قلعة المرقب

الموقع:
تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة بانياس عند منتصف المسافة بين اللاذقية وطرطوس تقريباً على قمة جبل بركاني منفرد لا يتصل بسلسلة الجبال الساحلية إلا في نقطة ضيقة جهة الجنوب، سفوحه شديدة الانحدار ويبلغ ارتفاعه/ 400م /.
تشرف القلعة على البحر وتهيمن على مسافة واسعة من الساحل وتتحكم بالطريق الساحلية الذي يربط شمال سورية وأسيا الصغرى بالأراضي المقدسة.
وقبالة القلعة يوجد خليج صغير كان في القرون الوسطى مرفأً طبيعياً ترسوا فيه السفن التي تصل القلعة بغيرها من مدن الساحل.
قربها من مدن البحر وحصانتها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي عوامل جعلتها تلعب دوراً تاريخياً مهماً في مرحلة الحروب الصليبية التي دامت قرنين من الزمن.


لمحة تاريخية:
ذكرت المصادر العربية أن أول بناء في قلعة المرقب كان في النصف الثاني من القرن الحادي عشر على يد قبائل عربية تابعة لإمارة طرابلس أثناء حكم بني عمار الموالين للدولة الفاطمية، وذلك في سنة / 1062م / لتكون ثغراً في شمالي الإمارة على حدودها مع الإمبراطورية البيزنطية، وظلت المرقب بمنأى عن هجمات البيزنطيين بسبب انشغالهم بالدفاع عن حدودهم الشرقية أمام هجمات السلاجقة، وكانت القلعة حصناً صغيراً إلى أن تنازل عنها صاحبها ابن محرز للصليبيين حيث أصبحت جزءاً من إمارة طرابلس الصليبية التي أسسها الكونت الفرنسي " ريمون دي سانجيل " الذي عرف بالمصادر العربية باسم " ريموند الصنجيل "، وهو أحد قادة الحملة الصليبية الأولى، وعهد بالقلعة إلى أسرة إقطاعية فرنسية هي آل مانسوير، وقد حكمت هذه العائلة القلعة ما يزيد عن أربعين عاماً اتسمت بالهدوء، ولم تشهد أية محاولة إسلامية لاستعادتها.
وفي العام / 1153م / ضرب المنطقة زلزال مدمر أتى على معظم منشآت القلعة وجعل إعادة بنائها يفوق إمكانية هذه الأسرة بسب ضعف نفوذ العائلات الإقطاعية لحساب الفرق الدينية التي أسست في الشرق بعد الحروب الصليبية فباعها برتراند مارغات – وريث عائلة مانسوير – إلى فرسان المشفى الذين عرفوا في المصادر العربية بـ " الإسبارتية "، وهم مجموعة من الرهبان تأسست في عام / 1048م /، وقد نذروا أنفسهم لخدمة حجاج بيت المقدس المسيحيين، ومارسوا نشاطهم بإذن من الخليفة الفاطمي.
وما إن بدأت الحملات الصليبية حتى انقلب هؤلاء الرهبان فرساناً متعطشين للحروب وسفك الدماء، وكثر أتباعهم وازداد نفوذهم، وانهالت التبرعات عليهم من أوروبا وأصبحوا يمتلكون الحصون والقلاع وينافسون الملوك والأمراء بثروتهم ونفوذهم.
أعاد الإسبتاريون بناء القلعة من جديد وأصبحت في مدة وجيزة من أمنع الحصون وأضخمها.
كانت أول محاولة لاستعادة القلعة في العام / 1188م / على يد صلاح الدين الأيوبي بعد أن حررعدة مواقع في الساحل السوري، ثم اضطر لرفع الحصار عن القلعة بعد أن وردته أنباء عن قدوم أسطول صقلية لمهاجمة جيشه المحاصر للقلعة فرفع عنها الحصار، وتابع زحفه شمالاً مفضلاً عدم المجازفة بوضع جيشه بين الأسطول وحامية القلعة.
في العام / 1204م / وجه الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين ملك حلب جيشاً لفتح المرقب لكن حصانة القلعة واستبسال حاميتها في الدفاع عنها، ومقتل قائد الجيش أجبر الحملة على التراجع بعد أن تكبدت خسائر فادحة، استقرت بعدها أوضاع الصليبين في المرقب لبعدها عن مركز الصراع في بيت المقدس ولانشغال الأيوبيين في الدفاع عن مناطقهم في فلسطين ومصر، وازدهر اقتصادهم لوفرة المحاصيل التي كانوا يجنونها من السهول الساحلية الخصبة والضرائب التي كانوا يفرضونها على السكان، وذكر أحد المؤرخين في القرن الثالث عشر أن المرقب كانت تغل سنوياً للإسبارتيين ما يقدر بحمولة إثني عشر ألف بغل من الحبوب وزيت الزيتون والخمور.

زار القلعة في عام / 1242م / الملك أندريه الثاني ملك المجر قائد الحملة الصليبية الرابعة، وقدم لهم مكافأة كبيرة لثباتهم في هذا الموقع، وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر بدأ نفوذ الصليبيين في المرقب بالانحسار بعد ظهور دولة المماليك على ساحة الصراع وانتصارهم على المغول، وبدأ جيش المماليك بانتزاع الحصون الصليبية الواحدة تلو الأخرى حتى سقطت أنطاكية وقلعة الحصن بيد الظاهر بيبرس، وأجبر الصليبيون على عقد هدنة مدتها عشر سنوات وعشرة أشهر تنازلوا بموجبها عن مواقع كانت خاضعة لهم، وبعدم بناء تحصينات جديدة في المرقب، ولكن الصليبيين ما لبثوا أن خرقوا الهدنة وتحالفوا مع الحملة المغولية التي وصلت إلى مشارف حمص في العام / 1282م /، ومراهنين على خلافات في البيت المملوكي بعد وفاة بيبرس، فهاجموا عدة مواقع للمسلمين لكن قلاوون بعد انتصاره على المغول في حمص جدد الهدنة مع الإمارة الصليبية المتبقية في الشرق باستثناء المرقب فهاجمها في العام / 1285م /، ووصل إلى مشارف القلعة في / 17نيسان / من ذلك العام، وكان هجوماً مباغتاً نقل فيه قلاوون أدوات الحصار على أكتاف الرجال إلى تلة محاذية للقلعة جهة الجنوب، وبدأ جيشه يمطر القلعة بوابل من الحجارة والنار الإغريقية على مدار اليوم، وأبدى الصليبيون مقاومة عنيفة في البداية غير أن التصميم والعزيمة، وقوة الجيش المهاجم وظهور ثغرات في أسوار القلعة ولا سيما انهيار البرج الجنوبي ألجأ الصليبين إلى الاستسلام والنزول عند شروط قلاوون لوقف القتال، ودخل قلاوون القلعة في يوم الجمعة / 25أيار 1285م / بعد ثمانية وثلاثين يوماً من الحصار، وتوجهت الحامية المستسلمة إلى مدينة طرابلس تحت حراسة جيش السلطان.

ومما لا شك فيه أن سقوط هذا الحصن المنيع بأيدي المسلمين كان ضريبة قوية للصليبيين في الشرق وإيذاناً بانتهاء وجودهم فيه.
بعد فتح القلعة شرع المماليك بترميمها وتقوية المناطق الضعيفة وزادوا في تحصينها حتى صارت المرقب أكبر قلعة في الشرق من حيث المساحة، فأضافوا إليها حمامات وخزانات للمياه، وترك قلاوون فيها حامية من ثلاثمائة رجل مع عائلاتهم.
في العهد العثماني لم يطرأ أي تغير مهم في القلعة سوى بعض المباني الصغيرة الخاصة بالإدارة وأصبحت المرقب مركزاً لولاية يتمتع واليها بصلاحية واسعة في منطقته، وبدأت بعدها المرقب تفقد قيمتها كحصن حربي، وصارت مجرد تجمع سكاني.
شهدت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نزوحاً كبيراً لأهالي المرقب عنها، ولم يتبقى في القلعة إلا بضعة عائلات.

أثناء الانتداب الفرنسي لسورية قامت حكومة الانتداب ببعض الترميمات في القلعة، ووضعت فيها نقطة عسكرية صغيرة، وظلت القلعة قرية مأهولة بالسكان حتى العام / 1958م / حيث عدت تراثاً وطنياً وأجلي عنها السكان، وتولت المديرية العامة للآثار والمتاحف الإشراف عليها وشرعت بأعمال الترميم فيها، وعينت فيها حراساً للحفاظ عليها، غير أن عوامل الزمن والإهمال لفترة طويلة في الفترة العثمانية، وما تلاه جعل أكثر مبانيها خرائب تحتاج لعمل طويل.

وصف القلعة:
بنيت بحجارة البازلت الضخمة التي تتوفر بكثرة في تلك المنطقة بالإضافة إلى بعض الأحجار الكلسية في بعض الأماكن.
تبلغ مساحة القلعة عدة هكتارات، ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
السور الخارجي مع الأبراج والقلعة الداخلية.
1- السور الخارجي مع الأبراج: يحيط بقلعة المرقب سور ضخم يبلغ ارتفاعه حالياً
/ 10 -20م / تتوزع عليه الأبراج بمسافات متقاربة تؤمن التغطية والمراقبة لكل الجهات وبشكل تنعدم فيه الأماكن الضعيفة، ويبلغ عدد الأبراج على السور الخارجي / 18 برج / تختلف أشكالها وأحجامها حسب الموقع والوظيفة من مربع إلى دائري وتبرز على السور عدة أمتار، ويوجد في الأبراج وعلى طول السور منافذ لرمي السهام، وشرفات لقذف الحجارة على المهاجمين، أما أضخم الأبراج في السور الخارجي فهو البرج الشمالي، وهو برج دائري يعود إلى العصر المملوكي يزيد قطره عن ثلاثين متراً.
2- القلعة الداخلية: وهي قلعة داخل القلعة وتقسم إلى قسمين :
أ ـ القسم الشمالي: وهو الأكبر مساحة، ولا يحتوي على أية أبنية ضخمة إلا قصر عثماني جميل من طابقين كان مقراً للوالي، وخائب كانت بيوتاً للسكن.
ب ـ القسم الجنوبي: وهو الحصن الحربي المخصص للجنود، ويضم معظم منشآت القلعة، تتوسطه ساحة سماوية فسيحة تسهل الانتقال إلى جميع أقسامه، ومن أهم منشآته برج الأمل وهو برج صليبي دائري يتصل بقاعات القلعة كان مقراً لقيادة الحامية، كما توجد فيه أيضاً قالعة الحاكم، وهي قاعة مربعة الشكل تقريباً مهدمة حالياً، وكانت مسقوفة بطريقة العقود المتصالبة المحمولة على قواعد موشورية في الجدار ومزينة بتيجان رخامية، وإلى جانب القاعة يوجد ديوان الحاكم، ولا يزال بحالة جيدة ويستخدم حالياً كمكتب للموظفين.
ج ـ الكنيسة : وهي قاعة فسيحة تبلغ مساحتها / 250م2 /، ويغلب عليها الطابع القوطي سقفها عقود متصالبة محمولة على أعمدة ملاصقة للجدران توجد غرفتان صغيرتان ضمن جدرانها في جهة الشرق على طرفي المذبح، وفي ‘حداهما رسمت لوحة جدارية تمثل العشاء الأخير، ويضم القسم الجنوبي أيضاً قاعات ضخمة للجنود والمؤن والخيول وخزانات للمياه.



د ـ منشآت ملحقة بالقلعة :
- برج الصبي : برج مربع من طبقتين يقع عند شاطئ البحر كان مخصصاً لحامية الميناء ولمراقبة البحر عن قرب.
- الخزان الكبير : خزان للمياه كانت تتجمع فيه المياه الفائضة عن خزانات القلعة لاستخدامها في الزراعة وسقاية الدواب والحمامات.
- حمام الجانكي : أضيف في العصر المملوكي، ويقع إلى الجنوب من القلعة، وقد كانت تصله المياه من الخزان الكبير، ويوجد حوله أنقاض لمباني ربما كانت خانات للمسافرين.