وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء . أحياء عند ربهم يرزقون ; لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها , فهم متأثرون بها , مؤثرون فيها , والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة .
ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم , ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة , التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح , وخرجت تتعقب قريشا بعد ذهابها خوفا من كرة قريش على المدينة , ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش , متوكلة على الله وحده , محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته:
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا , بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله من فضله , ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم:ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل , وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول , من بعد ما أصابهم القرح , للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيمانا , وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل , فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء , واتبعوا رضوان الله , والله ذو فضل عظيم . . إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه , فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين). .
لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل , وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى: (لو أطاعونا ما قتلوا)فقال يتحداهم: قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين . .
شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة . . أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة . فكشف لها عن مصير الشهداء:الذين قتلوا في سبيل الله - وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى , مجردة من كل ملابسة أخرى - فإذا هؤلاء الشهداء أحياء , لهم كل خصائص الأحياء . فهم "يرزقون" عند ربهم . وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله . وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين . وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم . . فهذه خصائص الأحياء:من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير . فما الحسرة على فراقهم ? وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث , فوق ما نالهم من فضل الله , وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة ? وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه ? والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة ? ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين , الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله . . ?
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور . إنها تعدل - بل تنشىء إنشاء - تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها , وهي موصولة لا تنقطع ; فليس الموت خاتمة المطاف ; بل ليس حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق !
إنها نظرة جديدة لهذا الأمر , ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين , واستقبالهم للحياة والموت , وتصورهم لما هنا وما هناك .
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون). .
والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله , وفارقوا هذه الحياة , وبعدوا عن أعين الناس . . أموات . . ونص كذلك في إثبات أنهم "أحياء" . . "عند ربهم" . ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات , وصف ما لهم من خصائص الحياة . فهم "يرزقون" . .

ومع أننا نحن - في هذه الفانية - لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء , إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح . . إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة , وما بينهما من انفصال والتئام . وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها ; وإننا حين ننشىء مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها . لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها ; وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى .
فهؤلاء ناس منا , يقتلون , وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها , ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها . ولكن لأنهم: قتلوا في سبيل الله ; وتجردوا له من كل الاعراض والأغراض الجزئية الصغيرة ; واتصلت أرواحهم بالله , فجادوا بأرواحهم في سبيله . . لأنهم قتلوا كذلك , فإن الله - سبحانه - يخبرنا في الخبر الصادق , أنهم ليسوا أمواتا . وينهانا أن نحسبهم كذلك , ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده , وأنهم يرزقون . فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء . . ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى:
(فرحين بما آتاهم الله من فضله). .
فهم يستقبلون رزق الله بالفرح ; لأنهم يدركون أنه "من فضله" عليهم . فهو دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله . فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه ?
ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم ; وهم مستبشرون لهم ; لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين:
(ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . (يستبشرون بنعمة من الله وفضل , وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين).
إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم (الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم)ولم تنقطع بهم صلاتهم . إنهم "أحياء" كذلك معهم , مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة . موضع استبشارهم لهم: ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم "عند ربهم" ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل , ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين . وأنه لا يضيع أجر المؤمنين . .
فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء - الذين قتلوا في سبيل الله ? - وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ? وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ; وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس , عن هذه الرحلة إلى جوار الله , مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة !
إنها تعديل كامل لمفهوم الموت - متى كان في سبيل الله - وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم , وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم . وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها , بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة , كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة . وحيث تستقر في مجال فسيح عريض , لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة , ومن حياة إلى حياة !
ووفقا لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين , سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة - في سبيل الله - وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات