منقول
البلاءُ يرفع درجاتك ويحط خطاياك

إن في الجنة درجاتٍ قد لا يبلغها العبد بعمله مهما عمل، ولقد هيأ الله سبحانه لعباده المؤمنين منازل في الجنة، لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هم من جملة أسباب وصولهم إليها.
وهناك درجات في الإيمان والهدى؛ لا يصلها العبد بأعماله، وما كان له أن يصلها إلا بالمحنة والبلاء، ويريد الله أن يرفع عبده إليها؛ فيكتب عليه الابتلاء ويعينه على الصبر والثبات عليه، وذلك رحمةً منه سبحانه بذلك العبد.
أَتُرى لولا أن مشركي قريش استولوا على أموال صهيب الرومي أكان يحظى بدرجة؛ "أبا يحيى! ربح البيع"؟!
أَتُرى لولا العذاب الذي ذاقه آل ياسر على يدي مشركي قريش؛ أتراهم كانوا ينالون شرف؛ "صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة"؟!
ولولا تقطيع أنس بن النضر إِرَباً في غزوة أحد، أكان ينال شرف؛ "لو أقسم على الله لأبره"؟! ولولا ذلك لما انبسط وجهه وتحقق له ما أراد يوم حلف: (والله لا تكسر ثنية الرُبَيِّع).
ولولا العذاب الذي ذاقه بلال بن رباح على يدي أمية بن خلف وزبانيته؛ ما نال درجة؛ "بلال سيدنا".
لولا صبر يوسف عليه السلام يوم الهمة، وفي السجن، ما نال درجة؛ {أيها الصديق}.
لولا صبر عمر بن الخطاب على مُرِّ الحق والعدل، ما انبسطت يده تملك الدنيا بأسرها أو - كما يقولون - ما انبسطت يده يضرب الأرض بالدِّرَّة.
ولولا صبر عمر بن عبد العزيز على مر الحق والعدل، ما نال درجة؛ "الخليفة الخامس".
ولولا صبر "أصحاب الرجيع" على ما لاقوه في سبيل الله، ما كانوا من أهل؛ {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}.
ولولا صبر سعد بن معاذ وبذله في سبيل الله، وإراقة دمه يوم الخندق، وحكمه العادل في بني قريظة، ما نال درجة؛ "اهتز عرش الرحمن لموت سعد".
ولولا بذل وعطاء وصبر عبد الله بن حرام في أحد وقبل أحد، ما نال درجة قول الله: "يا عبدي! تمن علي أعطك".
ولولا صبر أحمد بن حنبل على العذاب وثباته على الحق، ما نال درجة؛ "إمام أهل السنة"
ولولا صبر وثبات سيد قطب في محنته وعند قتله، ما أصبح لكلماته أثر يذكر، ولا لكتبه الانتشار والتأثير في العالم كله.
إن الله إذا أراد اصطفاء بعض عباده ليكونوا شهداء؛ سلط عليهم الأعداء ليقتلوهم ولتسيل دماؤهم في محبته ومرضاته، وليبذلوا نفوسهم في سبيله سبحانه.
فالشهادة هي أعلى المراتب بعد مرتبة النبيين والصديقين، فالشهداء هم المقربون لربهم، وهم قد رضوا عنه سبحانه، وقد اصطفاهم واختارهم واتخذهم لنفسه سبحانه، ومن أجل ذلك قيض الله الأسباب لذلك، وجعل عدوه - عدو المؤمنين - سبباً في نيل هؤلاء المؤمنين درجة الشهادة، وأكرم بها من درجة! فإذا أراد الله أن يرفع الدعاة والمجاهدين المخلصين إلى هذه الدرجات، فلابد أن يقتلوا على أيدي الأعداء.
إن هناك ذنوباً كبيرة قد لا تكفرها إلا الحسنات الكبيرة، أو الإبتلاءات الشديدة، فيُقدر الله عز وجل على أوليائه الابتلاء، ليكفر عنهم ذنوبهم - صغيرها وكبيرها، دِقِّها وجلها، أولها وآخرها - حتى لا تبقى لهم خطيئة، فيقبلون على ربهم وقد حطت عنهم خطاياهم.
أكرم بذلك من فضل، وأنعم بها من درجة عالية.
ولعل هذا المعنى هو الذي أشار إليه الحديث الشريف الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة).