من أسرار الإعجاز العلمي والبياني في القرآن الليل والنهار، والشمس والقمر
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت:37] .
أولاً: مناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها: أنَّ الله تعالى، لما ذكر في الآية المتقدمة أنَّ أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إليه، شرع سبحانه بذكر بعض آياته البديعة الدالة على كمال قدرته، وقوة تصرفه، التي تدل على وحدانيته وتوحيده؛ تنبيها على أن الدعوة إليه جل جلاله هي عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذاته، وصفاته جل وعلا.

ومن هذه الآيات البديعة آيتا: (الليل والنهار) في تعاقبهما، وإيلاج كل منهما في الآخر، وآيتا: (الشمس والقمر)، في استنارتهما، وجريانهما.

ثم لما بين جل جلاله أن ذلك من آياته، نهى عباده عن عبادة الشمس والقمر، وأمرهم بأن لا يسجدوا للشمس، ولا للقمر؛ لأنهما مخلوقان من مخلوقاته، فلا يصح أن يكونا شريكين له في ربوبيته، وعبادته. ولهذا أمرهم بالسجود له وحده وجل وعلا؛ لأنه الخالق المبدع لهما، ولكل شيء، إن كانوا يعبدونه حقيقة.

ثانيًا: أما تعاقب الليل والنهار فهو من تأثير دوران الأرض حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة، بسرعة ألف ميل في الساعة الواحدة.. فهذا الدوران هو الذي تنشأ عنه ظاهرة تعاقب الليل والنهار المستمرة، وله تأثير عظيم على الحياة على سطح الأرض.
والى ذلك أشارت الآية الكريمة السابقة، وفصلته آيات؛ منها قوله تعالى: ﴿وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ [يس:37] وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [الإسراء:12] .

وأما إيلاج كل من الليل والنهار في الآخر فهو من تأثير دوران الأرض حول الشمس. فالأرض تدور في مدار خاص بها حول الشمس في حركة مائلة.
وهذا الميل مع الدوران هو الذي يؤدي إلى ظاهرة اختلاف الليل والنهار، وتتابع الفصول الأربعة وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة السابقة، وفصلته آيات؛ منها قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج:61] وقال تعالى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ [الأعراف:54] .

أمَّا الشمس فهي نجم من النجوم ملتهب في طبعه يشع ضياء وحرارة، من جرَّاء الطاقة النووية المنبعثة من التفاعلات النووية الهائلة في باطنه، والتي تنجم عن اندماج أنوية الهيدروجين، بأنوية عنصر الهليوم. ولهذا وصف الله تعالى الشمس بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجً﴾ [النبأ:13] .

أمَّا القمر فهو من أكبر الأقمار في المجموعة الشمسية، وثانيها بعد الشمس سطوعا ولمعانا، وهو من أقربها إلى كوكب الأرض. ولذلك فهو القمر الوحيد، الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة.
وقد ثبت علميًّا أنه جرم سماوي، سطحه بارد، ونوره الذي يبدو لنا هو نتيجة لانعكاس ضوء الشمس عليه.
ولذلك يمتاز نوره بأنه فاتر بارد، ينير كالمرآة، بخلاف ضوء الشمس. وفتوره أضعف من ضوء الشمس بأربعمائة وسبع وثلاثين ألف مرة. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجً﴾ [ نوح:16] .

ويدور القمر حول الأرض، ويدور مع الأرض حول الشمس، وكلاهما تابع للشمس مرتبط بجاذبيتها. والكل يدور حول نفسه، في مدار خاص به تحت تأثير التوازن الدقيق، بين قوى الجاذبية، وقوى الطرد المركزي الناتجة عن الدوران، وفقا لنظام دقيق منذ أن خلقه الله تعالى. وإلى ذلك كله أشار الله تعالى بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [ لقمان:29] . وقال تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[ يس:38ـ40] .

وهذا كله من الآيات الباهرة المعجزة، التي تدل على وجود الله تعالى، وكمال قدرته. وذلك لما يراه الناظر من الانتظام الدقيق، في دوران هذه الأجرام وجريانها؛ بحيث لا تخطيء أبدا.

ولولا هذا الانتظام الدقيق، لفرغت البحار والمحيطات من مائها. ولو دارت الأرض أكثر مما تدور، لتفكك كل ما عليها، وتناثر كالحطام تذروه الرياح.
ولو دارت أبطأ مما تدور، لهلك كل مخلوق عليها من حر ومن برد. ولو اختل نظام الكون قيد شعرة، لحدث اضطراب عظيم وسقوط نحو الأقوى جاذبية، أو انقلاب وخروج كل كوكب عن مداره.

ثالثًا: فتأمل عظمة الخالق في خلقه، ثم تأمل بعد ذلك هذا الترتيب البديع، بين الليل والنهار، والشمس والقمر، ترَ إعجازًا آخر من إعجاز القرآن البياني.
فقد قدم سبحانه وتعالى ذكر الليل على ذكر النهار -كما قال الرازي والألوسي- تنبيهًا على تقدمه، مع كون الظلمة عدمًا، وكون النور وجودًا، والعدم سابق على الوجود.

أمَّا الشمس فناسب ذكرها بعد النهار؛ لأنها آيته، وسبب تنويره؛ ولأنها أصل لنور القمر، بناء على ما تقرَّر، من أنه مستفاد من ضياء الشمس.

وأمَّا ضياؤها فالمشهور أنه غير طاريء عليها من جرم آخر. ولهذا قدمت عليه، وكان من حقها أن تتأخر، قياسا على تقديم الليل على النهار؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجً﴾ [ نوح:16] .

أما تقديم قوله تعالى: ﴿ومن آياته﴾ وهو خبر على المبتدأ وهو قوله تعالى: ﴿الليل والنهار والشمس والقمر﴾ فلإظهار الاهتمام.

وأما تقديم المفعول على الفعل في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ فلقصد الاختصاص. والمعنى: إن كنتم تخصونه بالعبادة.

ولما كان السجود أقصى مراتب العبادة، ونهاية التعظيم، ولا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات وأعظمها، كان لا بد من تخصيصه به عز وجل، والنهي عن السجود لغيره. وقيل: وجه تخصيصه به عز وجل أنه كان ناس يسجدون للشمس والقمر؛ كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن ذلك. ولهذا قال جل شأنه: ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾، فنهى عن السجود للشمس وللقمر، وان كثرت منافعهما، ثم أمر سبحانه بالسجود له وحده؛ لأنه الخالق لهما، ولكل موجود، فقال جل جلاله: ﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾. أي: إن كنتم موحدين غير مشركين.
وقد قال الله جل جلاله منبهًا: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج:18] أي: وكثير من الناس يسجد لله تعالى سجود طاعة وعبادة.

وفي تكرار(ل) الناهية بعد الواو العاطفة في قوله تعالى: ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ إعجاز آخر من إعجاز البيان؛ حيث كان الظاهر أن يقال: لا تسجدوا للشمس، وللقمر. ولكن هذا يخلُّ بنظم الكلام، ويفسد معناه؛ لأنه يحتمل النهي عن السجود لكليهما، ويحتمل النهي عن السجود لأحدهما دون الآخر؛ فيجوز حينئذ السجود للشمس وحدها، أو السجود للقمر وحده؛ لان المعنى عليه يكون: لا تسجدوا للشمس، وللقمر مجتمعين، واسجدوا لهما متفرقين. فدفعًا لهذا الاحتمال جيء ب(ل) مكررة بعد الواو العاطفة.. فتأمل!

وفي قوله تعالى: ﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ قال الزمخشري: «الضمير في:﴿خلقهن﴾ لليل والنهار، والشمس والقمر؛ لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى، أو الإناث. يقال: الأقلام بريتها، وبريتهن.. أو: لما قال:﴿ومن آياته﴾ ، كن في معنى الآيات، فقيل: خلقهن».
وقال الألوسي: «الضمير قيل: للأربعة المذكورة, والمقصود تعليق الفعل بالشمس والقمر؛ لكن نظم معهما الليل والنهار، إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم. ولا يختار ضرورة أن الليل والنهار كذلك. ولو ثنِّيَ الضمير لم يكن فيه إشعار بذلك».

وأما ما قيل: من أن الضمير للشمس والقمر، والاثنان جمع، وجمع ما لا يعقل يؤنث. فليس بشيء والله أعلم.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده العابدين الساجدين، حمدا له على فضله، وشكرًا على إنعامه