أم وابنها من تنزانيا يشاركان في تجربة لاختبار لقاح مضاد للملاريا (كي آر تي)
باحثون أميركيون يستخدمون الدهاء.. في مكافحة البعوض

الرياض: «الشرق الأوسط»
لئن كان أحد أساليب مواجهة «خصم ما»، يقول بأن عليك أن تعمل ما بوسعك لكي تجعل من تجرؤ هذا العدو على مهاجمتك، وسيلة يقضي بها على نفسه، فإن ثمة من يُحاول استخدام هذه النظرية في وضع حلول عملية تُخلّص الناس من البعوض ومن قرصه. وما يُحاول العلماء من جامعة أريزونا اختراعه، في مواجهة إقدام البعوض على قرص الإنسان ونقل الأمراض إليه، هو جعل تلك «القرصة» آخر عمل يقوم البعوض به في حياته، بمعنى أن يعود ضرر تلك القرصة على البعوضة نفسها بالدرجة الأولى.

وما طرحه الباحثون من جامعة أريزونا ليس هو الجديد الوحيد في بدايات هذا العام، بل سبق، قبل بضعة أسابيع، أن طرح الباحثون من إمبريال كولدج في لندن محاولاتهم الاستفادة من حيوان «خيار البحر» Sea Cucumber في إحداث تغييرات جينية في البعوض تعمل على إعاقة إتمام عملية مهمة جداً، وهي نمو طفيليات الملاريا داخل جسم البعوضة.
* قرصة البعوضة ويقول البروفسور روجر ميسفيلد، الباحث الرئيس في مشروع جامعة أريزونا والمتخصص في الكيمياء الحيوية، ان هدفنا أن نحول وجبة «الدم»، التي تتناولها أنثى البعوض أثناء قرصها للإنسان، الى آخر وجبة تتناولها في حياتها.
وبالتعاون مع مجموعة من العلماء في مراكز أميركية متعددة، وجد الباحثون أن إناث أحد أنواع البعوض، وتحديداً نوع أديس إيجبتي Aedes Aegypti، لديها طريقة معقدة في إجراء عمليات التحويل والتمثيل الغذائي Metabolic Pathway، بما يُثير الدهشة حقيقةً. وتوصلوا إلى أن إحدى الطرق تلك تتطلب من البعوضة إفراز مواد نتروجينية سمّية بعد ابتلاع وجبة دم الإنسان. وأنه إذا ما لم تتمكن البعوضة من إنتاج تلك المواد السمّية فإنها لا تستطيع أن تضع البيض، أو تبيض البيض المتكون في داخلها، وأنها على إثر عدم القدرة تلك تُصبح مريضة وقد تموت بالتالي جراء تجمع البيض في أحشائها!
* شلّ البعوض وقال الباحثون في دراستهم المنشورة ضمن عدد 15 يناير الحالي من مجلة «التطورات للأكاديمية القومية للعلوم» بالولايات المتحدة، وإحدى الإصدارات العلمية للمؤسسة الأميركية القومية الحكومية للصحة، إننا نبحث عن مركب كيميائي لا يضر بالإنسان ويتسبب بارتباك واضطراب في عمليات التمثيل الغذائي الجارية في جسم البعوضة، أي مركب كيميائي يُوقف ويشل عمل ذلك المركب النيتروجيني الحيوي للبعوضة، وبالتالي يكون وسيلة للقضاء على البعوضة وللقضاء على تكاثر البعوض عبر عدم تمكينه من وضع البيض وتفريخ مزيد من البعوض.
ويأمل الباحثون أن يُكتب النجاح لعملهم المتواصل حول اكتشاف هذه المادة، أو مواد شبيهة بها في المفعول على البعوض، كي يتم بالتالي إنتاجها على هيئة مبيدات حشرية تُنثر على أماكن تجمع البعوض وتكاثرها، كأماكن تجمع المياه والمستنقعات والأماكن المظلمة والرطبة في المنازل أو المستودعات أو غيرها. كما أن الباحثين لديهم تصور في إمكانية إنتاج حبوب تعمل كمبيدات حشرية يتناولها الناس العاديون، في المناطق الموبوءة بالأمراض، كوسيلة للوقاية من الأمراض التي ينقلها البعوض من خلال قرصه للإنسان. لكن الباحثين يُؤكدون على أن هذه الحبوب لن يكون مفعولها شبيهاً باللقاح في الوقاية من الإصابة بالمرض الذي قد ينقله البعوض للإنسان جراء قرصه له، بل سيعمل الدواء على تسهيل موت البعوضة، والقضاء على قدراتها في تكاثر عدد البعوض، كي لا تُصيب شخصاً سليماً آخر. بمعنى آخر، كما قال الباحثون، أن يتحول أفراد المجتمع كلهم كفخ للقضاء على البعوض.
والواقع أنه في عالم أمست غالبية أنواع المبيدات المستخدمة في القضاء على البعوض، ضعيفة إزاء نجاح البعوض في تكوين مناعة وقدرات مقاومة لمفعولها، وإزاء ارتفاع انتشار البعوض أيضاً، والأمراض المنقولة عبره، نتيجة لعوامل بيئية مثل ارتفاع حرارة الأرض وتغير الظروف المناخية والبيئية، تغدو مثل هذه المحاولات العلمية الذكية والمبتكرة مهمة جداً في جهود مكافحة البعوض للقضاء على الأمراض التي تحصد أرواح الملايين من الناس سنوياً وتتسبب بإعاقات وتكاليف اقتصادية باهظة.
* «خيار البحر» من جانبهم قام الباحثون من بريطانيا بإيقاظ أحد الحيوانات البحرية الخاملة الذكر، من نومها العميق في قيعان البحار. وما يُحاول الباحثون، من أمبريال كولدج في لندن، القيام به في جهودهم العلمية لمكافحة تأثيرات قرص البعوض، في انتشار مرض الملاريا، هو استنهاض همم حيوانات «خيار البحر» للاستفادة من مركبات بروتينية معينة فيها تعمل على الحيلولة دون نمو طفيليات الملاريا داخل جسم البعوضة.
وضمن عدد 21 ديسمبر الماضي من مجلة «بلوس باثوجين» الطبية، أعلن الباحثون الإنجليز أنهم نجحوا في إنتاج بعوض معدل بطريقة الهندسة الوراثية. ومن مميزات هذا البعوض الجديد قدرته على إفراز بروتين يُفرزه عادة حيوان «خيار البحر». وهذا البروتين يعمل على إعاقة إتمام عملية تطور نمو طفيليات الملاريا داخل جسم البعوضة. ومعلوم أن طفيليات ناضجة من الملاريا تدخل إلى جسم البعوضة، وتحديداً إلى غددها اللعابية، حينما تقرص تلك البعوضة، وتمتص دم إنسان مُصاب بالملاريا. وتقوم طفيليات الملاريا الناضجة بإنتاج طفيليات مذكرة وطفيليات مؤنثة، وتتلاقح تلك الطفيليات في أمعاء البعوضة لتعطي بويضات ملقحة تعلق بجدران أمعاء تلك البعوضة. ثم لا تلبث أن تنمو وتتطور، وتعمل على اختراق أجزاء جسم البعوضة كي تستقر في غددها اللعابية مرة أخرى، وتأخذ هذه العملية أسبوعاً أكثر داخل جسم البعوضة، ثم تتمكن من الدخول إلى جسم إنسان آخر، أو نفس الإنسان، حينما تبدأ البعوضة بتناول وجبتها من دم ذلك الإنسان، وهكذا دواليك يتناقل المرض وتتنقل طفيليات الملاريا فيما بين جسم الإنسان وجسم البعوضة. والدراسة البريطانية الجديدة تطرح مادة بروتينية سمّية تُدعى سي إي إل-3 CEL-III ، وموجودة في حيوان «خيار البحر»، للعمل على إعاقة نمو وتطور طفيليات الملاريا. وقام الفريق العلمي بأخذ «جين» مادة ليكتن Lectin Gene من خلايا «خيار البحر»، وإعادة تثبيتها ضمن جينات البعوض. وذلك من أجل أن تتمكن البعوضة من إنتاج تلك المادة الكيميائية وإفرازها ضمن عصارات جهازها الهضمي أثناء تناول البعوضة لوجبة طعام مكونة من «الدم». وبهذا تعمل هذه على تسميم ما هو موجود في تلك الوجبة من طفيليات الملاريا ومنعها بالتالي من إتمام عمليات إعادة إنتاج طفيليات قابلة للانتقال إلى جسم إنسان آخر.
وأشار الباحثون إلى أنهم يُطورون نتائجهم، وأن ما حققوه حتى اليوم هو إنتاج بعوض يعمل على الحد، بشكل كبير، من إتمام الطفيليات لنومها وتكاثرها داخل جسم تلك الأنواع من البعوض.
والفكرة بحد ذاتها ذكية جداً في محاولة الحد من الإصابات بالملاريا عبر طرق غير بدائية، كما هو ممارس حتى اليوم. وسبب وصف ما هو معمول به اليوم في مكافحة البعوض وأمراض مثل الملاريا، هو محدودية فاعليتها في خفض الإصابات على المستوى العالمي، ومحدودية فاعليتها في القضاء على البعوض الناقل له. ولأن من المسلم أنه لا يُمكن القضاء على البعوض تماماً في العالم، فإن اتجاه العلماء نحو «عقر دار» مرض الملاريا، أي في داخل البعوضة، قد يكون هو الحل، لأنه سيُنتج بعوضاً غير قابل لنقل المرض.
* البعوض ناقل مجموعات من الأمراض الواسعة الانتشار عالمياً
* يتمتع البعوض، برغم صغر حجمه، بقدرة قطع مسافات طويلة، إذْ أن البعوضة قادرة على قطع مسافة 3 كيلومترات في الساعة الواحدة أثناء النهار، وبالليل قطع مسافات تصل إلى 10 كيلومترات، وهي قادرة على الطيران ما بين ساعتين وأربع ساعات! وتؤكد المصادر العلمية على أن البعوض يُوجد في كافة مناطق العالم بلا استثناء، ومهما اختلفت درجات الحرارة في الأجواء. وهناك أكثر من 3 آلاف نوع من البعوض، غالبية أنواعها لا تتسبب بمشاكل للإنسان، وقلة منها إما أن تتسبب له بإزعاج موضعي مكان القرص في جلده، أو أن تكون وسيلة لنقل أحد الأمراض الميكروبية إليه. ومن بين الأنواع المتسببة بإصابة الإنسان بالأمراض، يتخصص نوع أنوفيليس Anopheles بنقل الطفيليات المتسببة بالإصابة بمرض الملاريا. وتعمل أنواع إيديس، المتقدمة الذكر، على نقل الفيروسات المتسببة بحمى الضنك والحمى الصفراء. وثمة أنواع أخرى من البعوض تعمل على نقل أمراض مثل حمى الوادي المتصدع وحمى غرب النيل والتهاب الدماغ الياباني وداء الفيل وغيرها من الأمراض.
وانتقال الأمراض هذه، هو نتيجة لتغذي البعوض على دم الإنسان، أو غيره، عبر قرصة البعوضة. والأصل أن البعوض من الحشرات التي تتغذى على رحيق الأزهار ولا علاقة لها بالحاجة إلى «الدم» للغذاء كوسيلة للعيش والبقاء. لكن إناث البعوض، دون الذكور، تحتاج إلى تناول «الدم» لأنه يحتوي على بروتينات وحديد، كي تتمكن من إنتاج البويضات اللازمة لتكاثرها وتناسلها. والبعوض لا يقرص جلد الإنسان في حقيقة الأمر، وإن كانت العبارة تُقال مجازاً، بل يعمل على امتصاص الدم من الشعيرات الدموية الموجودة في الطبقات الخارجية للجلد. وهو إذْ يفعل ذلك، يُهيئ مكان الامتصاص عبر إفراز مواد كيميائية تعمل على تخدير الجلد وتسهيل استمرارية امتصاص الدم دون تنبه الإنسان إلى وجوده. وأثناء العملية يُفرز لعابه، كما يفرز مواد كيميائية تعمل على منع تخثر الدم.
وما يحصل بعد ذلك، أن تفاعلاً التهابياً يحصل بين جهاز مناعة الجسم وبين بقايا اللعاب التي تركها البعوض في منطقة القرصة. وهنا تأخذ تفاعلات المناعة شكلاً فورياً ومتأخراً.
* محاولات القضاء على البعوض تمر بأزمة عالمية
* لا تزال تأثيرات ونتائج محاولات القضاء على البعوض، تتفاوت في خفض الإصابات بقرصه وبالأمراض التي تنتقل إلى الإنسان عبره، إلى حد اعتبار الهيئات الطبية العالمية أن ثمة «أزمة» في التعامل مع البعوض للقضاء عليه والحد من انتشار الأمراض التي يتسبب بنقلها. وهنا تدخل عوامل عدة في نشوء هذه الأزمة الصحية، منها انتشار مناعة لدى البعوض ضد الوسائل المتبعة في القضاء عليه، مثل المبيدات وغيرها، ومنها عوامل التغيرات المناخية التي أدت إلى انتشار البعوض والأمراض الناجمة عن قرصه، في مناطق ومرتفعات لم تكن تُرصد تلك الإصابات فيها من قبل، لدرجة أن بعضاً من البحوث العلمية يتحدث اليوم عن إمكانية واحتمالات انتشار أمراض مثل الملاريا في بعض الدول الأوروبية! ومعلوم أن قرص البعوض سبب لإصابة الملايين في كل يوم إما بآثار القرص المهيجة لتفاعلات الحساسية أو بأنواع شتى من الأمراض، مثل الملاريا أو حمى الضنك أو الحمى الصفراء أو غيرهما. وأن ثمة ملايين الناس يموتون سنوياً جراء ذلك. وما يقوم بقرص الناس أو الحيوانات لامتصاص الدم منهم، هd إناث البعوض فقط. ذلك أن ذكور البعوض لا تتغذى البتة على «الدم» بل تتغذى على رحيق الأزهار في المقام الأول. أما إناث البعوض فتحتاج إلى الدم كغذاء، من الإنسان أو غيره، في إتمام عملية إنتاج البويضات وإخراجها إلى الدنيا. ذلك أن ثمة مركبات عدة في الدم تعمل على مبايض البعوضة، ما يجعلها قادرة على وضع المئات من البيض، الذي يُفقس خلال بضعة أيام لتخرج إلى الدنيا مجموعات من صغار البعوض، التي تبلغ خلال بضعة أيام لتثير الإزعاج وتتسبب بنقل الأمراض بين الناس والحيوانات. ولإدراك جانب من أهمية ما يدور الحديث عنه في هذا العرض فإن من المعلوم أن الملاريا أحد الأمراض التي تنتقل عبر قرص البعوض. وأن الإصابات بمرض الملاريا، وفق ما تقوله نشرات منظمة الصحة العالمية الحديثة، تُهدد حوالي 40% من سكان العالم. ويُصاب أكثر من 500 مليون إنسان سنوياً بهذا المرض الذي يتسبب بوفاة أكثر من مليون إنسان، 90% منهم من الأطفال! بل إن إحصائيات المنظمة العالمية للصحة تقول صراحة إن طفلاً واحداً يموت في أفريقيا، فقط، كل 30 ثانية جراء الإصابة بالملاريا. هذا فقط في جانب الملاريا، أحد الأمراض التي ينقلها البعوض. ناهيك عن الحديث حول حمى الضنك أو الحمى الصفراء أو غيرهما.