حتى لا ينقطع عملكَ بعد الموت.. الوقف !

كتب عبد الملك القاسم
هذه الكلمات حول الوقف فأردت أن ينتفع به قرّاء منتدى(معهد توب ماكس)
وإاليكم الحديث

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن الدنيا مزرعة الآخرة وهي دار التكليف والعمل، ومن فضل الله ومنته أن أعمال المسلم لا تنقطع بموته وخروجه من الدنيا بل هناك أعمالاً تجري حسناتها له بعد وفاته. ولقد علم سلف الأمة هذا الخير فسابقوا إليه وتنافسوا فيه. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم في بداية فجر الإسلام يعانون من قلة ذات اليد وضيق العيش. ولمّا فتح الله عزّ وجلّ لهم خزائن الأرض وأتتهم الأموال كان همهم منصرفاً إلى كيفية استثمارها في آخرتهم. فجهز كثير منهم الجيوش، وأكثروا من الصدقات والعطف على الفقراء، وقضاء حوائج الأيتام، والقيام على الأرامل، وتطلعت أنفسهم لعمل يجري به الثواب بعد الموت امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا مات ابن آدم انقطع عملها إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له » [رواه مسلم].

وقد شرع الله تبارك وتعالى الوقف وندب إليه وجعله قربة من القرب التي يتقرب بها إليه؛ ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته، بعد موته، علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، ومسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه بعد موته » [رواه ابن ماجة وحسنه الألباني].

فكان الوقف من أعمالهم التي سارعوا إليها فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه دور بمكة فأوقفها على أولاده، وعمر رضي الله عنه أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره عليها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه. فقال صلى الله عليه وسلم: « إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها » . (فتصدق بها عمر رضي الله عنه في الفقراء، وفي ذي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضيف...) [رواه مسلم]. وفي خلافته -رضي الله عنه- أعلن صدقته ودعا نفراً من المهاجرين والأنصار فأخبرهم بذلك وأشهدهم عليه فانتشر خبرها. وتسابق الصحابة في وقف كثير من أموالهم وحبسها في أوجه الخير والبر.

قال جابر رضي الله عنه: "فما أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالاً من ماله صدقةً مؤبدةً لا تُشترى أبداً، ولا توهب، ولا تورث".

وقد أوقف عثمان بن عفان- رضي الله عنه- أملاكه بخيبر على أولاده، كما سبَّل بئر رومة لوجه الله تعالى. وأوقف علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- عيوناً من الماء في ينبع. كما أوقف ضيعتين تسمى إحداهما عين أبي نيزر، والثانية تسمى البغيبة، وجاء في وقفها: "بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر، والبغيبة، على فقراء المدينة وابن السبيل ليقي الله بهما وجهه حر النار يوم القيامة، لا تباعا ولا تورثا، حتى يرث الله الأرض وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين فهما طلق لهما وليس لأحد غيرهما..".

وقد أوقفت أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنهما- دارها صدقة حبس لا توهب ولا تورث.

وتصدقت أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان- رضي الله عنها- بأرضها التي بالغابة صدقة على مواليها وعلى أعقاب أعقابها حبساً لا تباع ولا توهب ولا تورث.

وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري في المدينة نخلاً.

وكان أحب أمواله إليه بيرحا، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله علبيه وسلم يدخلها ليشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة: يا رسول الله إن الله يقول: { لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا ممَّا تحبون } [آل عمران: 92]. وإن أحب اموالي إلي بيرحا، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بخٍ ذلك مالٌ رابح، ذلك مالٌ رابح. وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين » ، فقال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

وقد احتبس خالد بن الوليد- رضي الله عنه- أدراعه وأعتاده في سبيل الله.

والوقف: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهو صدقة جارية يقفها المرء ويُسبِّلها في حياته لوجوه الخير والبر، فيستمر أجرها جارياً ما دامت باقية. وفي هذا عظيم المنفعة للواقف بإجراء حسنات له في حياته وبعد مماته، لما في ذلك من فضائل الوقف النافعة التي تعين على الخير والأعمال الصالحة، وتعين أهل العلم والعبادة، وتسد حاجات الفقراء والمساكين، والمرضى والمعوزين، وترفع راية الدين بنشر العلم النافع، وبناء المدارس ودور الأيتام.

ويجوز وقف كل ما جاز بيعه وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه، سواء كان ثابتاً كالعقار، أو منقولاً كالسلاح، والثياب والسيوف.

ويصح وقف الحلي للّبس والإعارة، فعن نافع قال: "ابتاعت حفصة حلياً بعشرين ألفاً فحبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته".

وأفضل أنواع الصدقات أنفعها وأدومها، ولا يتأتى هذا إلا إذا كانت تلك الصدقة مضمونة البقاء، تقوم على أساس، وتنشأ من أجل هدف محدد، وترمى إلى غاية شرعية خيرة. فأغراض الوقف ليست قاصرة على الفقراء والمساكين وحدهم، أو دور العبادة والعناية بها فحسب، بل تتعدَّى ذلك إلى أغراض أخرى مثل: دور العلم، والمعاهد الشرعية، وطلبة العلوم الإسلامية القائمين على شريعة الله. والمستشفيات، والمجالات كثيرة متعددة، وقد أوقف صلاح الدين الأيوبي بلده بلبيس لفك أسرى المسلمين من أيدي الأعداء.

أخي المسلم:

تتنوع حاجات الناس العامة للوقف بحسب المكان والزمان، وأول وقف أوقف في الإسلام هو مسجد قباء، قال ابن كثير رحمه الله: "لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه، ثم انتقل إلى منازل بني النجار من الأنصار".

وإليك أنواعً من الوقف لا تغيب عن بالك:

أنواع الوقف:

1- الوقف بإنشاء المساجد ورعايتها والقيام بشؤونها امتثالاً لقول الله تعالى: { إنَّما يَعْمُرُ مساجد الله من ءامن بالله واليوم الآخر وأقام الصَّلوة وءاتى الزَّكاة ولم يخْش إلا الَله فعسى أولئك أن يكونوا من المُهتدين } [التوبة: 18].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: « من بنى مسجداً لله تعالى يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة » [رواه البخاري ومسلم].

ورواه ابن ماجة بلفظ: « من بنى مسجداً لله، ولو كان كمفحص قطاةٍ أو أصغر، بنى الله له بيتاً في الجنة » .

والمفحص: عش الطير، والقطاة: طائر يشبه الحمام.

ومن أجل أن يقوم الإمام بواجبه على أفضل وأكمل وجه؛ يلحق بالمسجد سكن خاص بالإمام ويعتبر من ضمن مرافق الوقف وملحقاته.

2- الوقف على الجهاد في سبيل الله. قال صلى الله عليه وسلم: « من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، فإن شبعه وريَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة » [رواه البخاري]. وقد مرّ بنا أن خالد بن الوليد- رضي الله عنه- حبس درعه وكراعه في سبيل الله، كما أن طلحة- رضي الله عنه- حبس سلاحه وكراعه في سبيل الله.

3- الوقف على توزيع الكسوة للفقراء والأرامل والمحتاجين. وبعض المسلمين والمسلمات اليوم لا يجد ما يستر به عورته.

4- الوقف على المكتبات العامة كإنشائها وإيقاف الكتب الشرعية بها. وقد كانت الأمة الإسلامية تزخر بمثل هذه المكتبات في الشام والعراق والمدينة وغيرها.

5- إنشاء المدارس العلمية التي تكفل مجانية التعليم لأبناء المسلمين.

6- إنشاء المراكز الطبية؛ خاصة ما دعت إليه الحاجة في هذه الأزمنة: كمصحات الأمراض النفسية، وعلاج أمراض الكلى والأورام الخبيثة، وإنشاء المستشفيات والمستوصفات، فكم من مريض يأنُّ، وكم من صغير يموت، وهو في حاجة إلى دواء لا تتجاوز قيمته عشر ريالات، وهذا نراه في دول إسلامية فقيرة.

7- تعبيد الطرق وشقها وإنشاء القناطر على الأنهار.

8- حفر الآبار وإجراء الماء وقد قال صلى الله عليه وسلم: « من يشتري بئر رومة وأضمن له الجنة » : (فاشتراها عثمان- رضي الله عنه- وجعلها وقفاً دائماً على المسلمين) وقرى المسلمين اليوم تحتاج إلى حفر الآبار، ومد الأنابيب، وتركيب المضخات.

9- الأوقاف على الدعاة والوعاظ؛ بما في ذلك توفير الرواتب والمواصلات والوسائل الأخرى التي تعينهم على أداء أعمالهم.

10-الأوقاف للمشاركة في الإعلام الإسلامي. ومن ذلك دعم المجلات الإسلامية بأموال وقفية مثل المجلات العلمية والدعوية التي ترفع لواء التوحيد.

11-إنشاء الأربطة والملاجىء للعاجزين.

12-الوقف على نشر دعوة التوحيد وتبليغ الإسلام؛ وذلك بطبع الكتب والأشرطة وتوزيعها.

13-إقامة مراكز للمهتدين الجدد في أفريقيا مثلاً.

14-بناء مراكز الأيتام ورعايتهم والعناية بهم. .

15-الوقف على تطوير البحوث المفيدة والنافعة.

16-الوقف على جماعات تحفيظ القرآن الكريم التي نفع الله بها أبناء المسلمين.

17-الوقف على مدارس تحفيظ القرآن النسائية، التي بدأت ولله الحمد تنمو وتكبر.

18-الوقف على رواتب المعلمين والمعلمات محفظي كتاب الله عزّ وجلّ.

19-إطعام الجائعين، وقد رأينا بعضهم في حال المجاعة يسقط ميتاً وهو ينتظر في الطابور ليأخذ وجبته من المؤسسات الخيرية. وفي منطقة واحدة حينما ضربت المجاعة الصومال، كان يسقط ميتاً أمام أعين المؤسسات الخيرية ما يزيد عن أربعين مسلماً كل يوم.

20-هداية ضال، فكم من أبناء المسلمين من يعيش في ظلمات الشرك والبدع والخرافات، وكم من كافر يتلمس طريق الحق ولا يجده! ألا ندعم مكاتب الجاليات بأوقاف تعينهم على أداء رسالتهم: « لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم » .

21-الوقف على تفريج الكرب. فكم من مسلم لا ينام الليل من الهموم والغموم والديون التي لحقته، وكم من مسلمة تحتاج إلى ريالات لتسافر لزيارة أبنائها ولا تجد، قال صلى الله عليه وسلم: « .. ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة.. » [متفق عليه].

22-الأوقاف على الدعوة عبر شبكة المعلومات (الإنترنت) وقد رأينا ثمرة الأعمال الدعوية عبر هذه الوسيلة العجيبة.

23-إقامة مصانع لتدريب المسلمين وتعليمهم مهن صناعية وإنتاجية تنفعهم.

24-الوقف على فك الرقاب، وإعتاق المسجونين الغارمين.. { فلا اقْتحم العَقَبَة . وما أدراك ما العَقَبَة . فكُّ رَقَبَة } [البلد: 11- 14].

25-إيقاف الأراضي على المقابر لدفن المسلمين بها.

26-شراء المصاحف وإيقافها في المساجد، خاصة خارج المملكة. وقد رأيت بعيني مسجداً كبيراً ولا يوجد به مصحفاً واحداً، إنما رأيت بعض ورقات من المصحف متناثرة.

أخي المسلم:

غالب هذه المصارف متوفرة لدى المؤسسات الخيرية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم ولها أوقاف خاصة بها. وقد اتفق العلماء على أن وقف المشاع جائز.

أخي المسلم:

لا يزال العمل الإسلامي ضعيفاً ويعاني من قلة الموارد. والأوقاف بإذن الله تجعله ينطلق بثبات وقوة. وقد عرف الصليبيون أن المادة عصب الحياة فأوقفوا مليارات الدولارات على الكنائس والمعابد الوثنية للصد عن سبيل الله، وقل أن تجد مكاناً لا توجد به كنيسة أو معبد هندوسي أو دار أيتام يُنصَّر فيه الناس ويُضلون عن الطريق المستقيم.

ألسنا أولى بهذا منهم؟! إن الجنة سلعة الله الغالية.

وما وهبنا الله من أموال هي أمانة في أيدينا فإن أنفقنا وقدمنا لأنفسنا وإلا رحلنا عنها. وتأمل في حال قارون وكيف أردته أمواله: { فَخَسَفْنا به وبِدَارِهِ الأرض } [القصص: 81].

والمال الذي في أيدينا على قسمين: قسم لنا وهو الذي نقدمه للآخرة وندخره عند الله عزّ وجلّ، وقسم عندنا وهو أمانة ينتظر أصحابه تسليمه إليهم بعد الموت، وهم الورثة وأصحاب الحقوق.

وكم من مسكين جمع الملايين وكد وكدح في جمعها، ولم يوقف شيئاً منها في حياته ولما توفي رفض أبناءه بناء مسجد واحد له من هذه الملايين!

وكم من مُدرسة يأتيها مرتب جيد كل شهر ولها سنوات طويلة تعمل ولم توقف لنفسها شيئاً! بل جل أمواله في الطعام والشراب والفساتين والحلي!

أخي المسلم:

إن من شكر نعم الله عزّ وجلّ أن نتذكر حال آبائنا وأجدادنا قبل سنوات قريبة حيث أصابهم الجوع، ولازمهم ضيق ذات اليد وقلة الموارد، وقلَّ منهم من يأكل وجبتين في اليوم الواحد. ولقد منَّ الله عزّ وجلّ علينا بنعم عظيمة: من سعة في الأرزاق، وكثرة في الأموال، ورغد من العيش، فيا ترى كيف الحال وقد أبدل الله الفقر بالغنى، والجوع بالشبع، والخوف بالأمن.

فيامن خلقك الله للعبادة وابتلاك بالمال.. لا تزال تسير في هذه الحياة حتى يأتيك هادم اللذات شئت أم أبيت عاجلاً أم آجلاً. إما في سن الشباب أو عند الهرم والشيخوخة.. وكلها سنوات قليلة وترحل من فوق الأرض إلى تحت الأرض. فمن أين لك بالحسنات تجري عليك؟! إنها الأوقاف التي تدفع إليك الحسنات في وقت أنت أحوج ما تكون.. عليك بدريهمات قليلة فاجعلها لك ذخراً: إما مصحفاً تقفه، أو كتاباً نافعاً تنشره، أو لبنة في بناء، أو إسهاماً في مشروع ينفع الإسلام والمسلمين. إنه عمل من أعمالك في الدنيا تجري عليك حسناتُه وأنت في قبرك، وهذه منّة من الله وفضل أن جعل العبد يسعى فيما لا ينقطع فيه أجره بعد مماته.

ويا من أوقفت من مالك لوجه الله تعالى.. أبشر بانشراح الصدر، وسعة في الرزق، ونماء في الأموال، وطمأنينة في الدنيا. فإنك تعمل وتقدم لآخرتك وسوف تسر بما تقدم.

اللهم أحينا على التوحيد سعداء، وأمتنا على التوحيد شهداء. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وآله وصحبه أجمعين.