فصل
وهاهنا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به .وهو أن كمال اللذة والفرح والسرور ونعيم القلب وابتهاج الروح تابع لأمرين:
احدهما : كمال المحبوب في نفسه وجماله, وانه أولى بإيثار المحبة من كل ما سواه.
والأمر الثاني: كمال محبته, واستفراغ الوسع في حبه, وإيثار قربه والوصول إليه على كل شيء .
وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوة محبته, فكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة المحبة أكمل , فلذة من اشتد ظمؤه بادراك الماء الزلال , ومن اشتد جوعه يأكل الطعام الشهي , ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرادته ومحبته.
وإذا عرف هذا , فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه , بل هو مقصود كل حي وعاقل , وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي تذم إذا أعقبت ألما أعظم منها , أو منعت لذة خيرا منها واجل , فكيف إذا أعقبت أعظم الحسرات , وفوتت أعظم اللذات والمسرات ؟ وتحمد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجه ما , وهي لذة الآخرة ونعيمها وطيب العيش فيها , كما قال تعالى (بل تؤثرون الحياة الدنيا , والآخرة خير وأبقى )الأعلى :16,17) وقال السحرة لفرعون لما امنوا : ( فاقض ما أنت قاض , إنما تقضي هذه الحياة الدنيا , إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر , والله خير وأبقى ) طه:72,73)
والله سبحانه خلق الخلق لينيلهم هذه اللذة الدائمة في دار الخلد . وأما الدنيا فمنقطعة . ولذاتها لا تصفو أبدا ولا تدوم . بخلاف الآخرة . فان لذاتها دائمة ونعيمها خالص من كل كدر وألم , وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مع الخلود أبدا , ولا تعلم نفس ما اخفي الله لعباده فيها من قرة أعين , بل فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر , وهذا المعنى الذي قصده الناصح لقومه ( يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد , ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع , وان الآخرة هي دار القرار ) [ غافر :38,39] فاخبرهم إن الدنيا متاع يستمتع بها إلى غيرها , وان الآخرة هي دار المستقر.