[cالآم المثالية ]
بقلم/ محمد عبد الظاهر المطارقى
عن كتاب ( ست الحبايب أمى ]



توفيت منذ أكثر من عشر سنوات، لكنها لا تزال تعيش فى ضمير ووجدان أبنائها الخمسة، والذين بلغوا أعلى الشهادات الجامعية.
كنت أسمع عنها كثيرا، وأرسم صورة ذابلة، بعيدة.. تعود إلى طفولتي المبكرة، حين كنت أراها تبيع الجرائد فى أحد الأكشاك الصغيرة التى تطل على أحد الشوارع العمومية بالمدينة.
ولأنني كنت أبحث عن إحدى الأمهات المثاليات كنموذج معاصر أضعه بين ثنايا هذا الكتاب، وجدتني فجأة أعود بذاكرتى للوراء، لأسترجع صورة تلك الأم التى استطاعت أن تحوز على لقب الأم المثالية مرتين. أحدهما على مستوى المحافظة.(1)
ثم الأم المثالية الثانية على مستوى القطر المصري ( الأم الأولى تبرعت بجزء من عظام جسدها لأحد أبنائها).
وشعرت أننى بغير الكتابة عن تلك الأم سيكون ثمة نقصا يعترى هذا الكتاب، فلم أتوانى لحظة، إذ حملت أوراقى وقلمى وتوجهت رأسا إلى إحدى العيادات الكبرى بالمدينة لألتقى بأحد أبنائها، وهو طبيب له إسمه فى عالم الأطفال، يطل علينا بوجهه الهادئ من خلال الفضائيات ليتحدث عن الطفولة المبكرة، وأهم المشاكل التى تواجه معظم الأمهات..
إنه أحد الأساتذة الكبار بإحدى جامعات مصر، وزميل الكلية البريطانية بلندن وله الكثير من الأبحاث الهامة والكتب التى تمت ترجمتها لأكثر من لغة


* * *
ثمة حالة من التوجس ألا أجد عنده الوقت الكافى لاستقبالى، لكن حالة ما من الاطمئنان كانت تسكن قلبى، وتشعرنى أن هذا الأستاذ الدكتور برغم انغماسه فى العمل ما بين كشف بالعيادة، إلى محاضرات بالجامعة وحضور مؤتمرات، وندوات بالتلفزيون لسوف يسعد كثيرا حين يجدنى أذكره بأعز مخلوق.
ولأنها كانت أم مثالية فمن المؤكد أن أبنائها يعتزون بها أيما اعتزاز. وهذا ما وجدته بالفعل، فما أن استقبلنى الأستاذ الدكتور وعلم مرادى حتى ابتسم ابتسامة رقيقة أضاءت جنبات وجهه.
وضع القلم على المكتب، ورجع بظهره إلى الخلف وقال: ياااه، الحاجة.. عليها ألف رحمة ونور، كانت أم عظيمة، واجهت قسوة الحياة، واستطاعت أن تروض الفقر المتوحش حتى وصلت بنا إلى بر الأمان. هى لم تكن متعلمة، لكنها كانت موسوعة من الحكم والأمثال تمشى على الأرض !. إنها ثروتها الحقيقية التى ورثتها عن والديها، ومن مدرسة الحياة.(1)
لايزال صوتها الحنون يتردد فى أذنى، وهى تقول لى: التعلم فى الصغر كالنقش على الحجر، وهذا ما جعلها حريصة كل الحرص على تعليمنا، وإصرارها ألا نضيع لحظة واحدة فى غير المذاكرة، ولا شىء غير المذاكرة.
صمت الدكتور قليلا ثم قال:
ـ هل تصدقنى يا عزيزى إذا قلت لك أننى ضبطت أمى مرة، أو .. ربما مرتين تبتسم!!. لقد كانت بالفعل امرأة جادة جدا، لاتعرف الهزل. كان لها وجه جرانيتى حاد.. من لا يعرفها يظن أنها إمرأة شديدة المراس، أو قاسية القلب، لكنها خبرت الحياة جيدا، فكانت هى المدرسة الأولى التى تعلمنا فيها أصول الحياة، وكيف تكون لنا أحلامنا الكبرى..

لم يكن يعنيها الفقر على الإطلاق. وهذا الكشك الذى تقف فيه لبيع الجرائد. كانت نافذتنا إلى العالم الخارجى، هل رأيت هذا الكشك، إنه لايزال منتصبا فى مكانه، لم يكن مجرد كشك صغير لبيع الصحف والمجلات فقط، بل كان نافذة للإصلاح بين الناس، والعلاقات الإنسانية.
اذهب إلى هناك، تنسم عبيره جيدا، فإن له رائحة أروع من طيب المسك، هناك أخى الأكبر لايزال يقف، فى نفس المكان الذى كانت الحاجة تقف فيه، وستجد عنده الكثير والكثير، اذهب إلى الباشمهندس وسيسعده ذلك كثيرا.
.. ولا تنسى أن تدعو لأمى بالرحمة..
ولا تنسى أن تعطينى نسخة من كتابك لكى أحتفظ به هنا، أمامى.. على المكتب لكى استعيد ذكرياتها العطرة، لقد كانت أم عظيمة، عليها ألف رحمة ونور.
* * *
وهناك..
فى أحد أكشاك الصحف، والذى يطل على الشارع العمومى للمدينة الكبيرة (شارع البحر ).. وجدت رجلا تبدو عليه الطيبة والوداعة يجلس أمام الكشك ويطل بوجهه على الناس والسيارات الكثيفة التى تمرق بجنون وهى تطلق صرخاتها المفزعة.
حين أخبرته بالموضوع، رفع حاجبيه لأعلى وقال فى صوت ينم عن الفرحة الممزوجة بالدهشة والاستغراب: ياااه.. الحاجة، عليها ألف رحمة ونور. أمى إذن لم تمت!
قلت له: التى استطاعت أن تواجه أعاصير الحياة، وتخرج لنا رجالا بهذه الروعة مؤكد انها لم تمت.
هز رأسه وقال: معك حق، صدقنى إذا قلت لك أننى أسمع صوتها يحدثنى ، بل أحيانا كثيرة أراها أمامى، لعلك تقول فى نفسك اننى مجنون، لكنها الحقيقة، نعم، أقسم لك أننى أجلس هنا فى هذا المكان لتظل أمى معى أحدثها وتحدثنى.
قلت له: حدثنى عن الحاجة؟
قال: أنظر إلى هذا الكشك.. تأمله جيدا، إنه كائن حى!!، هاهو لا يزال ينبض بالحياة.
امسك بيدى وأدخلنى.
قال لى: هنا تأخذ البركة.
قال أيضا: هذا الكشك هو المكان الذى شهد مولدى ، ومولد إخوتى جميعا،
.. أشار بيده.. هنا كانت توجد خزينة لحفظ المجلات.. كانت من أربعة طوابق، فى هذا المكان تحديدا كان أخى الأصغر الدكتور مختار، وهنا كان أخى المحاسب.. وفى الطابق الثالث كان الأستاذ الجامعى..
كنا خمسة، وكان هذا الشارع لا يزال يجرى فى شريانه ماء النهر.
وكانت الناس قليلة، والحقول مترامية الأطراف، وكنا فقراء.. فقراء جدا. حتى أننا كنا نأخذ معونة الشتاء. هل تعرف معونة الشتاء؟.. أقولها بكل اعتزاز، فلم يكن لنا معاش نقتات منه غير بيع الصحف والمجلات. وكان عدد القراء قليلون جدا. والمدينة يغلب عليها الطابع العمالى لأن بها أكبر مصانع للغزل والنسج.. والكشك هو عالمنا الذى نحياه.. هنا كنا نتصفح مجلات الأطفال:" السندباد، مجلة سمير، وصندوق الدنيا.. وميكى.."، تعلمنا القراءة ونحن لانزال صغارا، وعرفنا أشياء كثيرة. وفى المدرسة كنا فى المقدمة دوما، أمى عليها الف رحمة ونور كانت تسعد لتفوقنا.
ولأننا نحبها من قلوبنا فكنا نحرص على إسعادها دائما. وهذا ما جعلنا نواصل النجاح والتفوق ونحرص عليه، ليس للنجاح فى ذاته ولكن لأمنا الطيبة التى تكافح من أجلنا .
* * *
لا، لا.. لم يعمل أى احد منا فى أى شغلانة، كانت ترفض بشدة، تقول مهمتكم الأساسية هى الحصول على درجات ممتازة.
قلت له: انا أعرف بيتكم القديم، كان بيتا يكتنفه الغموض، ولا تكاد تسمع فيه هسيسا لأحد..
ضحك فى طفولية محببة وقال: نعم، نعم.. كانت اغلب حياتنا هنا، داخل هذا الكشك الصغير، فى البيت كنا نستذكر دروسنا ونعمل واجباتنا.. ليس لنا اختلاطا بأحد، ولم تكن هناك أى انشغالات أخرى..
أمنا يا عزيزى كانت تحيطنا برعايتها الدائمة،

زماااان..
فى أحد البيوت العتيقة. على ناصية شارع العباسى القديم.. قبل أن نأتى إلى هذا العالم الصاخب، كانت أمى لاتزال طفلة صغيرة، حين تعرفت على جارة لهم عندها عدد من الأولاد.
كانت تلك المرأة حريصة على أن تعلم أولادها حتى حصلوا جميعا على شهادات التفوق.
ورغم أن هذه السيدة كانت امرأة فقيرة، ولم تنل أى حظ من التعليم إلا أنها كانت أم رائعة، استطاعت أن تربى أولادها على القيم والفضائل، ووصلت بهم إلى أرقى المناصب.
نعم، تعلمت أمى من هذه السيدة الكثير، وحين تزوجت من والدى عليه رحمة الله، وقفت بجانبه لأنه كان فقيرا جدا، وعاجزا أيضا.. لم تستنكف أن تشمر عن ساعديها وتنزل إلى معترك الحياة، تكافح من أجل لقمة العيش الحلال، واستأجرت هذا الكشك الصغير الذى كانا شاهدا على روعة هذه الأم. استرجعت أمى ذكرياتها القديمة، وتذكرت هذه السيدة الفاضلة فقررت أن تعيد التجربة بطريقتها ، وكان أملها فى النجاح كبيرا جدا. فلم تيأس قط.. وكانت تمدنا بعزيمة صلبة، حتى بلغنا ما كانت ترجو وتتمنى.
* * *
الفضل لله من قبل ومن بعد، فنحن خمسة أشقاء. اثنان أستاذين بالجامعة ( كلية طب، وصيدلة ) ولهما مؤلفات عديدة.
وأنا مهندس زراعى بدرجة مدير عام. وآخر محاسب وهناك شقيق يعمل مديرا لإحدى الإدارات التعليمية.
فى هذا الكشك شاهدنا عن كثب أنواع مختلفة من البشر. وعلى القرب منا كان المقهى، كثيرا ما كانت تحدث مشاجرات واستخدام لكافة الأسلحة، وكانت تمتلكه أسرة عتيدة فى الإجرام وسجلها حافل بالقضايا.. كانوا يأتون بطرب الحشيش عيانا بيانا ويقومون بتقطيعها وبيعها لأصحاب الكيف والمزاج!! حتى أن رائحة المخدرات كثيرا ما كانت تزكم أنوفنا. لكن أمنا لم تسمح لنا أبدا أن نغادر الكشك أو أن نقترب من أحد كراسى المقهى.
رحمها الله رحمة واسعة، فقد كانت حريصة على ألا نبتعد عنها، وإذا حدث وابتعدنا فليس أبعد من داخل السينما التى أمامك. وهى لم تكن تسمح لنا أن نتأخر، بل كانت تأتى بنفسها لتبحث عنا، رغم الظلام الدامس، تبحث هنا وهناك حتى تعثر علينا فتضمنا إليها فى حنان، وتصطحبنا معها إلى البيت.
ألف رحمة ونور عليها، كانت أم عظيمة، تمتاز بالحياء الشديد، وعزة النفس، فلم تقترض مليما من أحد، ولم تسمح لنفسها أن تأخذ نقودا من اى أحد .. هل تتصور ذلك، نحن أولادها وصلنا إلى ما وصلنا إليه وصرنا نمتلك الأموال والعقارات ولم تمد يدها لأى منا. كانت ترفض بإباء عجيب. وظلت تعمل هنا، داخل هذا الكشك الصغير حتى آخر رمق فى حياتها.
* * *
نعم، رشحتها الدولة لنيل الجائزة الكبرى يوم 21 مارس سنة 1972.. كنت أنا وشقيقى الأصغر نقاتل على الجبهة، ومكثنا عدة سنوات منذ 67 وحتى يوم النصر العظيم سنة73
قلت له: لقد قدمت أمكم إلى مصر بطلين من أبطال أكتوبر.
ابتسم وقال:" إنه الواجب.."، ثم أردف قائلا:
رحمها الله، فقد أرسلتها الدولة إلى الأراضي المقدسة لأداء مناسك العمرة ضمن الأمهات المثاليات واللائى حصلن معها على هذا اللقب الثمين.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هى السيدة الطيبة :انهام اسماعيل اسماعيل خليفة ( غفر الله لها) من أبناء مدينة المحلة الكبرى.
الكثير من الأبحاث الهامة والكتب التى تمت ترجمتها لأكثر من لغة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من أمثالها: ( شىء ماهولك، ما تحضر كيله، تتغبر دقنك وتحتار فى شيله !!)