أعلن يوم السبت الرابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام 1434 عن وفاة الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين-رحمه الله- الذي عمل في مناصب وزارية وخيرية عدة، وكان من أبرز من شغل منصب وزير دولة في مجلس الوزراء السعودي، ويا ليت أن يكون في الوزراء شعبة منه، فقد كان خير مثال للوزير العالم الناصح الأمين.
درس الشيخ الشريعة ثم القانون، وهذا من بصيرته أن أبحر في شريعة الرحمن حتى لا يفتتن بقانون الإنسان، وغالب من درسوا هذين العلمين بتجرد تجدهم أكثر اعتزازاً بدين ربهم لكماله وجماله وعظيم مقاصده، وقد نفع الله بهم في بحوث السياسة الشرعية خاصة.

والقصص المروية عن زهد الشيخ وفضله كثيرة، علماً أنه لا يتحدث عن نفسه، ويدافع من يحاول استخراج معلومات شخصية عنه، خلافاً لمن ملت منهم الصحف والشاشات والمنابر ولما يرعووا بعد!
وسأذكر بعض القصص والحكايات عنه، فربما يكون بعضها غير معروف أو ليست مشتهرة، وقد سمعتها ممن سمعها أو علمها عن الشيخ مباشرة دون واسطة، وهم بعض أقاربه ومن عملوا معه خاصة في رحاب العمل الخيري الذي كان الشيخ الحصين أحد فرسانه الكبار.

فقد حدثني أحد من عمل معه في مؤسسة طبية خيرية أن الشيخ اتفق وزوجه ألا يدخرا مالا وألا يستثمرا ريالا! ولذا فإن مال الشيخ ينتهي بنهاية الشهر وياله من استثمار أخروي. وحدثني حفيده أنه يرى مع جده كتباً يقرؤها ثم لا يجدها في مكتبته الصغيرة بعد ذلك، ولا تفسير عندي إلا أنه يهبها، وكم من خازن للكتب لا هو قرأها ولا نفع بها غيره.
وأخبرني أحد المشايخ أن الشيخ كانت له حقوق مالية من مناقشات علمية في جامعة الإمام ، فاتصل بالشيخ يسأله عن رقم الحساب ليودع المبالغ فيها، فقال الشيخ: تبرع بها! فأجابه: أن هذا لا يمكن نظاما! ثم صمت الشيخ برهة، وقال: أودعها في الحساب الفلاني باسمي وهو وما فيه كله للعمل الخيري، وإن تعجب فأعجب من أولئك الذين يطاردون كل هللة من أي طريق ثم لا هم يتبرعون، ولا يسلم العمل الخيري من شرهم وشرههم.

وروى لي أحد رموز العمل الخيري أنهم كانوا يتناقشون ويبسطون القول بحضرة الشيخ وهو صامت يسمع ويفهم ويحلل، ثم يتكلم بكلمات هادئة لا تتجاوز خمسة أسطر، فيقتنع الجميع برأيه، ولنقارن ذلك بمن يجمع الناس فيفتتح الحديث ثم يكمله فيسهب ويمل سامعيه حتى يختم؛ ولم ينبس غيره ببنت شفه يعارض ما فاه به من خطل أو سفه!

ومن لطيف خبره أن قريباً له لمز مؤسسة دعوية وفكرية كبرى عند أحد الأثرياء الباذلين من بلدتهم الجميلة شقراء، فسأل الثري الشيخ صالح عما يقوله قريبه القريب في تلك المؤسسة المباركة، فقال الشيخ: دعك من قوله، فهي خير مني ومن قريبي فلان!

وأغرب ما سمعته عنه حدثني به أحد أكابر العمل الخيري في بلادنا، حيث اعتقل أحد العاملين بالعمل الخيري في الخارج-المغلق حاليا- وكان هذا المعتقل مرتبط بالشيخ الحصين ارتباطاً وثيقا، فذهب بعض زملائه للشيخ الحصين طالبين شفاعته، فأخرج لهم الشيخ كتاباً مرسلاً منه لوزير الداخلية آنذاك يقول فيه ما ملخصه: ما تنقمون من فلان الذي اعتقلتموه؟ إن كان أخطأ فأنا أحق بالسجن منه لأنه كان يأتمر بقولي وكنت( المحرض)له! فأطلقوا سراحه واسجنوني مكانه! ووقَّع الكتاب باسم شريك فلان(أي المعتقل) في العمل الخيري! وكان رد الوزير متلطفاً مع الشيخ وقد خرج هذا الأسير بسرعة خلافاً لزملائه القابعين خلف الأسوار بلا تهمة واضحة ولا محاكمة ناجزة، والأمر لله، والسؤال الذي يفرض نفسه: من يفعل مثله من الناس خاصتهم قبل عامتهم؟

فيا أيها الفضلاء: وأنتم تصلون عصر يوم الأحد على جثمان رجل هذا بعض بعضِ خبره ثم تهيلون التراب على جسده وتودعونه مكاناً ضيقا، سلوا الله له الرحمة والتوسعة، فقد عاش زاهداً بعيداً عما يتقاتل عليه حتى بعض المشايخ، وعاش نافعاً متواضعاً باذلاً ضارباً بسهم في كل خير يستطيعه، وقد شارك في غسل الكعبة صباحاً ثم جاء عصراً للرياض ليفتتح مؤتمراً عن المرأة السعودية تجافى عنه عدد من الرسميين، ليعلن الشيخ أنه قد وهب نفسه للمعروف ولو كان لا يرضي بعض النافذين، وقد تحدث أمام الملك عن المرأة والمناهج بكلام جعل بعض رموز التغريب الحاضرين يجلسون على جمر يحركهم يميناً وشمالا.

وكلمة للحكومة-وفقها الله- أن خير تكريم للشيخ الحصين-الذي خدم الدولة كثيراً كثيرا- ليس تسمية شارع أو منح وسام، بل رفع الحصار عن العمل الخيري الخارجي الذي طال وأضر بالحضور المفترض لبلاد بحجم بلادنا، فهل تكون وفاة الشيخ الحصين مفتاحاً لقفل سبتمبري مهين بغيض صادئ؟

أحمد بن عبد المحسن العسّاف-الرياض

الشيخ الحصين: مصابيح دجى انطفأت!