خواطر في جمالية الصيام "إلا الصوم فإنه لي"



إن الله تعالى قد فرض على عباده جملة من العبادات لكي يتقربوا بها إليه، وجعل قاعدة المعاملة بينه وبينهم هي: السلعة مقابل الأجر، فالسلعة هي العبادات، وفلسفة هذه العبادات أنها مجموعة من القربات الحسية والروحية التي يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل، والأجر هو الثواب أو الجزاء الذي استحقه العبد مقابل تلك العبادات، وهو إما زيادة في الحسنات أو محو للسيئآت أو رفع للدرجات وغيرها من أنواع الجزاء المذكورة في القرآن والسنة.

وقد جعل الله تعالى لكل عبادة أو عمل من الأعمال الصالحة أجرا وثوابا معلوما؛ فللصلاة ثوابها، وللزكاة ثوابها، وللحج ثوابه، وللذكر ثوابه، ولقراءة القراءة القرآن ثوابها...إلخ. إلا عبادة واحدة قد استثنيت ولم تدخل ضمن هذه القاعدة التعبدية، وهي عبادة الصوم، وقد جاء ذلك صريحا في الحديث؛ عن أبي صالح الزيات أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:قال الله تعالى:" كل عمل ابن ادم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.." فقد استثنى الله تعالى الصوم من بين سائر أعمال العباد في هذا الحديث القدسي، مع العلم أن الأعمال التعبدية كلها لله بما فيها الصيام، فلماذا نسبه الله إليه، ونسب الأعمال الأخرى إلى ابن ادم؟ هل في الصيام ما يميزه عن سائر العبادات الأخرى؟ إذا أردنا أن نعرف الجواب عن هذه الأسئلة المقلقة، لا بد لنا من معرفة حقيقة الصيام وفلسفته وخصائصه التي تميزه عن غيره من العبادات الأخرى، ولنستمع رأي أحد من العلماء الذين أفنوا حياتهم في خدمة الحديث النبوي الشريف وهو النووي في شرحه لصحيح الإمام مسلم قال في تعليقه على هذا الحديث: اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى؛ - فقيل: سبب إضافته إلى الله تعالى أنه لم يعبد أحد غير الله تعالى به، فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك. - وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظ، قاله الخطابي. – وقيل: إن الاستغناء عن الطعام والشراب من صفات الله تعالى، فتقرب الصائم بما يتعلق بهذه الصفة وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء. –وقيل: معناه؛ أنا المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته وغيره من العبادات أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها.
- وقيل: هي إضافة تشريف، كقوله تعالى(ناقة الله) {الشمس:13} مع أن العالم كله لله تعالى. وكما لا حظنا من خلال هذا الأقوال أن الصوم قد تميز عن سائر العبادات بمجموعة من الخصائص ومنها انه؛ لم يعبد إله غير الله به –الصوم- وأنه ليس للنفس في حظ وأنه تقرب لله بجنس صفاته، وان الله انفرد بعلم مقدار ثوابه، وأن إضافته إلى الله تشريف له. ولا بد لنا هنا من وقفة تأملية تحليلية نتعرف من خلالها على مفهوم الصيام ومقاصده، وفلسفة فرضيته، ومعانيه وأسراره الخفية؛ فالصوم هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهو عبادة سرية حسية وروحية بين العبد وربه ولا يطلع عليها أحد من الخلق. وبما أن الصوم عبادة سرية، فإن الصائم يحصل من خلالها الارتقاء إلى منزلة المراقبة الذاتية، فليس هناك قانون يعاقبه، ولا شرطي يراقبه، ولكن هناك هاجس تقوى الله عزوجل، فلا يستطيع الصائم أن يفطر عمدا في نهار رمضان لأنه يعلم أن الله عز وجل يراقبه ويطلع على جهره وسره في كل زمان ومكان، وهذا تمثل لأعلى مقامات العبودية، ألا وهو مقام الإحسان؛ وهو كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فحينما يتحقق الصدق الروحي واستحضار رؤية الله تعالى في كل أعمال العبد الظاهرة والباطنة، فحينئذ يتحقق مقام الإحسان. وبما أن الصوم عبادة خفية، فقد أخفى الله أجرها كذلك، وإذاكان الصوم سر بينه وبين عبده سر فالأجر سر لا يعلم مقداره إلا الله تعالى، فعلى قدر صدق العبد في صومه ومحافظته لشروطه وحدوده، على قدر عظم الأجر والجزاء يوم الحساب.




بقلم / محمد حقي