السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ..

كانت الفترة الثانية التي ازدهر فيها الادب البابلي بعد فترة حمورابي ،
هي الفترة الكاشية ، حيث كان السلام والاستقرار قد عم بلاد الرافدين ..
بين منتصف القرن الثامن عشر وحتي القرن الثالث عشرقبل الميلاد .
وحدث ذلك علي الرغم من ان الكاشيين كانوا حكاما غرباء عن البلاد ،
اذ انهم غزوا العراق قادمين من خلف جبال زاكروس وكانوا قبائل همجية تنشد الارض الخضراء ..
فوجدت في بلاد بابل كل ما يطمعون به من خيرات .
الا انهم استطاعوا ان يحكموا البلاد باحترام شعبها والهتها وحضارتها ،
فتعلموا لغتها وتقاليدها ، ولم يبق لديهم شيئا مختلفا غير اسمائهم .
وقد ازدهرت الثقافة البابلية وادابها وبضمنها الميثولوجيا البابلية باساطيرها الجميلة .
وكان القصر يدعم الادباء والشعراء وكذلك النساخ لأنهم كانوا في حاجة اليهم للتقرب الي الالهة بشكل جميل ..
وبلغة شعرية غير تلك العبارات والصلوات المملة التي يرددها الكهنة .
ولذلك تنوعت الاشكال الادبية واختلطت بالترانيم والادعية والرقيات .
والحقيقة كانت القصائد تلقي للالهة اولا، ثم تعم بعد ذلك .
وكان الاهتمام بالنساخ والكتاب قد جري الي درجة انه اصبحت هناك عائلات ابا عن جد ..
تتقن صنعة الكتابة وحرفة الادب وظهر منهم سين ـ ليقي ـ اونيني وهونزوأو واهوتو .
ولانعرف عن هذين الاخيرين شيئا ، ولكن اولهم يعزي له تاليف ملحمة كلكامش الرائعة ،
وقد امست النسخة التي وقعها تعد النسخة المعيارية التي يعتمد عليها في الترجمة ،
علي الرغم من العثور علي نسخ عديدة اخري سومرية وحثية وحورية وغير ذلك .
واعد كثير من النساخ في الفترة الكاشية ـ البابلية سين ـ ليقي ـ اونيني بمثابة جدهم الاكبر.
وقد مرت ملحمة كلكامش بمراحل عديدة من التطور حتي اصبحت بشكلها الحالي ..
وخصوصا تلك التي ظهرت في ترجمة الاستاذ اندرو جورج (1999) .
اذ ان اساسها خمسة قصص اواكثر عن كلكامش من الادب السومري تعود الي نهاية الالف الثالث ق.م ..
ثم نسخة من ملحمة كلكامش من الفترة البابلية القديمة في بداية الالف الثاني ق.م ..
وهي النسخة التي ذاع ذكرها في ممالك سوريا والاناضول وبلاد كنعان(فلسطين) ،
واخيرا النسخة التي وجدت في مكتبة نينوي التي تشير الي ان الانسان قد يخلد من خلال اعماله ،
وكذلك الملك كلكامش من خلال اعماله ومنجزاته لمدينة اوروك واهاليها وخاصة بناؤه الي اسوار اوروك العظيمة ..
اذ ان الملحمة تبدا وتنتهي بالثناء علي الاسوار المتينة التي شيدها لمدينة اوروك :
ارتقي ، وتمشي علي اسوار اوروك ،
تمعن في أسسها ، واختبر بناء طابوقاتها(آجراتها) ،
الم يتم بناؤها من الطابوق المفخور؟
كأن الحكماء السبعة هم الذين وضعوا اسسها .
وينتهي الرقيم الحادي عشر من الملحمة بالخاتمة التالية :
" الرقيم الحادي عشر ل ـ هو الذي راي كل شييء ـ لمجموعة كلكامش ،
كتبت طبق الاصل ودققت .
قصر اشور بانيبال ، ملك الكون ، ملك الاشوريين
" اما الرقيم الثاني عشر والاخير من الملحمة فيتضمن رواية الطوفان ،
والملحمة موقعة باسم سين ـ ليقي ـ اونيني .
وربما وصلت شهرتها الي المدن اليونانية الواقعة في الشمال الغربي من الاناضول ..
كما وصلت اليهم قصة الطوفان وذاعت في جميع انحاء العالم القديم ،
وصارت لكل قوم قوم قصة للطوفان .
وحتي بعد تخريب مدينة نينوي ومكتبتها العظيمة ،
فقد ظلت ملحمة كلكامش من القصص الشعبية في بابل والممالك الاخري في سوريا وفلسطين ..
كما ان شخصية كلكامش عاشت في اذهان المشرق وانتقلت ايضا الي الادب اليوناني والروماني ..
ومن المحتمل انه قد صيغت منها شخصيات اسطورية مماثلة تناسبهم ..
مثل يوليسيس اليوناني وهرقل الروماني وشمشون الجبارالعبراني وريمون الارامي وعوج بن عنق وعنترة بن شداد العربيين ..
وقد ازدهر كذلك شعر مديح الملوك الذي بدا في العصر الاكدي واول القصائد كانت عن سرجون الاكدي ،
التي كانت تسمي سابقا قصة حياته .
اذ اتضح الان انها من الاساليب الشعرية الرافدينية ..
التي تقوم علي اتصال الاديب بالملك او بحاشيته لمعرفة صفاته ومناقبه واعماله او منجزاته ،
ويسعي الشاعر الي تقمص شخصية الملك الممدوح نفسه ،
وذلك واضح في ما سمي قصة حياة سرجون او في تعداد مناقب ملك اور شولكي ونرام سين وغيرهم ..
واحيانا كان الشاعر يتخذ من التراتيل او الترانيم الدينية واسطة لمدح الملك
مع الالهة ..
وذلك ظاهر في فترة سلالة ايسن الثانية التي جاورت العصر الكاشي ـ البابلي ..
كما ذاع ادبا يعبر عن احساس فردي عن اهمية الحياة ومدي تحمل الانسان صعوباتها ..
وخاصة اذا غضبت عليه السماء ..
فقصيدة "المعذب الصالح" تعد من اروع الشعر الرافديني ،
والتي مازال اليهود يقراونها في سفر ايوب ..
واسلوبها يعتمد علي المنولوج الداخلي لانسان اضاع ثروته وماله ..
وفقد صحته واصابه العار والحرمان ..
وقصد الشاعر البابلي ان ذلك حدث له بامر من الاله مردوخ لسبب لانعرفه ..
وهكذا نري ان تلك الفترة التي تمتع فيها الناس بالرفاهية والسلام واسباب الحضارة قد انتجت ادبا راقيا ..
وواحدة من الملاحم تتحدث عن نبوءة مردوخ :
وتحكي عن مظاهر الحزن والاسي علي الناس وعلي بابل لغيابه عنهم ،
خاصة في عيد راس السنة .
كما ان قصائد عدة عبرت عن الفراغ الذي تركه غياب تمثال مردوخ ..
وكيف ترك ارض بابل المقدسة ثلاث مرات ليذهب قسرا الي ارض حاتي ..
والي مدينة اشور واخيرا الي عيلام ..
وهذه اشارة الي قيام ثلاثة ملوك بنهب التمثال ..
وهم مرسيلي الاول وثم توكولتي ننورتا الاول واخيرا ناهونتي ملك عيلام ..
وهكذا وصفت ملحمة الخليقة مردوخ كاب للملوك حينما هزم قوي الظلام والفوضي التي رمز لها بالبحر او تيامات ..
ولذلك فانه نظم العالم وبني بابل كموطن ارضي لللالهة ..
في الحقيقة ان ثقافة بابل كان لها تاثيرا مباشرا علي ممالك الشرق الادني ،
حيث نجد في جميع البلاطات والمعابد الرئيسة في النصف الثاني من الالف الثاني قبل الميلاد ،
كان يتم تداول نصوص الملاحم والترانيم والاداب البابلية ..
وكانت المدارس والمكتبات تعتني بها كنصوص لابد منها لكي تتعلمها بلغتها العالمية ،
وكانت لذلك تستنسخ وتحفظ بالاضافة الي التعاويذ والرقيات الطبية ..
وهكذا نجد في حاتوشا ، العاصمة الحثية ، نصوص معجمية وترانيم ورقيات وجدت بلغتين سومرية واكدية ،
وكذلك حفظ عدة نسخ من ملحمة كلكامش ونصوص بابلية اخري مترجمة الي اللغتين الحثية والحورية ،
بالاضافة الي القصائد التي تصور الاعمال الجليلة وحياة سرجون الاكدي ونرام سين قد حفظت بالاكدية ـ البابلية ايضا ..
والحالة نفسها في مملكة ايمار في سوريا ،
اذ انها احتفظت ايضا بمجموعة كاملة من النصوص البابلية ..
بضمنها الفال والرقيات ونصوص معجمية ومتنوعات من نصوص ملحمة كلكامش وغيرها من الاداب السومرية والبابلية ..
وحتي في تل العمارنة في قلب مصر، مع وجود ادبها وتقاليدها ،
ظهرت فيها نصوص ادبية ومعجمية باللغة الاكدية :
وتتضمن اساطير مثل ادابا ، ونركال وارشكيكال ،
وقصة ولادة سرجون الاكدي التي تشبه ولادة النبي موسي .
وهي نتاجات القصور ونساخها الذين تدربوا علي المراسلات باللغة الاكدية ..
التي كانت اللغة الدبلوماسية بين شعوب الشرق الادني القديم ..
وقد يكون بعض النساخ قد جاءوا من بلاد الرافدين ،
وقد وجد مثل هؤلاء في البلاطات الكبيرة الحثية والحورية ..
وكان التراث الادبي يستخدم ايضا للتدريب علي تعلم اللغة والثقافة العامة التي كانت تمارسها الصفوة من المجتمع ..
والمتمثلة بالملوك وابنائهم والقادة ورجال البلاط والكهنة ونساخ البلاط والارشيف او المكتبة ..
وفي العصر الاشوري الاخير كان الادب البابلي يمثل ارقي انواع الادب المتداول الذي لابد من قراءته وتعلمه ،
حتي بدا ان ليس هنالك فرقا بين الادب باللغة الاكدية ـ الاشورية واللغة الاكدية ـ البابلية الا في تلفظ بعض الحروف والتعابير ..
ولكن مع شهرة وعالمية الادب البابلي ،
فان معظم الممالك احتفظت بادابها المحلية مثل الالاخ واوكاريت وايبلا وبيت بخياني في كوزانا ،
وظهرت بعض الاساطير والقصص في بلاد النيل واوكاريت وبلاد فينيقيا وبلاد العبرانيين وغيرهم .
وكنموذج لللادب المحلي، هذه القطعة الادبية التي وجدت في مملكتين ..
هما ايمار واوكاريت وكذلك في حاتوشا الحثية ،
كتبها اديب يدعي (شوبة ــ اميلي) وهو يقدم لنا هذه النصائح الحكمية القديمة:
لاتفتح قلبك لأمراة هي موضع اهتمامك ،
اقفل عليه ،
حتي اذا صارعتك او هاجمتك .
حافظ علي وجودك في موقف قوي .
لاتجعل زوجتك تعرف ماذا تحوي محفظتك ،
اولئك الذين جاءوا قبلنا ،
ثبتوا هذه (الامور) ،
فآبائنا لم يكن يقاسموا اموالهم الا مع الالهة .
يندفع الناس ومعهم مشبك ،
للامساك بالخاتم ومعه الختم ،"يمثل توقيع الشخص"
اجعل ختمك هو خاتمك ،
واحرص عليه لتحمي بيتك ،
واجعل الختم الوسيلة الوحيدة للكشف عما تملك ،
لا تلتفت الي كل ما تراه (من الاشياء)
ولا تنفق الا عند الحاجة وحسب ..

منقول