أ. د / عبد الله السبيعي
محمد فريد
لماذا الحديث عن الضغوط النفسية؟

"نحن في عصر السرعة..."

مقولة تتردد لتصف طبيعة العصر الذي تجاوز فيه الإنسان معضلة الزمان والمكان، وأصبح ينتقل بين القارات المتباعدة في وقت أقل مما كان ينتقل به أسلافه بين المدن المتجاورة، وينجز في الساعة الواحدة ما كان يعجز أسلافه عن إنجازه في الأوقات المتطاولة. وكان ينبغي لذلك كله أن يجعله أكثر متعة، وأقل توتراً. إلا أن ما جرى كان عكس ذلك.
الحضارة الحديثة هي حضارة: الأهداف المتبدلة، والتنافسية العالية، والصراع على المكانة، والسمة الجوهرية لها هي: السرعة.
وقد جعل ذلك من الإنسان كائناً يلهث طوال الوقت خلف أهدافه الحقيقية أو المتخيلة، وأوقعه في شبكة من الأحداث التي تستنفذ طاقته، وتفسد متعته، وتجعله أكثر عرضة للقلق، والتوتر، والاضطراب الجسدي والنفسي.
نمط الحياة المعاصر جعل الأحداث الضاغطة تتخلل حياتك بأكثر مما تتصور.
فأنت في عملك الوظيفي تتأذى من كثرة المراجعين لك، وخلافاتك المتكررة مع مديرك، وتشعر بأن من هم دونك في السلم الوظيفي لا يقومون بأدوارهم، مما يزيد من أعبائك، وتحس أن وقت العمل أطول مما ينبغي لأنك تؤدي كل عملك في نصف الوقت ثم تضطر إلى الانتظار ريثما ينتهي الدوام، والأدهى من ذلك : أن تشعر أنك لم تخلق لأداء هذا العمل الرتيب بينما أنت مضطر لكسب رزقك بالصبر عليه.
وفي المنزل تشعر بضعف التواصل بينك وبين زوجتك، وخلافاتكما المتكررة في طريقة تربية الأبناء، وتعاني من التغيرات السلوكية لأبنائك في بدايات المراهقة، كما تتأذى من العلاقات الاجتماعية الزائدة التي تكلفك جهداً إضافياً للتواصل معها.
كل ذلك صور معتادة من الضغوط المسببة للتوتر.
مهما كانت وظيفتك فأنت محاط بأسباب الضغوط...
الطالب في مدرسته يعيش ضغوط الامتحانات، والصراع مع الرفاق، وصعوبة التحصيل العلمي في بعض المواد التي لا يجد لها مبرراً بينما هو مطالب بالاجتهاد فيها !!
ورجل الأعمال يجد نفسه في دائرة مغلقة تستنفذ طاقته؛ بين صراعاته مع منافسيه، ومشاكل موظفيه، وتقلبات السوق تمويلاً وكسباً، مما يجعل وقته مرهوناً بتفاصيل عمله، وأعصابه مستثارة للاستجابة على تحدياته.
والمرأة العاملة تعيش ضغوط التوفيق بين متطلبات عملها، وواجبات منزلها من رعاية الأبناء، وأداء حقوق الزوج.
حتى ربة البيت تسمع تذمرها من ضيق وقتها عن القيام بواجباتها، ومشاكلها في تربية أبنائها.
أصبحت الضغوط أشبه بالغلاف الجوي الذي يحيط بك في كل لحظة، وأنت تبحث عن ثقب فيه، تتنفس من خلاله بمتعة وحرية !!
ولكن.. هل هذه الضغوط حقيقية، أم أنها أحداث يومية تحولها طريقة تفكيرنا فيها إلى ضغوط.. وسواء كانت حقيقية أو متخيلة ؛ فهل يمكننا أن ننظر إليها من زاوية أخرى تكون أكثر متعة.. وأقل قلقاً ؟
هذا ما سنحاول أن نجيب عليه في ثنايا المقال .
الإنسان ينمو ويتطور مع الضغوط :

لا شك أن غاية كل إنسان أن يعيش حياة هانئة لا وجود فيها للضغوط النفسية أو منغصات الحياة. ولكن شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يخلق الإنسان في كبد "لقد خلقنا افنسان في كبد" (سورة البلد 4) كما اقتضت حكمته جل شأنه أن يكون من طبيعة الحياة الدنيا الخوف والقلق والجوع والفقر والمرض والموت ... فقد قال تعالى: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس الثمرات وبشر الصابرين" (البقرة 155).
وبالرغم من أننا قد لا نشعر بالارتياح لبعض الضغوط النفسية إلا أننا نسعى شئنا أم أبينا للتكيف معها. وعملية التكيف هذه تدفعنا للتفكير والبحث عن الحلول مما يجعلنا نتخذ القرارات المناسبة حيال هذه الضغوط ونقوم بالأدوار الفاعلة للتخلص منها أو التكيف معها. وعندما تنجح عملية التكيف إما بالتخلص من الضغوط أو التعايش معها، فإنها تخلق لدينا وعياً جديداً ورؤىً مثيرة في الحياة تجعلنا أكثر قدرة على التكيف في المستقبل و أكثر مقاومة للضغوط النفسية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل ينبغي أن نستبعد الضغوط النفسية تماماً من حياتنا؟ والجواب على هذا السؤال هو بالطبع "لا"، لأن الإنسان لا يمكن أن ينضج ويتطور بدون مقدار من الضغوط النفسية التي تضفي على حياته كم أشرنا قدراً ممتعاً من الإثارة والآمال والتطلعات. هذا السعي والتنافس في شتى مناحي الحياة، بل حتى هذه الاحباطات والأحزان تعطي الحياة عمقاً والخبرة ثراءاً لم يكن ليحدث بدونها.
لذلك فإن التجارب تصقل المواهب؛ ولذلك فإن الشركات الكبرى تحتفظ بكبار الموظفين الذين عركتهم الحياة في مواقع الإدارة ليقودوا لشباب المتحمس الذي تنقصه الخبرة.
المهم هو أن ننظر لهذه التجارب مهما كانت سلبية نظرة المعتبر المتفكر لا نظرة الباكي المتحسر.
فما ينبغي عمله حقيقة هو تعلم كيفية التعايش مع الضغوط النفسية وإدارتها بشكل صحيح وليس محاولة استبعادها بالكلية. لأن الحياة بدون قدر بسيط من الضغط النفسي تصبح باهتة مملة تدعو للكآبة والهموم. وفي المقابل فإن الضغوط النفسية الزائدة عن الحد تجعل الإنسان يشعر بالقيود والإجهاد الذي يدعو للقلق والتوتر. لذلك لا مناص من أن يجد الإنسان له سبيلاً للقبول ببعض الضغوط النفسية المتوازنة التي تدفعه ليحقق مراد الله تعالى منه في عمارة الأرض.
ولعل البعض قد يتساءل هنا: وكيف لي أن أعرف القدر المناسب من الضغوط النفسية؟ والحقيقة انه لا يوجد مستوىً معيناً من الضغوط النفسية يناسب كل الناس، فالله لم يخلقنا سواءاً، بل جعلنا مختلفين متباينين في حاجاتنا ورغباتنا وقدراتنا. فما قد يراه البعض مزعجاً قد يراه البعض الآخر ممتعاً وما يراه البعض خفيفاً على النفس قد يراه البعض الآخر ثقيلاً مملاً. بل إن ما نتفق على أنه ممل وثقيل ومزعج، فإننا نختلف في استجاباتنا الجسمية والنفسية تجاهه. وما قد يحبه أحدنا ويقدر عليه في مرحلة ما من عمره قد لا يقدر عليه وينزعج منه في مرحلة أخرى.

الفرق بين الضغوط النفسية والإجهاد النفسي :

يمكن تعريف الضغوط النفسية بأنها: التغيرات التي تحدث لك.. وتنظر إليها على أنها سيئة.
أو كما عرفها الباحث الشهير في مجال الضغوط النفسية ريتشارد لازاروس بأنها: علاقة خاصة بين الشخص والبيئة، يُقَدِّر الشخص أنها مرهقة له، أو أنها تفوق إمكانياته، وتهدد سلامته.
أما الإجهاد النفسي فهو عملية الاستهلاك التي يمر بها الإنسان في محاولته التكيف مع عالمه المتغير على الدوام من حوله. وهذه العملية تؤدي إلى تأثيرات جسدية ونفسية إيجابية أو سلبية.

أشكال الضغوط النفسية:

يمكن أن تكون الضغوط النفسية حادة وسريعة وهو يسمى بالصدمة النفسية التي تحدث عقب وقوع مشكلة أو مصيبة ما، كما يمكن أن تحدث نتيجة تراكمات لمشكلات الحياة اليومية وكبدها وما يواجهه الإنسان من منغصات ومثيرات.
من أمثلة الضغوط النفسية الحادة:

1. اضطراب التكيف: وتظهر على شكل حالات من الضيق والقلق والتوتر وما يصاحب ذلك من صعوبات في النوم ونقص الشهية للطعام والتفكير المستمر واضطراب العلاقات الشخصية. وتحدث مثل هذه الأعراض عندما تواجه الإنسان مشكلة في عمله أو حياته الأسرية أو خسارة مالية أو رسوب في امتحان وهي بلا شك أحداث مؤلمة يحتاج المصاب بها لبعض الوقت ليتقبلها ويرضى بما قدره الله عليه ويتعايش مع واقعه الجديد في ظل هذا الحدث. وتختلف المدة اللازمة لهذا التكيف من شخص لآخر بحسب نمط الشخصية وتجارب الحياة السابقة التي قد تجعله أكثر خبرة ونضجاً وقدرة أو أكثر وهناً وسرعة في الانهيار. وفي الغالب فإن اضطرابات التكيف لا تتجاوز أشهراً قليلة قبل أن يحدث التكيف الطبيعي وتعود الحياة إلى وضعها الطبيعي، أما إن زادت المدة عن ذلك فينبغي إعادة النظر في التشخيص وتقويم الحالة من قبل مختص.
2. الاضطراب التحولي: ويحدث هذا الاضطراب كرد فعل سريع لحدث مفاجئ أو صراع نفسي حاد. ومن أمثلة ذلك عندما يفاجأ الطالب بأسئلة امتحان صعبة لا يعرف حلها ويخاف من الرسوب فإن خوفه ينقل إلا حالة جسمانية مفاجئة فيسقط على الأرض مثلاً لا يستطيع تحريك يده اليمنى التي يكتب بها أو لا يرى وكأنه أصيب فجأة بالعمى. والحقيقة أن الشلل أو العمى الذي أصابه ليس مرضاَ عضوياً حيث أن فحوصات الأطباء المختصين في الأعصاب أو العيون مثلاً تكون سليمة وطبيعية. وفي الغالب أن مثل هذه الأعراض تخدم المريض بان تخفف من خوفه الشديد وتنقل المشكلة من الامتحان إلى المرض وتعفيه من مسؤولية الإجابة على أسئلة لا يعرفها وما يترتب على ذلك من الرسوب المحتمل وهو ما يسمى بالمكسب الأولي، بل إنها تجلب له التعاطف من أهله ومعلميه وهو ما يسمى بالمكسب الثانوي.
3. اضطراب استجابات الكرب الشديد: ونعني بذلك ما يعرض له الإنسان من مصائب مثل حوادث الطرق ومشاهد الدمار والتعذيب والموت التي قد تحصل له مباشرة أو يقف عليها بنفسه أو ما يهدد حياته أو جسده أو كرامته مثل محاولات الاغتصاب. مثل هذه الأحداث العنيفة يمكن أن تؤدي للذهول والقلق الشديد الذي يصل للهلع واضطراب الوعي والإدراك وتشوش الذهن والتركيز والميل للعزلة أو حتى الشعور بالانفصال عن المجتمع والشرود. ويصاحب ذلك ذكريات وصور ملحة، وأحلام وكوابيس ذات صلة بالحادثة المؤلمة التي سببت الحالة. تتزامن هذه الحالة مع شعور بالاكتئاب والتبلد في المشاعر لأمور الحياة الأخرى وقد تستمر هذا الحالة عدة سنوات ما لم تعالج بشكل صحيح يساعد المريض في إعادة تشكيل تجربته والسيطرة عليها وتعلم الوسائل التي تساعده في التغلب على مشاعر الخوف والقلق والاكتئاب.
4. الذهان المؤقت: ويقصد بذلك اضطراب شديد في التفكير مثل ظهور الضلالات (اعتقادات لاعقلانية خاطئة لا يمكن تغييرها بالإقناع المباشر والنقاش المنطقي) ويترتب على ذلك تصرفات غريبة وسلوكيات جنونية وهلاوس (اضطرابات حسية مثل سماع أصوات أو رؤية أشياء غير موجودة في الواقع). ويعتبر الذهان من الاضطرابات العقلية ولكنه يستجيب للعلاج بسرعة مقارنة بغيره من الأمراض العقلية الأخرى، وعلاجه يعتمد على العقاقير المضادة للذهان.

أما الضغوط النفسية المزمنة فهي متعلقة بالحياة اليومية وتزيد مع تعقيدات الحياة ومتطلباته. فرغم أن الحياة في أي مجتمع تقليدي لم تكن تخلو من أحداث ضاغطة إلا أن نمط الحياة كان أقلَّ سرعة وأقلَّ لهاثاً في محاولة إنجاز الاشياء، وهناك وصف جيد لذلك في عنوان كتاب " ليس الكبير هو الذي يلتهم الصغير.. وإنما الأسرع يلتهم الأبطأ ".. أنت تشعر في الحياة المعاصرة أنك إن تأخرت دقيقة فهناك من سيخطف منك هدفك.. على مستوى الأعمال التجارية، والمنافسات الأكاديمية، والعلاقات الاجتماعية والعاطفية.. أنت طيلة الوقت في حالة تحفز وتوتر.
كما أن المجتمعات القديمة كانت تحوي الكثير من المؤسسات الاجتماعية الداعمة للإنسان، القبيلة والعائلة الكبيرة مثلاً : كان يستشعر الفرد بالانتماء إلى قبيلة أكبر منه، يستنصر بها، ويعتمد عليها. صحيح أن الموارد كانت شحيحية، ولكن التضامن في إفادة ابن العائلة من هذه الموارد كان أعلى. في المجتمعات النامية الراهنة تخلخلت مؤسسات (القبيلة، الاسرة الكبيرة) ولم تمنح الإنسان بدائل عن ذلك، ودخلت حضارة الاستهلاك والتقنية المجلوبة، فدفع معظم السكان ضريبة الحضارة الصناعية وما بعد الصناعية دون أن يفيدوا من نعمها إلا قليلاً، وأصبح البعد شاسعاً بين تطلعات الفرد وحاجاته المتنامية وبين قدرته على إشباع هذه التطلعات والحاجات.

أسباب الضغوط النفسية:

يمكن أن نلقي اللوم على المجتمع والحياة المعاصرة وتعقيداتها ومتطلباته ولكن هذا الإسقاط لا يفيد عندما نحاول البحث عن وسائل للتغلب على هذه الضغوط لأننا لا نملك تغيير المجتمع ولا الحياة من حولنا إلا بقدر ما نغير من أنفسنا و أسلوبنا في هذه الحياة والتعامل مع المجتمع من حولنا. لذلك فإنه يمكن الحديث عن مصادر الضغوط النفسية وليس عن أسبابها لأن السببية تعني علاقة مباشرة بين السبب والنتيجة وذلك مالا يمكن تطبيقه على الضغوط النفسية التي تتداخل فيها العوامل الخارجية من أحداث الحياة مع العوامل الداخلية أفكار وتطلعات وقدرات ليحدث الشعور بالضغط النفسي.
1. المصادر الخارجية للضغوط النفسية:
a. الضغوط الأسرية: وتختلف من مرحلة عمرية لأخرى. فعندما يرتبط الزوجان ويبدءان حياتهما فإن النقلة الكبيرة من حياة العزوبية إلى بيت الزوجية وما يصاحب ذلك من مشاعر الغربة وصعوبات التعرف على الطرف الآخر وما يواجههما من إحباط نتيجة بعض الآمال والأحلام غير الواقعية التي تصطدم بأرض الواقع الذي يفرض عليهما نوعاً جديداً من المتطلبات والالتزامات. هذه الضغوط قد تكون لذيذة في بعض الأحيان ولكنها قد تعصف بحياتهما الزوجية في أحيان أخرى.
b. ضغوط العمل: ويقصد بذلك ما يتطلبه العمل من انجاز مهمة صعبة أو مهام كثيرة في وقت محدد قد يشعر الموظف أنه غير كافٍ، مما يجعله يشعر بالتوتر الدائم والقلق، مما يضطره للعمل ساعات طويلة على حساب راحته الجسدية وأسرته وعلاقاته الاجتماعية. وللأسف الشديد فإن كثيراً من شركات القطاع الخاص تربط دخل الموظف بقدر ما يحققه لها من إنتاجية دون مراعاة قوانين العمل والعمال في ساعات العمل الرسمية وحق العامل في الراحة. هذا فضلاً عن ما يترتب على كل ذلك من تنافس قد يكون غير شريف بين الموظفين للحصول على الترقية أو صراع على السلطة أو خلافات بين بعضهم البعض أو بينهم وبين الإدارة.
c. الضغوط المالية: حيث تتسع الهوة تدريجياً في حياتنا المعاصرة بين الإمكانات والطموحات مما ينشئ شعوراً دائماً بالفقر والحاجة تدفع للاقتراض من البنوك أو الأفراد. والسياسة الرأسمالية في أسواقنا الحديثة تشجع الاستهلاك بكل أشكاله، فوسائل العرض تغريك أن تلمس وتذوق وتشم وتجرب السلعة مما يغريك بشرائها. والمحلات التجارية تغص بكل ما هو جديد يجعلك تشعر بأن ما تملكه من أدوات أصبحت قديمة وإن كانت لا تزال سليمة وتعمل بشكل جيد. ثم إن وسائل الدعاية والترويج تتفنن في استخدام العبارات المغرية فهي لا تدعوك للشراء والصرف وإنما تشجعك على امتلاك السلعة. و أخيراً فإنه لا يزم أن يكون في جيبك نقوداً لتمتلك ما تريد فمكنات الصرف الآلي لا تبعد عنك خطوات سوى أينما كان موقعك، بل إنك يمكن أن تستخدم الشبكة ليقتطع المبلغ من رصيدك مباشرة. والأدهى من ذلك أن بطاقة الائتمان تجعلك تمتلك ما تريد دون أن تدفع حينها أي شيء مما يعطيك شعوراً أن أخذت هذه السلعة هدية بدون ثمن. ولكنك لابد أن تدفعه لاحقاً وإن تلكأت أو لم تستطع لأي سبب كان فستدفعه مضاعفاً بقوة القانون.
d. الضغوط الاجتماعية: ومن أمثلة ذلك ما نشعر به من التنافس في مظاهر الثراء والشكليات. فالمنزل لابد أن يكون كبيراً وغرف استقبال الضيوف لابد أن تكون واسعة رغم أنه قد لا تستخدم إلا مرة واحدة كل العام، والسيارة لا بد أن تكون جديدة ومن الماركة الفلانية، والملابس التي تغص بها الأدراج لكافة الأحوال والمناسبات. هذه المتطلبات والمظاهر الاجتماعية تشكل ضغطاً على أفراد المجتمع يؤدي للمشكلات النفسية. هذا فضلاً عن الالتزامات الاجتماعية والمجاملات التي قد تتسبب في ضياع الوقت وفوات المصالح.
e. الضغوط الصحية: ولا يقصد بذلك الأمراض المعتادة التي قد تعتري الإنسان بين الحين والآخر. ما يمكن أن يؤدي للضغوط النفسية هو الإعتلالات الجسمية التي تؤثر على قدرة الإنسان على العمل الذي يكتسب منه لقمة عيشه، أو على قدرته على القيام بالمهام التي يستمد منها شعوره سلطته في محيطه وقيمة نفسه في الحياة. ومن هذه الأمراض ما يحتاج لتغيير في أسلوب الحياة ونمط المعيشة مثل أمراض السكر والضغط والأمراض العصبية والحوادث وما ينتج عنها من إعاقات الجسدية.

2. المصادر الخارجية للضغوط النفسية:

a. الطموح المبالغ فيه:
المراحل التي تمر بها حين تواجه موقفاً ضاغطاً :
حدد هانز سيليهHans Selye ثلاث مراحل من ردود الفعل للحدث المثير للضغط:
المرحلة الأولى : مرحلة الإنذار والتعبئة، التي يبدأ الجسم فيها بمكافحة مصدر الضغط.
والمرحلة الثانية : مرحلة المقاومة التي يحاول الجسم فيها الصمود في وجه الضغط.
ويليها مرحلة الاستنزاف التي ينهار فيها الجسم، وتظهر أعراض جسمية مثل فرط ضغط الدم، والصداع والالتهاب، وما إلى ذلك، وأطلق عليها متلازمة التكيف العام.

الآلية البيولوجية للضغوط :

حين يفسر عقلك موقفاً ما على أنه موقف خطر، يرسل رسالة كهربائية تثير الغدة النخامية، والتي تستجيب إلى الرسالة بإفراز هرمون ACTH ليتدفق في مجرى دمك واصلاً إلى غدتين تقعان فوق كليتيك تماماً هما الغدتان الكظريتان، واللتين تزيدان من إفراز الادرينالين وسلسلة من الهرمونات الأخرى، مما يجعل جسمك مثاراً بصورة شديدة.. كل هذا يجري خلال ثماني ثوانٍ فقط !!!
في هذه الثواني الثمانية.. تسبب رسائل إلكترونية أخرى من الأعصاب تغيرات في قلبك، ورئتيك، وعضلاتك، يدب النشاط بسرعة في جسدك ليكون مستعداً للاستجابة، تنقبض بعض العضلات والأوعية الدموية رافعةً ضغط دمك، ومزودة عضلاتك بإمداد وافر من الدم، ويزداد نشاط العضلات بصورة مفاجئة.. يبدأ كبدك سريعاً في إنتاج الجلوكوز المهم لمخك وعضلاتك، يزداد معدل تنفسك يزداد معدل ضربات القلب، ويرسل الدم إلى الأجزاء التي تحتاج دماً أكثر في هذا الموقف الضاغط (وهي مخك وعضلاتك)، بينما يتحول الدم من الأجزاء الأقل أهمية بالنسبة للموقف كالمعدة والأمعاء ؛ مما يعوق هضمك بصورة أساسية، وهذا يفسر لك سبب إصابتك بمشاكل هضمية تحت تأثير الضغط المستمر، ويتم تحويل الدم من يديك وقدميك، ويقلل هذا العمل من النزيف الحاد إذا جرحت أطرافك.. ولكنه يجعل يديك وقدميك واهنتين وباردتين تحت تأثير الضغط. تصبح حواسك أكثر تركيزاً في الخطر المحتمل : سمعك أكثر حدة، تتسع حدقتا عينيك فتزداد حساسية بصرك.
كل هذه العملية المعقدة السريعة المنسقة تنسيقاً مذهلاً تجهز جسدك " للقتال أو الفرار ".
ويمكننا القول أن : الذي يجري حين يفسر الإنسان حدثاً ما على أنه خطر.. هو بالضبط ما يجري في بناية عظيمة حين تطلق فيها صافرة الإنذار من الحريق.. يتغير كل شيء، وتنتقل البناية من الحالة الطبيعية.. إلى حالة الطوارئ !!

الأعراض الجسمية التي يمكن أن تحدثها الضغوط النفسية :

• نوبات الصداع.
• خفقان القلب.
• انقطاع الأنفاس.
• القلق والتململ.
• الخلجات العصبية.
• جفاف الفم.
• تصبب العرق.
• الدوار.
• الإرهاق.
• اضطرابات المعدة.
• غثيان.
• ازدياد الحاجة للتبول.
• الإسهال.
• مشاكل في النوم.
• مشاكل جنسية.
• ازدياد الحساسية للضوضاء.
• الحساسية تجاه الاضواء المبهرة.
• تكرار الإصابة بالعدوى الميكروبية.
• تذبذب في مستويات السكر بالدم.
الأعراض النفسية للتعرض للضغوط :
 ضحك عصبي مرتفع.
 استياء.
 حدة في الطبع.
 ضعف في التركيز.
 قابلية للتعرض للحوادث.
 حافز لا يقاوم للبكاء أو الجري او الاختفاء.
 يفزع من أقل شيء.
 لا مبالاة.
 كبت.
 انسحاب.
 كثرة النسيان.
 قلق.
 توتر عاطفي وانفعالي.
 كوابيس.

الأمراض الجسدية والنفسية التي يمكن أن يسببها الضغط النفسي:

كثيرة، وأهمها :
 القرحة.
 النوبات القلبية.
 السكتات الدماغية.
 السرطان.
 الصداع النصفي.
 التهاب القولون.
 القولون العصبي.
 التهاب المعدة.
 الإسهال المزمن.
 الإمساك.
 الغثيان.
 العرق الزائد.
 التهاب المفاصل.
 آلام وتوتر في العضلات.
 اضطرابات النوم.
 التبول المتكرر.
 فقدان الشهية.
 الشهية الزائدة.
 الطفح الجلدي.
 داء البول السكري.
 الإرهاق المزمن.
 أمراض حساسية.
 الربو.
 نوبات إغماء.
 التعلثم وصعوبات الحديث.
 ألم في الظهر مستمر وقاسٍ.
 كما يعد أساساً لكثير من الاضطرابات النفسية المتمثلة في : القلق، الرهاب، الاكتئاب..

الاتصال بين المخ والجهاز المناعي :

بدأ العلماء بدراسة تأثير الأفكار والمعتقدات في الصحة، وذلك من خلال (PNI) PsychoNeuroImmunology أو علم المناعة النفسية العصبية.
واكتشفت الأبحاث في العقد الأخير اتصالاً بين المخ والجهاز المناعي، إذ تصل الأعصابُ المخَّ بأعضاء مثل الغدة الزعترية والطحال، اللذين بدورهما يؤثران في الجهاز المناعي.

ماذا يعني هذا ؟

يعني أن عقلك من خلال جهازك العصبي قادر على التأثير في جهازك المناعي، والذي يحدد وجود المرض وتقدمه في جسمك.
إذن : فأنت قادر بدرجة كبيرة جداً على ان تجعل نفسك مريضاً أو سليماً باستخدام عقلك وفكرك، فعندما يقول مخك : " إنني أشعر بالتعب ".. أو " يبدو أنني غير قادر على فعل شيء ".. أو " يبدو أنني سأمرض بمرض ما " يمكن لجهازك المناعي أن يستجيب بأن تصبح متعباً.. أو أقل قدرة على مقاومة المرض.
لهذا..فإن التشاؤم والعجز والبؤس واليأس والاكتئاب : حالات ذهنية يمكن أن تؤثر بصورة سلبية على جسدك من خلال جهازك المناعي.

الآلية المعرفية لتفسير الضغوط النفسية :

الضغوط ذات علاقة كبيرة بعقلك ( ما تدركه، وتعتقده، وتصدقه ) أكثر من جسدك (كيفية استجابتك البدنية)، واستجابة جسدك للضغط تبدأ من مخك وعقلك، لذلك فإن أساس إدارة الضغط بنجاح وفعالية يجب أن يبدأ بما تفكر فيه وتعتقده.
وقد أثبتت الدراسات أن العقل يستجيب لما هو متخيل بنفس الطريقة التي يستجيب بها لما هو حقيقي.. وهذا يعني أن مفهومك عن الحقيقة لا يقل أهمية عن الحقيقة ذاتها.
إذا كنت تعتقد أنك في خطر (حتى ولو كنت في موقف بالغ الأمان ) فإن عقلك سيرسل إلى جسمك إشارات الخطر.
وحين تعتقد أنه لا قيمة لك (حتى ولو كنت رئيس مجلس إدارة لإحدى الشركات الكبرى) فإن عقلك سيتصرف على هذا الأساس.. أنه لا قيمة لك.
ويرى العالم النفسي إلبرت إليس أن سبب اضطراب الإنسان يعود إلى:
o الشعور بالاكتئاب أو القلق أو الهلع أو الإحباط عندما تقول لنفسك : " لابد أن يكون أدائي ممتازاً.. وأن يستحسنه الآخرون، وإلا.. فأنا شخص غير محبوب ".
o الشعور بالغضب الشديد، أو الحنق، أو المرارة، عندما تفكر : " يجب أن يعاملني الآخرون برفق وعدل وإلا فهم سيئون، ويستحقون العذاب.. خاصة من عاملتهم برفق ".
o خيبة الأمل، أو الاكتئاب، أو الشعور بالإشفاق على الذات عندما تقول لنفسك : " لابد أن تكون الظروف التي أعيشها سهلة وممتعة، وإلا فإن العالم مكان رهيب لا أطيق احتماله، ولن أعرف السعادة أبداً ".
هذه العناصر اللاعقلانية الثلاثة تحدد طريقة تعاملك مع نفسك، ومع الآخرين، ومع الظروف المحيطة بك.. فأنت تقسو على نفسك حين تلزمها بكثير من الأوامر الملحة.. والتي يشعرك عدم قدرتك على القيام بها بالإحباط، وتجعل نفسك رهناً للآخرين حين تنتظر منهم الثناء.. وتخدع نفسك حين تظن أن ظروف الحياة ينبغي أن تكون ملائمة لك.. وإلا فإنك ستنسحب منها.
يمكننا - بناء على ما سبق - أن نقول : إن الأحداث الضاغطة لا تعني شيئاً إن لم تسمح أنت لها أن تعنيه.

الإسلام والأفكار اللاعقلانية المسببة للاضطراب :

إذا نظرنا إلى الإسلام وجدناه يقدم حلاً بديعاً لهذه العناصر الثلاثة، فهو يخفف عنك حين تخطئ.. بل ينظر إلى الخطأ باعتباره طبيعة نفسية.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ". وفتح لك باب تغيير حياتك من خلال التوبة والإنابة إلى الله حتى آخر لحظة من حياتك..
أما نظرتك إلى الآخرين فينبغي أن تكون منبثقة من حسن الظن.. والمحبة العامة.. " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "..
والنظرة إلى الظروف المحيطة ليست نظرة لذة.. هذه الحياة لم تخلق فيها لتمنحك كل شيء.. وإنما هي مسرح للاختبار.. " هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ".. فإذا مررت بظروف محبطة.. فستعلم أنها من طبيعة الحياة.. ويزيدك الإسلام على ذلك : أنك مأجور عليها إن أنت صبرت، كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن أصابه العمى " قال الله عز وجل " من أخذت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة ". وقال صلى الله عليه وسلم : " ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته ".
وقال رجل يا رسول الله أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها قال كفارات".

كيف ينظر عقلك إلى ما يحدث حوله ؟ :

يميل الإنسان دائماً إلى استخدام ثلاث عمليات عقلية حين يتعامل مع الأحداث، وهي : الانتقاء، والإسقاط، والتعميم.
الانتقاء : يعني : أنك لا تعالج الأمور في مجموعها.. لا تنظر إلى الأحداث بصورة متكاملة.. أنت فقط تعزل بعض الأمور من سياقها العام.. لأنك غير قادر على رؤية الأمور في صورة متكاملة.
والإسقاط : يعني : النظر إلى الآخرين والأحداث والأشياء بمنظارك الخاص فقط.. أنت هنا تسقط ما في نفسك على الآخرين.. يظهر هذا في قول الشاعر :
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الحياة شيئاً جميلاً
وفي قول أحدهم لصاحبه عند المشاجرة : لأنك أنت سيء فأنت تنظر إلى الناس بصورة سيئة.. ويتمثل ذلك في المثل المعروف : كلٌ يرى الناس بعين طبعه.
والتعميم : أن تنقل ما يصدق على شيء إلى شيء آخر.. كالمثل العروف " اللي لسعته الحيه يخاف من الحبل ".. هنا عمم خوفه من الحية.. إلى الحبل.. مع أن الحبل لا يخيف.
لنضرب على هذه العمليات العقلية مثالاً يحدث لنا جميعاً :
تقابل اثنين من أصدقائك أحمد وعلي.. تتحادثان، ثم يخبرانك أن عليهما الاستئذان منك للذهاب إلى موعد خاص.
يمكنك أن تفسر انصرافهما بتفسيرات متعددة : هناك عمل عليهما أن ينجزاه، سيذهبان لزيارة مريض.. إلخ.. ولكن الأمور تجري في ذهنك على النحو التالي:
في الأسبوع الماضي طلبت من أحمد مقابلتي فاعتذر لي ببعض المواعيد الخاصة. وحين كلمت علياً قيل لي : لقد خرج مع بعض أصدقائه.. الغالب أن أحمد وعلياً لم يعودا يهتمان بي، كلاهما يريد أن يتخلص مني.

ما الذي صنعته هنا ؟

لقد انتقيت من كل الأحداث التي جرت لك مع أحمد وعلي حدثاً واحداً، ثم فسرت ذلك الحدث بطريقتك الخاصة... أي أنك أسقطت عليه ما تفكر أنت فيه.. ثم أخذت قرارك بصورة معممة " علي وأحمد لا يريدانني صديقاً ".
الانتقاء والإسقاط والتعميم. عمليات عقلية نستخدمها كثيراً في معالجة ما يجري لك.. هذه طبيعة عقولنا في تناول الأشياء.. ولكن هذه الطبيعة للأسف يمكن أن توقعنا في كثير من المتاعب.

كيف تصلح من طريقة إدراكك لما يجري لك ؟ :

يمكن للإنسان أن يطور من طريقة إدراكه للأحداث إذا فكر بواقعية، وذلك بأن يعود نفسه على طريقة أكثر دقة في تناول الأمور : أن يحرص دائماً على التفكير فيها بطريقة أكثر علمية، وذلك من خلال مراقبة أفكاره ومحاولة تنقيتها من الألفاظ المطلقة، مثل : " ابداً، يجب، محتم، يستحيل، دائماً ".
مثلاً : بدلاً من أن يقول : أنا متأكد من أن أحمد وعلياً لا يريدانني، يقول " ربما كان أحمد وعلي لا يريدان البقاء معي هذه اللحظة ". ما الذي جرى هنا؟ : لقد استبدلت كلمة " بالتأكيد " إلى كلمة " ربما ". وهذا انتقال رائع من اليقين إلى الاحتمال.. لا يمكنك أن تتيقن من افكارك إلا بعد اختبارها.. وأنت لم تختبرها بعد.. إذن فهي ما تزال أفكاراً محتملة...
ثم استبدلت ايضاً " لا يريدانني " إلى " لا يريدان البقاء معي هذه اللحظة " أنت هنا انتقلت من التعميم " في كل وقت " إلى التحديد " هذه اللحظة ".. هذا التغيير يسمح لك أن تقول بعد ذلك : " ربما في لحظة أخرى يمكننا اللقاء "..
مع هذا الانتقال من التعميم إلى التحديد، ومن اليقين إلى الاحتمال، هناك شيء آخر.. ينبغي أن يعود الإنسان نفسه على أن يكون نظره أكثر شمولية.. ليس النظر الحسي فقط.. وإنما نظرته إلى الأمور.. كثيراً ما نغفل بعض الأحداث.. وتكون هي الأحداث الأهم.
مثلاً : يحدثك أحد الآباء : ابني كان متفوقاً طيلة مرحلة الدراسة الابتدائية.. وكان مطيعاً لي، وباراً بأمه.. الآن وهو في المرحلة المتوسطة أصبحت تقديراته في المواد منخفضة.. واختلفت سلوكياته.. لقد أتيته بكثير من المدرسين في المواد المختلفة.. ولكن مستواه ما زال ضعيفاً.. بينما في المرحلة الابتدائية لم يكن لديه أي مدرس خاص.. وكان متفوقاً.
هذا الأب المحب لولده.. نظر إلى الأمور من زاوية واحدة " التفوق الدراسي " وافترض ان ابنه قد ضعفت قدرته على التحصيل الدراسي لاختلاف مواد المرحلة المتوسطة عن مواد المرحلة الابتدائية.. حسناً.. ليكن الأمر كذلك.. ولكنك جربت ان تُقَوِّم الجانب التحصيلي.. أتيت لابنك بالمدرسين في مختلف المواد.. ولم يفده ذلك كثيراًُ..
الآن، وبعد فشل زاوية الرؤية الأولى.. لننظر إلى الأمور من زاوية أخرى.. لِمَ لا تكون المشكلة نفسية.. وليست تحصيلية ؟
بمعنى آخر : لم لا نفسر الأمر بأن ابنك قد انتقل من الطفولة إلى المراهقة.. وأنه يمر الآن باضطرابات المراهقة : يريد أن يتحرر من أوامر الوالدين.. بدأ ينظر إلى بعض الأمور التي كانت بعيدة عن تفكيره.. بدأت تشغله أمور العلاقات بين الجنسين.. لماذا لا يكون ابنك محتاجاً بدلاً من المدرس الخاص إلى مرشد نفسي.. يستطيع تحديد المشاكل النفسية التي يمر بها.. ثم يقدم له البرامج التي تمنحه المهارات النفسية اللازمة لحل تلك المشاكل.
باختصــار : أنه يمكن للإنسان أن يتلافى قصوره في إدراك الأحداث المحيطة به.. وذلك بأن يتوخى بقدر الإمكان أن يوسع من نظرته إلى الأحداث المختلفة... وان يقلل من استخدام العبارات المشعرة باليقين.. إلى العبارات الاحتمالية.. وأن يحدد كلامه العام.

طريقة مواجهة الضغوط :

الخطوة الأولى :

حدد الموقف الضاغط بالنسبة لك.
يمكن أن يكون هذا الموقف :
 موت أحد الوالدين.
 موت احد الزوجين.
 انفصال الزوجين.
 سجن.
 موت قريب في الأسرة.
 زواج ( وما فيه من اضطرابات تكيف ).
 ترك مهنة والانتقال منها إلى مهنة أخرى.
 إحالة إلى التقاعد.
 تغيرات صحية.
 صعوبات جنسية.
 إفلاس.
 ثروة مفاجئة.
 ديون ملحة.
 تغيرات فترة المراهقة بالنسبة للابناء ( وهي أحداث ضاغطة بالنسبة للأبناء.. وآبائهم، بما ينشأ عنها من صراعات بني الابن وأبيه، واختلافات في وجهات النظر، وبعض السلوكيات المتمردة ).
بالنسبة للمرأة :
 صعوبة في التعامل مع أسرة الزوج.
 التعارض بين العمل خارج المنزل وأعمال المنزل من تربية للأبناء وقيام بحق الزوج والتنظيم للمنزل.
وفائدة تحديد الموقف الضاغط أن لا أسبح في فراغ.. أن لا أقول مثلاً : أنا قلق.. أنا مكتئب.. انا لا أصلح لشيء.. وإنما أقول :" رسوبي في الامتحان هو سبب حزني الحالي ".. " المشكلة التي جرت لي في العمل صباح اليوم سببت لي توتراً ". وهنا تبدأ في التفكير بواقعية.

الخطوة الثانية : انظر إلى أفكارك، وحددها جيداً.

حين تفاجأ بحدث جديد، انظر في كيفية تفكيرك فيه.. هل تراه بصورة إيجابية أم سلبية.. إذا كنت تنظر إليه بصورة سلبية.. فهل يمكن أن تخفف من سلبيتك قليلاً.. هل يمكن أن تنظر إلى الأمور من زاوية أخرى ؟ من زاوية إيجابية ؟
الخطوة الثالثة : ما حدده الباحث ستيفن كوفي..

يفرق كوفي بين دائرتين في النظر إلى المشكلات :
• المشكلات التي تدخل في دائرة الاهتمام.
• والمشكلات التي تدخل في دائرة التأثير.
وهي تفرقة صحيحة.. ولطيفة.. ويمكن للإنسان أن ينظر من خلالها إلى كل المشاكل التي تمر به.. كل الأحداث الضاغطة.
مشكلات دائرة الاهتمام : هي المشكلات التي لم يعد يمكنك التصرف بشيء لكي تغيرها.. إنها مشكلات مزمنة.. ومستحيلة التغيير في الظروف الحالية : مثلاً : يصاب شخص بمرض لا يمكن للطب علاجه في اللحظة الحالية.. يحكم على المرء بالسجن نتيجة جريمة اقترفها.. تفقد بعض الأعزاء عليك..
أنت هنا غير قادر على تغيير الحدث.. لن تستعيد ميتك.. ولن تخرج من السجن.. ولن يعالجك الطب.
هذه الدائرة " دائرة الاهتمام " تتكاثر لتصبح مجموعة من الهموم التي تعوقك عن النظر إلى غيرها.. وأنت لو دققت النظر ستجد أنك تفكر فيها طيلة الوقت.. ولكنك غير قادر على تغييرها.. ستظل طيلة الوقت تفكر فيها دون فائدة.. والمشكلة أن هذا التفكير سيشعرك بالعجز عن ممارسة الأشياء الأخرى التي أنت قادر عليها..
النوع الثاني من المشكلات : المشكلات التي تقع تحت دائرة التأثير، وهي المشكلات التي تمر بها.. ويمكنك مع بذل شيء من الجهد، أو التفكير.. أن تغيرها.. أو على الأقل : أن تخفف من نتائجها السلبية.
مثلاً : رسبت في الامتحان.. لكنك قادر على التقدم إلى امتحانات الدور الثاني.. هذه مشكلة.. تسبب قدراً من الضغوط النفسية.. لكنك قادر على تغييرها مع بذل بعض الجهد في الدراسة..
خسرت في تجارتك.. هذه مشكلة ضاغطة.. ولكن قادر على التعويض في صفقات أخرى..
أحسست بأنك مقصر في حق الله تعالى.. أنت هنا قادر على ان تتوب إلى الله فيتوب عليك..
الحل إذن : حدد أين تقع مشكلتك، هل هي في دائرة الهموم أم دائرة التأثير.. إذا كانت في دائرة الهموم فليس أمامك من حلٍ إلا بأن تتكيف معها.. وإذا كانت في دائرة التأثير فبادر غلى التغيير.
هذه الخطوات الثلاثة : تحديد الحدث الضاغط، ثم النظر إلى طريقة تفكيرك فيها، ثم تحديد ما هو في دائرة الهموم وما هو في دائرة التأثير.. كلها تهتم بالتحديد الفكري للمشكلة.. يبقى الآن العمل..

الخطوة الرابعة : واجه الضغوط ولا تهرب منها.

قال ويليام جيمس : هذه إذن هي آخر كلماتي لك : لا تخف الحياة، صدق أنها تستحق أن تعيشها، وسيساعدك اعتقادك هذا على إيجاد تلك الحقيقة.
حين تواجهك الضغوط.. أول ما تشعر به أنك تريد الهرب منها :
إذا واجهت مشكلة مع مديرك في العمل فأنت تسعى إلى البعد عنه..
إذا واجهتك مشكلة مع زوجتك فستكثر من الأوقات التي تقضيها في الخارج.. ولا تعود إلى المنزل إلا متأخراً لتنام، وتستيقظ من جديد لتستمر في هربك..
ولكن.. ليس هذا هو الخيار الصحيح.. لأنك لن تظل هارباً طيلة عمرك..
الحل إذن أن تواجه الضغوط.. وكلما ازددت مواجهة لها تزداد مهاراتك في حلها..
حين دخلت المدرسة لأول مرة في حياتك استشعرت الضغط.. كان المجتمع غريباً عنك.. لم تجد الأم التي تفهم طلباتك وتلبيها.. في البداية كنت متهيباً.. وأردت الهرب.. ولكنك مع الوقت بدأت في المواجهة.. ومع المواجهة تزايدت المهارة.. ثم أصبح الذهاب إلى المدرسة حدثاً عاديا بالنسبة لك..
هذا يعني أن الضغوط تتحول مع المواجهة إلى " أمور عادية "..
ذهبت إلى عمل جديد.. كل موقف فيه يعتبر موقفاً ضاغطاً.. ولكنك مع الأيام بدأت تتفهم عملك.. وانتهى بك الأمر إلى الإبداع فيه.
مواجهة الموقف الضاغط تسهل لك سبل التفوق والإبداع.
إن آينشتاين.. وهو من علماء الرياضيات المعدودين على مدى التاريخ البشري.. رسب في المرحلة الابتدائية في إحدى المواد..
ماذاكانت هذه المادة ؟ إنها الرياضيات.
الشيخ العلامة محمود شاكر.. الذي قال عنه الأستاذ علي الطنطاوي : هو أعلم أهل الأرض بالعربية.. رسب في المرحلة الابتدائية.. وأعاد السنة من أجل مادة واحدة هي قواعد اللغة العربية.
سيبويه عالم الدنيا في قواعد العربية وهو أعجمي.. كان يقرأ الحديث النبوي على شيخه فأخطأ في النطق بالعربية.. فنبهه شيخه إلى ذلك بحدة.. وكان تألمه لخطئه سبباً في تتلمذه على الخليل ابن أحمد.. ليصبح عمدة النحاة على مدى تاريخ العربية..

الخطوة الخامسة : الاسترخاء والتأمل :

حين يقع الإنسان تحت وطأة الضغط النفسي يستثار جهازه العصبي، ويصاب بالتوتر، ولكي يواجه توتره ذلك، ينبغي أن يتدرب على الاسترخاء والتنفس العميق.
وثمة طرق كثيرة يمكن أن تمارسها لتحصل على استرخاء لأعضاء جسدك.
(تذكر الطريقة التي يراها الأساتذة الكرام).
أما التأمل، فقد وجد الباحثون أن تركيز الفكر على موضوع واحد والتأمل فيه ؛ يساعد الإنسان على استجماع فكره، وهو مضاد لما تحدثه الضغوط من تشتيت للطاقة وبعثرة للجهد، وثمة طرق مختلفة للتأمل مستوحاة في كثير من صورها من الممارسات الشرقية.
ويمكننا القول أن الصلاة بهيئتها الإسلامية تعتبر تجسيداً متكاملاً للتأمل الأعمق، وذلك حين تمارس بما ينبغي لها من خشوع لله، وخضوع لعظمته، وشعور بالحضور الإلهي، والمناجاة الصادقة، وهي - بما تحوي من هيئات جسدية متنوعة من وقوف وركوع وجلوس وسجود - تناغم بين حركة الذهن وحركة الجسد وصفاء الروح، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.. ونص على أنها شفاء لمتاعب النفس حين كان يقول : أرحنا بها يا بلال.
القاعدة الذهبية : الاستعانة بالله تعالى في كل خطوة.

إذن يمكن أن نجمل طريقة التعامل مع الضغوط النفسية في الآتي :

1. حدد الموقف الضاغط بالنسبة لك.
2. انظر إلى أفكارك السلبية، وحولها إلى أفكار إيجابية.
3. ميز بين المشكلات واقسمها إلى : دائرة الهموم ودائرة التأثير.
4. واجه الحدث الضاغط ولا تهرب منه.
5. تعلم الاسترخاء والتأمل.
6. كن مستعيناً بالله تعالى في كل خطوة.