ما زال التاريخ يتحدث من أرض تونس الخضراء ، ويحكي هذه الوهلة حديثاً كبيراً عن القيم ، يتحدث عن المبادرة وأثرها في إيقاظ الأرواح الساكنة .. لقد ظلت تونس كلها ترزح تحت وطأة القوة الموهومة ، وإني على يقين أن أرواحاً كثيرة تتنفّس هذه اللحظة وتبحث عنها لكنها هابت الخطوة الأولى في رحلتها ، وعجز كثير من الكبار عن إشعال عود الثقاب في الأرض المنهوبة ، وطال الزمن حتى أشعل فتيل النار ، وأمسك بزمام المبادرة ، وكتب الخطوة الأولى محمد البوعزيزي أحد أفراد شعب تونس ، وكانت هذه الخطوة كفيلة بقلب الموازين كلها على مستوى تونس .. وهي رسالة تهتف بكل إنسان قائلة له : أن المبادرة من أعظم أخلاق الإنسان الحي ! وأن الأمة حين يموت فيها هذا الخلق يموت فيها أعظم المعاني أثراً .
يذكرني هذا الموقف وهذا الخلق بموقف ثابت بن أقرم في غزوة مؤتة وقد رأى قادة المعركة الثلاثة صرعى على الأرض ، وبقي الجيش لا قائد له ، ولا راية يحملها كباره ،فأخذ بزمام المبادرة ، وكلّف نفسه أن تحمل واجبها ، وتقف على قدميها تقوم بدورها كما أريد لها ، فقال يامعشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا : أنت ، قال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فأخذ خالد الراية وعادت لحظات القوة تتأجج من جديد في صفوف المسلمين .
إن الأمة اليوم لا ينقصها عدد بقدر ما ينقصها مبادرون ! ومبادرة البوعزيزي هي التي كسرت باب القصر ، وهتكت ستره فلم يعد بينه وبين الجماهير الغفيرة أي حاجز ، وإن كنت أقول بقدر ما حمل البوعزيزي هموم وطنه ومجتمعه ، واستطاع من خلال عود الثقاب أن يوقد الهمة في قلب كل رجل من أبناء تونس إلا أن ذات الفعل خطأ لا تقره شريعة ، ولا يرتضيه عاقل مهما كانت المبررات ، وكان يمكن أن يشعل ذات الثقاب بصور كثيرة غير التي رأينا ويصل تونس وشعبه إلى ذات الصورة التي هيجها الحريق في جسد أحد شبابه .
وقد مضى قدر الله تعالى في كل ذلك ، لكن الدرس ينبغي أن يكون أوعب لكل قارئ لتلك الأحداث .. إن كثيراً من الأخطاء التي تنتهك مصير المجتمعات والأمم تبدأ في بدايتها بخطوات قصيرة المدى ، وتذهب تأخذ مساحة من الواقع ، وتمتد حين تخلو مساحة المجتمع من مبادرين مخلصين ، وتظل مساحة هذه الأخطاء تمتد ونحن لا نشعر ، وقد لا نفيق إلا وقد استوثقت من الواقع وكتبت لنفسها البقاء ، ولو كنا ندرك أدوارنا من البداية ، ويقوم كل واحد منا بواجبه لما تمكن الباطل من التنفّس في مساحة فارغة .. لكننا نظل نتلفّت لمن يأخذ راية المبادرة ، وتظل هذه الراية ساقطة تشتهي من يحملها أو يرفعها أمام أعين الناس حتى يستوثق الباطل من الواقع ويمضي بعد ذلك قوياً جذلاً أمام أي مواجهة .
إن البوعزيزي بعث في نفوسنا الأمل من جديد ، وذكّر من خلال ما فعل أن الأمة لا تحتاج لإيقاظها شيئاً كبيراً ، وإنما تحتاج خلقاً اسمه المبادرة ، يأخذ الراية الساقطة ويرفعها لتراها الأمة وتقبل تنضوي تحت ظلها من جديد .
وإنني أدعو من خلال حديث التاريخ الذي نعيش أحداثه اليوم أن يدرك كل واحد منا دوره وموقعه وأثره في مجتمعه الذي يعيش فيه ، أو في موقع عمله الذي يقدم فيه رسالته ، أو حتى على مستوى أمته التي يعيش هم عزتها ، وحين يقوم كل واحد بهذا الدور دون أن يتلفّت لغيره سنصل بإذن الله تعالى إلى ما نحلم به من آمال ، وربنا تعالى يقول : الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ\"
إنني أجزم أن الأحداث التي مرت على أفراد ذلك الشعب الأبيّ هي أكبر من الحدث الذي لقيه البوعزيزي في طريق كرامته وعزته ، لكن البوعزيزي أخذ على نفسه أن يتولى هو الخطوة العملية لتحرير الإنسان من ربق العبودية .. وإن كنت أدرك وأنا أكتب هذه الأسطر أن في كل شبر من تلك الأرض شرفاء ربما كان يخطط كل واحد منهم أن يكون هو عود الثقاب الذي يشتعل لتحرير الإنسان التونسي ، وشاء الله تعالى أن يكون البوعزيزي هو عود الثقاب .
إن خلق المبادرة من أعظم أخلاق الإنسان أثراً في الواقع ، لكن يجب أن تكون في مسارها الصحيح ، وعلى وفق شرع الله تعالى ، وألا يحمل هذا الخلق صاحبه على الفوضى ، فيذهب متحمّساً في قضايا يراها هو أنها حق تستحق الدفاع والمبادرة وهي في الحقيقة شبهة لا رصيد لها من الشرع ولا من العقل فيهدم بناءً عريضاً ما كان ليكون كل ذلك لولا تلبيس الشيطان .. ولو لم يكن أمامنا في هذه اللحظة إلا ما نراه من قتل للأبرياء ، وسفك للدماء ، وإزهاق لأرواح ، وتخريب للأمن وكل ذلك محمولاً على ظهر هذا الخلق الكريم في ظن صاحبه لأدركنا أن الدعوة لهذا الخلق تستوجب النظر قبل ذلك في واقع تلك الأخطاء ، وما الواجب الشرعي تجاهها ؟ وألا تكون المسائل فوضى على أي مستوى قل حجمه أو كبر .. وحين تنجلي هذه الحقائق يدرك كل إنسان متى يكد روحه على أكتاف ذلك الخلق وهو به بهيج ؟

مشعل عبد العزيز الفلاحي
Mashal001@hotmail.com
صباح الجمعة 17/2/1432هـ