الإبداع والاضطراب النفسي .. مقدمة :

مالذي يجمع بين فينسنت فان كوخ وتشايكوفسكي وبيكاسو ورخمانينوف ؟ إضافة لكونهم يشتركون في الشهرة التاريخية كموسيقيين أو كفنانين تشكيليين .. فإن هؤلاء الرجال الأربعة يشتركون في خاصية متميزة يمكن وصفها بالإبداع المتميز وبالاضطراب النفسي الشديد معاً ( Post,1994 ) .

ولكنهم ليسوا وحدهم في تلك الخاصية .. كتبت جاميسون في مقدمة دراستها حول هذا الموضوع " إن التطرف في المزاج وفي الأفكار وفي السلوك بما في ذلك الحالات الذهانية قد ارتبط بالإبداع الفني منذ القدم ومنذ أن كتب الإنسان أو لاحظ هؤلاء الأشخاص الذين يكتبون أو يرسمون أو ينحتون أو يؤلفون الموسيقا " ( 1989 ).

والحقيقة أن غوغان وكوليه وتولستوي وشارلوت برونتي وكافكا هم أمثلة قليلة من شخصيات أخرى لا تعد من مشاهير الفنانين الذين عانوا من اضطرابات نفسية موثقة تاريخياً ( Post,1994 ) .

إن ذلك كاف لأن يجعل المرء يتساءل : ما هي الآليات الفيزيولوجية أو النفسية التي تشكل مصدراً للإبداع ؟ وهل هذا الارتفاع الظاهري في نسبة اضطرابات المزاج وغيرها من الاضطرابات النفسية لدى هؤلاء المبدعين العباقرة محض مصادفة ؟ أم أن هناك ارتباطات ضمنية أو حتى علاقات سببية بين الموضوعين كما حاولت عدة دراسات أن تبرهن ؟

مساران للبحث أفضل من مسار واحد

في أبحاثي حول الموضوع وجدت ما يبدو أنه مقاربتان تجريبيتان مختلفتان لموضوع الإبداع والاضطراب النفسي . المقاربة الأولى التي استعملها جاميسون وبوست (Jamison ,Post) وهي تستعمل معايير التشخيص الحديثة لتشخيص الاضطراب النفسي عند الفنانين وغيرهم من المبدعين المتميزين . والمقاربة الثانية تستعمل وسائل أقل دقة من الأولى .. والنتيجة هي تأكيد الفكرة النمطية عن " العبقري المجنون " من خلال إظهار ارتباطات إحصائية عالية بين الإبداع واضطرابات المزاج ، إضافة لطرح قضايا أخلاقية هامة حول دلالات التشخيص وحول العلاج الدوائي للاضطرابات المزاجية عند هؤلاء المبدعين . وعلى الرغم من النتائج المقنعة فإن كلتا المقاربتين غير كافييتين في إثبات العلاقة السببية بين الإبداع والاضطراب النفسي أو بإعطاء تبصر علمي جازم حول مصدر الإبداع في الدماغ وكيف يتطور لدى الإنسان .

ولذا فإنني سأفحص فيما يلي مساراً جديداً نسبياً في البحث حول الفكرة الآسرة المتعلقة بارتباط " المرض النفسي " أو " اللا طبيعية " مع الإبداع .

شكراً للتقدم الذي حدث مؤخراً في ميدان تقنيات التصوير العصبي الدماغي ..والذي أدى إلى تشخيص أكثر دقة للمرض النفسي في الأشخاص الأحياء . فقد اكتشف أطباء العصبية نسبة قليلة من الناس ولديهم تميز خاص ، وقد فتح ذلك الباب أمام مجموعة من الاستقصاءات حول الارتباطات الفيزيولوجية بين الفن البصري وبين تلف الدماغ . وهذا يناقض تماماً الأشخاص المصابين بداء ألزهايمر ، والذين لديهم تدهور واضح في كل المهارات الفنية التي اكتسبوها من قبل ( Cummings & Zarit ,1987 ) ، ميللر ( Miller ) وهو الرائد في هذا المجال الجديد نشر عدة مقالات حول الظهور الفعلي لمواهب فنية عند أشخاص لم يكن لهم أي تميز ولم يكونوا فنانين . وكما سأناقش من خلال مراجعتي لأبحاثه ، فإن الحالات الخمسة التي قدمها جميعها وجد لديها من خلال التصوير الدماغي بتقنية SPECT ، شكلاً من الخرف تم وصفه وتحديده مؤخراً، يعرف باسم الخرف الجبهي الصدغي ( FrontoTemporal Dementia,FTD ) . وبعد مناقشة مختصرة لصعوبة تعريف وتحديد الإبداع على أنه ينشأ من جزء محدد أو من وظيفة من الدماغ سوف أقدم الموجودات التي وجدها ميللر وسأختم بطرح احتمالات قضايا فلسفية وأخلاقية يثيرها الموضوع .

الارتباط بين الإبداع والجنون هل هو مصادفة فقط ؟

في العشرين سنة الأخيرة تم تكديس كميات متزايدة من الأبحاث الطبية ذات الدعم النقدي والتي تقدم دليلاً على وجود رابط بين الإبداع وبين الاستعداد للاضطرابات المزاجية ( Hare.1987:Jamison.1993;Post,1994 ) . وعلى الرغم من صعوبة تصنيف وقياس صفة غائمة مثل الإبداع ، فإن هذه الدراسات تمثل هزة أرضية لما فيها من استقصاءات منهجية للموضوع . وفي دراسة Post تم اختيار 291 من الشخصيات العالمية المتوفين والذين اختيروا على أنهم مثال للأشخاص المبدعين ، وكل واحد منهم تم تصنيفه ضمن ستة فئات : علمي ، مؤلف موسيقي ، سياسي ، فنان ، مفكر ، أو كاتب . وقد اختير الأشخاص وفقاً لتوفر ونوعية ومصداقية المعلومات المناسبة عن حياتهم وعن صفاتهم الشخصية ( معلومات موضوعية وليس سيرة ذاتية شخصية ) Post ,1994) ) . ومن ثم فإن المعلومات المستخلصة عنهم تم تحويلها إلى تشخيص نفسي عندما يكون ذلك مناسباً ، مستخدماً الدليل الأمريكي لتشخيص الاضطرابات النفسية المتوفر في حينه(DSM-III-R American Psychiatric Association ) .

وقد أوحت نتائج هذه الجهود الكبيرة أن هناك اضطرابات نفسية أكثر انتشاراً في الفئات الإبداعية مثل الفنانين والكتاب مقارنة مع العلماء أو المثقفين الأقل إبداعاً . وقد ختم Post بأن هناك صفات مرضية في الشخصية مرتبطة سببياً مع بعض أنواع الإبداع القيم ( 1994 ) .

وأنا أوافق على أن هذه الدراسة قد طرحت نقاطاً ممتازة في مناقشة الآراء الفلسفية المتباينة حول ما إذا كان الإبداع والعبقرية يعتبر في النهاية معياراً على التعبير الإنساني الأرفع ، أو أنه بشكل معاكس يعتبر فقط دليل على اللا طبيعية ، فإن ارتفاع معدلات هذه الصفات المزدوجة المشتركة لا يدل بالضرورة على ارتباط سببي . وفي الحقيقة فإن نسبة أعلى في أشخاص العينة المدروسة كانوا من البروتستانت ، ولا يعني ذلك أن هناك علاقة سببية بين الإبداع والبروتستانتية .

الإبداع والليثيوم : لا يتوافقان معاً

بينما كانت جاميسون Jamison تقوم ببحث يشبه مشروع بوست من حيث الأسلوب ، فإنها قدمت مناقشة أكثر منطقية في عدة أمور ، لأنها كانت تحاول أن تجيب على سؤال أكثر تحديداً وأكثر قابلية للقياس الكمي .

فقد قفزت فوق حدود البذرة التي زرعها DeLang و Aldershof وهما اللذان وجدا أن هناك انتشاراً عالياً وبشكل غير عادي في المهارات الخاصة مثل الموهبة الفنية ، في عينة من الأطفال المصابين باضطراب الهوس الاكتئابي ( 1993 ) . فقد خططت جاميسون دراستها لتختبر النظرية التي تقول أن التطرف في المزاج أو التفكير أو السلوك مرتبط بالتحديد بالإبداع الفني ( 1989 ) . وقد وصلت إلى ذلك من خلال دراسة معدلات العلاج من الاضطرابات المزاجية في عينة من عمالقة الكتاب والفنانين البريطانيين ، ودرست الاختلافات في حال وجودها بين فئات المجموعة نفسها من حيث نوعية المهنة ( شعراء ، كتّاب الرواية ، كتّاب مسرحيين ، كتّاب السيرة الذاتية ، والفنانين ) .

وقد تضمنت النتائج وجود نسب انتشار أعلى من القصص المرضية للنوبات الدورية للاضطراب المزاجي الشديد عند الفنانين والكتاب ، مقارنة مع نسب الانتشار عند عموم الناس . وعملياً فإن جميع الحالات المدروسة قد أوضحت أن لديهم نوبات مكثفة ومنتجة وإبداعية . وأن 90 بالمئة منهم أوضحوا أيضاً أن هذه الفترات المزاجية والمشاعر كانت جزءاً ضرورياً أو على الأقل هاماً ، في تطويرهم وتنفيذهم لعملهم ( 1989 ) . إضافة إلى ذلك لاحظت جاميسون " أن كتّاب السيرة الذاتية والذين وفروا عينة مقارنة بكونهم متميزين ولكن ربما أقل إبداعاً ، أنه لم يكن لديهم نوبات من التقلبات الدورية للمزاج أو نوبات من زيادة المزاج " ( 1989 ) .

القضايا

ناقشت جاميسون أيضاً بعض ما يترتب على بحثها من قضايا نظرية وعيادية وأدبية واجتماعية أخلاقية . وقد وضعت بعين الاعتبار مسائل مثل فهم العمليات العقلية والإدراكية والمزاجية وتغيرات السلوك والتي تشترك فيها حالات الهوس والاكتئاب والحالات الإبداعية . وأيضاً الإمكانيات الممكنة لتخفيف الوصمة السلبية المرتبطة بالمرض النفسي ، وتأثيرات العلاجات النفسية ( مثلاً : دواء الليثيوم ) على الإبداع ، والتحفظات المثارة حول الأبحاث الوراثية على اضطرابات المزاج ( Jamison,1989 ) .

وهكذا وعلى الرغم من أنها لا تقدم نتائج علمية قطعية حول العلاقة السببية بين الإبداع والاضطراب النفسي ، إلا أن بحثها فتح الحوار حول هذه القضايا والمسائل الهامة المترتبة عليه .

وقد أثار كميينغس وزاريت ( Cummings & Zarit ) مسائل هامة مشابهة في مقالتهما حول " احتمال مرض ألزهايمر عند فنان " (1987)" Probable Alzheimer Disease in an Artist " . حيث قدما حالة رسام وعمره 75 عاماً تدهورت مهاراته الفنية بشكل واضح خلال عامين ونصف من التقييم المبدئي لسلوكه والتقييم العصبي النفسي الذي خضع له بسبب احتمال مرض ألزهايمر عنده . ومن خلال مراقبة تأثير الأذى الدماغي على التدهور الواضح للإبداع الفني ، طرح المؤلفان نظرية حول طبيعة الموهبة الفنية و اعتبراها صفة فطرية تعكس فرادة منظومة التكوين التشريحي – الوظيفي لدماغ الفنان . و يتضمن ذلك أن الإبداع ظاهرة لا يمكن تربيتها أو تنميتها إرادياً وأنها على العكس فهي فقط نتيجة فيزيولوجية لبنية عصبية معينة .وقد جاءت معارضة مثيرة لهذه القصة من خلال الاستجابات لتلك المقالة . ومن الواضح أن أعداداً كبيرة من النقاد الفنيين رأوا إبداعات خاصة في سلسلة اللوحات التي رسمها الفنان المريض والتي اعتبرها كميينغس وزاريت دليلاً على التدهور الواضح والمثير لمهاراته الفنية والإبداعية ، ولم يوافقوا على ذلك الوصف وانتقدوه بعنف . وفي رسالة لكاتب يجادل فيها بأن اللوحة الثانية في سلسلة اللوحات والتي تم رسمها بعد سبع سنين من بدء ظهور مرض ألزهايمر على الفنان أنها " لوحة مذهلة " " و" أنها عمل عبقري يذكر بأهم لوحات فان كوخ " مجلة الجمعية الطبية الأمريكية 1988 ( JAMA ). ومثل رد الفعل هذا يوضح الطبيعة الذاتية في مسألة تقييم الإبداع ، كما أنه يذكرنا بالطبيعة المعقدة والغامضة غالباً ، لهذه الجوانب من التفكير والسلوك الإنساني .

النظر إلى الخرف

أثارت الدراسات الثلاثة السابقة أسئلة مثيرة للاهتمام وأثارت أيضاً احتمال وجود علاقة بين الاضطراب النفسي وبين الإبداع بما فيه السؤال المحدد حول تعريف الاضطراب وتحديده ، ولكن جمعت الأدلة فيها كلها باتجاه واحد فقط .. أي أن الباحثين حددوا أشخاص مبدعين مشهود لهم ، ثم بحثوا عن انتشار الاضطراب النفسي فيهم . وفي دراسة حالة الرجل المصاب بمرض ألزهايمر تم الربط بين تغيرات عصبية خاصة وبين الإبداع فقط لأن مهارات المريض الفنية ضعفت ( وهذا مشكوك فيه ) بالترافق مع التغيرات الدماغية القشرية التي تميز المرض . ولكن رسالة القارئ توحي بأن المريض ربما حدثت لديه زيادة في الإبداعية على الرغم من أن مهاراته الفنية الموضوعية قد تناقصت . وقد يبدو كل ذلك مثيراً للسخرية للوهلة الأولى ولكن كما سنرى لاحقاً فإن هناك دلائل متزايدة على أن بعض الحالات من " خرف غير ألزهايمر " والتي تسمى النوع الصدغي من الخرف الجبهي الصدغي FTD والتي ترتبط تسميتها بمناطق الدماغ المصابة ، يمكن فيها أن يحدث إثارة للإبداعية والمهارات الفنية البصرية في بعض الأشخاص . وفي واحد من التقارير الأساسية الحديثة تم حدوث إبداعية تلقائية في إطار حالة الخرف ، وقد قدم ميللر Miller ( 1988 ) تفاصيل عن القصص المرضية لعدة حالات ( أربعة ) اكتسبت مهارات إبداعية جديدة أثناء تشخيصها كحالات خرف جبهي صدغي بالتحديد .

الخرف الجبهي الصدغي : جبهة الإبداع الجديدة

إن الخرف الجبهي الصدغي أو اختصاراً FTD هو تشخيص يستعمل لوصف حالات أفراد لديهم انحلال قشري دماغي محدد ( مثلاً ضمور أو انتفاخ خلايا في مناطق محددة أو فصوص من قشر الدماغ ).ويشبه في طبيعته مرض ألزهايمر. ولكنه يفرق عنه تشريحياً وكيميائياً في نقطتين : في مرض ألزهايمر الضمور المبكر في أجسام الخلية وفي الفصوص القشرية يحدث في الجهات القفوية الجدارية وفي المناطق الأنسية الصدغية من الدماغ ، بينما في الخرف الجبهي الصدغي تحدث التغيرات بشكل محدد في المناطق الجبهية والصدغية . وثانياً فإن الانحلال في الخرف الجبهي الصدغي ينحو لأن يكون غير متناظراً مقارنة مع مرض ألزهايمر والذي يكون متعمماً أكثر .

ولابد من الملاحظة أن هذه التفريقات في المرضى الأحياء أصبحت ممكنة بفضل ) SPECTالتصوير الطبقي الكمبيوتري لبث الفوتون المفرد ) . حيث يعطى المريض دواء مشعاً ( بروتين أو جزيئات عضوية مرتبطة بجزيئات مشعة ) تم اختياره وفقاً لخواصه الامتصاصيية من الدماغ . والدماغ السليم والذي تعمل خلاياه بشكل طبيعي ، يمتص كمية محددة من هذه المادة المشعة ، ويظهر ذلك في الصورة على شكل منطقة نيرة .والمناطق النيرة أو العاتمة بشكل غير طبيعي في الصورة تدل على خلل استقلابي في وظيفة الخلايا ومن الممكن أن يدل على ضمور فيها أو موتها .

وقد استعمل ميللر SPECT في تقريره لتشخيص خمسة حالات على أنها تعاني من الخرف الجبهي الصدغي . وفي الحقيقة كانت أربع حالات من خمسة لديها تشخيص الشكل الصدغي من الخرف الجبهي الصدغي ، حيث كانت المناطق الأمامية من الفص الصدغي ( وهي المسؤولة عن اللغة والمهارات الاجتماعية ) مصابة بالضمور ، بينما كانت المناطق الجبهية الظهرية الوحشية ( dorsolateral frontal ) ( وهي المسؤولة عن المهارات البصرية ) محافظ عليها بشكل كبير. وكما افترض ميللر فإن هذا الفقدان الانتقائي الفريد في وظيفة المنطقة الأمامية من الفص الصدغي يمكن أن يكون له تأثيراً سببياً على الظهور المفاجئ للمهارات الفنية .

تفاصيل عن المرضى

بعكس المريض المصاب بمرض ألزهايمر المذكور سابقاً والذي فقد مهارته الفنية والإبداعية ، فإن مرضى ميللر طوروا مهارات لم تكن لديهم أبداً . ومثلاً المريض رقم 1 لم يكن لديه اهتمام سابق بالفن ولكنه بدأ يحضر دورات في الفن مع ظهور حالة الخرف عنده . وعلى الرغم من سلوكه الفاضح والمتهيج ( وهذا ما يميز مرضى الخرف الجبهي الصدغي أساساً ) فقد بدأ يرسم صوراً لأماكن يتذكرها بوضوح فائق ( ميللر 1998 ) .والمريض رقم 2 أيضاً بدأ يحضر دروساً فنية بشكل مفاجئ ، وبعد مدة قصيرة أصبح ينزعج من المواقف الاجتماعية وأصبح فاقداً السيطرة على مصراته وصار كلامه فاضحاً . وربما كان المثال الصادم بقوة مريض وصف بأن لديه خرف جبهي صدغي وكان المريض الرابع في دراسة إدوارد – لي وآخرين (Edward-Lee et al ) على الشكل الصدغي للخرف الجبهي الصدغي ( 1997 ) . والمريض عمره 68 سنة عندما تم فحصه للمرة الأولى بسبب الخرف وهو متاجر بالأسهم متقاعد ، ولم يكن لديه اهتمام بالفن عندما بدأ يرسم من 13 سنة مضت ، وهذه الهواية انبثقت تلقائياً مع حالات وصفها المريض بأنها فترات "انفتاح " وفترات " إغلاق " . وخلال فترات الانفتاح كان الضياء والصوت يحدث مشاعر لذة في المريض مما سمح له بأن يفكر بطريقة إبداعية ( ميللر وآخرين 199 . وخلال فترات الإغلاق كانت الأحاسيس الحسية الاعتيادية مزعجة ومؤلمة للمريض ( إدواردز – لي وآخرين ) . وعلى الرغم من ازدياد السلوك الفاضح لديه مع تدهور في اللغة والذاكرة استمر المريض برسم صور عاشها خلال مراحل الانفتاح والإغلاق .وأكثر من ذلك وكما وصف ميللر فإن دقته وتفاصيله قد تحسنت خلال مسار مرضه ، وقد ربح عدة جوائز في معارض فنية ( 1998 ) .

خاتمة

لاحظ غولدمان راكيك أن العمليات البصرية المكانية التي تتدخل في نشاطات مثل الرسم والتلوين من الذاكرة تعتمد على التلفيف الظهري الوحشي ماقبل الجبهي ( dorsolateral prefrontal convexity ) . وكما وصف ميللر فإن هذه المنطقة هي المنطقة الأساسية من الدماغ التي لم يمسها الضرر في جميع الحالات الخمسة المصابة بالخرف الجبهي الصدغي ، وكانت كل المهارات الجديدة التي تطورت لديهم بصرية ولم تكن لفظية أبداً . وقد افترض ميللر آلية ممكنة لهذه الظاهرة التي لاحظها وسماها التسهيل الوظيفي المعاكس ( paradoxical functional facilitation ) .وافتراضياً فإن فقدان المهارات الاجتماعية وظهور السلوك الفاضح ربما لم يكن مصادفة أن يكون ضمن أعراض الخرف الجبهي الصدغي ، ووفقاً لمييلر: فإن الانحلال الانتقائي للقشر الأمامي الصدغي والبصري الجبهي ( والذي يعتقد أنه مرتبط بالمهارات الاجتماعية ) يقلل من ضبط المنظومات البصرية الواقعة خلفها والتي تتدخل بالإدراك ، وبالتالي فهي تزيد وتحسن من الاهتمامات والمهارات الفنية للمرضى (1998 ) .

يمكن للخرف الجبهي الصدغي أن يعطي بعض التبصر حول الأساس الفيزيولوجي للعملية الإبداعية . ولابد من القول بأن جميع الدراسات المذكورة هنا لا تقدم القول الفصل حول الموضوع . والتصوير بواسطة SPECT لم يتم تطويره بعد ليحدد فعلياً " مركز الإبداع " في الدماغ ، على الرغم من أنه قد أثبت أنه نافذة متميزة للتعرف على وظائف الدماغ . ويمكن النظر إلى هذه الملاحظات وعينات المرضى المدروسين على أنها خطوات أولى في البحث العضوي عن " لغز الإبداع " . ويمكن لها أن تثير مناقشات حول العلاقة بين الإبداع والاضطراب النفسي من أنواع أخرى ، وأيضاً حول الإبداع والمهارة الفنية . وهذان المصطلحان تم استعمالهما في هذه المراجعة بشكل متبادل ولكن في الحقيقة لا ندري إذا كانا شيئاً واحداً .. إضافة لذلك يمكن لهذه المناقشة أن تتضمن تخمينات حول الأسس التطورية للإبداع .

وأخيراً يمكن لنا أن نعالج مسألة الاضطراب النفسي كموضوع غير طبيعي من خلال تعديل الوصمات السلبية الاجتماعية وإمكانيات وسائل تحسين الجنس البشري المتعلقة بالمصابين بالمرض النفسي .. ويمكن لكل ذلك أن يتغير إذا تم التأكيد في المستقبل على أن الإبداع والاضطراب النفسي مرتبطان تماماً .