من إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب تنبؤه بهزيمة الفرس وغلب الروم ، في وقت كادت دولة الفرس أن تزيل


الإمبرطورية الرومانية من خارطة الدنيا،


فقد وصلت جيوش كسرى أبرويز الثاني إلى وادي النيل، ودانت له أجزاء عظيمة من مملكة الرومان.


سنواتٌ معدودة تمكن فيها جيش الفرس من السيطرة على بلاد الشام وبعض مصر،


واحتلت جيوشهم أنطاكيا شمالاً، مما آذن بنهاية وشيكة للإمبرطورية الرومانية.


وأمام هذا الطوفان الفارسي أراد هرقل ملك الروم أن يهرب من عاصمة ملكه القسطنطينية،



وكاد أن يفعل لولا أن كبير أساقفة الروم أقنعه بالصمود وطلب الصلح الذليل من الفرس.


ووسط هذه الأحداث - وخلافاً لكل التوقعات - أعلن النبي صلى الله عليه وسلم انهم سيغلبون


في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح


المؤمنون بنصر الله[ (الروم: 2-5).


أجواء مكة المتربصة به وبدعوته أن الروم سينتصرون على الفرس في بضع سنين، أي فيما لا يزيد عن تسع


سنين، فقد نزل عليه قول الله تعالى: ]غلبت الروم


يقول المؤرخ إدوار جِبن في كتابه "تاريخ سقوط وانحدار الإمبراطورية الرومانية": "في ذلك الوقت، حين تنبأ القرآن


بهذه النبوءة، لم تكن أية نبوءةٍ أبعدَ منها وقوعاً، لأن السنين العشر الأولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاء


الإمبرطورية الرومانية".


لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتنبأ بانتصار المهزوم الذي يكاد يستسلم لخصمه، ويحدد موعداً دقيقاً لهذا


النصر الذي ما من شيء أبعد في تحققه منه.



وتناقلت قريش هذه النبوءة الغريبة التي خالفت أهواءهم التي مالت إلى جانب الفرس إخوانِهم في الوثنية، بينما


أحب المسلمون انتصار الروم لأنهم أهل كتاب، واستبشروا بالخبر.



قال ابن عباس: (كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم، لأنهم وإياهم أهلُ أوثان، وكان المسلمون


يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهلُ كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله e فقال: أما إنهم


سيَغلبون.



فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا [أي بدوام انتصار الفرس] كان لنا كذا وكذا [أي من


الرهن]، وإن ظهرتم [أي بانتصار الروم] كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلاً خمس سنين، فلم يظهر الروم [أي في هذه


السنينِ الخمس].


فذكروا ذلك للنبي r فقال: ألا جعلته إلى دون العشر [أي طلب منه زيادة الأجل إلى تسع سنين، لأن البضع في


لغة العرب ما دون العشر]، والله قد وعد بظفر الروم في بضع سنين.



قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر.


قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال ابن عباس: فذلك قوله تعالى: ""غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم


سيغلبون في بضع سنين "".



لقد كان الأمر كما تنبأ عليه الصلاة والسلام، ففي عام 623م وما بعدها استطاع هرقل أن يتخلص من لهوه


ومجونه، وشن ثلاث حملات ناجحة أخرجت الفرس من بلاد الرومان.


وفي عام 626م واصل الرومان زحفهم حتى وصلوا إلى ضفاف دجلة داخل حدود الدولة الفارسية، واضطر الفرس


لطلب الصلح مع الرومان بعد هزيمتهم في معركة نينوى، وأعادوا لهم الصليب المقدس - عندهم - وكان قد وقع


بأيديهم.


فمن ذا الذي أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه النبوءة العظيمة؟ إنه وحي الله، وهو دليل رسالته ونبوته عليه الصلاة والسلام.


ولو تأملنا قوله تعالى: ((غلبت الروم في أدنى الأرض )) فإن أعيننا لن تخطئ برهاناً آخر من براهين نبوته


صلى الله عليه وسلم ، فقوله تعالى: ( في أدنى الأرض ) يشير إلى حقيقة علمية كشف عنها العلم الحديث،


وهي أن البقعة التي انتصر فيها الفرس على الروم في منطقة الأغوار قريباً من البحر الميت هي أدنى الأرض،


أي أخفض مكان في الأرض كما تؤكده الموسوعة البريطانية وغيرها ،