يطلق على الأقارب، وهم من بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا محرم أم لا ؟. وقيل: هم المحارم فقط. والأول هو المرجح؛ لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي المحارم، وليس كذلك".
وصلة الرحم تكون بالمودة، والتناصح، والعدل، والإنصاف، والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، والصدقة، وتفقد الأحوال، والتجاوز عن الزلات، وبدفع الضرر عنهم، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء. فالصلة في الجملة: إيصال ما أمكن من خير إليهم، ودفع ما أمكن من شر عنهم، مع ترك القطيعة. أو مطلق البر والقسط. أنظر: فتح الباري 10/418
فهذه معاني الصلة، وذلك معنى الرحم، فصلة الرحم يعني إذن: إنزال هذه المعاني بهؤلاء الأقرباء ذوي النسب القريب.

* * *
الرحم ربانية إلهية المصدر، لم يتكلف أحد نسجها، بل تولد وتنمو بطبيعتها، يولد المرء يحب إخوته وأخواته، وأبويه، يتملقهم، يتودد إليهم، يأنس بهم، من غير طمع في ثواب.
والتشريع الإلهي يمدها بالقوة والحصانة، حيث أمر الناس بصلة الأرحام أمرا مؤكدا، مع ربطها بقضايا كبرى، وترتيب أنواع الجزاء والثواب الدنيوي والأخروي.
وهي من الأسس التي قامت عليها دعوة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي سفيان في حديثه في قصة هرقل، أنه سأله: فماذا يأمركم ؟، قال: يقول: (اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم. ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والصلة). متفق عليه.
وفي خطبة جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي: "فبعث الله إلينا نبيا من أنفسنا، نعرف وفاءه، وصدقه وأمانته، فدعانا: أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار..". [السيرة النبوية الصحيحة 1/173، فتح الباري 7/189، السيرة النبوية لابن كثير 2/8]
وروى الترمذي وأحمد عن عن عبد الله بن سلام قال: لما قد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انجفل الناس وقيل: قدم رسول الله. فجئت في الناس لأنظر إليه، فما استثبت وجه رسول الله، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به، أن قال: (أيها الناس!، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، [وعند أحمد: (وصلوا الأرحام)]، وصلوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام).
ومن أهميتها أنها قرنت بالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)، كما قرنت بتقوى الله تعالى، حيث قال تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}.
ومما يبين عظم موقعها: أن دائرتها تتجاوز المسلمين، فلا يشترط لصلة الرحم إسلام ولا إيمان، فهي تكون حتى مع الكافر ذي النسب، فهذا عمرو بن العاص يقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول: (إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي، إنما ولي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحما أبلها ببلالها). متفق عليه. والبلال الماء. أي سأصلها، شبه قطيعتها بالحار يطفئه الماء.
وأسماء بنت أبي بكر استفت النبي صلى الله عليه وسلم قالت له: "قدمت أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟، قال: نعم، صلي أمك". متفق عليه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أهدى حلة لأخ له مشرك كان بمكة.
وأعظم ما ورد في شأن صلة الرحم حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟. قالت: بلى. قال: فذلك لك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم}. متفق عليه


* * *
في طبع الإنسان حب الاجتماع، وإقامة الصلات. فهو يشعر بضرورة الاتصال بمن حوله لأمرين:
الأول: حاجة نفسية، هي: الاستئناس. وإنما سمي إنسانا من الأنس عكس التوحش. فالأرواح لها حاجة إلى التعارف، والتآلف، والمودة، فهذا من غذائها.
الثاني: حاجة مادية، هي: تحصيل المعيشة، وحل المشكلات، فالأبدان حاجتها: الكفاية، والسلامة.
فهذان الأمران لا غنى عنهما، وليس بمقدور الإنسان تحصيلهما منفردا، فلا بد من مشاركة.
ولما كانت المشاركة والاجتماع ضروريا، اتجه الناس إلى سن القوانين التي تنظم هذا الاجتماع والمشاركة، أو استمدادها من مصادر إلهية. ترسم قواعد المعاملة، وفض النزاع، ورضوا بالتحاكم إليها، طلبا لمصلحة الجميع، ولو أضر في بعض الأحيان بمصلحة الفرد.

وبناء الجماعة على نوعين:
الأول: نوع يحتاج إلى إنشاء؛ وهو: الصلات بين الأفراد بالتعارف، والتعاون، والاشتراك في العمل.
الثاني: نوع حاصل بنفسه، لا ينشئوه أحد، هو صلة الرحم، فهذا بناء اجتماعي قائم بنفسه.
والمقارنة تفضل هذا البناء الثاني؛ كونه فطريا إلهيا، وما كان كذلك فهو قوي راسخ، لأنه ينمو مع الإنسان ويكبر يوما بعد يوم. ففي حين يتعب الناس في بناء العلاقات ينفقون فيه الوقت والجهد، وقد يفشلون، تقوم هذه العلاقة من غير كلفة تذكر.
كمن يملك قلبا وكلية، يقومان بدور الحياة في البدن بسلاسة وسهولة، من غير تكلفة، وآخر مصاب، يحتاج إلى زرعهما، وأموال طائلة.
وفي الوقت الذي يحرص الناس فيه على تجنب أسباب تقويض الصلات فيما بينهم؛ لصعوبة بنائها، وسهولة نقضها: فإن بناء الأرحام متماسك بنفسه، صامد بطبيعته أمام الأزمات المهددة بالتقويض. تأتي المشكلات فتحدث زوبعة، ثم تذهب فتعود الأمور إلى طبيعتها وحالتها الأولى، من غير تدخل من خارج، فالرحم كفيل بعلاج كل جرح، ولمّ الشعث من دون تبرير.
هكذا هي الأرحام فطرة وجبلة، لكن الإنسان استطاع أن يكسر هذه الجبلة، ويطمس الفطرة، فقصد إلى البناء المتماسك، فنقضه من بعد قوة أنكاثا، فجعله أوهى من بيت العنكبوت.
وإن تعجب، فاعجب لقاطع رحم، يسعى في بناء صلات مع الأباعد، فيبذل ماء وجهه وماله، فلا يرجع إلا بالجحود، مع حرص ليس فيه ملل، وما هو إلا كمن هدم داره القائم، في أحسن الأمكنة، لأجل بعض العيوب، وكان يمكن علاجها، ثم شرع في بناء جديد، في منطقة نائية، على قلة ذات يد.
إن علاقة الرحم مشدودة وثابتة، ففي الإنسان نزعة نحو الأقربين، من دون مصلحة..
والحياة قاسية، أمواجها ريح صرر عاتية، والفرد وحده لا يملك اعتراضها، والبعيد قد لا يخلص لك، فقد يصدق، وقد يخذل، والله تعالى وهب الإنسان سندا وركنا، يقف دونه ومعه في وجه المحن والأزمات، فطرة وجبلة ورضا، فليس من الحكمة: إبطال هذه العلاقة، وإهمالها.


* * *
من جزاء صلة الأرحام ما أخبر الله تعالى به من أن الواصلين يدخلون الجنة، في قوله: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب}، إلى أن قال: {أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزوجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}.
عن أبي أيوب أن رجلا قال: "أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)". متفق عليه.
ومن جزائها مضاعفة الأجر، فعن سلمان بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة، وصلة). الترمذي.
ومن جزائها البسط في الرزق، وطول العمر، فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه). متفق عليه
ومن عقوبة قطع الأرحام اللعنة من الله تعالى، كما في قوله تعالى: {والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}.
وعدم دخول الجنة، عن جبير بن مطعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع)، قال سفيان في روايته: "يعني قاطع رحم". متفق عليه. رياض الصالحين ص164
وعقوبة قاطعي الرحم كذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله، إني قرابة، أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم، ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: (لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم، ما دمت على ذلك).
قال النووي في رياض الصالحين ص161:"أي كأنما تطمعهم الرماد الحار. وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم، بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن إليه".

ونصوص أخرى تبين أن القاطع يعجل له بالعقوبة، وأن عمله لا يقبل، وأن أبواب السماء دونه مغلقة، وأن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع.. وكلها أوردها ابن حجر في الفتح 10/415


* * *

الرحم بالعرش معلقة
تقول: من وصلني، الله وصله. ومن قطعني، الله قطعه.
الرحم ببطن الأم ملتحمة.
تحوي الأجنة، مفرقة ومجتمعة.
تزرع بينهم النسب والمرحمة مؤتمرة.
لها الشرف ملتحمة ومتعلقة.
***
الحياة بدون محبة، حياة بائسة.
العيش بدون أخوة النسب، عيشة باسرة.
ما هذا التنافر بين أبناء الرحم الواحدة ؟!.
إخوة.. لكن القطيعة دأبهم، في دنية عاجلة.
كأنه لا نسب يجمعهم، ولا رحم تعلقت تدعو: من قطعني، عليه الفاقرة.
يا ويحهم.. ما قطعهم ؟، وما الذي فرقهم في كل ناحية ؟.
أهي دنيا ؟، أم شيطانة أمها واهية ؟.
أهو زهد في التاخي، أم علو وتكبر، ونفوس عاصية ؟.
أو ذنب جناه بعضهم ؟، أفلم يكن لهم في العذر باب وعافية ؟.
يصبر المرء على مر اللئام، وصبره على ذنب الشقيق أحسن عاقبة .
وهل نفسه من العيب خلت، فيأتي بقطيعة كلها قارعة ؟.
***
إن الحياة عصيبة، أمواجها ريح صرر عاتية.
لا يسلم منها الركب المهلهل، بل المشدود ألواحه، المحكم السارية.
وأخوة الأرحام مشدودة، تنمو وتعلو فطرة، لا تحتاج إلى قناة وساقية.
فعلام يهتكها، وينقض غزلها، ويقطع ماءها، ويحصدها فيتركها خاوية ؟!.
***
يا أيها القاطع! اقرأ في الكتاب أية قاطعة.
تنذر القاطعين باللعن، فهل تطيق عقوبة كهذه قاسية؟.
تسعى في مودة البعيد، وقريبك تتوعده بالطاغية؟.
وإذا جاءك الغريب هششت له بنفس راضية .
فإذا جاءك أخو رحم لقيته بنفس ساخطة.
ألم تذق مر الحياة في القطيعة؟، أم تكن قاضية؟.
ألم تشعر بتأنيب الضمير ، وأنت وحدك في أرض كلها عارية.
كل أرض قطعت أرحامها هي بائرة عارية.
من المحبة والجمال عارية، وجوانبها القبيحة بادية.
لا تتخذ الأعذار مطية، فإنها والله كلها واهية.
فأخوة الأرحام فوق كل المصائب سامية.
هكذا أرادها الإله المتعالي عالية.
قد وعد الواصلين بأرزاق كثيرة باقية.
وأعمار طويلة، وآثار كلها باقية.
فكيف يطيب لك العيش بعد هذه المواعظ المتتالية ؟.
وأنت خارج الرحم عدو لها، وقد ضمتك يوما وهي راضية ؟.