منقول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله ربي العاليمن
والصلاة والسلام على سيد المرسلين
سيدنا محمد طه رسول ربي العالمين

أما بعد:
الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها وعلاج الوسوسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل الصلاة عماد الدين وصلة قوية بين الله وعباده المؤمنين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:

فإن الخشوع هو الخضوع والتذلل والسكون
قال الله تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2].
أي قد فاز وسعد ونجح المؤمنون المصلون ومن صفاتهم أنهم
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
والخشوع في الصلاة:
هو حضور القلب فيها بين يدي الله تعالى محبة له وإجلالاً وخوفًا من عقابه
ورغبة في ثوابه مستحضرًا لقربه فيسكن لذلك قلبه وتطمئن نفسه
وتسكن حركاته متأدبًا بين يدي ربه مستحضرًا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته من أولها إلى آخرها فتزول بذلك الوساوس والأفكار
والخشوع هو روح الصلاة والمقصود الأعظم منها
فالصلاة بلا خشوع كبدن ميت لا روح فيه.

خشوع القلب:
وأصل الخشوع خشوع القلب الذي هو ملك الأعضاء

فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها
ولما رأى سيدنا سعيد بن المسيب رجلاً
يعبث في صلاته قال:
لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه [شرح السنة].

الشيطان والخشوع:
وليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضر قلبه فيها

والشيطان يريد من العبد أن لا يصلي ليكون من أصحاب النار
فإذا صلى حال بينه وبين نفسه يوسوس له ويشغله عن صلاته حتى يبطلها أو ينقصها
وفي الحديث: «إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له إلا رُبعها، إلا خُمسها، إلا سُدسها، حتى بلغ عُشرها» [رواه أبو داود والنسائي وابن حبان].
وقد أرشد النبي الذي هو بأمته رءوف رحيم أرشد إلى سلاح قوي يكافح به العدو. فإذا خرج المسلم من بيته إلى المسجد أو إلى غيره أرشده أن يقول:
«باسم الله، آمنت بالله، اعتصمت بالله، توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله» إذا قال ذلك يقال له: هديت وكفيت ووقيت ويتنحى عنه الشيطان.
[رواه أبو داود والترمذي والنسائي].
فإذا دخل المسجد يقول:

أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم
إذا قال ذلك قال الشيطان:
عصم مني سائر اليوم. [حديث حسن رواه أبو داود بإسناد جيد].
وإذا دخل في صلاته مستحضرًا عظمة ربه وحضوره بين يديه يقول بعد دعاء الاستفتاح: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
ثم بعد ذلك يتفكر المصلي فيما يقوله ويفعله ويسمعه من الإمام إذا كان مأمومًا فجهر الإمام بالقراءة استمع لقراءته، فإذا أسر اشتغل المأموم بالقراءة.مظاهر الخشوع
ومن مظاهر الخشوع في الصلاة: قبض اليد اليمنى على كوع الشمال، والنظر إلى موضع سجوده وعدم رفع بصره إلى السماء، وعدم الالتفات يمينًا أو شمالاً وعدم الحركة والعبث والاشتغال بالملابس وغيرها وعدم فرقعة الأصابع أو تشبيكها، فكل هذا ينافي الخشوع.

قال ابن عباس رضي الله عنه: «ركعتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه» [شرح السنة].
وقال سيدنا سلمان الفارسي: «الصلاة مكيال فمن وفَّى وُفِّي له، ومن طفَّف فقد علمتم ما قال الله في المطففين» [شرح السنة].
وفي الحديث الشريف: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته»

وهو الذي لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا القراءة فيها [رواه أحمد].
وفي الحديث: «إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت»

[رواه الترمذي].
والالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان: التفات القلب عن الله تعالى إلى غيره

والتفات البصر وكلاهما منهي عنه، ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله عنه.
وقد سُئل النبي عن الالتفات في الصلاة فقال:

«هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» [متفق عليه]
وفي رواية: «إيّاك والالتفات في الصلاة فإنها هلكة» [رواه الترمذي].
إن الرجل منا إذا أراد أن يقابل ملكًا أو رئيسًا تجمّل لمقابلته وأقبل عليه بكليته وسمعه وبصره، وإن المصلي يقف أمام الله ملك الملوك يناجيه بكلامه وهو يراه ويسمعه ويعلم سرّه وعلانيته فليراقبه

بالخشوع والخضوع والمحبة والخوف والرجاء والرغبة والرهبة.
إن الصلاة بقيامها وركوعها وسجودها وأذكارها وجميع حركاتها

عبادة لله عز وجل تعني الانقياد الكامل والطاعة التامة والاستسلام لله رب العالمين بامتثال أوامره واجتناب نواهيه مدى الحياة وفي جميع الأزمنة والأمكنة.
مراتب الخشوع:
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله في كتابه (الوابل الصيب من الكلم الطيب):

والناس في الصلاة على مراتب خمسة:
إحداها:

مرتبة الظالم لنفسه المفرط وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.
الثاني:

من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها لكن قد ضيَّع مجاهدة نفسه بالوسوسة فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالث:

من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار فهو مشغول في مجاهدة عدوه لئلا يسرق من صلاته فهو في صلاة وجهاد.
الرابع:

من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها واستغرق قلبه مراعاة حدودها لئلا يضيع منها شيء بل همّه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي.
الخامس:

من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه سبحانه وتعالى ناظرًا بقلبه إليه مراقبًا له ممتلئًا من محبته وتعظيمه كأنه يراه ويشاهده فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض.
فالقسم الأول: معاقب

والثاني: محاسب
والثالث: مُكَّفر عنه
والرابع: مثاب
والخامس: مقرَّب من ربه لأن له نصبيًا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة فاستراح بها كما كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقول:
«أرحنا يا بلال بالصلاة» [زاد المعاد]، ويقول: «جعلت قرة عيني في الصلاة»
[الجامع الصغير]،
ومن قرَّت عينه بالله قرَّت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه إذا قهر شهوته وهواه وإلا فقلب قد قهرته الشهوة وأسره الهوى ووجد الشيطان فيه مقعدًا تمكن فيه وكيف يخلص من الوساوس والأفكار
من أسباب قبول الصلاة:
وقال بعض العلماء: يحتاج المصلي إلى أربع خصال حتى ترفع صلاته:

«حضور قلب، وشهود عقل، وخضوع أركان، وخشوع الجوارح».
فمن صلى بلا حضور قلب فهو مصلٍ لاهٍ، ومن صلى بلا شهود عقل، فهو مصلٍ ساهٍ، ومن صلى بلا خضوع الأركان فهو مصلٍ جافٍ،
ومن صلى بلا خشوع الجوارح، فهو مصلٍ خاطئ،
ومن صلى بهذه الأركان فهو مصلٍ وافٍ.
وقال لمن طلب منه موعظة وجيزة: «صل صلاة مودع» أي: إذا صليت فأكمل صلاتك كأنها آخر صلاة تصليها في حياتك.
الخشوع وذكر الله:
والخشوع في الصلاة حالة تخضع وتطمئن فيها الجوارح بأعمال الصلاة وترافقها أذكار صادرة عن ذهن حاضر متدبر وتواكبها خواطر تقوم بالفؤاد منفعلة بمهابة الله وإجلاله ومشاعر متجهة إليه في القنوت والإخبات. ولا تتم صلاة بغير خشوع مهما كانت ملتزمة بالمظهر المسنون أو انضبطت فيها الحركات الآلية أو تم كلام اللسان.
والخشوع حالة لا تتيسر إلا لمن تعهد نفسه بالتزكية ورطب لسانه بذكر الله في كل حين وألان فؤاده باستشعار هيبة ربه حتى تفجَّرت في نفسه ينابيع الإيمان وعرف طمأنينة اليقين فصار يحسن العبادة كأنه يرى الله

بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد: 16]
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم
«الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
الخشوع وحضور القلب:
والخشوع تكامل بين معان مختلفة من التوجه إلى الله ومن التجرّد له عما سواه واستشعار جلال الله وعظمته والتذلل له والخضوع والاستكانة بين يديه ولا بد من استحضار هذا الشعور الكامل لدى كل قول أو عمل من إجراءات الصلاة فالخشوع قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل.
وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب وثمرته على الجوارح فالخاشعون هم الخاضعون لله والخائفون منه، وفسرَّ الخشوع في الصلاة بأنه جمع الهمة لها والإعراض عما سواها وهذا الخشوع وسيلة لتنمية ملكة حصر الذهن التي لها أكبر الأثر في نجاح الإنسان في هذه الحياة، وقد علَّق فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم فدل على أن من لم يخشع في صلاته فليس من أهل الفلاح. ومما يبطل الصلاة الكلام العمد والضحك والأكل والشرب وكشف العورة والانحراف عن جهة القبلة والعبث الكثير وحدوث النجاسة.

ومما يعصم من الشيطان التعوّذ بالله منه ومخالفته والعزم على عصيانه وكثرة ذكر الله تعالى. قال «رأيت رجلاً من أُمتي قد احتوشته الشياطين فجاء ذكر الله فطرد الشيطان عنه» [الوابل الصيب].
أخي المسلم: حافظ على صلواتك الخمس بشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها وسُننها ومكملاتها حتى يحفظك الله بها.
وقد شبَّهها رسول الله عليه الصلاة والسلام

في محوها للخطايا بالنهر الجاري الذي يغتسل منه العبد كل يوم خمس مرات ، فيذهب ما فيه من الأوساخ ، والأدران
قال: «فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» [متفق عليه].
وقال تعالى:

بعد بسم الله الرحمن الرحيم
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج: 34، 35].

اللهم اجعلنا وجميع المسلمين من المحافظين على الصلوات، المكرمين بنعيم الجنات. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة:
وقال تعالى:

بعد بسم الله الرحمن الرحيم
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. [البقرة: 45، 46]،
والصلاة والسلام على نبيناسيدنا محمد الذي كان آخر وصيته لأُمته عند خروجه من الدنيا الحث على الصلاة لما لها من الأهمية في الدين
وعلى آله وصحابته أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
الخشوع - أهميته وأثره:
إن الظواهر التي تظهر على الكثير من قسوة القلب وقحط العين وانعدام التدبر، هي بسبب المادة التي طغت على قلوبنا فأصبحت تشاركنا في عبادتنا، ولا يمكن للقلوب أن ترجع لحالتها الصحيحة حتى تتطهر من كل ما علق بها من أدران.
فهذا هو أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه يضع يده على الداء لهذه الظاهرة فيقول:

«لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجلَّ» [الزهد لأحمد].
والخشوع الحق يطلق عليه الإمام ابن القيم (خشوع الإيمان)

ويُعرفه بأنه (خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ممتلئة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح) [الروح لابن القيم].
ومما يدل على أهمية الخشوع كونه السبب الأهم لقبول الصلاة التي هي أعظم أركان الدين بعد الشهادتين، وفي السُنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها».
كما أن الخشوع يُسهل فعل الصلاة ويُحببها إلى النفس، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى:

بعد بسم الله الرحمن الرحيم
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ.
أي فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحًا بها صدره لترقُبه للثواب وخشيته من العقاب كما أن الخشوع هو العلم الحقيقي.
قال ابن رجب رحمه الله في شرح حديث أبي الدرداء في فضل العلم:

رُوي عن عبادة بن الصامت وعوف بن مالك وحذيفة رضي الله عنهم أنهم قالوا:
(أول علم يُرفع من الناس الخشوع حتى لا ترى خاشعًا).
وساق أحاديث أُخرى في هذا المعنى ثم قال:

ففي هذه الأحاديث أن ذهاب العلم بذهاب العمل وأن الصحابة رضي الله عنهم فسَّروا ذلك بذهاب العلم الباطن من القلوب وهو الخشوع.
وقد ساق مُحقق الكتاب للأثر السابق عدة طُرق وقال: إنه يتقوى بها.
فالصلاة إذًا صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الإنسان عن شواغل الحياة، ويتجه بكيانه كله إلى ربه، يستمد منه الهداية والعون والتسديد، ويسأله الثبات على الصراط المستقيم. ولكن الناس يختلفون في هذه الصلة، فمنهم من تزيده صلاته إقبالاً على الله ومنهم من لا تؤثر فيه صلاته إلى ذلك الحد الملموس، بل هو يؤديها بحركات وقراءة وذكر وتسبيح ولكن من غير شعور كامل لما يفعل ولا استحضار لما يقول:

والصلاة التي يريدها الإسلام ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان وحركات تؤديها الجوارح بلا تدبر من عقل ولا خشوع من قلب.
ففي سُنن الترمذي عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن انتقص من فريضته شيئًا قال الرب عزّ وجلَّ: انظروا هل لعبدي من تطوع! فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم تكون سائر أعماله على هذا».
ولما يعانيه كثير من الناس من قلة خشوع في الصلاة، فقد رأينا أن نلتمس بعض الأسباب التي تعيدنا إلى الصلاة الحقيقية التي توثق صلتنا بربنا عزَّ وجلَّ وهي صلاة القلب والجوارح وتذللها لله تبارك وتعالى. وقد امتدح الله عزَّ وجلَّ أهل هذه الصفة من المؤمنين حيث قال تعالى:

بعد بسم الله الرحمن الرحيم
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ. [المؤمنون: 1، 2].
ولعلنا بعدما نقرأ قوله سبحانه: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45]
نسأل أنفسنا ما بال الكثيرين منا يخرجون من صلاتهم ثم يأتون بأفعال وأمور منكرة شتان بينها وبين ما تتركه صلاة الخاشعين الأوابين من أثر على أصحابها الذين يخرج الواحد منهم من صلاته وهو يُحِسُّ بأن كل صلاةٍ تغسل ما في قلبه من أدران الدنيا وتقرِّبه إلى الله عزَّ وجلَّ.

إذًا فلا بد من أسباب لقلة الخشوع ولا ريب أن هناك خللاً ونقصًا في أدائنا للصلاة، ولعلنا في هذه العجالة نستعرض بعض الأسباب المعينة -بإذن الله-

الخشوع في الصلاة وهي:
الإيمان الصادق والاعتقاد الجازم
الإيمان الصادق والاعتقاد الجازم بما يترتب على الخشوع من فضل عظيم في الدنيا والآخرة في الإحساس بالسكون والطمأنينة وراحة لا مثيل لها وطيب نفس يفوق الوصف.
قال تعالى:

بعد بسم الله الرحمن الرحيم
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2]
وروى مسلم عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله»، والآيات والأحاديث الدالة على فضل الخشوع كثيرة.

الإكثار من القراءة والذكر:
الإكثار من قراءة القرآن والذكر والاستغفار وعدم الإكثار من الكلام بغير ذكر الله كما في الحديث: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله: فإن كثرة الكلام بغير ذكر تعالى قسوة للقلب! وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» [رواه الترمذي].
فقراءة القرآن وتدبره من أعظم أسباب لين القلوب، قال تعالى:

بعد بسم الله الرحمن الرحيم
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].
فالقراءة والذكر حصن من الشيطان ووساوسه وهي سبب لاطمئنان القلوب الذي يفقده الكثير من الناس، قال تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]،

كما أن الإكثار من ذكر الله عزَّ وجلَّ سبب للفلاح،
قال تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10].
وليس المقام لبيان فضل الذكر ولكن أردنا التنويه إلى أنه سبب من أسباب الخشوع، ومن يرد معرفة ذلك -فضل الذكر-

فعليه الرجوع إلى كتاب الله والأذكار التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم
، ومع هذا أيضًا الحرص على مجاهدة الشيطان وذلك بأن يعقد العزم على مجاهدته من قبل القيام إلى الصلاة وإن دخل عليه في أول صلاته فلا يستسلم له في وسطها أو آخرها بل ينبغي أن يجاهد الشيطان حتى اللحظة الأخيرة من الصلاة فالشيطان يسعى إلى تشتيت الذهن حتى لا يعقل المصلي شيئًا من صلاته،
وروى مسلم عن سيدنا عثمان بن أبي العاص أنه قال:
يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليَّ، فقال رسول الله : «ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوَّذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثًا»
ويقول راوي الحديث: ففعلت ذلك فأذهبه الله عز وجل عني. إذاً فينبغي أن يُشمِّر المصلي في المجاهدة ولا ينقطع بأن يُشمّر عن ساعد الجد، فإذا لم يخشع في هذه الصلاة فيعقد العزم على الخشوع في الأخرى، وإن قل خشوعه في هذه، فليحرص على كمال الخشوع في التي تليها وهكذا، ولا يتضجر من طول المجاهدة. ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يُعينه على ذلك.

دوام المحاسبة والمراقبة:
دوام محاسبة النفس ولومها على ما لا ينبغي من الاعتقاد والقول والفعل،

قال تعالى:
بعد بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
وكان أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:

«حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر».
وأيضًا البُعد عن المعاصي بصرف النظر عمَّا يحرم النظر إليه، وكذا حفظ اللسان والسمع وسائر الجوارح وإشغالها بما يخصها من عبودية، وصرفها بالنظر في كتاب الله والكتب العلمية المفيدة وما يباح النظر إليه والتفكُّر في مخلوقاته سبحانه وتعالى والاستماع إلى الطيب من القول والتحدث في المفيد، فلا شك أن الذنوب تقيد المرء وتحجزه عن أداء العبادات على الوجه المطلوب، فكل إنسان يعرف ما هو واقع فيه من الذنوب وعليه أن يسعى في إصلاح حاله والإصلاح متعلق بمحاسبة النفس حيث إن المرء إذا حاسب نفسه بحث عما يصلحها.
تدبر القرآن والأذكار:
تدبر وتفهم ما يقال في الصلاة وعدم صرف النظر فيما سوى موضع السجود مستشعرًا بذلك رهبة الموقف.
يقول الإمام ابن القيم في الفوائد: «للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف».

قال تعالى:
بعد بسم الله الرحمن الرحيم
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان: 26-27]
فلابد من إعطاء هذا الموقف حقه من خضوع وخشوع وانكسار إجلالاً لله عز وجل واستشعارًا بأن هذه الصلاة هي الصلاة الأخيرة في الدنيا، فلو استقر هذا الشعور في نفس المصلي لصلى صلاة خاشعة.
روى الإمام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي فقال:

يا رسول الله عظني وأوجز، فقال عليه الصلاة والسلام:
«إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ولا تكلم بكلام تعتذر منه غدًا واجمع اليأس مما في أيدي الناس».
وأيضًا

هناك أسباب أخرى للخشوع نذكر منها:
الهمة وحضور القلب:
فإنه متى أهمك أمر حضر قلبك ضرورة، فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوى ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا.
التلذذ بالصلاة:
اللذة التي يجدها العباد في صلاتهم هي التي عبر عنها ابن تيمية -رحمه الله-

بقوله: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة»،
ولا نظن أن مسلمًا وجد هذه اللذة وذاق طعمها يفرط فيها ويتساهل في طلبها. وهذه اللذة كما قال ابن القيم رحمه الله
تقوى بقوة المحبة وتضعف بضعفها، لذا ينبغي للمسلم أن يسعى في الطرق الموصلة إلى محبة الله.
التبكير إلى الصلاة:
وذلك بأن يهيئ القلب للوقوف أمام الله عز وجل، فينبغي للمسلم أن يأتي إلى الصلاة مبكرًا ويقرأ ما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع فذلك أدعى للخشوع في الصلاة،

ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة : «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه..» [الحديث].
وفرق بين شخص جاء إلى الصلاة من مجلس كله لغو وحديث في الدنيا، وبين شخص قام إلى الصلاة وقد هيأ قلبه للوقوف أمام الله لما قرأه من كلام الله عز وجل، فلا شك أن حال الثاني مع الله أفضل من الأول بكثير.
الحياء من الله:
أن يستحيي العبد من الله من أن يتقرب إليه عز وجل بصلاة جوفاء خالية من الخشوع والخوف، فالشعور بالاستحياء من الله يدفع المسلم إلى إتقان العبادة والتقرب إلى الله بصلاة خاشعة فيها معاني الخوف والرهبة.
النظر لحال السلف:
أن يدرك المسلم حال الصحابة والسلف في الصلاة:

فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن مسلم بن يسار كان يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه وقام الناس، وهو في الصلاة لم يشعر.
وكان سيدنا عبد الله بن الزبير يسجد، فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه، وهو في الصلاة لا يرفع رأسه.
وقالوا لعامر بن عبد القيس: أتحدث نفسك بشيء في الصلاة؟

فقال: أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي؟
قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة،
فقال: أبالجنة والحور ونحو ذلك؟
فقالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا،
فقال: لأن تختلف الأسنة (الرماح) في أحب إلي (من أن أحدث نفسي بذلك) وأمثال هذا متعدد.
تلك بعض الأسباب المعينة بإذن الله

على الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها وعلاج الوسوسة
والله نسأل أن يعيننا على طاعته عز وجل على الوجه الذي يرضيه عنا.
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين).
للعلامه أبن باز رحمه ورضي الله عنه وعنا أجمعين