الابن الأكبر.. ضحية المجتمع الشرقي
«عقدة رحيم» التي شخصتها الدراما العربية في «الليل وآخره»
الفنان يحيى الفخراني الذي جسد دور «الابن الأكبر» في المسلسل التلفزيوني الشهير («الشرق الأوسط»)
بيروت: كارولين عاكوم
يبقى للابن الأكبر "البكري" تأثير مختلف عن بقية الأبناء، ودور يصعب الفرار منه في معظم الأسر العربية، ويرتبط به هذا الدور منذ ولادته فهو أول فرحة لأبويه، وحقل تجاربهما الأولى في التربية، حتى يكبر ويصبح مسؤولا عن العائلة ومرجعها الرئيسي في كل كبيرة وصغيرة، يلجأون إليه ويرون فيه مصدر قوة مادية ومعنوية للعائلة وأفرادها. ولقد نجحت الدراما العربية في التعبير عن حالة "الابن الأكبر" من خلال المسلسل التلفزيوني الشهير "الليل وأخره" الذي اذيع قبل سنوات، وجسد دور البطولة فيه النجم المصري يحيى الفخراني، الذي شخص أزمة الابن الأكبر بنجاح كبير من خلال شخصية "رحيم" الصعيدي، وأصبح تعبير"عقدة رحيم" هو المعبر عن هذه العلاقة. مثله في ذلك مثل "عقدة أوديب"، والتي أستلهمها عالم النفس "فرويد" من قصة يونانية شهيرة، ليعبر بها عن التعلق المرضي للطفل بأمه. ويتشكل دور "الابن الأكبر"، بالغريزة أو الفطرة الاجتماعية التي تعطي الأخ أو الأخت الكبرى صلاحيات واسعة تتراكم مع مرور الزمن لتصبح حملا ثقيلا على الشخص نفسه وعلى الافراد المحيطين به، خصوصا اذا وصلت الصلاحيات الى درجة استغلال الموقع، فيتخذ منه الكبير حجة تخوله التصرف كما يشاء من دون حسيب او رقيب. وبناء على الاعراف الاجتماعية السائدة في البيئة الشرقية فان استشارة "الكبير" تصبح ضرورة لا بد منها في كل أمر، مهما تضاءلت أهميته أو كبرت. ولا يقتصر هذا الأمر على مرحلة الاستشارة بل يتعداه الى درجة تحمل المسؤولية الكاملة لإيجاد حلول ملائمة لأي مشكلات قد تطرأ على العائلة، فالحلول هي دائما بين يدي هذا الشخص الذي يصل في أحيان كثيرة الى مرحلة التململ واليأس، ولكنه مهما حاول اصلاح الوضع، فالطبع الشرقي عامة واللبناني تحديدا يغلب التطبع.

وقد لا تكون هذه المسؤولية من نصيب الابن الذكر فحسب بل في أحيان كثيرة قد تقع على عاتق الابنة الكبرى التي تشكل سندا معنويا للعائلة، فنصيحتها ورأيها في أي موضوع لهما الأولوية وان كان على حساب الشخص المعني نفسه. مثلا قد يعتاد الأبوان أو اي فرد من افراد العائلة الرجوع اليها في أي أمر عائلي طارئ يجب اتخاذ القرار بشأنه، هذا السلوك يشعر المحيطين بها بما يشبه راحة الضمير والاطمئنان بمجرد الوقوف على رأيها في الموضوع. لكن ليس بالضرورة أن يلقى هذا الوضع قبول بقية أفراد العائلة واستحسانهم، بل على العكس قد يلقى اعتراضهم وخصوصا من يجد نفسه مضطرا في كل مرة للاعلان عن مشاريعه أو مشكلاته من دون أي حرية في اتخاذ القرار. تعبر ريما، 25 سنة، عن امتعاضها من هذا السلوك السائد بين أفراد عائلتها، وتقول "رغم أن أختي الكبرى تزوجت ولم تعد تعيش معنا تفاصيل يومياتنا، لابد أن يلجأ اليها كل من أمي وأبي لإخبارها واستشارتها في كل ما يتعلق بشؤوننا العائلية وحتى البسيطة منها. هذا الواقع يزعجني كما يزعج أخي الذي يبلغ 23 عاما، إذ نجد أنه ليس بإمكاننا التحرك من دون الحصول على موافقتها، ولا يقتصر الأمر على الاستشارة في الأمور العادية، بل ينسحب بشكل كبير على تقديم الشكاوى إليها والطلب منها التدخل بشكل دائم لحل المشكلات". وتستدرك: "لكن من جهة أخرى، لا بد من الاعتراف بأن انزعاجنا هذا يتحول الى ما يشبه خشبة الخلاص التي تنجدنا عندما نحتاج الى من يقدم لنا السند ويساعدنا في حل المشكلات التي نعانيها، وعندما نجد أنفسنا من دون تصور أو تصميم نتصل بها ونطلب منها مساعدتنا عندما نقع في أي مأزق او حيرة لاتخاذ بعض القرارات".
وتضيف ريما، "في أحيان كثيرة تتذمر اختي من كثرة الشكاوى ومحاولة ادخالها في كل شاردة وواردة، خصوصا أن عليها مسؤوليات أخرى وواجبات متعلقة بأبنائها وزوجها. فتفقد صوابها في بعض الأحيان لكنها تعود وتقبل بالأمر الواقع. وأحيانا تستاء اذا لم نطلعها على تفاصيل محورية متعلقة بما نواجهه".
ومما لا شك فيه أن لهذه المسؤولية وقعا أكبر في حالة الرجل، فموقعه على رأس الإخوة يحمله بحسب التقاليد الاجتماعية الشرقية حملا مضاعفا يتأرجح بين المادي والمعنوي، فهو السند الذي يتكئ عليه كل من وقع في مأزق طالبا النجدة والعون، فيضطر للقيام بالمتطلبات اللازمة حتى وان كانت صعبة المنال والتحقيق، وبذل جهود مضاعفة على حساب نفسه وأفراد عائلته.
وتعزو الدكتورة حلا نوفل، أستاذ الدراسات الإنسانية بالجامعة اللبنانية، شيوع هذا الواقع في بعض العائلات الى التنشئة الاجتماعية والبيئة التي تعيش فيها العائلة، وتقول: "سيطرة الابن البكر على إخوته في العائلة واعتباره مرجعا لا بد من العودة اليه في كل شاردة وواردة يعودان الى دور الاب وشخصيته كذلك وجوده أو غيابه عن العائلة. فشخصية الاب ووضعه الاقتصادي يشكلان سببا أساسيا في توجيه علاقة البكر بإخوته ودوره في العائلة، فإذا كان الاب موجودا ويقوم بدوره على أكمل وجه، لا بد ان تسير الامور على طبيعتها، وكل فرد من أفراد الأسرة يقوم بواجباته ويعرف حقوقه، أما اذا كان الواقع معاكسا فيصبح هناك خلل ما، وبالتالي يتمتع البكر بصفة المركز الاقوى ولكنه في الوقت نفسه يتحمل عبئا ثقيلا".
هذا هو حال عامر، الذي يتحمل مسؤولية إخوته وأهله من كافة النواحي، ويقول "العبء ثقيل عليّ، فأنا دائما المرجع الذي يعود إليه كل إخوتي لطلب المساعدة وخصوصا المادية منها، وكذلك كل متطلبات والدي ووالدتي ملقاة على عاتقي لأن إخوتي اعتادوا الاتكال عليّ من دون أن يتحركوا أو يقوموا بأي خطوة في هذا الاطار". وعلى النقيض، قد يستغل "الكبير" هذا الموقع للاستفادة المادية والمعنوية ايضاً، وبدل أن يشكل نموذجا صالحا لإخوته يتحول الى ظالم، همه استغلال وضعه المميز. فقد يعمد مثلا الى السيطرة المادية على والديه، ويخضع ثرواتهما تحت تصرفه، ووفقا لهواه الشخصي ومصالحه. وهذا الوضع ايضا تعبر عنه منى، زوجة الابن الصغير في العائلة الذي عانى بعد موت والده من تسلط أخيه الكبير. فقد سيطر البكر على الميراث وانفرد بالقرارات المتعلقة بإدارة شؤون التجارة التي تركها والده، فعمد الى استغلال موقعه واستولى على ما يشاء ولم يترك لإخوته الا القليل، وهم يحاولون منذ ثلاث سنوات استعادة حقوقهم من دون جدوى.
وتوضح د. حلا هذا السلوك، قائلة: "طريقة التصرف بهذه المسؤولية والتعامل معها تعود الى شخصية الفرد ووعيه، لأن السلطة لا تنطوي على آثار سلبية فقط، بل على العكس صحة استعمالها تنتج آثاراً إيجابية توطد العلاقة بين الابناء، ويكون البكر هو المرجع الصالح لإخوته الذي يرشدهم ويقدم لهم النصائح، أما اذا أساء استعمال هذا المركز فعندها بالتأكيد ستتحول هذه النعمة الى نقمة تعكر صفو العلاقة بين الأبناء، ويجب ان تتوقف سلطة البكر عندما تبدأ حقوق غيره. وعليه احترام هذه الحقوق وعدم تجاوزها، تاركا لإخوته وشركائه في العائلة حرية التصرف بعيدا عن القمع أو التسلط المزعج".
وتضيف: "يجب تدارك هذه المشكلة منذ الصغر وعدم تفضيل أي اخ على أخيه، فالجميع يحاسبون بالطريقة نفسها، ويتحملون مسؤولياتهم ويقومون بواجباتهم، من دون أن يظلم أي فرد على حساب الآخر، لأن الواقع إذا كان عكس ذلك سيولد نتيجة مفادها، تضحية البكر وظلمه في بعض الأحيان، وبروز شعور التواكل عند الإخوة الأصغر، الذين يعتادون تحميل غيرهم المسؤولية". وترى د.حلا "أن هذه الظاهرة بدأت تتقلص نوعا ما في المجتمعات العربية والمجتمع اللبناني بشكل خاص في ظل انفتاح العائلات وانتشار الثقافة والوعي في الأوساط الاجتماعية التي بدأت تعي أسس التربية السليمة".


The Editor
رئيس التحريــر
Editorial
هيئة التحرير
Mail Address
العنوان البريدي
Advertising
ِالإعــــــلان
Distribution
التــوزيــــع
Subscriptions
الاشتراكات
Corrections
تصويبات
Copyright: 1978 - 2008 © Saudi Research & Publishing Company (SRPC)