْتَمِلُهُ أيْضاً من تَوْجيهات السورة السابقة.

فالنبي صلى الله عليه وسلَّم والكمال الذي ظَهَر منه؛ وعَقْلُهُ الراجح، وحِلْمُهُ الذي لا حُدود له، وشَجاَعَتُه قال: أنا النبي لا كذب، أنا النبي لا كذِب، أنا ابن عبد المطَلِّب، ورأفَتُهُ ورحْمَتُهُ، ورِفْقُهُ بالحيوان، عطْفُهُ على الإنسان، ورجاحَةُ تفْكيره، كيف كان أباً ناجِحاً، وقائِداً ناجِحاً، وسِياسِياً مُحَنَّكاً، وأخاً كبيراً للمؤمنين، كيف جمع هذه الصِّفات من الرحمة إلى العِلْم إلى الحِكْمة والحِلم، والتواضع والفِطْنة والذكاء، إلى قُوَّة الحدْس، وإلى إشْراق النفْس، وإلى دِقَّةِ النظْر، ورجاحة الرأيْ، حتى إنَّ الله سبحانه وتعالى وصَفَهُ وصْفاً ينْفرِدُ به، قال تعالى : "وإنك لعلى خلق عظيم"[ القلم : الآية 4 ]
ولم يُقْسم الله سبحانه وتعالى بِعُمُرِ نَبِيٍّ إلا بعمره صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون"[ الحجر : الآية 72 ]

ولم يُخاطب النبي عليه الصلاة والسلام إلا بِقَوْله: يا أيها النبي، ويا أيها الرسول، فَهُناك دلائل كُبْرى في كتاب الله تُبَيِّنُ عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد يسأل سائِل: من أين جاءَت هذه العَظَمَة ؟ ومن أين جاء هذا الخُلُق العظيم ؟ ومن أين جاء هذا الحِلْمُ والمروءة والرحمة والحِكمة والتواضع ؟ فكان الجواب: قال تعالى : "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)"[ الناس : الآية 1 ]

أنا كذلك لأنَّني عُذْتُ بِرَبِّ الناس، فهذا الخُلُقُ العظيم وهذه النفْسُ المُشْرِقَة والعَقْلُ الراجح والصِّفات النامِيَة إنما اشْتَقَّها النبي عليه الصلاة والسلام من الله سبحانه وتعالى عن طريق الاتِّصال به تعالى والعِياذِِ به، فكلمة أعوذ مُضارع، ماضيها عاذَ، ومصْدَرُها عِياذ وعَوْذٌ، فالعِياذ بالله عز وجل هو سببٌ لِكُلِّ مكْرُمَة.

والآن فإنك ترى أنّ الصورة قد انْقَلَبَتْ من وصْفٍ للنبي عليه الصلاة والسلام إلى طريقٍ سالِكٍ إلى الله عز وجل، فَكُلُّ واحِدٍ يسْمعُ هذا الكلام إذا أراد الخُلُق الرفيع والمقام المحْمود عند الله، وإذا أراد أنْ تكون له سعادته الأبَدِيَّة، وأن يكون حليماً كريماً ومُتواضِعاً وجريئاً وصاحِبَ مُروءة، حكيماً وذَكِياً وفَطِناً فالطريق لكل أنْ يتَّصِل بالله عز وجل ، قال تعالى : "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)" [ الناس : الآية 1 ]
فلا تعْجبوا : "أدَّبني ربي فأحْسن تأديبي "[كنز العمال عن ابن مسعود]

وصْفٌ للنبيِّ عليه الصلاة والسلام، و سِرٌّ لعظمة النبي عليه الصلاة والسلام و طريقٌ لأن تكون عظيماً بنوعٍ من أنواع العظمة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام، فهل تحبُّ أن تكون رحيمًا حقيقة؟ هناك من يتظاهر بالرحمة أمام الناس، وهو ينطوي على قلبٍ قاسٍ كالحجر، هناك من يحكم حكماً عادلاً لِيُقال عنه عادل، و لو خلا إلى نفسه لم يحكم هذا الحكم، لذلك إذا أردتَ أن تكون أخلاقياًّ حقيقةً، وأخلاقك أصيلةً فلتكنْ نابعةً من الإيمان لا من الذكاء؛ إنَّ هذا طريقُه الاِتصالُ بالله عز وجل، قال تعالى :
"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ(3)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5)مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6)"[ الناس : الآية 1-6 ]

ربُّ الناس، و ملك الناس، وإله الناس جُمِعتْ في قوله تعالى:
"ذلكم الله ربكم له الملك فأنى تصرفون"[ الزمر: الآية 6 ]
وقال تعالى:
"رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا"[ المزمل : الآية 9 ]



عندنا سؤالان : لماذا ربُّ الناس؟، مع أنَّهُ رب العالمين ؟ ولماذا ملكُ الناس مع أنَّهُ ملِكُ المُلْك كُلِه ؟ ولماذاَ إله الناس، مع أنَّهُ إله العالمين ؟ لأنّ هذا تخْصيصَ تشْريف للإنسان، هو رب العالمين، ولكن في هذه السورة جاءت رب الناس ملك الناس إله الناس؛ تخْصيص تشْريف وتكْريمٍ لِهذا الإنسان، ولماذا التَّكْرار؟ هو تَكْرار تَوْكيد، فما معنى ربُّ الناس ؟ وما معنى ملِكُ الناس ؟ وما معنى إله الناس ؟.
الربُّ أيها الإخوة الأكارم هو المُربي.. فَرَبُّ الناس هو الذي يُمِدُّهُم بِحاجاتِهم....

حسب تفْسير بعضِهِم .

فالله عز وجل يقول : "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)"[ الناس : الآية 1 ]
هذا الربُّ العظيم الذي أمَدَّ الإنْسان بِكُلِّ ما يحْتاج؛ بالماء والهواء والطعام والشراب، والنبات والحيوان، والشمْس والقمر، وبِالجبال والصحارى، والوِديان والأنْهار وأمَدَّهُ بالبَنين، هذا الذي يسْتَحِقُ أن تعوذ به، وأن تحْتمي به، وتلْجأ إليه، وأن تسْتنصِرَهُ، وتحْتمي بِحِماه، لا أن تحْتمي بِحِمى إنْسان، فالإنسان ضعيفٌ لا يسْتطيعُ أنْ يَحْمِيَ نفْسَهُ، لذلك أرْجَحُنا عقْلاً يعوذ بالله سبحانه وتعالى،.... وفي الطائِف قال عليه الصلاة والسلام : "اللهم إنِي أشْكو إليك ضَعْفَ قُوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهّمُني، أم إلى عَدُوٍّ ملَّكْتَهُ أمْري، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أُبالي"[ الطبراني في الكبير ]

فلك مع الله مواقف، فهل تسْتعيذ به إذا خِفْتَ مخْلوقاً ؟ وهل تلجأُ إليه وتحْتمي بِحِماه ؟ إذا أردْت أن تكون أقْوى الناس فَتَوَكَّل على الله، إذا أردْتَ أنْ تكون أكْرم الناس فاتَّقِ الله، وإذا أرَدْتَ أنْ تكون أغْنى الناس فَكُن بِما في يَدَيِ الله أوْثَقُ منك بما في يدَيْك...



ثمَّ قال تعالى : مَلِكِ النَّاسِ(2)[ الناس : الآية 2 ]

قال بعضُ العلماء: المَلِك، هو الذي يحْكُم ولا يمْلِكُ، والمالك هو الذي يمْلِكُ ولا يحْكم، والله مالكٌ ومَلِكٌ، بعضُهم يقرأ في الفاتحة: ملِكِ يوم الدِّين، والآخر مالك يوم الدِّين، فالله مالكٌ وملِك، وبعضهم قال: الملِكُ هو الذي يمْلِكُ العُقَلاء، يأمرهم وينْهاهم، والمالِكُ هو الذي يمْلِكُ الجمادات، وعلى كُلٍّ معنى ملِك بِأَوْسَعِ معانيها: الله الذي يمْلِكُ سَمْعَك و بَصَرَك و قلبك ودِماغَك ؟ ومن يمْلِكُ عَدُوَّك ؟ الله سبحانه وتعالى؛ فمَعْنى المالك أنّه حُرُّ التَصَرُّف في ملكه، وفي ملك الله لا يسْتطيع هذا المخْلوق أن يتَحَرَّك إلا بِأَمْر الله، إنْ شاء قْبَضَ، وإن شاء أطْلَقَ، إنْ شاء أمَدَّ، وإنْ شاء منع عنه الإمْداد، ومعنى الملِك والمالك هو الذي بِيَدِهِ مقاليد الأُمور...فالمَلِكُ هو الذي يمْلِكُ كُلَّ شيء؛ أعْضاءَكَ وحواسَّك وأجْهِزَتَكَ وزَوْجَتَكَ وأعْداءَكَ وأصْحابَكَ وجيرانَكَ وخُصومَكَ ومُنافِسيك، القِوى الطبيعِيَّة كما يُسَميها بعضُ الناس...



ثمَّ قال تعالى : إله النَّاسِ(3) [ الناس : الآية 3 ]

أما الإله فهو المُسَيِّر، تحْريك الأفْلاك بِيَده تعالى، وكذا تحْريك الأرض، والشمْس والقمر، وكذا حركة القُلوب، ..وحركة الأمْعاء، والعَضَلات كذلك، وحركة عَدُوِّك بِيَد الله، فكلمة مُسَيِّر تعْني الحركة، وكلُّ شيء يتَحَرَّك فَهُوَ بِيَد الله، قال تعالى :
"الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل"[ الزمر : الآية 62 ]

هناك مجموعة آيات وأحاديث، منها حديثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: [كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ][ رواه الترمذي ]

قال تعالى على لسان هود مخاطبا قومه:
"واشهدوا أني بريء مما تشركون، من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ."[ هود: الآية 54-55 ]

وقال تعالى :
"وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون"[ الأنعام : الآية 80 ]

قال تعالى :
"وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون "[ الأنعام : الآية 81 ]

إنّ المشيئة بِيَد الله، فإذا شاء أنْ يكون هذا عليَّ كان، هذا الشيء المُخيف بِيَد الله، فإذا شاء الله له أنْ يصِلَ إلَيَّ، فَهُوَ يصِل، فأنا أخافُ منه، ولا أخافُ منه ، أخاف منه إذا شاء الله له أن يُؤذِيَني ، ولا أخاف منه إذا لم يشأ الله له أن يؤذِيَني..



ثمَّ قال تعالى : "مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)"[ الناس : الآية 4 ]

قال بعضُ المُفَسِّرين إنَّ كُلَّ شيءٍ في الأرض مبْعَثُهُ وَسْوَسَةُ الشيطان، فالشيطان يُوَسْوِس، وبعضُهم قال : هناك ثلاثة مصادِر للوَسْوَسَة : الأوَّل كما قال تعالى :
"ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد"[ ق: الآية 16]

أحْياناً النفْسُ المُنْقَطِعَة عن الله عز وجل أمَّارةٌ بالسُّوء مصْدر داخِلي بحْت، وهناك وَسْوَسَة من شيطان الإنْس، وهناك وَسْوَسَة من شيطان الجِنّ، ثلاثة مصادِر، أما ربنا عز وجل فقال :
"وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون" [ الأنعام: الآية 112 ]

هناك شياطين الإنس وشياطين الجِنّ ..... بل وكُلُّ إنسانٍ دعاك للمَعْصِيَة، وزَيَّنها لك فَهُوَ شيطان، وهذه حقيقة، إنْ كان اخْتِلاطاً أو خمْراً أو رِباً أو سرِقَة أو أكْل مالٍ حرامٍ أو كسْبًا غيرَ مشْروع، ثمَّ يقول لك: الناس كُلُّها هكذا ! فهذا هو الشيطان الإنْسي، لذلك قال بعضهم: ومن شياطين الإنْس المَشاؤون بالنَّميمة، ومن شياطين الإنْس بائِعو الشَّهَوات.... فالدعوة لِكُلِّ شيء يُغْضِبُ الله عز وجل هي مِن وَسْوَسَة الشيطان الإنْسي، والنبي عليه الصلاة والسلام نهانا عن شيْطان الإنْس نهْياً قاطِعاً ... فقال أبو ذرّ : يا رسول ! أَوَللإنْس شياطين ؟! فقال: نعم، هم شَرٌّ من شياطين الجِنَّ " هذا الذي يُقْنِعُك بالمَعْصِيَة ويُزَيِّنُها لك، ويُفَلْسِفُها لك، ويُعْطيهاَ شكْلاً مَنْطِقِياً هو شيطانُ الإنْس...

هذا الوسْواس له صِفَة، وهي أنَّهُ خناس، بِمُجَرَّد أنْ تقول : أعوذ بالله خَنَسَ، فَهُوَ شيطان يُوَسْوِس، لكِنَّك إذا اسْتَعَذْتَ بالله خَنَسَ، فالصِّفَة المُلازِمَة له أنَّهُ يخْنُس، قال تعالى: "مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)" [ الناس : الآية 4 ]

والموضوع الدقيق هنا موضوع الوَسْواسُ الخناس ، قال عليه الصلاة والسلام :" الشيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم، فإذا ذَكَر الله تعالى خَنَس، وإذا غَفَل وَسْوَسَ " فإذا شَعَر الإنْسان بالوَسْوَسَة معنى ذلك أنَّهُ غافِل، وإذا كان يَقِظاً معنى ذلك له السلامة...

شيءٌ آخر ، قال تعالى :
" كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين "[ الحشر : الآية 16 ]
وقال تعالى حكاية عنه :
" وقال الشيطان لماقضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وماكان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلاتلوموني ولوموا أنفسكم، ماأنا بمصرخكم وماأنتم بمصرخي، إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذابٌ أليم"
[إبراهيم : الآية 22 ]

إنّ الشيطان أحْياناً يُوَسْوِسْ لك أموراً قد مَضَتْ،...ويُوَسْوِسٌ كذلك فيما سَيَأتي... كُلُّ هذا في الصلاة ؛ اشْترى وبنى وزرع وأثمر !! ثمَّ ينْسى إنْ كان واقِفاً في صلاته، أم قاعِداً، وقد يقول أشْهد أنْ لا إله إلا الله وهو واقف !
وأما في الحاضِر فَيُوَسْوِسُ له بالمَعْصِيَة؛ اِفْعَل وانْظر، ولا تدع هذه النَّظْرة تفوتُك ، تَمُرُّ امْرأةً بالطريق فَيَقول له : تَعَرَّف على مُواصَفات الجمال كي تخْطُب ! فالشيطان يأتي للإنسان من تفْكيره ، ومبْدأ عقْلِهِ وقِيَمِهِ .

ثمَّ مسْألة النِّسْيان، قال تعالى :
{ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
[ الأنعام : الآية 68 ]
فهُوَ يُنْسيكَ العمل الصالح،.. فالنِّسْيان من الشيْطان . والنُّعاس كذلك من الشيْطان، فقد قيل: النعاس في مجْلِسِ العِلْم من الشيْطان، في أثْناء الدرْس ينعس ويتثاءب ، فإذا انتَهى نَشُط وسَهَر إلى الساعة الواحدة ليلاً ! والخوف كذلك من الشيطان، قال تعالى :
"إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏" [آل عمران: الآية 175]

النِّسْيان والنعاس والخوف والتَّذْكير بِأُمور ماضِيَة، والتي ستأتي والحاضِرَة، هذا كُلُّه من عَمَل الشيطان، إلا أنَّه لا يمْلِكُ على ابن آدم سُلْطاناً، ويُقابل الوَسْوَسةَ الإلْهامُ، فالغافل يُوَسْوَسُ له ، أما المؤمن فَيُلْهَم، قال ربنا عز وجل:
" الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" ...
[ البقرة : الآية 257 ]

قال تعالى :
"وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه"[ القصص : الآية 7 ]

وقال تعالى :
"وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ"[النحل: الآية 68]

هذا وَحْيُ إلْهام، تجد المؤمن مُسَدَّدًا، اسْتِقامةً وعملاً طَيِّبًا، لدينا فرق بين الوَسْوَسَة والإلْهام، وهو فرق عِلْمي؛ كُلُّ ما يأمر به كتاب الله والسنّة المُطَهَّرة إذا جاءَكَ خواطِر من هذا الموضوع فَهِي خواطِر من المَلَك، وكُلُّ ما نهى عنه الله في الكتاب والسنَّة إذا جاءَتك خواطر من هذا الموضوع فهُوَ من الشيْطان، فالمِقْياسُ إذاً الكتاب والسنّة، ولا مِقْياس ثانٍ لذلك، فالذي يتوافق معهما هو إلْهام، والذي يتعارض معهما وسْواس من الشيْطان.

آخر شيء ، المؤمن إذا جاءَهُ شيْطانٌ - وقَلَّما يأتيه - لا يسْتَرْسِل معه ، والدليل قوله تعالى:
"إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"[الأعراف: الآية 201 ]

أما المنافق فيمْشي مع الشيْطان إلى آخر الطريق، بخِلاف المؤمن، فحينما يشْعُر بِالوَسْوَسَة الشيْطانِيَّة يقول: أعوذ بالله من الشيْطان الرجيم.

ثمَّ قال تعالى: "الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5)"[ الناس : الآية 5 ]

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ "[ رواه مسلم ]

طوال الليل سباب وشجار وصِياح، لأنَّهُ لم يُسَلِّم، وكذا إذا لم يذْكر الله عند الطعام، تَجِدُهم ما شَبِعوا ‍! فإذا دخل الواحد منا بيتَه فعليه أنْ يُسَلِّم، كي يذْهب الشيطان .



ثمَّ قال تعالى: "مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6)" [ الناس : الآية 6 ]
الآن رفيق السوء شيْطانُ الإنْس، وحاشِيَةُ السوء شيْطان الإنس، والنمام من شياطين الإنْس، وبائِعُ الشَهوات من شياطين الإنس، والدعوة إلى الربا من وسْوَسَة شياطين الإنْس، والدعوة إلى الزنا بِكُلِّ أنواعه من وسْوَسَة الشيطان، وكذا الدعوة إلى الخمْر والمَيْسر والاخْتِلاط. كُلُّ معْصِيَة دُعِيَ إليها، مع فَلْسَفَتِها، وجعْلِ الكلام مُنَمَّقاً عليها، فهذا من شياطين الإنس.

فهذه السورة أصْبحت بِمَجْموعِها :
"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ(3)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5)مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6)"[ الناس : الآية 1-6 ]

قل أعوذ برب الناس ؛ عَرَفْنا ما معنى الرب ؟ ملك الناس، أي بِيَدِهِ ملكوت كُلِّ شيء، إله الناس يعْني المُسَيِّر، من شر الوسواس الخناس، أي بِمُجَرَّد أنْ تقول: أعوذ بالله يَخْنس، الذي يُوسوسُ في صدور الناس، أي في النفْس، من الجِنَّة والناس "

والحمد لله رب العالمين